بعض الدول تضخم خطر القاعدة لتنفيذ إستراتيجيات معينة (الفرنسية-أرشيف)
محمد أبو رمان
هنالك من يرى أنّ الضخ الإعلامي الهائل والتقارير الأمنية الغربية عن القاعدة وشبكتها وعملياتها بمثابة تهويل ومبالغة وصناعة للرعب من "وَهْمٍ" اسمه القاعدة. وتتراوح أصوات هذا التيار بين من يشكك في أغلب العمليات المنسوبة للقاعدة، كأحداث الحادي عشر من سبتمبر (كما ذهب الكاتب الفرنسي تيري ميسان في كتابه "الخديعة الكبرى")، وبين من لا ينكر وجود القاعدة، لكنه يرى بأنّ هنالك تضخيماً متعمّداً لخطرها، بما يخدم أجندات سياسية.
بالضرورة، ليس من السهولة بناء تقييم علمي محكم لحدود قوة القاعدة وقدراتها، ذلك أنّنا لا نتعامل مع جيش نظامي، أو دولة لها مؤسساتها وموازنتها المعتمدة، أو حتى مؤسسات معروفة يمكن قياس عناصر القوة لها، بقدر ما نتعامل مع "حالة" زئبقية هلامية، غير محدّدة المعالم، وليس هنالك مؤشرات رقمية يمكن الاتفاق عليها في حدود تعريف قوتها أو خطورتها، كما هي الحال في أدبيات النظم السياسية والعلاقات الدولية.
ممّا يعزّز من صعوبة الحكم على قدرات القاعدة ومستوى خطورتها، أنّها باتت اليوم أقرب إلى "رسالة أيديولوجية"، يمكن أن تتشكّل في أيّ لحظة في صيغة عمل عسكري أو أمني، من خلال مجموعة تلتقط الرسالة وتؤمن بها، ثم تسعى إلى تنفيذها على طريقتها الخاصة.
ثمّة "سيولةٌ شديدةٌ" في حالة القاعدة، وتحولات دائمة في مصادر قوتها، وصعود في أماكن محددة وهبوط في أخرى، وأجسام هلامية تظهر وتختفي، وجميعها متغيرات ليست قابلة للقياس الرقمي المحدّد.
في المقابل، هنالك مؤشرات عامة تساعدنا بدرجة غير دقيقة تماماً على رسم صورة تقريبية لقوة القاعدة وخطورتها، ومدى توافرها على قدرات تتناسب مع الأهداف الكبرى المعلنة لها.
وفي هذا المقال، سنحاول الاقتراب من تحولات مفهوم القوة لدى القاعدة، والإجابة على سؤال مركزي: فيما إذا كانت خطورتها تزداد أم تقل؟ أولاً، ثم مناقشة فيما إذا كانت التقارير الأمنية والإعلامية، تحديداً الغربية، تهوّن أم تهوّل في حديثها عن القاعدة.
دلالة "الخطورة" في التحوّل إلى "رسالة أيديولوجية"
صادر قوة القاعدة وتعدد قدراتها
تصاعد خطورة القاعدة
المحافظون الجدد وقادة القاعدة: التوافق على أجندة "صناعة الرعب"
دلالة "الخطورة" في التحوّل إلى "رسالة أيديولوجية"
ليس من السهولة بناء تقييم علمي لحدود قوة القاعدة، ذلك أنّنا لا نتعامل مع جيش نظامي، بقدر ما نتعامل مع "حالة" زئبقية هلامية، غير محدّدة المعالم، وليس هنالك مؤشرات رقمية يمكن الاتفاق عليها في حدود تعريف قوتها أو خطورتها |
الإجابة على هذا السؤال نسبية ومركّبة. فالقاعدة المركزية تعرّضت خلال الحرب الأفغانية 2002 وما بعدها إلى ضربات قاصمة، وحرب أمنية شرسة أدّت إلى اعتقال ومقتل عدد كبير من قيادات الصف الأول والثاني، وإلى تشرّد البقية واختبائهم، كما أنّها حرمت القاعدة -حينها- من "حاضنة إستراتيجية" تتمثل في حكومة طالبان، وأدّت إلى نزيف مستمر في عملياتها الأمنية، نتيجة "للحرب على الإرهاب" التي نشطت فيها المخابرات الأميركية في أكثر من ثمانين دولة في العالم، لمواجهة القاعدة والجماعات والمجموعات المتحالفة معها.
ذلك المؤشّر لا يعني تضاؤل حجم القاعدة، بل ربما يكون تدمير "المركز" قد ساعد على النمو العشوائي الذي حدث مع الشبكة في السنين التي تلت.
تشي أغلب المعلومات والتقارير أنّ القاعدة تمكّنت بعد الحرب الأفغانية من إعادة بناء شبكتها وإستراتيجيتها وقامت بتبنّي مبدأ "اللا مركزية" بصورة كبيرة جداً، ممّا خلّق -لاحقاً- نموذجاً جديداً بالكلية من الشبكة يختلف في طبيعته التنظيمية والحركية وتكتيكاته عن الصيغة التي اتخذتها القاعدة قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
"اللامركزية" الجديدة تزامنت مع الحرب العراقية 2003، وصعود القاعدة في العراق، بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، وتحوّل العراق خلال سنوات قليلة إلى "مركز إقليمي" للقاعدة، (قبل أن يقتل الزرقاوي منتصف 2006، وتتراجع القاعدة بصورة متسارعة لاحقاً)، ومن ثم بروز قواعد متعددة وجديدة.
حدث ذلك بالتساوق والتزامن مع بروز مجموعات تتبنّى خطاب القاعدة من دون أن يُبرز المركز تبنّياً رسمياً لها، وإن كان هنالك تعاطف واضح معها من أنصار القاعدة عبر شبكة الإنترنت، ولعلّ المثال الأبرز على هذه المجموعات، الجماعات التي تنتمي إلى تيار "السلفية الجهادية" المنتشرة في كثير من الدول العربية والإسلامية.
لم نعد اليوم أمام "قاعدة واحدة"، متّسقة تنظيمياً وفكرياً، ولها رأس واضح وتسلسل هرمي ومركزي محسوم، بل لدينا "قواعد" عديدة، تختلف عن بعضها بطبيعة التركيبة الاجتماعية والثقافية في البلاد التي تنشط بها، ويتباين خطابها السياسي والفكري، ضمن الأطر العامة للقاعدة الأم، بحسب طبيعة قيادتها، فهنالك خطاب أكثر ليناً مع الشيعة وإيران، وهنالك خطاب متشدّد على يمين القاعدة (يمين اليمين) كما كانت حال أبو مصعب الزرقاوي، مما يخلق مساحات متفاوتة بين هذه الجماعات في قدراتها وأدواتها وخطورتها وعملياتها، ويجعل كلاًّ منها "حالة دراسية" بحد ذاتها، لها خصوصيتها، وإن كانت هنالك خصائص عامة تتغلغلها جميعاً.
تتمثل المعطيات المشتركة في مختلف هذه الجماعات، بوجود شخصية مفتاحية، تمتلك سمات القيادة توافر حاضنة اجتماعية (تمتاز بوجود ظروف من الإحباط والتهميش السياسي والظروف الاقتصادية المتردية، حالة من القلق الاجتماعي والسياسي)، طرف إقليمي يسهِّل أو يوفر شروط الدعم اللوجتسي لهذه الجماعات، وليس بالضرورة أن يكون هذا الطرف دولة، فقد يكون منظمات وجماعات أو أفرادا متضامنين.
وفي حال أظهرت تلك الجماعات قدرات ملحوظة على العمل والبقاء والاستمرار وتوسلت الطرق لتصبح جزءاً من الشبكة وقدمت أوراق اعتمادها للزعيم الأول، فإنها غالباً ستحظى بالاعتراف والقبول، وتأخذ الصفة الرسمية بالانضمام إلى "شبكة القاعدة العالمية".
مع تحوّل مشروع القاعدة عالمياً إلى رسالة أيديولوجية، وتبنّيها اللامركزية، وازدياد اعتمادها على شبكة الإنترنت بصورة كبيرة وأساسية، فإنّ النتيجة أنّ القوة غير المرئية والخطورة غير المدروسة والمقدّرة تصبح عوامل رئيسة في التعامل مع القاعدة، وتصبح القدرة على التنبؤ بخطورتها ومدايات عملياتها أكثر صعوبة، مهما وصلت درجة تطوّر الأجهزة الأمنية التي تتعامل معها.
"عولمة مشروع القاعدة" أدّى إلى تزاوجها مع جماعات وحركات أخرى، قد تختلف في قيادتها وجذورها الفكرية والحركية مع القاعدة، لكنّها تلتقي معها في الأهداف السياسية والعسكرية، وتحديداً في العداء للولايات المتحدة الأميركية |
أمثلة التزاوج بين القاعدة والجماعات الإسلامية الأخرى تظهر بصورة سافرة في آسيا، وتحديداً في التحالف الحالي بين القاعدة وكلًّ من طالبان الباكستانية والأفغانية، وكذلك في مناطق ودول آسيوية أخرى، كالشيشان، ودول آسيا الوسطى الجديدة.
هذه التحالفات تعزّز من خطورة القاعدة ومن ثقلها وقدرتها على التكيّف مع الضغوط الأمنية والعسكرية وخوض مواجهات عالمية مع الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، ويمنحها عناصر متنوعة متعددة، مما يصعّب الحرب الأمنية على الطرف الآخر، فبدلاً من الاقتصار على الحرب ووضعهم تحت المراقبة في الدول الغربية والأوروبية يصبح المطلوب مراقبة العرب والمسلمين (من آسيا وأفريقيا) والمسلمين الجدد في أوروبا وأميركا، وهي عملية مرهقة ومعقّدة أمنياً ومكلفة مالياً وغير محسومة النتائج.
مصادر قوة القاعدة وتعدد قدراتها
إذن، هنالك تحوّلات بنيوية جوهرية في طبيعة البنية التنظيمية للقاعدة ومصادر القوة لديها، ممّا يجعل دراسة مقياس الخطورة والنفوذ والقدرات الأمنية والعسكرية والتجنيدية مسألة في غاية التعقيد والصعوبة.
مع ذلك، تبقى هنالك مؤشرات عامة يمكن الإمساك بها للإجابة على تساؤل رئيس: فيما إذا كانت شبكة القاعدة تصعد أم تهبط وإذا كانت تزداد خطورة أم تقل عن السابق؟.
من المؤشّرات الدالّة هنا: حجم الانتشار العالمي، عدد العمليات العسكرية والأمنية عالمياً، قوتها في مناطق الصراع المباشر (أفغانستان- باكستان، العراق، اليمن).
في حجم الانتشار، يمكن أخذ مسافة زمنية محدّدة للمقارنة، ولنقارب مثلاً حالة القاعدة خلال عقد، بين العام 1995، واليوم 2010. ما هي الاختلافات الجوهرية؟.
في العام 1995 كانت القاعدة أقرب إلى تنظيم مركزي يضم آلاف الأشخاص، أغلبهم ممن شارك في الجهاد الأفغاني، أو التحق بالقاعدة خلال مرحلة التسعينيات، مع وجود أنصار ومجموعات محلية مختلفة، تشارك القاعدة الأيديولوجيا السلفية الجهادية، من دون وجود تواصل واضح ومباشر بين هذه المجموعات جميعاً.
خطر القاعدة، حينها، كان محدّداً وواضحاً، مرتبطاً بقرار مركزي وتخطيط معدّ سلفاً يصدر عن زعيم التنظيم أسامة بن لادن، أو بإشراف وعلم منه، كما حدث بصورة واضحة مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبعض المحاولات الأخرى.
أمّا اليوم، فإنّ القاعدة تتمثّل بمجموعات متعددة ومنتشرة في العديد من دول العالم، وبقراءة أكثر تدقيقاً لمصادر قوتها الجديدة تتضح الأبعاد الآتية:
أولاً، هنالك القاعدة المركزية التي عادت إلى التماسك والقوة، في باكستان- أفغانستان، وذلك بالتزاوج مع حركتي طالبان باكستان وأفغانستان، مما أكسبها عناصر جديدة من القوة، تحديداً العناصر الإسلامية الآسيوية، ومنحها حاضنات اجتماعية محلية.
ثانياً، هنالك "قواعد" إقليمية ومحلية، لكلّ منها ظروفه الخاصة ومصادر قوته وعملياته ونشاطاته، كقاعدة العراق وقاعدة الجزيرة العربية (اليمن والجزيرة) والمغرب العربي، وحركة الشباب المجاهدين في الصومال.
ثالثاً، مجموعات محلية منتشرة في العديد من دول العالم متعاطفة مع القاعدة، وبعضها يشكل خلايا سريّة تقوم بعمليات، تخدم أهداف القاعدة وتقاسمها الأيديولوجيا.
رابعاً، مئات المواقع والمنتديات على شبكة الإنترنت التي تخدم أهداف القاعدة، وتسوّق أجندتها وأيديولوجيتها، وتقوم بتسهيل التجنيد والتعبئة لصالحها، بل أصبحت الإنترنت، مؤخّراً، مصدراً أساسياً ورئيساً في تخليق ما يسمى بـ"الجيل الثالث" من القاعدة، كما سيأتي لاحقاً.
بعبارة أدق، مع أنّه من الصعوبة بمكان بناء نسق تقييم لخطورة القاعدة وقوتها، فإنّ مؤشر الانتشار والعمليات عالمياً ومحلياً يشي بأنّها تسير في خطٍّ تصاعدي عموماً، على الرغم من الانتكاسات التي تتعرّض لها هنا وهناك، إلاّ أنّها على الصعيد الإستراتيجي العام تزداد تجذّراً وقوة.
صحيح أنّ شبكة القاعد لم تقم بـ"عملية نوعية" ناجحة بمستوى أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلاّ أنّها نفّذت جملة من العمليات الأمنية المعقّدة خلال السنوات السابقة، تشي جميعها بوجود إرادة صلبة لها على الاستمرار في "حرب الاستنزاف الأمنية"، وبقدرتها الدائمة على التجنيد والتنفيذ |
ومن تلك العمليات التي نفّذتها القاعدة بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، عمليات تفجير محطّات القطار في مدريد 2005 ، وتفجيرات لندن 2005 ، والدار البيضاء 2003 ، وفنادق عمان 2005 ، ومئات العمليات الأمنية والعسكرية في آسيا وأفريقيا وطابا، والمحاولات غير الناجحة في أوروبا وأميركا.
ذلك، بالإضافة إلى النشاطات المحلية والإقليمية للقاعدة، ففي العراق كان التنظيم حجر عثرة أمام المشروع الأميركي، وساهم في إفشاله، قبل أن تنقلب "الحاضنة السنية" على القاعدة، وفي اليمن ما يزال التنظيم فاعلاً، وقد تمكّن من استهداف العديد من المصالح الأجنبية، وأعلن مسؤوليته عن عمليات دولية، وكذلك الأمر في المغرب العربي قام التنظيم بجملة من العمليات التي استهدفت مراكز أمنية في الجزائر وأماكن عبادة في تونس وأماكن سياحية في المغرب، كما أنّه ينشط في الصحراء الإفريقية انطلاقاً من موريتانيا، وهو المسؤول عن عمليات اختطاف أجانب وسياح غربيين.
ثمّ عادت القاعدة بالتحالف مع طالبان خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بصورة فاعلة في كلٍّ من باكستان- وأفغانستان، حيث يحظى التنظيمان بحاضنة إستراتيجية باشتونية ممتدة من الحدود الشمالية الغربية الباكستانية إلى أفغانستان، ولم تنجح إلى الآن أغلب المحاولات لفك شيفرة التحالف بينهما، كما حدث في الحالة العراقية بين القاعدة والجماعات السنية المسلّحة ضد الاحتلال الأميركي، منذ بدايات العام 2007.
إذن، الخط البياني للقاعدة وإن كان متعرّجاً، وليس ثابتاً، لكنّه على العموم يسير بصيغة تصاعدية على الأقل، أفقياً، من زاوية الانتشار، والتشعب.
ولعلّ السؤال: كيف يمكن للقاعدة الاستمرار والصمود وإظهار هذا القدر من الصلابة، على الرغم من الحرب الشرسة القاسية التي تخوضها مع أعتى الأجهزة الأمنية في العالم، وعلى الرغم كذلك من غياب أي توازن للقوة العسكرية بينها وبين خصومها، وفي مقدّمتهم الولايات المتّحدة الأميركية، التي تستخدم في حربها على القاعدة أحدث ما لديها من أسلحة؟.
في الجواب على هذا السؤال قد ينطبق المثل القائل "الدواء من جنس الداء"، فالضغوطات والحروب العسكرية والأمنية التي خاضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ودول أخرى مع القاعدة، منحتها القدرة على التحمل وإعادة إنتاج إستراتيجتها وبنيتها التنظيمية، والتكيّف مع التهديدات والتحديات الضاغطة، ما ولّد جيلاً أكثر تعقيداً من الناحية الأمنية والنفسية من ناحية، وأكثر تشدّداً وتطويراً لأدبيات المواجهة من ناحية أخرى.
يلاحظ ذلك تحديداً مع الملامح الجديدة للجيل الثالث من القاعدة، التي بدأت بالبروز مؤخّراً مع حالات متعددة، كلها تشي بنوع جديد مختلف، يتبنىّ أساليب مختلفة، يرتكز في عقيدته وتجنيده بل وعملياته على دور محور أساسي لشبكة الإنترنت والعالم الافتراضي، وتبنّي ما يسمى بإستراتيجية "الجهاد الفردي"، التي تحول من دون قدرة الأجهزة الأمنية على اختراقه وإفشال العمليات قبل أن تبدأ.
برز هذا النوع في حالات متعددة خاصة في عام 2010، "كأبي دجانة الخراساني"، الطبيب الأردني الذي قام بتفجير خوست، وقتل عدداً من الضباط الأميركيين مع ضابط مخابرات أردني، في إحدى أخطر العمليات الأمنية وأكثرها تعقيداً منذ سنوات. وكذلك في حالة "عمر الفاروق" الذي حاول تفجير طائرة ديترويت، لكنه فشل في اللحظات الأخيرة، وأيضاً نضال مالك، الضابط والطبيب الأردني، في الجيش الأميركي، الذي تمّ تجنيده عبر الإنترنت، وقتل عدداً من الضباط الأميركيين في قاعدة تكساس، وأخيراً في حالة فيصل شاهزاد، الذي حاول تفجير سيارة مفخّخة في تايمز سكوير في نيويورك، ويقترب من هذه النماذج الأردني حسين الصمادي، الذي استدرجته الأجهزة الأمنية الأميركية عبر الإنترنت، للإفصاح عن نواياه بتنفيذ عملية في الولايات المتحدة الأميركية.
على صعيد الحرب الإلكترونية، فإنّ إستراتيجية الحصار والمراقبة التي اتبعتها الإدارة الأميركية لشبكة الإنترنت والمواقع المتعاطفة والموالية للقاعدة عليها، لم تنتج سوى مزيد من القدرات في التخفّي والمناورة وإنشاء مواقع متعددة ومختلفة، ولم يمنع ذلك من أن تصبح الإنترنت فاعلاً أساسياً في تطوير عمل القاعدة.
الضغوطات والحروب العسكرية والأمنية التي خاضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها مع القاعدة، منحتها القدرة على التحمل وإعادة إنتاج إستراتيجتها وبنيتها التنظيمية، والتكيّف مع التهديدات والتحديات الضاغطة |
فقد تجاوزت تلك المواقع الأدبيات التي تتحدّث عن تبرير "العداء" للأنظمة العربية والولايات المتحدة، أو محاججة التيارات الأخرى في اختيار طريق العمل المسلّح والإيديولوجية الحالية، بل تطوّرت إلى شرح أساليب المواجهة الأمنية والتحقيقات، وكيفية التعامل النفسي معها، وفي تقديم نصائح ومشورات في تصنيع الأسلحة والقنابل من أدوات بدائية، لكنّ مفعولها شديد الخطورة، وبتبرير قتل الشرطة وتسويغ مهاجمة السفارات والمصالح الغربية، بما يتلاءم مع التطورات الجديدة.
بالطبع، تمثّل قدرات القاعدة المتجددة وصمودها مخرجات تمدّها بهذه الإرادة والاستمرارية إلا أنّ الظروف الموضوعية هي التي تمثّل المقدّمات الواقعية شديدة الوطأة التي تستند عليها القاعدة في بناء رسالتها السياسية والإعلامية.
كلمة السرّ، في ظني، تكمن في تحديد "اللحظة التاريخية". فكما عكس ظهور الشيوعية الأزمة البنيوية للرأسمالية الغربية، فإنّ القاعدة تعكس، الآن، أزمة النظام الرسمي العربي بامتياز.
المشابهة بين القاعدة والشيوعية أكبر من ذلك، وتتمثل في أنّ كلا منهما يحمل "بذور فنائه" في داخله، لكنّ الفرق أنّ النظام الرأسمالي تمكّن من احتواء أزمته وتطوير بنيته وآلياته في مواجهة الشيوعية، في حين ما تزال الظروف الموضوعية العربية تخدم القاعدة، وتمدّها بأسباب الحياة والصمود.
وجه المقارنة أنّ القاعدة تتأسس لحظتها التاريخية على أزمة النظام الرسمي العربي وعدم قدرته على مواجهة التحديات الإستراتيجية العاصفة المحيطة به، داخلياً وخارجياً، فمثّلت القاعدة أحد تجليات الجواب على هذه الأزمة.
القاعدة ليست وليدة الفراغ، ولا هي ظاهرة أمنية مجرّدة، وإلاّ لانتهت مع المجهود الأمني، وحاضنتها الافتراضية هنا تتمثل بأزمة النظام الرسمي العربي، كما كانت الشيوعية وليدة أزمة الرأسمالية.
في الحالتين (الشيوعية والقاعدة) نحن أمام "حالة نقدية" تأسست على شروط واقعية (أزمة تاريخية)، ومن حق كل كاتب وباحث أن ينحاز لأي منهما. أمّا التعامل مع القاعدة باعتبارها فقط "أزمة" الفكر الإسلامي، فهذا غير صحيح، إذ أنّ الفكر الإسلامي، كما هي الحال في الأفكار الأخرى تلبّس منذ بواكيره بنزعات ثوروية ومعتدلة ومتطرفة، لكن صعود أيٍّ منها وبروزه لا يأتي إلاّ في سياق تاريخي واقعي، وذبوله أيضاً له مقدماته وشروطه.
وفي كلتا الحالتين، فإنّ الشعور بالظلم والضعف يمثل جوهر الأزمة، في الرأسمالية ظلم الطبقات الفقيرة والعاملة وتجبّر أصحاب رأس المال. أمّا في الواقع العربي الإسلامي الحالي، فإنّ الظلم يتجلّى بشقه الخارجي في الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي مقابل عجز النظام العربي عن مواجهة ذلك، ولا يمكن أيضاً استبعاد الظلم الداخلي، وغياب الإصلاح السياسي والفشل التنموي وأزمة الشرعية الضاغطة التي تعاني منها النظم العربية اليوم.
المحافظون الجدد وقادة القاعدة
التوافق على أجندة "صناعة الرعب"
وفقاً لهذه القراءة، فإنّ التهوين والتقليل من شأن القاعدة وقدراتها يجانب الموضوعية والواقعية في الحكم، فهي شبكة موجودة لها فروعها، ونفوذها الفكري والسياسي، وتستطيع بين فترة وأخرى إعادة إنتاج بنيتها التنظيمية وتطوير إستراتيجياتها، لكنّ من الصعوبة وضع تعريف دقيق لقوتها، وبالتالي لخطورتها.
في المقابل، على النقيض من التيار الذي يقلّل ويبالغ في التهوين من شأن القاعدة، هنالك تيار يضخّم في هذه الخطورة ويبالغ فيها، بما يخدم أجندته وأهدافه، أول المتّهمين بهذا التهويل هم تيار المحافظين الجدد في الولايات المتّحدة، الذين وصلوا إلى مواقع صنع القرار في البيت الأبيض، بصورة مباشرة وفاعلة في عهد جورج بوش الابن (2000-2008)، والاتجاه الثاني هي بعض الحكومات العربية التي استثمرت في الحرب على الإرهاب لمصادرة المطالب الغربية والأميركية بإصلاح سياسي، ولإعادة إنتاج شرعيتها من خلال الحرب على الإرهاب، والاتجاه الثالث هو الإعلام الذي يبحث دائماً عن الأخبار المثيرة واللافتة، التي تجتذب الجمهور، على خلاف الأخبار الاعتيادية التي قد تكون أكثر أهمية وخطورة.
أولاً: المحافظون الجدد؛ استثمروا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بما يخدم مشروعهم الأيديولوجي، الذي يقوم على عدة دعائم، تستدعي صناعة الخوف لدى الأميركيين، واستثارة مشاعرهم "القومية".
فحدث التضخيم من خطورة القاعدة ودورها، داخلياً وخارجياً، واستبيحت لذلك أعراف وقيم أميركية تحت ستار "العدو بيننا"، وأقرت قوانين، مثل باتريوت أكت" وغيرها، واعتمدت إستراتيجة السجون السرية وأساليب التعذيب في التحقيق، في غوانتنامو وأبو غريب، وغيرها .
وقامت إدارة الرئيس بوش بمغامرات عسكرية كبرى فشنّت حربين خلال عامين متتاليين، بالإضافة إلى خطاب أيديولوجي ثنائي عالمي (إمّا معنا أو ضدنا)، أيضاً بذريعة مواجهة القاعدة.
وقد كانت "الحرب على الإرهاب" اسماً حركياً لتمرير مشروع المحافظين الجدد، وهو ما حاولت إدارة الرئيس أوباما (لاحقاً) الحدّ منه، والتراجع عن الحرب العالمية لصالح السياسات الواقعية الإقليمية، وإعادة إنتاج خطاب الإدارة الأميركية في سؤال العلاقة بين الحضارات، لكنّها لم تنجح في فهم طبيعة القاعدة والعوامل الموضوعية المنتجة لها، فوقعت عملياً (في الشهور الأخيرة) بأخطاء الإدارة السابقة، وعادت لاستخدام القوة العسكرية أو الإيذان بها في الباكستان وأفغانستان واليمن، وهي الإستراتيجية التي تعزز من "الرصيد الشعبي" للقاعدة ولا تحدّه .
في المقابل، اسثمرت القاعدة أيضاً في حرب المحافظين الجدد، وعبّأت أنصارها وراء دعايتها بأنّ ما يحدث هو "صدام للحضارات"، ووظّفت المعاناة الإنسانية من السياسات والحروب الغربية ودعم إسرائيل في خطابها لتجنيد المتطوّعين الجدد، وهو ما نجحت به بامتياز.
القاعدة لا تستفيد من خطاب أميركي عقلاني هادئ موزون تجاه قضايا العرب والمسلمين، ولا من التخلّص من أعباء الحرب على الإرهاب، لأنّ مثل هذه السياسات تجفّف منابع خطابها الفكري، وتصرف القاعدة الشعبية عنها.
ثانياً: الحكومات العربية؛ من جهتها، استثمرت أيضاً حكومات عربية، وتحديداً صديقة للولايات المتحدة الأميركية، في الحرب على الإرهاب، للفت الانتباه عن أزماتها الداخلية، والمطالب الخارجية بالإصلاح، بخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ ارتفعت وتيرة الخطاب الأميركي الذي يحمّل هذه الأنظمة المسؤولية عن "تصدير الإرهاب" إلى الغرب، نتيجة فشلها في إدارة أزماتها.
وكما يرصد المفكّر السوري، برهان غليون، فإنّ النظام الرسمي العربي وجد في الحرب على الإرهاب "مخرجاً" لإعادة إنتاج شرعيته، بعد أن فشل في مشاريع التنمية والتحرر، التي بنى عليها شرعيته السابقة، وأصبحت القاعدة بمثابة "قميص عثمان" للنظام العربي ضد أي محاولات لتغييره أو إحداث إصلاحات جذرية فيه، على قاعدة إمّا أنا أو "الطوفان" (القاعدة).
ساعد على تعزيز الدعاية الرسمية العربية حول خطاب القاعدة ما حدث في العراق، إذ أدى انهيار النظام إلى صعودها هناك، ممّا أقلق الغرب وإلى فوضى سياسية وأمنية، ممّا أقلق المواطن العربي، يسجّل تلك اللحظة التاريخية، باقتدار، الكاتب السياسي السوري، أكرم البني، عندما يقول "يحتل العراق مساحة الرؤية كاملة لدى السوريين".
وفي العديد من الحالات تلجأ الحكومات العربية والإسلامية الأخرى إلى التركيز على خطر القاعدة لجذب المعونات الخارجية والأموال و"تدويل" مشاكلها الداخلية التي سمحت هي بنمو القاعدة وصعودها أو على أقل تقدير توفير البيئة الحاضنة لها، كما هي الحال في المناطق الشمالية في باكستان، التي أنتجت فيها الظروف الاقتصادية الصعبة وغياب مشاريع التنمية وانعدام البنية الأساسية البيئة الحاضنة للقاعدة، ووفرت ملاذات آمنة لأبنائها .
والحال كذلك اليوم في اليمن، إذ تساعد الأزمة السياسية على صعود القاعدة، وتحديداً في اليمن الجنوبي، حيث تنتعش مشاعر السخط والغضب والاحتقان تجاه الحكومة في صنعاء، وتجد القاعدة مساحة مناسبة للتفاعل معها من عشائر يمنية في مواجهة كلّ من الحكومة اليمنية والولايات المتحدة الأميركية على السواء.
ثالثاً: الإعلام؛ بدوره ساهم الإعلام في تضخيم القاعدة وخطرها، بعضه لأجندات سياسية (مثل بعض وسائل الإعلام في إسرائيل وأميركا وأوروبا)، والبعض الآخر لطبيعة الاهتمام الإعلامي بالأحداث الغربية، إذ تقع في هذا الباب أغلب نشاطات القاعدة وعمليّاتها، التي أصبحت ملفّاً إعلامياً مغريّاً وساخناً في كثير من وسائل الإعلام في العالم.
بالضرورة، فإنّ التهوين أو التهويل من خطورة القاعدة مسألة نسبية، في كل الأحوال، لكنّ هنالك من ينكر هذه القوة والقدرات وهو مخطئ، وهنالك من يضخّم فيها لأجندات سياسية، بينما يتم تجاهل أخطار أكبر بكثير من القاعدة على الأمن والسلم الدولي أو على الأقل على أمن الدول وسلامتها.
في الولايات المتّحدة مثلا، فإن مقارنة بسيطة بين خطر القاعدة والأسلحة المتداولة بين الناس، والجرائم الاجتماعية تجعل الكفّة تميل لتلك المشكلات أمنياً واجتماعياً وسياسياً، في عدد الضحايا والخطورة والنتائج المترتبة.
وفي العالم العربي، تبدو المقارنة أوسع؛ فهناك من المشكلات والقضايا ما يفوق خطرها القاعدة كانتشار المخدّرات وانهيار الطبقة الوسطى وأزمة الأقليّات..إلخ؛ بل إن ضحايا حوادث السير وحدها تعد أضعاف ضحايا القاعدة، إذ تصل سنوياً إلى الآلاف ما بين قتيل وجريح.
ولو أنّ المساعدات المالية والأمنية والعسكرية التي تقدّمها الولايات المتحدة لحلفائها لمواجهة القاعدة صُرفت في مشاريع الإصلاح والتنمية ومكافحة الفساد، فإنّ ذلك سيكون أكثر تأثيراً في محاصرتها وتجفيف منابعها، ويعزّز من رصيد التيارات الإسلامية الأخرى الأكثر اعتدالاً في الشارع، ومن قدرتها على التجنيد والتعبئة خلف مشاريع سياسية تخطّ العمل القانوني المعترف به، وتنبذ العنف والتطرف.
في المحصّلة، فإنّ إستراتيجيات مواجهة القاعدة المتبعة التي تذهب إلى المخرجات والنتائج، من دون معالجة الشروط والأسباب توفّر للقاعدة "البنية التحتية" المطلوبة لخطابها ورسالتها السياسية والإعلامية التي توجهها للمجتمعات المسلمة، وتستقطب بوساطتها أنصارها ومؤيديها.
على الرغم أنّ أغلبية الرأي العام العربي والإسلامية تنظر بعدم الارتياح لتحالف الولايات المتحدة والغرب مع أنظمة، هي بنظر الكثيرين، فاسدة ومستبدة، ضد القاعدة، التي تمتلك القدرة على مخاطبة الجمهور بقضاياه بنظره عادلة، على الرغم أنه قد لا يؤيّد، بالضرورة، مبادئ القاعدة وأفكارها الدينية والسياسية.
______________
محمد أبو رمان، كاتب ومحلل سياسي في صحيفة الغد اليومية الأردنية، وباحث في معهد الإسلام المعاصر بالجامعة الأردنية، حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، متخصص في الحركات الإسلامية والفكر السياسي الإسلامي. من مؤلفاته: الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي المعاصر (تحت الطبع)، "السلفية الجهادية في الأردن بعد مقتل الزرقاوي"، "السلطة السياسية في الفكر الإسلامي: محمد رشيد رضا نموذجا".