المؤسسة العلمانية والإسلام في تركيا: الاستمرارية أم القطعية؟

تتميز العلمانية التركية بنوع من الالتباس، فهي من جهة أولى تجربة تطمح إلى إزالة الرموز الدينية من المجال العام وخاصة في مجالات التعليم، والحكومة، والبيروقراطية والعسكرية؛ وهي من جهة ثانية تعطي الأولوية لأنموذج من الإسلام السني مقبول لديها
6 August 2009







آلاف الأتراك يتظاهرون تأييدا للعلمانية (الفرنسية-أرشيف)

أديب عساف  بكر أوغلو


تتميز العلمانية التركية بنوع من الالتباس، فهي من جهة أولى تجربة تطمح إلى إزالة الرموز الدينية من المجال العام وخاصة في مجالات التعليم، والحكومة، والبيروقراطية والعسكرية؛ وهي من جهة ثانية تعطي الأولوية لأنموذج من الإسلام السني مقبول لديها. وهذا الالتباس ينبع في الحقيقة من صيرورة بناء الأمة التركية الحديثة، حيث تأسست جمهورية تركيا على أنقاض الإمبراطورية العثمانية وليس على أساس التراكم التاريخي والحضاري لميراث هذه الإمبراطورية.


حراس المؤسسة العلمانية 
عصر ما بعد 2002: الحقبة الجديدة؟ 


رأى مؤسسو تركيا أن الإسلام عقبة أساسية أمام التقدم، وأن أول مهمة تواجههم هي الحيلولة دون تأثير الإسلام على الجماهير، حيث كان يعتقد كمال أتاتورك ورفاقه أن الإسلام لا ينبغي أن يترك لسبيله بل لابد من أن تتم السيطرة عليه، كما كانوا يعتقدون أن إسلاما متوافقا مع الحداثة من شأنه أن يكون مفيدا لبناء تركيا الحديثة.


ولذلك فقد تبنوا "خطابا مزدوجا"، دون التخلي عن مبدأ العلمانية/القومية، واختاروا أنموذجا مرضيا لهم للإسلام كشريك، معتقدين أنه من خلاله تتم السيطرة على تأثير الدين على الشعب التركي، وإضفاء الشرعية على الهوية الوطنية الجديدة، وساعد ذلك إلى حد ما في ملئ الفراغ الروحي الناجم عن إلغاء السلطنة والخلافة، واعتماد الأبجدية اللاتينية، وفرض اللباس الغربي.


كما نجحت إستراتيجية الخطاب المزدوج هذه، في تشكيل الخطاب السياسي التركي عامة، وفي واستراتيجيات أحزاب يمين الوسط، كلاعبين ضمن الحدود التي رسمتها نخب الدولة القومية.


وقد تبنت النخب الحاكمة الخطاب المزدوج لتلعب على ورقة الدين سعيا للحصول على دعم شعبي، وبهذه الطريقة، وجد الإسلام قناة نجح من خلالها إلى حد ما في دغدغة مشاعر الجمهور ومنع التطرف الإسلامي.


ومع ذلك، فمن الصحيح أيضا القول بأن هذه الإستراتيجية تجاهلت قوة ودينامية الإسلام في إقامة العلاقات الاجتماعية، والخيارات السياسية، وخطاب الهوية بين الجماهير.


كما رفضت التحولات الجوهرية -وليس بالضرورة من خلال العلمنة- التي ستحدث في المجتمع خلال عملية التحديث، وهي إلى جانب ذلك لم تدرك إمكانية وجود ثقافة مشتركة من شأنها أن تخلق نوعا من التزاوج بين ما هو حديث وما هو تقليدي.


حراس المؤسسة العلمانية 


فشلت إستراتيجية النخبة في الدولة الكمالية خصوصا عقب انتقالها إلى سياسة التعددية الحزبية. وخلافا لتوقعات هذه النخبة لم تفقد بعض أشكال التدين التي يصفون أصحابها بالمبتدعة تأثيرها في المجتمع، بل وجدت قنوات خصبة وبصورة لا يمكن السيطرة عليها للتعبير عن نفسها في الفضاءات العامة.





فشلت إستراتيجية النخبة في الدولة الكمالية خصوصا عقب انتقالها إلى سياسة التعددية الحزبية. وخلافا لتوقعات هذه النخبة لم تفقد بعض أشكال التدين التي يصفون أصحابها بالمبتدعة تأثيرها في المجتمع، بل وجدت قنوات خصبة للتعبير عن نفسها في الفضاءات العامة
وبالرغم من أن نخب الدولة هم من بدءوا الانتقال إلى الديمقراطية عام 1946، فإن ما كان يدور بخلدهم هو إيجاد شكل من السياسات التعددية الحزبية يجمع عليها بعض المواطنين الأذكياء والمتنورين والعلمانيين، بعيدا عن المصالح الضيقة القصيرة ويقرروا ما هو أفضل للشعب.

وخلال حقبة هيمنة الحزب الواحد (حزب الشعب الجمهوري)، اضطلعت الجمعية الوطنية التركية الكبرى إلى جانب الرئاسة بهذه المهمة.


وفي وقت لاحق وبالرغم من التعددية الحزبية، واتخاذ النخب سياسيات جديدة ضيقة المصالح  تلبية لمطالب دوائرهم الانتخابية، واتخاذهم قرارات "غير معقولة" وغير مسؤولة في تصورات نخب الدولة، فقد خسر حزب الشعب الجمهوري موقعه باعتباره "النواة المركزية للدولة"، بينما أصبحت رئاسة الجمهورية والجيش والبيروقراطية ساحات جديدة للسلطة، وبعبارة أخرى، حماة للدولة.


في الوقت نفسه أصبحت النخبة البيروقراطية منقسمة على نفسها لأن جيل الأبناء -خاصة أبناء المتدينين الأتراك- ارتقوا في السلم التعليمي والوظيفي وأصبحوا رقما مهما في الطبقة المتوسطة والمهنيين والتكنوقراط.


وبصفة عامة يمكن القول بأن نخب الدولة الحاكمة وقبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 كانت لا تحبذ السياسة الديمقراطية لأنها تحمل بعض المطالب الشعبية ذات الصبغة الإسلامية والتي تتعارض مع القيم الجمهورية.


عصر ما بعد 2002: الحقبة الجديدة؟


شهدت انتخابات تركيا لعام 2002 تحولا جذريا في المشهد السياسي، وذلك لأن الأحزاب السياسية التي تشكل الحكومة فقدت معظم التأييد الشعبي، وقد استفاد حزب العدالة والتنمية من ذلك ودون أن يحتاج إلى عقد أول مؤتمر له أو تقديم عرض تفصيلي لبرنامجه السياسي الذي حصل على أغلبية برلمانية لم يسبق لها مثيل في تاريخ تركيا الحديث، إذ فاز بـ 67% من أصوات الناخبين.


ومع ذلك، سيكون من الخطأ تقييم نجاح حزب العدالة والتنمية من خلال شخصية رجب طيب اردوغان القيادية وغيرها من العوامل الظرفية فقط، وإنما ينبغي تقييمه من خلال التحول البنيوي والأيديولوجي الجاري في الواقع السياسي التركي.


لقد أدت أيديولوجية المؤسسة العلمانية وهيكلتها البنيوية إلى حصول بعض التمييز السياسي والثقافي والاقتصادي، ولذلك صوت الناخبون لصالح حزب العدالة والتنمية أساسا، لسببين رئيسيين:



  • أولهما: حل مشكلات الحقوق والحريات المتراكمة.

  • وثانيهما: تحقيق التنمية الاقتصادية مع توزيع عادل للثروة.




يعتمل في قلب السياسة التركية صراع بين محاولات حزب العدالة والتنمية توسيع رقعة الحدود المرسومة له من قبل نخب الدولة وبين المقاومة البيروقراطية العسكرية والمدنية ضد أهداف هذا الحزب
ومنذ ذلك الحين، يعتمل في قلب السياسة التركية صراع بين محاولات حزب العدالة والتنمية توسيع رقعة الحدود المرسومة له من قبل نخب الدولة وبين المقاومة البيروقراطية العسكرية والمدنية ضد أهداف هذا الحزب.

وعقب فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات اللاحقة التي جرت في يوليو/ تموز 2007, يمكن للمرء القول بأن بيروقراطية المدنية-العسكرية العلمانية قد خسرت المعركة.


إلا أن إلقاء نظرة فاحصة على المشهد التركي تظهر لنا أن الدولة وميولها العلمانية لا تزال العامل الرئيس في تحديد دور الجمهور وكذا في الاستخدام السياسي للإسلام. فكلما حاول حزب العدالة والتنمية تجاوز الحدود، كإطلاق حرية ارتداء الحجاب أو إزالة الحواجز أمام خريجي مدرسة الإمام حاطب لدخول أي قسم من أقسام الجامعات، إلا  ومورست عليهم الوصاية العلمانية بعنف وأعيدوا إلى العمل وفق الخطوط الحمراء.


وفي واقع الأمر، فإن حزب العدالة والتنمية لم يكن حريصا بشدة على عبور هذه الخطوط المحرمة، وكان ذلك هو الدرس الذي تعلمته قيادة الحزب مستفيدة من تجربة حزب الرفاه التي ملخصها: "كن لطيفا" مع المؤسسة العلمانية في حال عدم تعاونها، وتجنب مصادمتها ما أمكن.


ومع ذلك فقد تم ترشيح عبد الله غل، الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية، لانتخابات مايو/ أيار 2007 الرئاسية، وبذلك وصل التوتر ذروته بين المؤسسة العلمانية وحزب العدالة والتنمية، ولم تتقبل مخيلة الأوصياء على الشأن التركي صورة لشخص بعادات إسلامية وزوجة ترتدي الحجاب يمكنها أن تكون السيدة الأولى في القصر الرئاسي لتركيا أن يكون أحد الرموز السياسية لهويتها العلمانية الغربية الحديثة.


ففي البداية أعرب ممثلو المؤسسة العلمانية صراحة عن قلقهم من ترشيح جول لها المنصب الحساس، وأعلن رئيس الأركان التركية العامة ياشار بويوكانيت في 12 أبريل/نيسان 2007 بأن الرئيس الجديد "يجب أن يلتزم بالمبادئ الأساسية للجمهورية والمثل العليا للدولة العلمانية والديمقراطية  قولا وفعلا " مشيرا ضمنا إلى الأجندة الإسلامية الخفية لحزب العدالة والتنمية.


وفي اليوم التالي أعلن الرئيس أحمد نجدت سيزر بأن النظام العلماني في تركيا "يواجه خطرا لم يسبق له مثيل منذ تأسيس الجمهورية".


ومرة أخرى -وبعد يومين فقط من تصريحات بويوكانيت- بدأت مظاهرات عامة في المدن الكبرى حيث تجمع مئات الآلاف من العلمانيين ليعربوا عن تخوفهم من ترشيخ غل.


وأصدرت القوات المسلحة التركية بيانا أعربت فيه عن عدم ارتياحها "لهذه الاضطرابات"، وفي منتصف ليلة 27 نيسان/أبريل نشرت بيانا على موقعها على شبكة الانترنت، والذي يطلق عليه شعبيا "المذكرة الإلكترونية" حذرت فيه من أن "بعض الأوساط" تحاول تعكير صفو "القيم الأساسية للجمهورية التركية، وخصوصا العلمانية"، و"تحولها إلى تحد صريح ضد الدولة، واستغلال للمشاعر الدينية المقدسة لشعبنا، محاولة لإخفاء الأهداف الحقيقية تحت ستار الدين".


وأكد الجيش -الذي قاد ثلاثة انقلابات في1960و1971، و1980، وتدخل بشكل غير مباشر في عام 1997 للإطاحة بحكومة نجم الدين أربكان، على تصميمه الحفاظ على العلمانية، وأعلن أنه "سيدلي برأيه بكل وضوح فيما يجري، وسيعمل علنا وبوضوح كلما كان ذلك ضروريا للتعامل مع المستجدات".
 
وأخيرا، نقضت المحكمة الدستورية رئاسة عبد الله غل، وبذلك دعا حزب العدالة والتنمية لانتخابات أجريت في22يوليو/تموز 2007 حيث كانت القضية الكبرى هي ما إذا كان الرجل ذو التاريخ الإسلامي والمتزوج من محجبة يمكنه شغل منصب الرئاسة أم لا؟ وفي نهاية المطاف ارتفعت أصوات حزب العدالة والتنمية من 34.2 إلى 46.5 في المائة، وفي البرلمان الجديد، تم انتخاب عبد الله غل رئيسا جديدا لتركيا مع دعم حزب الحركة القومية.


ومنذ ذلك الحين ظهر إلى السطح حدثان رئيسان فيما يتعلق بالعلمانية، والمحكمة الدستورية المعنية  بكل من هذه الحالات التي ذكرناها، أولهما الهيمنة على البرلمان للتصويت على إجراء التعديل الدستوري بخصوص حرية الحجاب في الجامعات، وثانيهما قرار المحكمة بشأن قضية إغلاق حزب العدالة والتنمية.


وبعدها صرح أردوغان أثناء زيارة له إلى إسبانيا في 15 يناير/ كانون الثاني 2008  قائلا: "... ولنفترض أن الحجاب هو رمز سياسي فهل يمكن اعتباره رمزا للجريمة؟ كيف يمكن حظر الرموز؟"، بعد هذا التصريح أعلن حزب العمل القومي الذي يمتلك 71 مقعدا في البرلمان أنه سوف يؤيد حزب العدالة والتنمية إذا ما تم التصويت على مشروع قانون أو اقتراح يقضي بتعديل الدستور لجعل الحجاب ضمن الحريات الشخصية.


ومع ذلك، فإن التعديل الدستوري الذي أقر بأغلبية كبيرة في البرلمان، تم إحالته إلى المحكمة الدستورية من قبل حزب الشعب الجمهوري وتم نقضه. وكانت هذه المحاولة موضوعا في مارس/آذار 2008 للائحة الاتهام لرئيس الادعاء العام والتي طلب من المحكمة الدستورية إغلاق حزب العدالة والتنمية كونه "مركز تنسيق للجهود الرامية إلى تغيير الطابع العلماني للجمهورية".


وبعد خمسة أشهر أصدرت المحكمة قرارها الذي رفضت فيه إغلاق الحزب لكنها في الوقت نفسه وجهت إليه "تحذيرا جديا". وبذلك نجا حزب العدالة والتنمية من المصير الذي واجهته العديد من الأحزاب السياسية الأخرى، بما فيها حزب الرفاه.


صحيح أن حزب العدالة والتنمية نجا دائما من الملاحقات القضائية التي يرفعها ضده العلمانيون لكن يبدو أنه قد فقد شيئا من طاقته الإصلاحية، وقد ظهر ذلك جليا في الانتخابات البلدية الأخيرة في 29 مارس/ آذار 2009. فأردوغان، الذي سبق أن وعد بتحقيق مستقبل ديمقراطي مزدهر اقتصر على تحذير الناخبين من كون البدائل الأخرى ستجلب مستقبلا "سيئا" إذا لم يتم التصويت لصالح حزبه.






في إطار تغيير لغة خطاب حزب العدالة والتنمية حتى لا يستفز المؤسسة العلمانية عرف الحزب نفسه باعتباره حزبا "ديمقراطيا محافظا" وأوحى إلى أن الإسلام السياسي نفسه هو الذي أضر بالشبكات الاجتماعية والاقتصادية للمسلمين المحافظين في تركيا

هذا الأسلوب على ما يبدو يؤشر على نهاية لنمط من الخطاب السياسي ساد في فترة معينة، وهو لا يعد "فشلا" لحزب العدالة والتنمية، وإنما يمكن اعتباره نجاحا للمؤسسة العلمانية التي استطاعت التقليل من طموحات برنامج النخب السياسية الإسلامية في تركيا ومن سقف خطابها السياسي.

فبخصوص الخطاب، أوضح حزب العدالة والتنمية، على أن الحجاب -على سبيل المثال الذي هو أهم عنصر من عناصر الإسلام السياسي في تركيا- لم يكن يدخل ضمن أولويات أجندة الحزب.


وفيما يتعلق  بالخيارات الإيديولوجية، فإن حزب العدالة والتنمية يعّرف نفسه باعتباره حزبا"ديمقراطيا محافظا" وذلك ضمن تقليد يمين الوسط الذي يعتقد بأن الإسلام السياسي نفسه هو الذي أضر بالشبكات الاجتماعية والاقتصادية للمسلمين المحافظين في تركيا.


بالإضافة إلى ذلك، فإن المكونات التركية المحافظة تكيفت هي الأخرى مع أسلوب حياة المجتمع الرأسمالي ونمط حياة المجتمع العلماني الحديث حتى وإن استمرت في ممارسة الطقوس الدينية في حياتها الشخصية والخاصة على السواء.


ولذلك، فإن الانتصارات الانتخابية التي حققها الساسة الإسلاميون لا تعني زعزعة استقرار تركيا العلمانية أو انهيار الجدار بين الدين والدولة في تركيا وإنما تعني أن السجال لا يزال مستمرا حول الخيارات الثقافية والمجتمعية وأن هناك جولات طويلة لا تزال قادمة.
_______________
باحث في قسم العلوم السياسية، جامعة بلكنت، أنقرة.