أسس ومرتكزات السياسة الخارجية المصرية في عهد مبارك

إن المعطيات الجغرافية فرضت على مصر بلورة سياسة خارجية نشطة لمتابعة ما يجري وراء حدودها الجنوبية, من أجل تأمين احتياجاتها من المياه دفاعا عن حقها في الحياة والبقاء, ولمتابعة ما يجري وراء حدودها الشرقية, من أجل حماية أمنها.
10 February 2011








السياسة الخارجية في عهد مبارك سارت على نفس الأسس التي وضعت في عهد السادات خاصة في العلاقة مع إسرائيل وأميركا وهي مغايرة لما كان سائدا قبلهما (الفرنسية-أرشيف)

حسن نافعة

1- سمات الدولة المصرية


لمصر سمات خاصة تميزها عن غيرها من الدول. فهي:
أ- دولة قديمة, تضم شعبا متجانسا استطاع أن يقدم للعالم إحدى أعظم الحضارات في تاريخ البشرية, ويعد من أكثر الدول قدرة على التأقلم والاستمرارية رغم ما تعرض له من احتلال على أيدي ألوان متعددة من الاستعمار الذي جثم على صدره لفترات طويلة في حقب تاريخية مختلفة.
 ب- دولة نهرية، تعتمد في وجودها وبقائها على مياه نهر تقع منابعه خارج حدودها، ويمر مجراه -الذي يمتد لآلاف الأميال- عبر عدة دول قبل أن يصل إلى مصبه فيها.
ج- دولة مركزية، يغلب الطابع السلطوي على نظامها السياسي, والذي يؤطِّر لمجتمع زراعي تتحكم السلطة المركزية في توزيع مياه نهر تعيش أغلبية الشعب على ضفتيه.
د- ذات موقع جغرافي فريد يطل على مداخل القارات القديمة الثلاث: أوروبا وآسيا و إفريقيا, ويضعها في حالة تفاعل كثيف ومستمر مع إقليم تتوسطه ومع عالم تقع في قلبه؛ مما يجعلها بالتالي في مهب رياح التغيير حين تهب على أي منهما.


وقد انعكست هذه السمات بشكل واضح على عملية صنع السياسة الخارجية المصرية, والتي تسهم في تشكيلها عوامل أو محددات ثلاث:


أولها: المعطيات الجغرافية.
وثانيها: المعطيات التاريخية.
وثالثها: طبيعة النظام السياسي والاجتماعي السائد فيها.


1- سمات الدولة المصرية 
2- أسس ومرتكزات وتحولات السياسة الخارجية المصرية 
3- تحديات المرحلة المقبلة، ومتطلبات تصحيح الخلل


أولا: تأثير المعطيات الجغرافية:




إن المعطيات الجغرافية فرضت على مصر بلورة سياسة خارجية نشطة لمتابعة ما يجري وراء حدودها الجنوبية, من أجل تأمين احتياجاتها من المياه دفاعا عن حقها في الحياة والبقاء, ولمتابعة ما يجري وراء حدودها الشرقية, من أجل حماية أمنها الوطني


تعد مصر دولة نموذجية من منظور نمط العلاقة بين المعطيات الجغرافية والسياسة الخارجية بحيث يمكن القول, دون أدنى قدر من المبالغة, إن المعطيات الجغرافية تكاد تملي على صانع القرار المصري توجهات معينة في السياسة الخارجية لا يستطيع أن يحيد عنها إلا في ظروف استثنائية عارضة, خاصة عندما يتعلق الأمر بمناطق وأقاليم محددة, خاصة منطقة حوض وادي النيل ومنطقة الشام؛ لذا يُفتَرَض أن تسهم هذه المعطيات, والتي تتسم عادة بالثبات والاستقرار, في إضفاء قدر لا بأس به من الاستمرارية على التوجهات العامة لسياسة مصر الخارجية بحيث يصبح الخروج عليها, من وجهة النظر الوطنية, خرقًا لثوابت وتجاوزًا لخطوط حمراء لا يجوز التسامح معه؛ فالجغرافيا جعلت من مصر:

1- دولة تعتمد في حياتها وبقائها على مياه نهر ينبع خارج أراضيها, ثم يجري لعدة آلاف من الأميال داخل مجموعة من الدول الإفريقية الواقعة وراء حدودها الجنوبية, تعرف باسم مجموعة دول حوض نهر النيل, قبل أن يصب في أراضيها. وقد فرضت هذه المعطيات على صانع القرار المصري  أن يمد بصره حتما, وفي جميع العصور التاريخية, إلى ما وراء حدود مصر الجنوبية لمتابعة ما يجري في دول الحوض للتأكد من عدم وجود أي عقبات تحول دون استمرار تدفق مياه نهر النيل إلى مصر بكميات تتناسب مع احتياجاتها, والتأكد من عدم قيام أي طرف بأي إجراء من شأنه المساس بحقوقها التاريخية في المياه أو تعريض مصالحها العامة للخطر.


2- دولة مشاطئة للبحر الأبيض المتوسط شمالا وللبحر الأحمر شرقا؛ ولأن منطقة اليابسة الواقعة بين البحار المفتوحة عادة ما تكون منطقة رخوة من الناحية الأمنية, فقد كان من الطبيعي أن يصبح لشبه جزيرة سيناء, المحصورة بين هذين البحرين المفتوحين على شمال العالم وجنوبه, وضع محوري في إستراتيجية مصر الدفاعية, وفرضت  على صانع القرار المصري أن يتابع ما يجري وراء هذه المنطقة المحاذية لحدود مصر الشمالية الشرقية.


في سياق كهذا يمكن القول: إن المعطيات الجغرافية فرضت على مصر بلورة سياسة خارجية نشطة لمتابعة ما يجري وراء حدودها الجنوبية, من أجل تأمين احتياجاتها من المياه دفاعا عن حقها في الحياة والبقاء, ولمتابعة ما يجري وراء حدودها الشرقية, من أجل حماية أمنها الوطني.


ثانيا: المعطيات التاريخية:
مصر دولة قديمة لها تاريخ طويل؛ ولأنها عرفت نظام الري منذ بداية الألفية الخامسة قبل الميلاد فقد كان بإمكانها أن تتحول بسرعة إلى دولة مركزية وأن تنجح في تشييد واحدة من أهم وأعظم الحضارات في تاريخ الإنسانية. وقد شهد تاريخ مصر الطويل لحظات مد وجزر وانتصار وانكسار, تعرضت فيه البلاد لشتى ألوان الاستعمار, لكنها تمكنت من تجاوزها والتغلب عليها بل وهضمها جميعا؛ ففي العصور القديمة تعرضت مصر للغزو والاحتلال من جانب الفرس, والإغريق, والرومان, والبيزنطيين, وذلك لفترات طالت أحيانا لقرون وقصرت أحيانا أخرى لسنوات محدودة. وفي العصور الوسطى, وبعد ظهور الإسلام في الجزيرة العربية, دخل عمرو بن العاص مصر في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب فاتحا ومبشرا بالإسلام لتصبح منذ ذلك التاريخ جزءًا من العالم الإسلامي وولاية تابعة للخلافة الإسلامية. وفي سياق هذه الحقبة تعاقب على مصر حكام من مختلف الألوان والأجناس: الإخشيديون والطولونيون والفاطميون والأيوبيون, بل حكمها عبيد محاربون قدموا من أواسط آسيا (العصر المملوكي) قبل أن تصبح ولاية تابعة للإمبراطوية العثمانية اعتبارا من عام 1517.


وخلال المرحلة العثمانية, والتي طالت لأربعة قرون, حاول الفرنسيون احتلال مصر في نهاية القرن الثامن عشر وفشلوا, لكن الشعب المصري نجح في أعقاب هذا الفشل, ولأول مرة منذ فترة طويلة, في حمل الباب العالي على تنصيب محمد علي -وهو رجل من أصل ألباني- واليا على مصر. ولأنه أظهر نبوغا وعبقرية من نوع فريد، وتمكن من بناء دولة حديثة في مصر راحت تتوسع تدريجيا وتمد نفوذها وراء حدودها الجنوبية وفي الشام وحوض البحر الأبيض المتوسط, فقد تحالفت الدول الأوربية ضده وتمكنت من إلحاق هزيمة عسكرية قاسية به كانت بداية لإجهاض مشروعه للنهضة. وقبل محمد على بشروط الدول الأوربية المنتصرة (معاهدة لندن 1840 وتسوية 1841), وفي مقدمتها تسريح الجيش، وانكفاء مصر على نفسها، وفتح أسواقها للبضائع الأوربية, مقابل موافقتها على أن يؤول حكم مصر لأسرته من بعده. وعاد دور مصر في المنطقة للتراجع من جديد, وتمكنت بريطانيا من احتلالها عسكريا عام 1882, لكنها ظلت تابعة اسميًّا للخلافة العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى والتي انتهت بانهيار الإمبراطورية العثمانية وسقوط الخلافة الإسلامية معًا.


لقد صمدت مصر, الدولة والشعب, عبر هذا التاريخ الطويل والممتد؛ فقد ظلت دولتها المركزية قائمة بحدودها التاريخية والتي لا تختلف كثيرا عن حدودها المعاصرة, قائمة منذ وحَّدها الملك مينا (حوالي عام 3150 قبل الميلاد) حتى وقتنا هذا. أما شعبها فقد تمكن بدوره من الصمود, متجاوزا كل ألوان المحن التي مرت به على مر التاريخ, واستطاع أن يحتفظ بخصوصيته, على الرغم من تغيرات عديدة طرأت على معتقداته الدينية وأوعيته الثقافية عبر العصور, إلى أن دفع به الترحال التاريخي في قلب الدائرة العربية الإسلامية والتي تفاعل معها لفترة تزيد على أربعة عشر قرنا حتى الآن, بعد أن أصبحت مصر دولة عربية لغةً وثقافةً, وإسلامية دينًا. ومن المعروف أن عملية "التعريب" بدأت في مصر مع الفتح الإسلامي وتواصلت إلى أن تمكنت اللغة العربية من فرض سيادتها المطلقة, وأصبحت اللسان الذي يتحدث به الشعب بكل طوائفه, بينما احتفظت شريحة مهمة بالديانة المسيحية التي انتشرت أثناء فترة الاحتلال الروماني.


لقد ظلت مصر إحدى الولايات التابعة للخلافة الإسلامية, بدءًا بالعباسية وانتهاء بالعثمانية, لفترة طالت لما يقرب من أربعة عشر قرنا. ورغم تمتعها بفترات استقلال نسبي سمح لها من وقت لآخر بهامش من حرية الحركة على الصعيد الخارجي, إلا أنها لم تعرف النضال الشعبي من أجل التحرر والاستقلال الوطني, بالمعنى المعاصر, إلا مع بداية التدخل الغربي في شؤونها الداخلية؛ لذا لم يكن من قبيل الصدفة أن تندلع الثورة العرابية فيها بالتزامن مع بداية التغلغل الغربي, لينتهي الأمر بالاحتلال البريطاني لها عام 1882. كما لم يكن من قبيل المصادفة أيضا أن تنفجر ثورة شعبية كبرى عام 1919 تطالب بجلاء القوات البريطانية وبالاستقلال الوطني, والذي لم تحصل عليه إلا بعد ثورة جديدة قادها الجيش عام 1952.


ويمكن القول: إن المعطيات التاريخية عكست نفسها على سياسة مصر الخارجية من خلال بُعديْن أساسيين:


الأول: يتعلق بتأثير المتغيرات الدينية والثقافية؛ فبعد أن أصبحت دولة عربية إسلامية محاطة –جغرافيا- بدول تشترك معها في اللغة والدين وتتفاعل معها –تاريخيا- على مدى أربعة عشر قرنا باعتبارها ولايات تابعة لنفس الإمبراطورية, كان من الطبيعي أن تعيد النظر في مفهومها للأمن الوطني ومصادر تهديده على ضوء الحقائق التاريخية الجديدة.


الثاني: يتعلق بتأثير ما أصبح يُعرَف بـ "أزمة الهوية"؛ فبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية واجتياح الثورات والتيارت القومية مختلف مناطق العالم, ومنها المنطقة العربية, بدأت تتنازع النخب السياسية فيها انتماءات متعددة؛ فمن قائل بأن انتماء مصر الأساسي والأصلي هو لحضارتها الفرعونية, استنادا إلى تاريخها الطويل والعريق والذي شهد بناء الدولة المركزية قبل معظم شعوب العالم الأخرى, ومن قائل بأن انتماءها الأصلي يجب أن يكون للأمة العربية, استنادا إلى لغتها وثقافتها, ومن قائل بأن انتماءها الأصلي يجب أن يكون للإسلام, استنادا إلى دينها. وكان من الطبيعي أن تتأثر توجهات السياسة الخارجية المصرية بموقف النخبة الحاكمة من هذه الهويات المتصارعة والتي تسهم في تشكيل رؤيتها الأيديولوجية ومواقفها السياسية.


ثالثا: طبيعة النظام السياسي والاجتماعي السائد:


بصدور تصريح 28 فبراير 1922, والذي أصدرته بريطانيا من جانب واحد وأعلنت فيه نهاية الحماية, أصبحت مصر دولة مستقلة, لكن استقلالها ظل شكليا إلى حد بعيد؛ فالتصريح البريطاني صدر مصحوبا بتحفظات أربع منحت بريطانيا الحق في:




  1. تأمين مواصلاتها الإمبراطورية في مصر.


  2. الدفاع عن مصر ضد أي اعتداء أو تدخل أجنبي.


  3. حماية المصالح الأجنبية والأقليات في مصر.


  4. إبقاء الوضع في السودان على ما هو عليه.

ومع ذلك فقد أفسح هذا الاستقلال الشكلي الطريق أمام إمكانية البدء في تأسيس نظام سياسي ليبرالي, أو شبه ليبرالي, انطلقت مسيرته عقب صدور دستور 1923 واستمر حتى قيام ثورة 1952. ولأن مصر لم تتمتع في بداية تلك الفترة بأية درجة معقولة من الاستقلال يتيح لها ممارسة بعض مظاهر السيادة, فقد تعين الانتظار حتى إبرام معاهدة 1936 ليصبح لمصر "سياسة خارجية" بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ فوفقا لنصوص هذه المعاهدة, أصبح لمصر, ولأول مرة منذ بداية الاحتلال, الحق في تبادل السفراء مع بريطانيا, وفي عقد المعاهدات السياسية مع الدول الأجنبية, وفي المطالبة بإلغاء الامتيازات الأجنبية؛ لذا تعتبر الفترة الممتدة من 1936 وحتى 1952 هي بداية تبلور معالم واضحة لسياسة خارجية مصرية متماسكة, ولكن ضمن حدود الحركة المحدودة المتاحة لصانع القرار المصري في ذلك الوقت, في نظام سياسي تتنازعه ثلاثة مراكز قوى: قوة الاحتلال, وقوة القصر (المتعاون مع أحزاب الأقلية), وقوة الحركة الوطنية (ممثلة في حزب الوفد الذي كان بوسعه أن يكتسح كل انتخابات حرة جرت في تلك الفترة). وقد اتخذت الحكومات التي تعاقبت على مصر خلال تلك الحقبة "الليبرالية" أو "شبه الليبرالية, خاصة الوفدية منها, مواقف محددة تجاه قضايا محورية تشكل معالم لسياسة خارجية متماسكة بدأت تتبلور تباعا إلى أن أصبحت تشكل رؤية متكاملة تصلح أساسا لبلورة نظرية خاصة بالسياسة الخارجية المصرية, منها:


1- الوضع في السودان. فقد تمسكت الحكومات المصرية المتعاقبة بتواجدها في السودان، وطالبت بالاستقلال الكامل لهما معا في كل مفاوضات الجلاء مع بريطانيا، وبوحدة مصر والسودان تحت راية التاج المصري. وتشكل السياسة المصرية تجاه السودان في تلك المرحلة مدخلا مهما لفهم البعد الخاص برؤية مصر الرسمية لأمنها المائي, وتمحور هذه الرؤية حول ضرورة التواجد الفعلي وراء حدود مصر الجنوبية, بصرف النظر عن الأشكال المختلفة لهذا التواجد, لتأمين تدفق مياه نهر النيل بكميات كافية, على أن يكون السودان هو نقطة الارتكاز الأساسية في أية صيغة دائمة وملائمة لعلاقة متميزة مع دول حوض النيل تضمن لها تحقيق أهدافها الحيوية.


2- القضية الفلسطينية: فقد اهتمت الحكومات المصرية خلال تلك الفترة أيضا اهتماما بالغا بتطور الصراع الدائر على الأرض الفلسطينية بين الحركة الوطنية الفلسطينية والمشروع الصهيوني الذي يستهدف إقامة دولة يهودية على حدود مصر الشرقية. وبدا هذا الاهتمام واضحا منذ اللحظة الأولى التي أصبحت مصر في وضع يمكِّنها من اتخاذ مواقف مستقلة على صعيد السياسة الدولية, ولم تتردد في تقديم الدعم والمساندة للشعب الفلسطيني في كفاحه ضد هذا المشروع. وقد تصاعد الموقف المصري تدريجيا إلى درجة المشاركة في أول حرب عربية ضد إسرائيل عام 1948. وكان الهدف هو الحيلولة دون قيام دولة يهودية على حدود مصر الشرقية ترتبط عضويا بالقوى والمخططات الاستعمارية الغربية في المنطقة والذي رأت فيه مصر خطرا رئيسيا يهدد أمنها الوطني والقومي. ويشكل موقف مصر من القضية الفلسطينية ومن تطور الصراع العربي الإسرائيلي في تلك الفترة مدخلا مهما لفهم البعد الخاص برؤية مصر لأمنها الوطني وتمحورها حول ضرورة تأمين حدودها الشمالية الشرقية.


3- الجامعة العربية، وقضية الوحدة العربية: قامت مصر بلعب الدور الرئيسي في تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945, ورحبت باستضافة مقرها في القاهرة. وقد جاءت هذه الخطوة عقب مشاورات ثنائية مضنية أجرتها مصر على مدى شهور طويلة في نهاية عام 1943 وبداية عام 1944 وأسفرت عن بناء "نظام إقليمي عربي" رسمي, وكرَّست دورا إقليميا بدأت مصر تمارسه منذ ذلك الحين. وتشكل سياسة مصر تجاه العالم العربي مدخلا مهما لفهم تأثير البعد الثقافي على سياستها الخارجية. 


4- الحرب الباردة: تصادف وجود مصر كعضو غير دائم بمجلس الأمن حين اندلعت الحرب بين الكوريتين عام 1950، والتي جسدت انقسام النظام الدولي إلى معسكرين متصارعين. وشكَّل امتناع مصر عن التصويت على مشروعات القرارات المقدمة من دول المعسكر الغربي مفاجأة لكثيرين, في خطوة لا تخطئها العين تدل على رغبة الحكومة المصرية في اتخاذ موقف غير منحاز إلى أيٍّ من المعسكرين, رغم وجودها القسري داخل المعسكر الغربي, بحكم استمرار الاحتلال البريطاني لها. واعتبر الكثير من المراقبين أن هذا الموقف وضع البذرة الأولى لسياسة الحياد وعدم الانحياز والتي أصبح الرئيس جمال عبد الناصر فيما بعد من أحد أهم قادتها العالميين.


لم تكن مصر تتمتع بكامل استقلالها خلال تلك الفترة -"الليبرالية" أو "شبه الليبرالية"- القصيرة في عمر مصر؛ لذا فقد تعذر عليها ترجمة المواقف السابق الإشارة إليها إلى رؤية شاملة لسياسة خارجية مصرية متكاملة الأركان يمكن التمييز في سياقها بين الثابت والمتغير؛ لذا فقد تعين الانتظار حتى حصول مصر على كامل استقلالها كي نتعرف على الملامح العامة لهذه الرؤية والتي اكتملت تماما خلال الحقبة الناصرية. ولأن السياسة الخارجية التي انتهجتها مصر خلال هذه الحقبة كانت امتدادا لتوجهات وُضِعت أسسها في الحقبة السابقة وبدت -من ناحية- متسقة تماما مع المعطيات الجغرافية والتاريخية، ومكّنتها -من ناحية أخرى- من تبوأ مكانة إقليمية وعالمية رفيعة؛ فمن الطبيعي أن تشكِّل مقياسا للتمييز بين الثوابت والمتغيرات، وأن تفسر أسباب التغيرات الانقلابية التي طرأت على هذه السياسة خلال فترتي حكم الرئيسين محمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك والتي يبدو واضحا أنها تجاوزت كل الخطوط الحمراء -من ناحية- وأدت إلى إضعاف وتآكل دور مصر على الصعيدين العالمي والإقليمي -من ناحية أخرى- وبالتالي فمن الطبيعي أن تتسبب في إثارة ردود أفعال شعبية رافضة وباحثة عن آلية لتعديلها ودفعها في الاتجاه الصحيح. وإذا كانت المعطيات الجغرافية والتاريخية تتسم بالثبات النسبي فمن المعروف أن هذه المعطيات لا تمارس تأثيرها على السياسات الخارجية للدول إلا من خلال طريقة إدراك النخبة الحاكمة لها ولمدى تحقيقها لمصالحها.


ولأن النظام السياسي المصري يتسم بمركزية شديدة تؤدي إلى تركز السلطات كلها في يد شخص رئيس الدولة, ويعمل في بيئة إقليمية وعالمية تتسم بالديناميكية والإيقاع السريع, فليس لدينا من تفسير للتغيرات الانقلابية التي طرأت على السياسة الخارجية لدولة تتحكم في تحديد التوجهات العامة لسياستها الخارجية معطيات جغرافية وتاريخية تتسم بالثبات النسبي إلا بعاملين رئيسيين:


الأول: التغير الذي طرأ على قيادة النظام السياسي بتولي الرئيس السادات للسلطة خلفا للرئيس عبد الناصر, ثم بتولي الرئيس مبارك للسلطة خلفا للرئيس السادات.


الثاني: تحولات طرأت على النظام الإقليمي, بسبب اتجاه حركة موازين القوى فيه لترجيح كفة دول "الثروة" على حساب دول "الثورة", وتحولات أكثر عمقا طرأت على النظام العالمي, بسبب اتجاه حركة موازين القوى فيه لترجيح كفة النظام الرأسمالي والمعسكر الغربي على كفة النظام الاشتراكي، وسقوط المعسكر الشرقي, انتهت بسقوط وانهيار الاتحاد السوفيتي وفتح الطريق أمام الولايات المتحدة لمحاولة إحكام هيمنتها المنفردة على النظام العالمي.


2- أسس ومرتكزات وتحولات السياسة الخارجية المصرية





سيكون من الصعب تبني مصر لمثل هذه التوجهات في سياستها الخارجية بدون تغيير جوهري في بنية النظام السياسي والذي يشهد في المرحلة الراهنة بداية حالة حراك من نوع جديد من المتوقع أن تتصاعد تدريجيا لتصل ذروتها أثناء الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في أكتوبر عام 2011
تعين على أي سياسة خارجية مصرية فاعلة إعداد الخطط والبدائل واتخاذ المواقف التي تساعد صانع القرار على مواجهة ثلاث تحديات رئيسية:
الأول: تحدي الحياة والبقاء, بالعمل على تأمين احتياجات مصر من مياه نهر النيل.
الثاني: تحدي الأمن, بالعمل على مواجهة مصادر التهديد الخارجي أيا كانت, خاصة التهديدات القادمة عبر حدود مصر الشمالية الشرقية.
والثالث: تحدي التنمية, بالعمل على تهيئة البيئة الإقليمية والدولية المواتية لتدفق الاستثمارات والمساعدات المالية والفنية والمعرفية اللازمة لدفع عجلة التنمية فيها، ومواجهة الأعباء المترتبة على الزيادة السكانية.

أولا: تحدي الحياة والبقاء:
تعتمد مصر في سد احتياجاتها من المياه على نهر وحيد تقع منابعه في منطقة البحيرات العظمى على بعد آلاف الأميال من حدودها الجنوبية في سبع دول إفريقية تعرف باسم دول المنبع, هي: بوروندي, رواندا, زائير, تنزانيا, أوغندا, كينيا, وإثيوبيا, ثم تصب روافده المختلفة في مجرى يبلغ طوله 6650 كيلو مترا عابرا -بالإضافة إلى دول المنبع السبع- دولتي المصب، وهما: السودان ومصر. ولتأمين وصول مياه النهر سعت مصر على الدوام, خصوصا في فترات قوتها وتمددها, لكي يكون لها تواجد ونفوذ دائمين في دول حوض نهر النيل, خاصة في السودان؛ لذا لم يكن غريبا أن تصوب القوات المسلحة المصرية وجهتها نحو الجنوب, في فترات مختلفة من تاريخها القديم والحديث على السواء, إلى أقصى مدى تسطيع الوصول إليه عبر النهر لتتوقف عادة عند منطقة الشلالات.


ولمصر "حقوق تاريخية في مياه النيل" قنَّنتها اتفاقيات دولية عديدة منها: بروتوكول روما لعام 1891, معاهدة أديس أبابا لعام 1902, معاهدة لندن لعام 1906, معاهدة 1925 بين بريطانيا وإيطاليا, اتفاقية 1959 بين مصر والسودان, وأخيرا إطار التعاون المبرم عام 1993 بين مصر وإثيوبيا. وتنظم هذه المعاهدات والاتفاقات وأطر التعاون العديد من الأمور التي تنظم العلاقة بين "دول المنبع" و"دول المصب", مثل: حصص توزيع المياه, وحقوق وواجبات دول المنبع ودول المصب, وأوجه وسبل التعاون بين دول حوض النيل لتقليل الفاقد، وترشيد استخدامات المياه، وإقامة المشروعات المشتركة، وغيرها من أوجه التعاون. ويلاحظ أن مصر كانت قد حرصت, مع التزايد المستمر في عدد السكان ومتطلبات الحياة الحديثة, على توفير احتياجاتها المتزايدة من المياه بوسائل عديدة, أهمها:
1- بناء السدود على مجرى النهر لتقليل الفاقد من المياه والذي كان يضيع في البحر هدرا, وتحسين شبكة الري والصرف لترشيد الاستهلاك.
2- السعي لزيادة حصتها بالاقتراض من دول أخرى, كما حدث مع السودان (اتفاقية 1959 التي حصلت مصر بموجبها على 8 مليار متر مكعب إضافية).


وحتى وقت قريب لم تندلع أزمات بين دول حوض وادي النيل بسبب المياه, رغم فترات جفاف كانت تحدث بين الحين والآخر بسبب شح الأمطار, ولم تجرؤ أي من دول المنبع فيما مضي على التشكيك علنا في حقوق مصر، أو تتعمد المساس بمصالحها فيما يتعلق بهذه المسألة الحيوية. ساعد على ذلك سياسة مصرية نشطة تجاه إفريقيا, خاصة خلال الحقبة الناصرية, حيث كانت القاهرة في ذلك الوقت قبلة لحركات التحرر الوطني الإفريقية، وأحد أهم المراكز العالمية لمناهضة الاستعمار.


غير أن الأمور لم تثبت عند هذا الحال, وراحت تتطور تدريجيا في اتجاه لا يخدم مصالح مصر الحيوية إلى أن وصلت الآن إلى مشارف أزمة بعد أن بدأت بعض دول المنبع تتحدث بإصرار عن عدم عدالة حصص توزيع المياه، وراحت تشكك في شرعية الاتفاقيات المبرمة بدعوى أنها أبرمت خلال الحقبة الاستعمارية, وليس بين ممثلي الدول صاحبة المصلحة. وقد بدأت بوادر أزمة تلوح حين طالبت بعض دول المنبع رسميا بإعادة النظر في الاتفاقيات القائمة, وراحت تحتد أو تتصاعد مع قيام دول المنبع السبع بتشكيل تكتل في مواجهة دولتي المصب, إلى أن وصلت ذروتها بتهديد دول المنبع بالتوقيع على الاتفاق الإطاري المقترح لتنظيم أوجه التعاون بين دول حوض النيل دونما اعتبار لموقف دول المصب منه أو تحفظاتها عليه, وهو تطور خطير يهدد باندلاع حروب حول المياه في هذه المنطقة الحساسة من العالم.


لم تندلع هذه الأزمة فجأة وإنما لاحت بوادرها منذ سنوات ليست بالقليلة وتحكمت في مسارها عوامل عدة بعضها ذاتي, يتعلق بتطورات طرأت على نظام مصر السياسي, والآخر موضوعي يتعلق بمعطيات ديمغرافية ومناخية وجغرافية محايدة. ويمكن رصد أسباب العوامل الذاتية المتعلقة بمصر, وذلك على النحو التالي:


1- انكفاء مصر على نفسها وانشغالها بأمورها الداخلية فقط, وإهمالها المتزايد لشئون القارة الإفريقية إلى الحد الذي جعلها تبدو غير مبالية بما ما يجري في دول الحوض, بما في ذلك السودان والذي كان يُنظَر إليه دومًا باعتباره قلب المجال الحيوي للدولة المصرية.
2- تآكل دورها على الصعيدين الإقليمي والدولي، وعجزها عن استثمار رصيدها التاريخي في إفريقيا؛ مما جعل دولا صغيرة تتجاسر عليها ولا تمانع في التعاون مع دول معادية تسعى لابتزازها.
3- تراخي يقظتها التقليدية في متابعة ما يجري وراء حدودها الجنوبية, ربما بسبب اعتقاد ساذج, ثبت أنه خاطئ تماما, مفاده أن العلاقات الخاصة التي تربطها بإسرائيل والولايات المتحدة يمكن أن تحميها من محاولات الابتزاز.


أما فيما يتعلق بالعوامل الموضوعية, فيمكن رصد أسبابها على النحو التالي:


1- تزايد الطلب على المياه من جانب جميع دول الحوض بسبب التزايد المضطرد في تعداد السكان, من ناحية, وتزايد متوسط استهلاك الفرد نتيجة تغير أنماط المعيشة, من ناحية أخرى. ويتوقع الخبراء أن احتياجات مصر من المياه ستفوق مواردها المالية بحلول عام 2017 وبالتالي سيظهر فيها عجز مائي, ربما يقترب من 10 مليار متر مكعب سنويا, بعد فترة وجيزة.
2-  نقص الكميات المتاحة من المياه بسبب تغيرات مناخية محتملة سوف تترتب على ارتفاع درجة حرارة الأرض. 
 
فإذا أضفنا إلى ما سبق أن تعثر محاولات التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي واقترابها من حالة الانهيار, من ناحية, وتآكل دور مصر الإقليمي والعالمي, من ناجية أخرى, وعدم توفر بدائل أو خيارات أخرى أمام صانع القرار المصري في النظام السياسي الراهن, من ناحية ثالثة, هي عوامل تغري إسرائيل والولايات المتحدة بمواصلة محاولاتها لابتزاز مصر, بتحريض دول المنبع للمطالبة بإعادة النظر في اتفاقيات المياه, لإجبارها على تقديم مزيد من التنازلات في عملية التسوية أو للموافقة على تزويد إسرائيل بمياه النيل؛ لذا يسود شعور جماهيري عام بعدم كفاءة السياسة الخارجية وعجزها عن تأمين احتياجات مصر المستقبلية من المياه .
 
ثانيا: تحدي الأمن: 



نتائج الانتخابات الرئاسية في 2011 هي التي ستحدد حجم التغير الذي سيطرأ على سياسة مصر الخارجية في المرحلة القادمة، وبالتالي مدى قدرة مصر كدولة وكنظام وكمجتمع على مواجهة تحدياتها
تشير دروس التاريخ إلى أن معظم الغزاة أتوا مصر عبر بوابتها الشمالية الشرقية, وأن من جاء منهم قاصدا مصر كان يواصل زحفه عادة في اتجاه فلسطين والشام لتأمين بقائه في مصر, ومن جاء قاصدا الشام وفلسطين كان يواصل زحفه عادة في اتجاه مصر لتأمين بقائه في المشرق؛ مما جعل من مصر وفلسطين والشام كتلة إستراتيجية واحدة ترتبط بمصير واحد. وانطلاقا من هذه الرؤية الواضحة لأمن مصر الوطني قام صناع القرار, منذ اللحظة الأولى لبداية ممارسة مصر لبعض مظاهر استقلالها وحرية حركتها على الصعيد الخارجي, باتخاذ مواقف يمكن اعتبارها محددة لأسس ومرتكزات السياسة الخارجية المصرية, منها:
1- النظر للمشروع الصهيوني باعتباره مصدر التهديد الرئيس لأمن مصر الوطني من ناحية, ولأمن العالم العربي ككل, من ناحية أخرى.
2- النظر للقضية الفلسطينية باعتباها قضية عربية لا يجوز التصرف فيها على نحو منفرد, وأن تكون الجامعة العربية هي الإطار المؤسسي المسؤول عن تحديد السياسة واجبة الاتباع تجاه هذه القضية.
3- البعد عن المحاور والتكتلات الدولية, واعتماد سياسة الحياد وعدم الانحياز كركيزة لتحرير الإرادة وحماية الاستقلال الوطني.

وانطلاقا من هذه التوجهات العامة قامت مصر بسلسلة من المبادرات, منها:


1- تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، واحتضان مقرها في القاهرة.
2- المشاركة في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948.
3- الإعلان عن موقفها الحسايد في الصراع بين المعسكرين الكبيرين الشرقي والغربي, وهو ما عكسه تصويت مصر في مجلس الأمن على مشروعات القرارات الخاصة بالحرب الكورية كما سبق القول.
4- رفض أي تسوية منفردة للقضية الفسلطينية, والمطالبة بتوقيع عقوبات على أية دولة عربية توقع صلحا منفردا مع إسرائيل وطردها من الجامعة العربية, وفقا لمشروع قرار تقدمت به وأقره مجلس الجامعة العربية عام 1950.
5- اقتراح وإقرار معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي العربي، والتصديق الفوري عليها عام 1950.


وقد ظلت هذه التوجهات العامة هي المحدد الرئيسي لمواقف السياسة الخارجية المصرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى حرب أكتوبر 1973, رغم اختلاف النخب والنظم السياسية التي تعاقبت على حكم مصر طوال تلك الفترة. لكن ما إن وضعت حرب 73 أوزارها حتى بدأ الانقلاب الكبير على هذه التوجهات والتي كانت أقرب ما تكون إلى الثوابت؛ فقد قرر الرئيس السادات أن تكون حرب أكتوبر هي آخر الحروب, وبدأ البحث عن تسوية سلمية مع إسرائيل تحت مظلة وساطة أميركية منفردة إلى أن قادته خطاه, عام 1977, إلى القدس وإلقاء خطاب في الكنيست, لينتهي الأمر بإبرام معاهدة "سلام" منفردة بين مصر وإسرائيل عام 1979.


بنى الرئيس السادات سياسته الجديدة على مجموعة من الافتراضات, أهمها:


1- أن إسرائيل أصبحت جاهزة لتسوية دائمة تقوم على الانسحاب إلى حدود 67، وحل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
2- أن الولايات المتحدة راغبة في المساعدة على إنجاز تسوية على هذا الأساس حتى لو اقتضى الأمر ممارسة ضغوط كبيرة على إسرائيل.
3- أن التسوية على المسار المصري ستسهل التوصل إلى تسوية شاملة على بقية المسارات وستقود إليها حتما.
4- لن يكون أمام العالم العربي من خيار آخر, بعد خروج مصر من معادلة الصراع, سوى الالتحاق -إن عاجلا أم آجلا- بقطار تسوية انطلق ولن يكون بمقدور أحد إيقافه.


غير أن الأحداث اللاحقة أثبتت خطأ هذه الافتراضات جميعا؛ فقد سلكت "عملية التسوية" طريقا وعرا ومحفوفا بالمخاطر أفضى إلى:


1- تسوية منفردة مع إسرائيل رفضتها الدول العربية الأخرى.
 2- قطيعة بين مصر والعالم العربي دامت حوالي عشر سنوات تم نقل مقر الجامعة العربية خلالها إلى تونس.
3- احتقان الحياة السياسية في مصر إلى درجة أدت إلى اعتقال كافة رموز الحركة الوطنية المصرية في سبتمبر 1981.
4- اغتيال الرئيس السادات في أحد أكثر مشاهد العنف السياسي إثارة في التاريخ المصري في 6 أكتوبر 1981.


وعندما ظهر بوضوح, في سياق هذه الأحداث المتعاقبة, أن خللا جسيما أصاب سياسة مصر الخارجية, بدأت محاولات لتصحيح هذا الخلل, عقب اختفاء الرئيس السادات وتولي الرئيس مبارك, أخذت أشكالا عديدة منها:


1- التجاوب مع الضغوط الشعبية لتجميد التطبيع مع إسرائيل، واستخدام الخلاف حول طابا وسيلة لتبريد عملية السلام معها.
2- السعي لتصحيح العلاقة المختلة مع الاتحاد السوفيتي، وإعادة بعض التوازن المفقود في صيغة العلاقة مع قمة النظام الدولي.
3- استغلال الحرب العراقية الإيرانية لإزالة الاحتقان القائم في علاقة مصر بالعالم العربي, والتمهيد لعودة جامعة الدول العربية إلى مقرها في القاهرة دون أن تضطر إلى إلغاء أو تجميد المعاهدة مع إسرائيل, وهو ما تم فعلا قبل نهاية الثمانينيات.


لم تعكس هذه المحاولات "التصحيحية", في حقيقة الأمر, رؤية متماسكة لسياسة خارجية مصرية جديدة بقدر ما عكست مهارة تكتيكية في توظيف تفاعلات إقليمية ودولية معينة للتحلل من الضغوط الواقعة على مصر الرسمية محليا وإقليميا ودوليا؛ لذا سرعان ما ظهر العجز عند أول منعطف, حين أقدم صدام حسين على غزو الكويت؛ فقد أدارت مصر أزمة احتلال الكويت بمنطق من يسعى للاستفادة التكتيكية منها, وليس انطلاقا من رؤية إستراتيجية تسعى لاستعادة دور مصر القيادي المفقود في العالم العربي؛ ومن ثَمَّ خرجت من الأزمة مستفيدة ماديا وسياسيا وخاسرة إستراتيجيا, وهو ما اتضح بجلاء بعد نجاح إسرائيل في إجهاض مؤتمر مدريد.


وبعودة الجامعة العربية إلى مقرها في القاهرة, في هذا السياق عادت مصر إلى نظام عربي ضعيف وممزق, ولكن دون أي رغبة من جانبها للقيام بدور فاعل لإعادة إحياء النظام العربي المتداعي؛ حيث كانت القيادة السياسية المصرية في ذلك الوقت تدرك أن قدرتها على ترميم النظام العربي تتوقف على:


1- قدرة مصر على لعب دور حاسم في استكمال عملية تسوية كانت ما تزال جزئية ولم تتحول بعد إلى تسوية شاملة وعادلة, وهو ما لم يكن بوسعها أن تفعله ولا كانت تملك مقوماته.
2- قدرتها على قيادة العالم العربي نحو إدارة جديدة للصراع تجمع بين العمل السياسي ودعم المقاومة, وهو ما لم تكن راغبة فيه أصلا.





التغيرات الانقلابية التي طرأت على السياسة الخارجية خلال فترتي حكم الرئيسين السادات ومبارك والتي يبدو أنها تجاوزت كل الخطوط الحمراء وأدت إلى إضعاف وتآكل دور مصر على الصعيدين العالمي والإقليمي وبالتالي فمن الطبيعي أن تتسبب في إثارة ردود أفعال شعبية رافضة وباحثة عن آلية لتعديلها ودفعها في الاتجاه الصحيح
ولأنها لم ترغب في -أو تقدر على- سلوك أي من السبيلين, فقد كان من الطبيعي أن يؤدي فشلها على هذا الصعيد, خصوصا في ضوء نجاح المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني دون شروط, إلى إضعاف الدور العربي لمصر. ساعد على ذلك إصرار الولايات المتحدة وإسرائيل على توظيف الدور المصري للضغط على الأطراف العربية للقبول بالشروط الإسرائيلية للتسوية, وهو ما بدا واضحا بصفة خاصة في الفترة التي أعقبت فشل الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في التوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية عام 2000. وعندما كشرت الإدارة الأميركية بقيادة المحافظين الجدد عن أنيابها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001, آثرت مصر السلامة وعادت للانكفاء على ذاتها؛ مما جعل طريق الولايات المتحدة يبدو معبَّدا لغزو العراق عام 2003، ثم للشروع في تدميره على مدى ثماني سنوات متصلة, وهو عامل إضافي أسهم بدوره في إضعاف مكانة مصر في العالم العربي بشكل كبير .

 ومع بروز نجل الرئيس المصري جمال مبارك على مسرح السياسة المصرية, في بداية الألفية الثالثة, بدا واضحا أن القيادة المصرية لم تعد مشغولة بشيء قدر انشغالها بترتيب عملية نقل السلطة من الأب إلى الابن. ولأن استعادة مصر لدورها القيادي لم يكن من بين أولويات القيادة المصرية في ذلك الوقت, فلم يكن من المستغرب أن يتزامن عودة الدفء إلى العلاقات المصرية الإسرائيلية مع عملية التصعيد السياسي لجمال مبارك؛ فقد شهدت هذه الفترة: 1- إفراج مصر عن الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام قبل انتهاء مدة عقوبته. 2- إبرامها لاتفاقية المناطق التجارية المؤهلة "الكويز" مع إسرائيل. 3- تعهد مصر بمد إسرائيل بالغاز الطبيعي لفترات طويلة, وبسعر يقل كثيرا عن الأسعار العالمية. ولأنه لا يوجد مبررات موضوعية تجبر مصر على تقديم تنازلات "مجانية" بهذا الحجم وعلى هذه الدرجة من الخطورة, فليس هناك من تفسير عقلاني لها إلا برغبة القيادة السياسية المصرية في مقايضتها بموقف إسرائيلي أميركي مشترك يساعد على تمرير "مشروع التوريث".


يلفت الانتباه ويثير التأمل هنا أن عودة الدفء للعلاقات المصرية الإسرائيلية لم يواكبه اعتدال في سلوك إسرائيل, وإنما -على العكس- قوبل بتشدد بالغ وصل إلى حد إقدام إسرائيل على خوض حربين كبيرتين خلال أقل من عامين, إحداهما ضد لبنان عام 2006، والثانية ضد غزة عام 2008. فقد ألقت مصر باللوم في حرب لبنان على حزب الله, وألقت باللوم في حرب غزة على حماس, رغم توافر نية العدوان لدى إسرائيل في الحالتين, وبدت مصر أكثر ميلا لتبني وجهة النظر الإسرائيلية والأميركية المروجة لمقولة أن إيران والأصولية الإسلامية والمنظمات "الإرهابية", وليس إسرائيل ورفضها للتسوية, هي مصادر التهديد الرئيسة للأمن في المنطقة.


في سياق كهذا من الطبيعي أن يتعمق إحساس جماهيري بعدم كفاءة السياسة الخارجية المصرية في مواجهة مصادر تهديد الأمن ليس فقط على حدودها الشمالية الشرقية ولكن على حدودها الجنوبية أيضا. فكل التقديرات ترجح انفصال جنوب السودان في بداية عام 2011, وربما تلحق بها دارفور أيضا. ولا جدال في أن تفتت السودان إلى عدة دويلات يشكل مصدرا جديدا من مصادر تهديد الأمن الوطني المصري لم يكن قائما من قبل .


ثالثا: تحدي التنمية:
في دولة تنتمي لدول العالم الثالث, تعتمد في حياتها وبقائها على موارد نهر تنبع روافده على بعد آلاف الأميال من حدودها, وتقع على بحار مفتوحة تجعلها نهبا للأطماع الخارجية, وزُرِعت على حدودها دولة عنصرية عدوانية مرتبطة بالقوى المهيمنة على النظام الدولي, من الطبيعي أن تحتل قضية التنمية الاقتصادية والاجتماعية مكانة محورية في سياستها العامة ومنها السياسة الخارجية. فبدون عملية تنموية قوية ومستديمة لن يكون بوسع بلد كهذا الحصول على عناصر القوة اللازمة للدفاع عن مصالحه خارج حدوده, وهو ما انتبهت إليه مصر دوما؛ لذا لم يكن غريبا أن تتداخل معارك التحرر والاستقلال الوطني مع معارك التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وهو ما بدا واضحا بصفة خاصة في المرحلة الناصرية. فقد سعي عبد الناصر في البداية لتجميد الصراع العربي الإسرائيل وعدم ممانعته في استكشاف آفاق التسوية السلمية, كي يتفرغ للبناء بعد الجلاء, ومن هنا كان اهتمامه البالغ ببناء السد العالي. غير أن إصرار إسرائيل على فرض تسوية بشروطها قبل الجلاء, وإصرار الولايات المتحدة على ربط مصر بالأحلاف العسكرية, فرض على عبد الناصر الدخول في مواجهة معهما؛ فحين رفضت مصر شروط إسرائيل للتسوية شنت إسرائيل غارة مميتة على مواقع الجيش المصري في غزة فاضطر عبد الناصر للجوء إلى الاتحاد السوفيتي لتزويده بالسلاح. وحين رفضت مصر الانضمام إلى أحلاف عسكرية ردت الولايات المتحدة بسحب تمويل مشروع السد العالي، وردت مصر بتأميم قناة السويس. وما إن تحقق الانتصار في معركة السويس حتى انطلق مشروع للنهضة ارتبطت فيه قضية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ارتباطا عضويا بقضايا التحرر والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية. وفي سياق هذا المشروع النهضوي تبنت مصر سياسة خارجية تتسق مع معطياتها الجغرافية والتاريخية، وتقوم على مقاومة الاستعمار والصهيونية، وتسعى لتحقيق الوحدة العربية.


لكن حين بدأت هذه الثوابت تتغير عقب حرب أكتوبر 1973, على النحو الذي أسلفناه, تغيرت أيضا –وبالضرورة- رؤية مصر لأمنها الوطني ولنوع التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تريدها في المرحلة الجديدة. ومن هنا تواكب التقارب مع الولايات المتحدة والغرب مع تبني السادات لسياسة الانفتاح الاقتصادي, ثم لسياسة الخصخصة, والتي تسارعت معدلاتها كثيرا في عهد الرئيس مبارك, كما تصاعد الدور السياسي لرجال الأعمال . ولأن الرئيس السادات كان قد برر انقلابه على ثوابت السياسة الخارجية المصري, بارتفاع تكلفة الحروب وما أدت إليه من خراب اقتصادي واجتماعي, وربط بين السلام والرخاء والازدهار بطريقة ميكانيكية؛ فقد أصبح التأييد الجماهيري للتوجهات الجديدة للسياسة الخارجية معلقا إلى حد كبير على مدى نجاح النظام في تحقيق الرخاء والازدهار المأمولين, وهو ما لم يحدث أبدًا.


فبعد 37 عاما من حرب أكتوبر 73 والتي اعتبرها السادات آخر الحروب, و 32 عاما من زيارة القدس, والتي اعتبرها السادات بداية طريق الرخاء, لم تنعم المنطقة لا بسلام شامل ولا برخاء, واندلعت حروب كثيرة لم تشارك فيها مصر لكنّ حالها لم يصبح أفضل كثيرا من البلاد التي لم تبرم معاهدات سلام. صحيح أن مصر حصلت على موارد مالية خلال تلك الفترة لم تحصل عليها في أية فترة أخرى في تاريخها نتيجة:
1- إيرادات قناة السويس التي أُعيد فتحها عقب الحرب.
2- مدخرات المصريين العاملين في الخارج والتي حققت طفرة هائلة خلال تلك الفترة.
3- معونة أميركية بلغت حوالي 2 مليار دولار سنويا (حوالي 2% فقط من إجمالي الدخل القومي المصري).
4- تسهيلات ائتمانية واستثمارات مباشرة وغير مباشرة نتيجة لسياسات الانفتاح والخصخصة. غير أن هذه الموارد لم توظف في مشروعات إنتاجية كبرى, زراعية أو صناعية, وإنما وُجِّهت في المقام الأول إلى القطاعات الاستهلاكية والعقارية والبنية التحتية, وأفادت شريحة محدودة بينما تدهورت حالة الأغلبية الساحقة من الشعب, بل وتدهورت الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وغيرها .


ويبدو واضحا من هذا الاستعراض أن التغير الذي طرأ على توجهات السياسة الخارجية المصرية لم يكن مخططا ولم يتطور بشكل طبيعي تمليه المصالح الوطنية العليا وفق رؤية مؤسسات وطنية, وإنما بدا وكأنه نتيجة حتمية لتعرض مصر كلها لعملية اختطاف اضطرت خلالها لتقديم تنازلات بالإكراه, وما تزال تعيش هذه الحالة حتى الآن.


3- تحديات المرحلة المقبلة، ومتطلبات تصحيح الخلل


ستواجه مصر في المرحلة القادمة جملة من التحديات تنطوي على تهديدات مباشرة لأمنها الوطني, يتمثل أهمها في:
1- احتمال تفتت عدد من الأقطار العربية تحت وطأة الصراعات الإثنية والقبلية والدينية والقومية, على رأسها السودان والعراق وقد تمتد لأقطار أخرى كثيرة.
2- احتمال انهيار عملية التسوية نهائيا, خاصة على المسار الفلسطيني, ونجاج إسرائيل في فرض تسوية بشروطها, قد تتضمن فرض توطين أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين في سيناء تحت شعارات التعمير والتنمية.
3- تنامي قوة كل من إيران وتركيا وإسرائيل إلى الدرجة التي تؤهلها للعب أدوار إقليمية تتنافس على النفوذ في المنطقة وتسعى لاقتسامه في وقت يتآكل فيه الدور المصري تماما ومعه النظام العربي برمته.


وفي تقديري أن استمرار سياسة مصر الخارجية على ما هي عليه لن يؤدي إلا إلى زيادة التحديات خطورة وتعقيدا, وما لم تتوافر لقيادتها السياسية إرادة حقيقية لمواجهة هذه التحديات والخروج عن الطوق الأميركي فسوف يستمر تدهور دور ووضع ومكانة مصر في النظامين الإقليمي والعربي. وحين تتوفر لقيادتها هذه الإرادة السياسية فسوف تظهر الحاجة الماسة لتغيير بوصلة سياسة مصر الخارجية انطلاقا من الأسس التالية: 1- التعامل مع إسرائيل باعتبارها مصدر التهديد الرئيسي على أمن مصر وأمن العالم العربي والذي يسبق أي خطر آخر؛ مما يفرض عليها السعي لحشد كل الطاقات وتعبئة كل الجهود لمواجهته بكل الوسائل المتاحة, بما في ذلك دعم وترشيد عمل المقاومة المسلحة, والعمل على إعادة توحيد الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال المساعدة على إعادة بناء منظمة تحرير فلسطينية أصدق تمثيلا للشعب الفلسطيني وحرصا على ثوابت نضاله.
2- إعادة ترتيب البيت العربي على أسس جديدة، والسعي لبناء توافق عربي حول صيغة للتكامل تحقق منفعة متبادلة لكافة الدول العربية ويكسب منها الجميع.
3- فتح صفحة جديدة في العلاقات مع إيران تبدأ بإعادة العلاقات على مستوى السفراء, ودعم علاقات التعاون مع تركيا, وتمهيد الطريق لحوار عربي-تركي-إيراني يستهدف البحث عن حلول إقليمية متوازنة لمشكلات الأمن في المنطقة.


غير أنه سيكون من الصعب تبني مصر لمثل هذه التوجهات في سياستها الخارجية بدون تغيير جوهري في بنية النظام السياسي والذي يشهد في المرحلة الراهنة بداية حالة حراك من نوع جديد من المتوقع أن تتصاعد تدريجيا لتصل ذروتها أثناء الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في أكتوبر عام 2011. وفي تقديرنا أن نتائج هذه الانتخابات هي التي ستحدد حجم التغير الذي سيطرأ على سياسة مصر الخارجية في المرحلة القادمة، وبالتالي مدى قدرة مصر كدولة وكنظام وكمجتمع على مواجهة تحدياتها.


_________________
حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.


عودة إلى الصفحة الرئيسة للملف