معالم السياسة الخارجية البرازيلية

ليس من العدل حبس إمكانات البرازيل الزراعية والصناعية داخل حدودها السياسية"؛ فالبرازيل لدى "كاردوسو" و"لولا" تستأهل مكانة دولية تتجاوز موقعها الهامشي على خريطة القوى الكبرى.
20 June 2010






عاما بعد عام يتزايد الدور السياسي للقوة الصاعدة على الساحة الدولية (الفرنسية-أرشيف)

كلوفيس بريجاجوا وعاطف معتمد*

في عام 2007 توجه مركز بروكينجز الأميركي إلى الباحث والأكاديمي المخضرم روردان رويت Roett سائلا إياه عما يراه في أفق المستقبل البرازيلي. الإجابة التي قدمها رويت، العاكف عل مدى أربعين سنة على دراسة السياسة البرازيلية، حملت مخاوف من أن ما تشهده البرازيل من تقدم يذكِّرنا بشعار الغرانديزا Grandeza  (التقدم العظيم) الذي شهدته عام 1967؛ ففي ذلك العام حققت البرازيل نموا اقتصاديا خُيِّل معه للجميع أنها ستصبح قوة دولية مهيمنة، غير أنه لسوء الحظ ما إن جاء عام 1982 حتى انتهت تلك الفترة بأزمة ديون حادة بددت أحلام الصعود الدولي.


تعلمت البرازيل الدرس، وتراجعت المخاوف عاما بعد آخر، حتى إن الرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا" وهو يحزم أمتعته لمغادرة القصر الرئاسي في أكتوبر 2010 كان يترك خلفه إنجازا في السياسة الخارجية يراه المراقبون نهجا "خلاّقا" يُعد مسارا يُحتذى لدول الجنوب والعالم النامي رغم حداثة التجربة البرازيلية.


الأسس والمرتكزات 
علاقات الجوار الإقليمي 
الجنوب بوابة الانطلاق الدولي


يُرجع المؤرخون الفضل فيما تشهده سياسة البرازيل الخارجية من تقدم ليس فقط للرئيس "لولا" بل إلى سلفه فيرناندو هنريك كاردوسو (1995- 2003) الذي كان دوما يؤكد أنه "ليس من العدل حبس إمكانات البرازيل الزراعية والصناعية داخل حدودها السياسية"؛ فالبرازيل لدى "كاردوسو" و"لولا" تستأهل مكانة دولية تتجاوز موقعها الهامشي على خريطة القوى الكبرى.


الأسس والمرتكزات


يدلنا التاريخ السياسي للبرازيل على طبيعة علاقاتها الدولية والإقليمية، فحتى عام 1822 كانت البرازيل مستعمرة برتغالية لا تملك الكثير في السياسة الخارجية العالمية. ومنذ الاستقلال وحتى عام 1889 لم تكن "إمبراطورية" البرازيل تحمل من السياسة الإمبريالية سوى الاسم، أما الواقع فشهد انشغالا داخليا لتثبيت معالم الدولة وترسيخ حدوها. وحين تم إعلان الجمهورية على يد الجيش في 1889، لم تنعم الدولة فعليا بصفة "الجمهورية" إذ كانت دون تمثيل مدني في الميدان السياسي، ومن ثم لا يحتفظ الأرشيف الدولي للعلاقات الخارجية بشيء مميز عن البرازيل.


وعلى مدار مائة سنة (1889 – 1988) لم يكن للبرازيل سمعة تُذكر في محافل السياسة الخارجية، وإن حضرت حضورا رمزيا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية من خلال علاقاتها التحالفية مع بعض القوى الأوربية. وقبل إقرار الدستور البرازيلي الجديد (1988) وبداية تأسيس نظام حكم ديموقراطي منذ عام 1985 لم يكن اسم البرازيل حاضرا في حلبة السياسة العالمية.





خلال ربع القرن الماضي بدأت البرازيل عملية تكامل إقليمي مع الأرجنتين، وتشكيل اتحاد ميركوسور التجاري. واتخذت خطوات ماهرة للاندماج في المنظومة العالمية، سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني، وذلك حين شاركت بفاعلية في مهام حفظ السلام، فضلا عن سعيها للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن
غير أن البرازيل خلال ربع القرن الماضي (1985-2010) صنعت "مفاجأة كاملة" بتقدمها نحو ميادين شتى في عالم السياسة الخارجية؛ فخلال تلك الفترة دخلت البرازيل عهدا جديدا؛ إذ بدأت عملية تكامل إقليمي مع الأرجنتين، وتشكيل اتحاد ميركوسور التجاري. وبشكل متزامن، تسربت العولمة إلى البلاد حاملة معها آثارا متعددة في كافة المجالات، واتخذت البرازيل خطوات بالغة المهارة للاندماج في المنظومة العالمية، سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني، وذلك حين شاركت البرازيل بفاعلية في مهام حفظ السلام، فضلا عن سعيها الجاد للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن. ورغم اندفاعها إلى هذا العالم الرحب تُلزم البرازيل نفسها بمبادئ دولة عصرية ديموقراطية تؤمن بعدم التدخل في الشؤون السيادية للدول الأخرى، وحل النزاعات عبر الوسائل السلمية، واحترام مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.

تقوم الدبلوماسية البرازيلية على احترام القوانين الدولية، والمشاركة في المنظمات متعددة الأطراف؛ فالبرازيل كانت عضوا في عصبة الأمم، ثم عضوا في الأمم المتحدة منذ تأسيسها. كما تنتمي البرازيل إلى منظمة دول الأميركتين OAS، ومنظمة التجارة العالمية، كما أنها -في كثير من الأحيان- على تواصل مع المنظمات الأخرى، وعضو في اتفاقات متعددة الأطراف.


ومنذ تاريخ مبكر، دعمت البرازيل مهام حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، على نحو ما حدث من مشاركة البرازيل في قوات الأمم المتحدة في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر فيما عُرف دوليا بأزمة السويس عام 1956. ومنذ ذلك التاريخ شاركت البرازيل في العديد من مهام حفظ السلام؛ فمن بين 60 مهمة سلام اضطلعت بها الأمم المتحدة، شاركت البرازيل في 30 مهمة، أغلبها في مهام "حفظ" السلام وليس في مهام "تدخل" قوات السلام(***).


وفي دول أميركا الجنوبية تحتفظ البرازيل بتاريخ قوامه 150 سنة من الاتفاقات السلمية مع دول الجيران، وعلاقات حسنة وتعاون وثيق مع عشر دول في القارة، وتنطلق الدبلوماسية الخارجية البرازيلية من مبدأ راسخ يرى أن " تخوم البرازيل يجب أن تبقى دوما مصدر تعاون واستقرار لا منبعا للعداء والصراع".


المراقبون لتاريخ السياسة الخارجية البرازيلية عبر ربع القرن الماضي يصفون ما تشهده البرازيل بمرحلة "تحولات" أخذت البرازيل إلى عالم الجيوبوليتكا الواسع، في هذا العالم أتقنت البرازيل حزمة من المناورات، في مقدمتها تطويع الدبلوماسية والسياسة الخارجية لخدمة الاقتصاد والربح التجاري. وليس أدل على ذلك من أن التحول الذي شهدته البرازيل في سياستها الخارجية قد رفع من صادراتها إلى العالم العربي في السنوات الخمس الأخيرة بأكثر من 200 %، وإلى إفريقيا بنسبة مماثلة، وإلى الأرجنتين بنحو 400 %، وهو ما مثل طوق نجاة أنقذ البرازيل خلال الأزمات المالية العالمية المتعاقبة في العقد الأخير، وفيما بين 2003 و 2006 فقط تضاعف حجم الصادرات البرازيلية ككل.


تقوم معالم مرحلة التحولات على عدة أعمدة، أهمها السعي إلى توحيد وتكامل قارة أميركا الجنوبية في مجال حفظ السلام والنقل والمواصلات والاتصالات، والتقارب مع قارة أفريقيا، وعقد حوار بنّاء مع العالم العربي (دون أن تفقد اتصالها مع اسرائيل). وتشمل المرحلة أيضا المبادرة التاريخية التي طرحتها البرازيل عام 2003 متزعمة بها تشكيل مجموعة العشرين خلال قمة منظمة التجارة العالمية في كانكون بالمكسيك، فضلا عن التحدي الذي تمثله البرازيل للاعبين الدوليين ومطالبتهم -بجرأة موزونة- بإفساح مقعد دائم لها في مجلس الأمن.


علاقات الجوار الإقليمي


حينما كانت البرازيل خاضعة لنظام حكم عسكري طوال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، قامت "عقيدة الأمن القومي" على ضرورة احتفاظ البرازيل بعلاقات تحالف قوية مع الولايات المتحدة. ثم بدأت لاحقا في انتقاد السياسة الخارجية الأميركية، وراحت تختط لنفسها نهجا أكثر استقلالية، وكان من تجليات ذلك -على سبيل المثال- أن رفضت التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية باعتبارها معاهدة تمييزية تفرق بين الدول.





المراقبون لتاريخ السياسة الخارجية البرازيلية عبر ربع القرن الماضي يصفون ما تشهده البرازيل بمرحلة "تحولات" أخذت البرازيل إلى عالم الجيوبوليتكا الواسع، في هذا العالم أتقنت البرازيل حزمة من المناورات، في مقدمتها تطويع الدبلوماسية والسياسة الخارجية لخدمة الاقتصاد والربح التجاري
وعلى مدار السنوات الثماني الماضية (فترة عهد الرئيس لولا) يراقب عديد من مراكز الأبحاث ودعم اتخاذ القرار في الولايات المتحدة ما يُسمى في واشنطن نزوعا برازيليا نحو التقارب مع دول القارة الأميركية الجنوبية من خلال دعم العلاقات مع كوبا وفنزويلا، وتطوير حوار الجنوب-الجنوب في مقابل فتور العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب.

تغفل هذه المراكز أن ذلك الفتور جاء مواكبا لفترة رئاسة جورج بوش التي حفلت بعلاقات متوترة مع عديد من دول العالم الثالث ودول الجنوب والتي وصلت إلى أسوأ مراحلها بغزو واحتلال العراق وأفغانستان، والتدخل الدامي في عدد آخر من الدول. ومن المتوقع أن تتجه العلاقات البرازيلية–الأميركية خلال العقد المقبل إلى تحسن وتوازن أفضل خلال إدارة الرئيس أوباما.


ولسنوات طويلة مضت كانت القضيتان الرئيستان في العلاقة بين واشنطن وبرازيليا، هما التعاون في انتاج الوقود الحيوي، وفي سبيل ذلك تم توقيع مذكرات تفاهم بين الجانبين ضمت معهما عددا من دول أميركا الوسطى. وفي المرتبة التالية تأتي قضية التعاون الثنائي في مجالات الحفاظ على بيئة الأمازون.


الابتعاد الحذر عن التحالف مع واشنطن سمح للبرازيل -في ظل أجواء صعود أحزاب اليسار في أميركا اللاتينية- بفرصة أكبر للتشابك والتنويع، والتحرر من الصيغ الأيدلوجية القديمة؛ فخطَّت لنفسها طريقا يهدف إلى أن تصبح لاعبا إقليميا ودوليا.


تقوم السياسة الخارجية البرازيلية في قارة أميركا الجنوبية على تبني النهج السلمي التفاوضي في حل المشكلات، وتخفيض حدة النزاعات بين دول القارة، وفي الوقت نفسه محاولة تفعيل العلاقات الاقتصادية والتجارية وإيجاد الكيانات الإقليمية المساعِدة على ذلك. ولتنفيذ هذا الخط الإستراتيجي سعت البرازيل إلى إنشاء العديد من الاتحادات والمنتديات والتجمعات الرامية إلى تفعيل العمل جنوب الأميركي المشترك. وكان من أوائل هذه الكيانات اتحاد ميركوسورMERCOSUR)).


ورغم أن الحصاد التنموي لميركوسور لا يزال دون مستوى التوقعات إلا أن تقدما -ولو نسبيا- قد حدث. فخلال القمة الرئاسية لدول أميركا الجنوبية التي عُقدت في مدينة برازيليا عام 2000 تم تشكيل منتدى لتعزيز البنى التحتية في مجالات الطاقة ووسائل النقل والاتصالات عُرف باسم "مبادرة تكامل البِنى الأساسية الإقليمية في دول أميركا الجنوبية IIRSA". وفي هذا الصدد يلعب البنك الوطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (بنك بنديس BNDES) دورا أساسيا في تمويل مشروعات التكامل المشار إليها سابقا، كما تشاركه بنوك ومؤسسات برازيلية أخرى، إلى جانب مؤسسة أنديان Andean للتنمية، وبنك التنمية جنوب الأميركي IABD.


ولم يقتصر الأمر في بناء الكيانات الإقليمية على اتحاد ميركوسور فقط، وإنما امتد ليشمل تأسيس تجمعات أخرى لخدمة أغراض بعينها، من ذلك ما أسفرت عنه القمة الرئاسية لدول أميركا الجنوبية التي عُقدت في البرازيل عام 2008؛ وذلك حين تم تشكيل اتحاد عُرف باسم "اتحاد الدول جنوب الأميركية"، المعروف اختصارا باسم اتحاد الأوناسور UNASUR، والذي مثَّل المسعى البرازيلي إلى تأسيسه نقطة انطلاق كبرى في السياسية الخارجية للبرازيل.


كما تم تشكيل "مجلس الدفاع المشترك لدول قارة أميركا الجنوبية" (CDS) وذلك بمشاركة وزراء دفاع كل من الأرجنتين والبرازيل وشيلي وأوروغواي وبوليفيا وكولومبيا والإكوادور وبيرو وغويانا وسورينام وفنزويلا.  ولا يهدف مجلس الدفاع المشترك إلى خلق تحالف عسكري على غرار حلف النيتو مثلا، كما ليس من المنتظر منه أن يشكل قوة مسلحة مشتركة بين دول القارة، وإنما تتمثل أهدافه الرئيسة في تقديم الوسائل الداعمة لبناء جسور من الثقة بين دول القارة، وتفعيل التكامل الإقليمي، وفتح الأبواب أمام تشاور وتعاون مشترك في قضايا الدفاع الخاصة بدول أميركا الجنوبية. والمأمول من هذا المجلس أن يلعب دورا حيويا في حل نزاعات الحدود السياسية المشتركة بين بعض دول القارة، ومواجهة الإرهاب والنزعات الانفصالية والتمردات المسلحة. 


لا تمنع الأسس والمرتكزات السابقة من حدوث بعض التوترات بين البرازيل وجاراتها من فترة لأخرى، وإن كانت توترات عارضة لا تدوم طويلا. فعلى سبيل المثال، أمر الرئيس البوليفي إيفو موراليس في مايو 2006 الجيش باحتلال وتأميم كافة شركات النفط والحقول البترولية في البلاد، وفي مقدمتها تلك الخاضعة لاستثمار شركة بتروبراس البرازيلية، وهو ما سبب أزمة مؤقتة بين البلدين. ونشبت أزمة جديدة في العام التالي حين وجه الزعيم الكوبي فيدل كاسترو في أبريل 2007 نقدا لاذعا لتعاون الولايات المتحدة والبرازيل في انتاج الوقود الحيوي على حساب المحاصيل الغذائية ضمن ما اسماه "إبادة جماعية" للفقراء والجوعى والمعدمين.


وفي نفس العام لم تسْلَم البرازيل من انتقاد الزعيم الفنزويلي هوجو تشافيز لمجلس الشيوخ البرازيلي معتبرا إياه "دمية" في يد الولايات المتحدة، وذلك بعد انتقاد مجلس الشيوخ البرازيلي للرئيس الفنزويلي بسبب تضييقه على الحريات، وحالة عدم الديموقراطية التي تعيشها البلاد؛ مما يحول دون وُلوجها إلى منظمة ميركوسور. وإن كانت الأمور قد هدأت مع قبول البرازيل بعضوية فنزويلا في منظمة ميركوسور في 2008 في الوقت الذي وافقت فيه أوروغواي والأرجنتين، ولم يتبقَّ لحصول فنزويلا على العضوية النهائية سوى موافقة باراغواي ذات الموقف المتحفظ من سياسات شافيز.


الجنوب بوابة الانطلاق الدولي


خروج البرازيل إلى العالم الخارجي وبصفة خاصة عالم الجنوب يحمل تفسيرين، أحدهما طوباوي يرى في البرازيل صاحبة رسالة نهضوية واعية تسعى إلى كسر احتكار وهيمنة الشمال على الجنوب، والثاني براغماتي يرى في كل ما تلعبه البرازيل من حراك مع دول الجنوب منهجا محترفا يفتح أسواقا جديدة لترويج السلع والمنتجات البرازيلية. على هذا النحو تمد الجهود الدبلوماسية البرازيلية بساطا واسعا تتدفق عليه سلع البرازيل إلى دول العالم؛ فعالم اليوم لم يعد هو العالم الذي يبني علاقاته على أسس أيديولوجية، كما كان يحدث إبان المعسكرين الشيوعي والرأسمالي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن العشرين.





خروج البرازيل إلى العالم الخارجي وبصفة خاصة عالم الجنوب يحمل تفسيرين، أحدهما يرى في البرازيل صاحبة رسالة تسعى إلى كسر هيمنة الشمال على الجنوب، والثاني براغماتي يفسره بالرغبة في فتح أسواق جديدة لترويج السلع والمنتجات البرازيلية
تحتضن البرازيل اليوم أكبر عدد من السفارات الإفريقية مقارنة بأي دولة أخرى في أميركا اللاتينية، وفي نفس الوقت تتفوق البرازيل على أية دولة أخرى في أميركا اللاتينية في عدد سفاراتها وقنصلياتها العاملة في القارة الأفريقية. ولم يقم أي رئيس برازيلي في التاريخ بزيارة القارة الافريقية بتلك التكرارية التي حققها الرئيس الحالي لولا دا سيلفا (2003 -2010).

وعلى الرغم من التنافس على تزعم الساحة الدولية فإن العلاقات الإستراتيجية قد تطورت لدرجة جعلت الصين تقترب تدريجيا من مكانة ثاني أكبر شريك تجاري للبرازيل (بعد الولايات المتحدة). وقد حققت الصين والبرازيل جهودا لتطوير التعاون العلمي والتقني، وكان أبرز معالم تلك الجهود إطلاق مشروع القمر الصناعي البرازيلي-الصيني لدراسة الموارد الطبيعية.


غير أن الجهود الدولية التي تقوم بها البرازيل توحي أيضا بأن هناك أهدافا أخرى في مقدمتها تعديل بنية النظام الدولي، وخاصة عضوية مجلس الأمن، وطريقة أداء ومنهج واتفاقات منظمة التجارة الدولية، وتعديل محاور معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. كما تمضي البرازيل في علاقات تجارية في مجال الصناعات الدوائية مع الهند فضلا عن جهودها في غرب أفريقيا لمكافحة مرض الملاريا في جزر ساوتومي.


المرتكزات الأساسية التي تحكم السياسة الخارجية البرازيلية على المستوى الدولي هي الالتزام بمبادئ الأمم المتحدة الساعية إلى دعم السلام العالمي، والمشاركة في حفظ الأمن الدولي، فضلا عن الوقوف في وجه سباق التسلح وانتشار أسلحة  الدمار الشامل، وغيرها من الأهداف والمبادئ التي قامت من أجلها هذه المنظمة الدولية.


وبعد عودة المسار الديموقراطي إلى البرازيل أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، انضمت البرازيل -كما سبق القول- إلى العديد من المنظمات الدولية التي ترى أنها مفيدة في تحقيق الأهداف سابقة الذكر. وقد أسهم في قبول البرازيل عضوا في هذه المنظمات مجموعة من العوامل في مقدمتها مكانة البرازيل كقوة إقليمية؛ والوزن النسبي للبرازيل على الساحة الدولية؛ والشفافية التي تتحلى بها السياسة الخارجية البرازيلية.


وهناك العديد من القضايا والموضوعات ذات الأولوية التي توليها البرازيل عناية فائقة وهي ترسم أسس ومرتكزات سياستها الخارجية، وتنشط دبلوماسيتها في متابعة تنفيذها، على رأس هذه الموضوعات قضية المحافظة على البيئة.


فقد أعادت البرازيل تقديم نفسها -منذ مؤتمر الأمم المتحدة عن البيئة والتنمية الذي عُقد في ريو دي جانيرو في عام 1992- كمشارك ولاعب أساسي في مجالات التعاون البيئي متعدد الأطراف.


وتدرك البرازيل جيدا أهمية الجدال الدائر حول النظام البيئي في الأمازون، كما تدرك أن الشبح الأساسي الذي يهدد أمنها يكمن في أخطار تدويل المشكلة البيئية في الأمازون. ولعل ما حدث من نقاشات ساخنة خلال القمة الخامسة عشرة للتغير المناخي التي عقدت في كوبنهاجن منتصف ديسمبر/كانون الأول 2009 مما يشير إلى ذلك.


ويمثل إقليم الأمازون دوما مكانا محوريا في فكر النخبة البرازيلية، فتُولي الدولة عناية كبيرة بالنظام الإيكولوجي (**) لهذا الإقليم، والمؤلَّف من أنظمة فرعية تشمل المياه العذبة والغابات والتنوع الأحيائي النباتي والحيواني.


وقد تعامل الجيش البرازيلي باستمرار مع النظام الإيكولوجي في الأمازون باعتباره جزءا من مكونات الأمن الحدودي والدفاعي على المستوى القومي؛ وذلك لأنه منطقة نزاع حدودي، ومعقل للسكان الأصليين.


وتحاول البرازيل عبر سياستها الخارجية أن تقنع العالم بأنها دولة مسؤولة، تعرف واجباتها إزاء المحافظة على البيئة والمناخ العالمي. كما تنشغل السياسة الخارجية البرازيلية بموضوع "التجارة الزراعية" وما يلزمه من مفاوضات مستمرة مع القوى الزراعية الأخرى في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والهند والصين.


وأخيرا جاءت عضوية البرازيل في قمة العشرين لتجعل العمل داخل هذه المجموعة أحد أولويات السياسة الخارجية البرازيلية. فبعد الأزمة المالية العالمية حلَّت قمة العشرين -بشكل مباشر أو غير مباشر- محل قمة الدول الصناعية السبع (أو الثماني بإضافة روسيا). وصار هذا التجمع الجديد منتدى دوليا لاتخاذ القرارات العالمية. ومن مميزيات هذا المنتدى أنه يعتمد منهجا أكثر ديموقراطية في اتخاذ القرار الدولي، وتحديد الأهداف الإستراتيجية (سواء على مستوى معالجة الأزمات أو المبادرة باتخاذ القرارات)؛ وذلك في القضايا الاقتصادية والمالية والتجارية.


ولمَّا كان في مقدمة أعمال قمة العشرين قضايا التغير المناخي والطاقة (وفي مقدمتها الطاقة النووية)، والسلام الدولي والتحديات الأمنية، والإرهاب وحقوق الإنسان، فإن البرازيل -المعنية بهذه القضايا لا سيما المتعلق منها بالتغير المناخي- وجدت نفسها مجددا في مكانة دولية مهمة تمكنها من التأثير في القرار العالمي.


وفي كلمة الختام تجدر الإشارة إلى أن الكفاءة المؤسسية لوزارة الشؤون الخارجية البرازيلية لم يكن لها أن تحقق هذا النجاح لولا أشكال الدعم المختلفة التي تتلقاها من الأداء المميز للوزارات القادرة على المنافسة العالمية، مثل وزارات المالية والصناعة والتجارة والتي تتعامل مع مجالات فاعلة بداية من الزراعة ووصولا إلى العلوم والتقنية، ومن التعليم إلى العدل والقانون، فضلا عن الشركات والمؤسسات الكبرى. كما تسهم المقومات الفيدرالية في زيادة مشاركة البرازيل عالميا؛ فالاتحادات الكونفيدرالية والفيدرالية والمجالس الإدارية والاتحادات الجهوية والعمالية وغيرها، كلها تعمل على تحقيق مصالح قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات في البلاد.


__________________
(*) مزج المحرر هنا بين ورقتين، هما:
Clóvis Brigagão (2010) Brazil´s role in the Regional and International arena. Unpublished report prepared for Aljazeera Centre for Studies. Doha Jan.2010
وعاطف معتمد عبد الحميد (2010) قراءة في ملامح السياسة الخارجية البرازيلية. ورقة أعدت لمركز الجزيرة للدراسات، الدوحة. مايو/أيار 2010.


كلوفيس بريجا جاوا، أستاذ جامعي، ومدير مركز الدراسات الأميركية بجامعة كانديدو منديس في ريو دي جانيرو بالبرازيل. ومنسق مجموعة التحليلات الخاصة بمنع الأزمات والصراعات الدولية بمعهد الدراسات الإنسانية (GAPCOM) بالجامعة نفسها. بعد أن أكمل بريجا جاوا دراساته العليا في جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة في السبعينيات من القرن العشرين عاد إلى البرازيل وتولى عدة مناصب ذات طبيعة أكاديمية وإدارية، كما شغل مواقع قيادية عديدة في حكومة ولاية ريو دي جانيرو. ويُعرَف بريجا جاوا في البرازيل على نطاق واسع ككاتب ومحلل سياسي في مجال العلاقات الدولية والسياسة الخارجية وشؤون الأمن وقضايا السلام. يعمل منذ أبريل/نيسان 2009 حتى الآن باحثا زميلا في معهد نوبل بالنرويج. أما عاطف معتمد فقد سبق التعريف به.


 (**) النظام الأيكولوجي هو النظام البيئي الذي تتفاعل فيه الأحياء المختلفة (النباتية والحيوانية والإنسان) مع بعضها البعض. وينطلق هذا النظام من فرضية أن المخلوقات عائلة، تعيش معًا، وتتفاعل في استخدام مكونات النظام البيئي/الأيكولوجي. (المحرر)


(***) لمزيد من التفاصيل عن مهام حفظ السلام التي تضطلع بها البرازيل، انظر: "دور البرازيل في حفظ الأمن العالمي"، سارا دي سوزا في الملف ذاته. (المحرر)


عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف