الملاحقات الأمنية وتآكل الحاضنة الشعبية يهددان القاعدة على المدى البعيد (الفرنسية-أرشيف)
بشير موسى نافع
لا مركزية التنظيم
مغزى تصاعد النشاط
محددات المستقبل
1- بعد أكثر من ثمان سنوات على أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، ما تزال القاعدة مالئة الدنيا وشاغلة الناس، ليس كل الناس بالضرورة، ولكن عدداً ملموساً من أجهزة الأمن عبر العالم، وقيادات الدول، والمراقبين المختصين على الأقل. خلال 2009 – 2010، تزايدت التقارير عن اتساع نطاق نشاطات القاعدة والمجموعات المسلحة والإرهابية المحلية المرتبطة بها. وكان الجدل متعدد الأوجه حول التطورات في بنية القاعدة ونشاطاتها بعد انهيار نظام طالبان في أفغانستان قد انتهى إلى أن القاعدة لم تعد تنظيماً مركزياً، وأنها تنشط عبر عشرات، وربما مئات، الخلايا في مختلف أنحاء العالم، أو من خلال علاقات تحالفية مع جماعات ولدت محلياً وباستقلال عن التنظيم الأم.
طبقاً لهذا التصور، أصبحت القاعدة: أكثر خطراً، وأوسع انتشاراً. أكثر خطراً، لأن خلاياها ومجموعاتها لم تعد تحتاج تخطيطاً أو قراراً مركزياً لتنفيذ هجماتها، وأوسع انتشاراً لأنها لم تعد تقتصر على العناصر والخلايا المرتبطة بقيادة القاعدة المفترض أنها تختبيء في مكان ما على الحدود الأفغانية – الباكستانية، بل تضم قطاعاً كبيراً من العناصر والخلايا والمجموعات.
القاعدة لم تشكل يوماً خطراً بحجم الجيش الجمهوري والباسك مثلاً، لا من ناحية حجم هجماتها، من حيث قدرتها التكتيكية على الأداء العملياتي المتصل، أو من حيث صلاتها بأجهزة مخابرات دول عظمى |
في المغرب العربي، لم تخفق الدولة الجزائرية في القضاء على التنظيمات الإسلامية الراديكالية المرتبطة بالقاعدة وحسب، بل إن القاعدة نجحت في مد أطرافها إلى المغرب وموريتانيا والفضاء الصحراوي. ولأنه من الصعب التحكم الأمني في هذا المجال الهائل، الممتد من جبال الأطلس المغربية والقبائل الجزائرية والصحراء، تتداخل نشاطات مجموعات القاعدة الإجرامية، من اختطاف رهائن غربيين للحصول على المال، إلى تهريب السلاح والمخدرات والمهاجرين الأفارقة، إلى الهجمات المسلحة على أهداف أمنية وسياسية. ونظراً للتداخل بين شمال إفريقيا وغربها، من جهة، ودول المتوسط الأوروبية، من جهة أخرى، فليس من المستبعد أن تنجح التنظيمات المرتبطة بالقاعدة في هذه المنطقة في اختراق دول مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا.
هناك، بالطبع، شواهد على نجاحات ملموسة في الحرب ضد القاعدة، أبرزها تقويض انتشارها في جنوبي شرق آسيا، ومنعها من تنفيذ أية هجمات رئيسة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية خلال السنوات القليلة الماضية، إلا إذا اعتبرنا واقعة إطلاق النار التي قام بها الضابط/ الطبيب الأميركي من أصل عربي في قاعدة عسكرية أميركية، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2009، حادثاً خطط له من قبل القاعدة، وهو أمر محل شك. ولكن الصورة العامة لانتشار وتوسع المجموعات المرتبطة بالقاعدة في المناطق المختلفة من العالم الإسلامي لا توحي بانحسار التنظيم، أو بالثقة في اقتراب الحرب على ظاهرة العنف ذي الخطاب الإسلامي العابر للحدود والقارات من نهايتها.
ما تجادل به هذه الورقة أن القاعدة خسرت المعركة بالفعل، بل إن الصورة التي صنعت لها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول كانت صورة فيها كثير من المبالغة أصلاً. وتؤكد هذه الورقة على أن الحرب ضد ما تبقى من القاعدة، أو المجموعات المرتبطة بها، يجب أن تقتصر على الوسائل الأمنية التي تتبعها أجهزة الشرطة عادة ضد المجموعات الإجرامية المسلحة، أو التي اتبعتها مسبقاً ضد المجموعات اليسارية والقومية الإرهابية، مثل الألوية الحمراء والباسك والجيش الجمهوري الأيرلندي.
2- ولدت القاعدة من سياقين، أحدهما يتعلق بإخفاق النهج الإسلامي المسلح في التسعينات، والثاني يرتبط بالظروف التي أحاطت بحياة السيد أسامة بن لادن بعد خروجه من السعودية في 1991 واستقراره في العاصمة السودانية الخرطوم. ثمة أدلة عديدة على أن ابن لادن في مطلع مرحلته السودانية لم يكن يعتزم ولا خطط لانتهاج طريق العنف المسلح، لا في الساحة السعودية ولا على مستوى العالم. أحضر ابن لادن عائلته إلى الخرطوم، وخلال فترة قصيرة التفت حوله مجموعات من الإسلاميين العرب الذين وجدوا لهم ملاذاً في السودان. بعض هؤلاء كان من العناصر السعودية المؤيدة له، وبعضهم من رفاق الجهاد في أفغانستان، وآخرون من أعضاء الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في مصر. وقد وضع ابن لادن كل ما توفر له من مال آنذاك في مشاريع تجارية وإنتاجية في السودان، الذي كان في أمس الحاجة للاستثمارات الاقتصادية. أسس شركة للتجارة، وأخرى للإنشاءات، شركة للإصلاح الزراعي، وأخرى للمنتجات الزراعية، كما أصبح شريك الدولة الرئيس في مشروع شق طريق سريع بين الخرطوم وميناء بورتسودان.
كما ساعدت عناصر من الملتفين حول ابن لادن في تدريب قوى قبلية صومالية. وفي ديسمبر/ كانون أول 1992، شارك أنصاره في القتال الدموي الذي دار بين القوات الأميركية والصوماليين المعارضين للوجود الأميركي في بلادهم، وهو ما أدى إلى جلاء الأميركيين عن الصومال. وربما مد ابن لادن يد عون متواضعة للمقاتلين الإسلاميين العرب الذين توجهوا إلى البوسنة للوقوف مع المسلمين البوسنيين ضد القوات الصربية.
ولكن تلك كلها كانت تحركات عفوية ومحدودة. أما النشاط الأبرز لابن لادن في تلك المرحلة فتمثل في تشكيل "لجنة النصيحة والإصلاح" للتعبير عن معارضته السياسية للحكم السعودي. اتخذت اللجنة مكتباً لها في لندن، وأعلن السعودي خالد الفواز مديراً للمكتب وناطقاً باسم اللجنة. في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 فجرت بناية للحرس الوطني السعودي في الرياض، حيث قتل 14 شخصاً. وفي 25 يونيو/ حزيران 1996 تعرض مجمع سكني للقوات الأميركية في الخبر للتفجير. ولكن لا السلطات السعودية ولا الأميركية وجهت أصابع الاتهام في الحادثتين لابن لادن أو أنصاره.
وقد وقع التطور الهام في سنوات السودان بتعرف بن لادن إلى الطبيب الإسلامي المصري أيمن الظواهري، أحد القيادات الهاربة من مصر لجماعة الجهاد المصرية. وبالرغم من أن الظواهري لم يعلن حقيقة موقفه، فالواضح أنه أخذ يفقد الثقة في قدرة وسائل العنف على إحداث التغيير السياسي في مصر. ولكن بدلاً من أن يعترف الظواهري بفشل نظرية إطاحة النظام بقوة السلاح، قرر الهروب إلى الأمام، والمناداة بشن حملة جهادية عالمية ضد الولايات المتحدة، التي اعتبرها السند الرئيس للأنظمة غير الإسلامية في العالم الإسلامي.
شهدت لقاءات الظواهري وابن لادن نقاشات متصلة حول هذه الرؤية الجديدة، ولكن الجدل لم يحسم ربما إلا بعد طرد بن لادن من السودان. ففي مايو/ آيار 1996، أجبر النظام الإسلامي السوداني ضيفه على مغادرة البلاد، بعد تصاعد الضغوط السعودية والأميركية على الخرطوم. وقد رسّب الترحيل من الخرطوم مرارة عميقة لدى ابن لادن، إذ اضطر إلى مغادرة السودان على متن طائرة صغيرة، يقودها طيار روسي، كما استولى الحكم السوداني على مجمل استثماراته في البلاد. وليس هناك من شك في أن ابن لادن كان يشعر أن ظهره بات إلى الجدار، وأصبح بالتالي أكثر ميلاً لتبني استراتيجية الحرب الشاملة.
ما سمح بتضخيم خطر القاعدة وقدراتها كان هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي يعود نجاح القاعدة في تنفيذها إلى الصدفة أكثر منه إلى الإمكانيات الإستراتيجية العمق الجماهيري |
بروز القاعدة لم يكن نتاج ظرف موضوعي شعبي، أو حراك شعبي واسع. لم تلد القاعدة، مثلاً، في ظرف شبيه بالأوضاع التي أدت لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى أو الثانية؛ أو حتى في ظرف شبيه بإلغاء الانتخابات الجزائرية في مطلع التسعينات، ومن ثم انفجار العنف الجزائري الداخلي الذي وصل إلى ما يشبه الحرب الأهلية. ولادة القاعد بالأحرى كانت نتيجة أزمة مجموعات هامشية، انتهجت العنف أصلاً، وأخفقت في تحقيق التفاف شعبي حولها. ولذا، فإن القاعدة من البداية كانت قوة صغيرة، قادتها عناصر امتهنت طريق العنف المسلح، سواء في بلدانها أو في سياق الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفياتي. لم تخرج مظاهرة واحدة في أي من البلدان الإسلامية تأييداً للقاعدة، لا في إعلاناتها الأولى، ولا عند تنفيذها هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، ولا بعد أن أطاح الأميركيون نظام طالبان. الحقيقة، أنه حتى في أفغانستان أو باكستان، لم تتبلور حالة شعبية مؤيدة للقاعدة.
3- سجلت القاعدة، أو القوى ذات العلاقة بها، صعوداً ملفتاً في منطقتين من العالم الإسلامي خلال الفترة بعد غزو العراق واحتلاله، الذي مثل ذروة صدام السياسة الأميركية مع الرأي العام الإسلامي، وهما العراق وأفغانستان/ باكستان. في العراق، استطاعت القاعدة، تحت قيادة الأردني محمد الخلايلة (أبو مصعب الزرقاوي)، في الفترة بين 2004 و2007، توسيع نطاق نفوذها في معظم المحافظات العراقية ذات الأغلبية السنية، إضافة إلى العاصمة بغداد. وقد ساهمت عناصر القاعدة المسلحة، إلى جانب تنظيمات مسلحة أخرى، مساهمة ملموسة في تصاعد المقاومة العراقية ضد الاحتلال. في أفغانستان، يعتقد أن القاعدة لعبت دوراً هاماً، سيما من ناحية نقل الخبرات والتدريب، في الصعود الثاني لحركة طالبان منذ 2006. أما في باكستان، فالأرجح أن وجود عناصر القاعدة في منطقة القبائل الحدودية، وتفاقم الوضع الأمني الناجم من الهجمات الباكستانية والأميركية، دفعا معاً خلال 2008 – 2009 على بروز ظاهرة طالبان باكستان، التي باتت تشكل تهديداً كبيراً لأمن باكستان وخطوط إمداد قوات الناتو العاملة في أفغانستان.
بيد أن تصاعد نشاطات القاعدة في هذه المناطق رافقه من البداية عوامل انحطاطه وتراجعه. ففي العراق، لم تقاوم القاعدة الاحتلال وحسب، بل تعمدت شن هجمات بشعة ضد المدنيين العراقيين، سواء في محاولة لتأجيج الصراع الطائفي، أو لمعاقبة المناطق أو القيادات المحلية والعشائرية التي رفضت الخضوع للسيطرة القاعدية، إضافة إلى الهجمات ضد قوات ومراكز الأمن العراقية. وقد ازدادت وتيرة هذه الهجمات، ومن ثم اتساع الهوة بين القاعدة والأهالي، بعد مقتل الزرقاوي في صيف 2006. وفي الوقت نفسه، شهدت الساحة العراقية صدامات متكررة بين عناصر القاعدة وتنظيمات المقاومة الأخرى. في الشهور الأخيرة لـ 2007، بدأت القوى العشائرية في مواجهة القاعدة بالسلاح، مما أدى إلى إخراجها من محافظة الأنبار. وفي العام التالي، اتسع نطاق تشكيل ما بات يعرف بمجموعات "الصحوة"، المدعومة من القوات الأميركية، والتي عملت على إضعاف القاعدة وتقويض نفوذها إلى حد كبير.
لا تطرح القاعدة برنامجاً غامضاً أو أهدافاً مبهمة وحسب، بل إن خطابها لا يستبطن رؤية تفاؤلية أو واقعية. وهي لذلك أبعد ما أن تكون عن موضع الأمل لأي قطاع ملموس من الشعوب الإسلامية |
أما الوضع في منطقة القبائل الباكستانية الحدودية فهو أكثر تعقيداً. ولكن مهما كانت العلاقة التي تربط القاعدة بطالبان باكستان، فثمة عدد من الملاحظات التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار:
1- أن طالبان أفغانستان هو اسم لعدة مجموعات وليس لحركة موحدة، واحدة أو اثنتين منها فقط اختارت الصراع المسلح ضد القوات الباكستانية.
2- أن طالبان أفغانستان، التي يعتقد أنها لا تزال تحتفظ بعلاقات مع الدوائر العسكرية والاستخباراتية الباكستانية، لا علاقة لها بطالبان باكستان، وترفض تأجيج الصراع ضد القوات الباكستانية.
3- أن الأغلبية الساحقة من الرأي العام الباكستاني لا تتعاطف مع المسلحين في منطقة القبائل، بل إن هناك اعتقاداً بأن الاستخبارات الهندية قد اخترقت صفوف هؤلاء المسلحين، وباتت تستخدم بعضهم في الصراع الاستخباراتي الخفي بين الهند وباكستان. ولا يقل أهمية أن سياسة الغارات التي تنفذها طائرات أميركية بدون طيار على أهداف للقاعدة في منطقة الحدود الباكستانية – الأفغانية، وبالرغم من أنها أوقعت الكثير من الخسائر في صفوف المدنيين الباكستانيين، قد أدت بالفعل إلى ما يشبه الشلل في صفوف ما تبقى من خلايا القاعدة المتمركزة في مناطق القبائل، وأفقدت هذه الخلايا القدرة على الاتصال الفعال.
ما توضحه هذه المعطيات أنه حتى عندما وفرت ظروف مثل تلك التي عاشتها العراق وأفغانستان وباكستان فرصة لصعود القاعدة وتعزيز نشاطاتها، فإن الوضع سرعان ما ينقلب إلى خسارة وتراجع، سواء لأخطاء القاعدة الفاحشة أو لأنها باتت عبئاً سياسياً على حلفائها. لا على مستوى العناصر القيادية المحلية، ولا على مستوى الأفق السياسي الذي تطرحه، أمكن للقاعدة أن تحول الفرص المتاحة لها إلى انفراج أو إضافة استراتيجية، بل على العكس؛ أكدت القاعدة من جديد أنها خطر على تماسك وسلم وأمن المجتمعات التي تنشط فيها. وبالرغم من أن الظروف التي توفرت للقاعدة في لبنان والأردن وقطاع غزة والضفة الغربية لم تكن مواتية، أو أنها كانت أضيق نسبياً من نظيرتها في العراق وأفغانستان، فقد بذلت القاعدة جهوداً كبيرة من أجل أن تؤسس موقع قدم لها في فلسطين أو على حدودها. ولكن هذه الجهود بائت بالفشل، ليس فقط لحجم الإجراءات الأمنية التي واجهتها، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، لوجود بيئة شعبية رافضة.
4- المحدد الرئيس لمستقبل القاعدة هو مدى تلبية خطابها ورؤيتها السياسية لرغبات وطموحات قطاعات ملموسة من أبناء الشعوب الإسلامية. وهنا بالذات تتضح هشاشة المرتكزات التي تستند إليها القاعدة والمجموعات التي ترتبط بها في هذا الإقليم أو ذاك. لا تطرح القاعدة برنامجاً متماسكاً واضح المعالم، لا على مستوى خطاب قادتها المركزيين، ولا على مستوى خطاب وبيانات قادة المجموعات المتفرقة المرتبطة بها. ثمة عدد من الأهداف، غير المحددة أو الثابتة دائماً، التي يمكن استشفافها من خطابات القاعدة المختلفة. هناك، مثلاً، محاولة تصعيد حدة الصراع بين القوى الغربية عموما، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وبين العالم الإسلامي، والعمل على إطاحة أنظمة بعينها في العالم الإسلامي، والتحريض ضد الدولة العبرية، والدعوة إلى وحدة المسلمين والشعوب الإسلامية.
الهزيمة النهائية للقاعدة والقضاء المبرم على الخطر الذي تمثله، يتطلب تعاون الشعوب الإسلامية، بل أن هذه الشعوب هي وحدها الكفيلة بنجاح المواجهة مع القاعدة |
من جهة ثانية، هناك حالة من عدم الرضى، وربما الغضب، تحكم العلاقة بين عدد ملموس من الشعوب الإسلامية وأنظمتها الحاكمة. ولكن الاتجاه الغالب للعمل السياسي في الدول الإسلامية هو اتجاه سياسي مدني، سلمي، وديمقراطي. وبعد عدة حالات من انفجار العنف خلال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، انحازت الشعوب الإسلامية في أغلبيتها العظمى، بما في ذلك العلماء والمثقفون والقوى السياسية الإسلامية، ضد توظيف العنف المسلح في العمل السياسي، ولم تر الشعوب الإسلامية العواقب ثقيلة الوطأة للعنف السياسي وحسب، بل أدركت عقم استخدام العنف وعجزه عن إحداث التغيير. وقد شهد عدد من الدول الإسلامية مراجعات فكرية جادة من قبل القوى الإسلامية التي اعتمدت العنف المسلح، بينما انتهى العنف في بلدان أخرى، أو تراجعت وتيرته إلى حد كبير. ولأن العنف المسلح، وأحياناً العنف الأهوج غير التمييزي، هو النهج الوحيد الذي تطرحه القاعدة، فمن غير المتوقع أن تجد دعوات القاعدة إلى التغيير السياسي باستخدام العنف المسلح استجابة ملموسة في الدوائر الشعبية الإسلامية.
فيما يتعلق بالساحة الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي، لا يبدو أن أمام القاعدة أية فرصة مجدية. هناك، بالطبع، ما يشبة الإجماع العربي والإسلامي الشعبي حول فلسطين، ولكن مشكلة القاعدة في محاولاتها الحثيثة لتأمين موضع قدم في الساحة الفلسطينية، لا تتمثل في الجدر الأمنية التي تقيمها الأجهزة العربية حول فلسطين وحسب، ولكن أساساً في وجود قوتين إسلاميتين أصيلتين في الساحة الفلسطينية: حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. برزت الحركتان منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى في مقدمة الحركة الوطنية الفلسطينية، وبالرغم من أن الحركتين تتبنيان المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، فلا يكاد يجمعها بالقاعدة مشترك يذكر. تدرك الحركتان التعقيدات البالغة التي تحيط بالمسألة الفلسطينية، وتريان في عنف القاعدة العشوائي تهديداً لتوازنات الساحة الفلسطينية السياسية والمتطلبات الدقيقة لإدارة الصراع. وبينما تلتف القطاعات الإسلامية الشعبية الفلسطينية حول حماس والجهاد، لم يتردد قادة القاعدة خلال العامين الماضيين في التهجم على سياسات حماس، سيما بعد أن سيطرت الأخيرة على الأوضاع في قطاع غزة.
أخيراً، ليس ثمة شك في أن مسألة التضامن الإسلامي أصبحت محل التباس كبير في العقود القليلة الماضية. ثمة شعور عميق بالهوية المشتركة يجمع مئات الملايين من المسلمين، وهناك تعبيرات مختلفة ومتكررة للتضامن بين المسلمين. وتطرح القاعدة نفسها باعتبارها تياراً إسلامياً عابراً للحدود وأن اهتمامها يطال المجال الإسلامي كله. إن كان هدف القاعدة هو الدعوة التضامنية فعلاً، فإن خطابها التضامني يصب باتجاه جهود أخرى متعددة، من المؤتمر الإسلامي إلى عدد من الدول والعشرات من القوى والشخصيات الإسلامية. ولكن إن كان هدف القاعدة يذهب إلى أبعد من ذلك، أي إلى تصور لوحدة إسلامية سياسية، فالواضح أن قادة القاعدة لا يأخذون المتغيرات التاريخية في العالم والعالم الإسلامي في الاعتبار. إذ ليس ثمة شك في أن بروز الفكرة القومية خلال القرنين الماضيين أدى إلى تعقيد مسألة الهوية لدى الشعوب الإسلامية، وبالرغم من أن البعد الإسلامي لهوية هذه الشعوب لم يغب، وأنه يشهد حالة إحياء ملموسة في العقود الأخيرة، فإن الهوية الإسلامية تتعايش من انتماءات قومية فاعلة وبالغة التأثير، تجعل من حلم الوحدة الإسلامية السياسية أقرب إلى اليوتوبيا منها إلى الممكن أو المحتمل التحقق.
في النهاية، وبكلمة أخرى، لا تطرح القاعدة برنامجاً غامضاً أو أهدافاً مبهمة وحسب، بل إن خطابها لا يستبطن رؤية تفاؤلية أو واقعية. وهي لذلك أبعد ما أن تكون عن موضع الأمل لأي قطاع ملموس من الشعوب الإسلامية.
5- هل يعني هذا أن القاعدة لم تعد تشكل خطراً على أمن الدول الإسلامية والأمن العالمي؟ الإجابة بالتأكيد هي لا. ولكن هناك فارق هام بين الخطر الأمني المحدود والخطر الإستراتيجي. لا تزال القاعدة، كما كانت منذ البداية، مصدر تهديد أمني، سواء على المستوى المحلي في بلاد مثل اليمن، السعودية، بعض بلدان غرب الصحراء، وباكستان/ أفغانستان، وربما بعض الدول الغربية، بالرغم من أن هذا الخطر يتضاءل مع مرور الوقت، أو على مستوى حركة النقل والاتصال عبر العالم. في مواجهة مخاطر مماثلة سابقة، كما الجيش الجمهوري الإيرلندي، الجيش الأحمر في ألمانيا، المجموعات اليسارية المسلحة في أميركا الستينات والسبعينات، ومنظمة الباسك في إسبانيا، واجهت الدول الغربية الخطر بوسائل أمنية واستخباراتية وبوليسية.
والحقيقة أن القاعدة لم تشكل يوماً خطراً بحجم الجيش الجمهوري والباسك مثلاً، لا من ناحية حجم هجماتها، من حيث قدرتها التكتيكية على الأداء العملياتي المتصل، أو من حيث صلاتها بأجهزة مخابرات دول عظمى.
ما سمح بتضخيم خطر القاعدة وقدراتها كان بلا شك هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، التي يعود نجاح القاعدة في تنفيذها إلى الصدفة أكثر منه إلى الإمكانيات الإستراتيجية الفعلية والعمق الجماهيري. المشكلة، بالطبع، أن الدول الغربية لم تتعامل مع القاعدة أمنياً واستخباراتياً وبوليسياً، بل بحرب شاملة، باحتلال بلدان وإسقاط أنظمة، وبتصعيد حالة العداء مع الشعوب الإسلامية، أو أن خطرها استخدم على الأقل لتسويغ هذه الحروب
لمواجهة ما تبقى من خطر تمثله القاعدة على العالم، وعلى القوى الغربية بوجه خاص، لابد أن تجري مراجعة متعددة المستويات للسياسات التي اتبعت حتى الآن في هذه المواجهة، ابتداء من التقدير الصحيح لما هي القاعدة، مروراً بخطاب الحرب على الإرهاب، وصولاً إلى التخلي عن نهج الحروب والعودة إلى الوسائل الأمنية المعتادة. وربما تعتبر النجاحات التي حققتها دول مثل السعودية في مواجهة خطر القاعدة باستخدام الوسائل الأمنية التقليدية وبرامج إعادة التأهيل، مثالاً لما ينبغي أن تكون عليه المواجهة داخل بلدان العالم الإسلامي وفي الدول الغربية. بهذا يتم الفصل بين المجموعات محدودة العدد والإمكانيات التي تنضوي تحت اسم القاعدة، ومئات الملايين من أبناء الشعوب الإسلامية.
المسألة الثانية الهامة أن الهزيمة النهائية للقاعدة والقضاء المبرم على الخطر الذي تمثله، يتطلب تعاون الشعوب الإسلامية، بل أن هذه الشعوب هي وحدها الكفيلة بنجاح المواجهة مع القاعدة. ولكي تصبح الشعوب الإسلامية أكثر استعداداً لتحمل أعباء هذه الدور لابد أن تستشعر وجود مصلحة حقيقية وملموسة لها في خوض هذه المواجهة. وهذا لن يحدث بدون مراجعة جادة للسياسات الغربية تجاه القضايا الرئيسة للشعوب الإسلامية.
________________
بشير موسى نافع، باحث بمركز الجزيرة للدراسات. أستاذ سابق للتاريخ والدراسات الإسلامية بكلية بيركبيك بجامعة لندن. نشر العديد من الدراسات بالإنجليزية والعربية حول تاريخ الفكر السلفي، الحركة الإصلاحية، القومية العربية، العراق، القضية الفلسطينية. كما نشر العديد من الأوراق البحثية حول الإسلام المعاصر والتاريخ الفكري للإسلام، في عدد من الدوريات الأكاديمية. صدرت له عدة كتب منها: الإمبريالية والصهيونية والقضية الفلسطينية (بالعربية، "الفكر الإسلامي في القرن العشرين" (بالإنجليزية بالاشتراك)، "العراق: سياقات الوحدة والانقسام" (بالعربية)، و"الإسلاميون" (بالعربية).