عرب البرازيل.. التاريخ والدور الاجتماعي والاقتصادي

لم تبدأ أعداد المهاجرين العرب في الزيادة سوي في سبعينيات القرن التاسع عشر؛ فمنذ ذلك التاريخ زاد الوزن النسبي لعرب البرازيل، ومِن ثَمَّ شكَّلوا معْلَمًا مهمًّا في تاريخ تلك الدولة.
20 June 2010







المحال والمطاعم العربية في البرازيل تخدم جالية عمرها مائتي عام  (الجزيرة-أرشيف)


أرليني كليميشا

في عام 1835 وصل الأخوان زكريَّا من بيروت إلى البرازيل, واستقرَّا في مدينة ريو دي جانيرو، مسجِّلين بذلك أول هجرة عربية إلى البرازيل. ورغم ذلك لم تبدأ أعداد المهاجرين العرب في الزيادة سوى في سبعينيات القرن التاسع عشر؛ فمنذ ذلك التاريخ زاد الوزن النسبي لعرب البرازيل، ومِن ثَمَّ شكَّلوا معْلَمًا مهمًّا في تاريخ تلك الدولة.


بين الزراعة والتجارة 
الرُّوَّاد: باعة جائلون 
من التجوال إلى الاستقرار 
التوجه نحو التصنيع 
السِّمات الاجتماعية والاقتصادية 
المشاركة الثقافية 
المشاركة السياسية 


كان أغلب المهاجرين العرب الوافدين إلى البرازيل من المسيحيين الذين جاءوا من سوريا ولبنان, وكانت أعداد المسلمين بينهم قليلة، وكان أغلب هؤلاء المسلمين سُنِّي المذهب. وحتى عام 1908, كانت مصلحة الجمارك والسفر تسجل المهاجرين العرب في فئة "جنسيات أخري"، وأحيانًا كانت تسجلهم تحت الجنسية "التركية"، أو "أتراك-عرب"، أو "أتراك-آسيويون". وربما كان مَرَدّ ذلك إلى أن معظم العرب الوافدين جاءوا من أقاليم كانت خاضعة للدولة العثمانية آنذاك. وفي النهاية بدأ تسجيل العرب تحت بند الدول التي أَتَوا منها مثل: "سوريا" و"لبنان" رغم أن آلافًا منهم قد دخلوا البلاد دون أن يُسَجَّلوا ضمن أية جنسية، أو منطقة جغرافية، أو تخصص مهني.


ومن بين المهاجرين كان هناك عدد قليل من الفلسطينيين والمصريين والأردنيين والعراقيين، واختلفت الأسباب التي دفعتهم لمغادرة أوطانهم، وإن كانت مرتبطةً غالبًا بالمشكلات الدينية، أو التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهها العرب في أوطانهم والتي ارتبطت بزيادة متطلَّبات الأسر الريفية، والخلل في حجم المِلكية الزراعية، والبحث عن فرص جديدة للدخل.





انتشر المهاجرون السوريون واللبنانيون في كافَّة أرجاء البرازيل, من إقليم الأمازون في الشمال إلى مدينة تشيوي في أقصى الجنوب على الحدود مع باراغواي. واستقبلت ولاية ساو باولو أغلب المهاجرين العرب
وخلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر كانت الهجرة العربية إلى البرازيل جدّ بطيئة وغير منتظمة, لكنها بدأت في الزيادة بشكل واضح بعد عام 1895, ثم زادت مرة أخري بعد عام 1903، واستمر معدلها في النمو حتى الحرب العالمية الأولي 1914-1918؛ ففيما بين عامي 1871 و1900 قُدِّر أن 5400 مهاجر سوري ولبناني دخلوا البرازيل، بينما سجَّل عام 1913 وصول عدد مميز بلغ 11.101 مهاجر عربي.

وبعد الحرب العالمية الأولي, شهد عقد العشرينيات من القرن العشرين زيادة الهجرة العربية من جديد, وبمعدل بلغ خمسة آلاف مهاجر سنويًّا. غير أن هذا التوجه في الهجرة العربية المتدفقة قد تناقص بشكل ملحوظ بعد عام 1929, كنتيجة لأزمة الكساد العالمي فضلاً عن تطبيق البرازيل لسياسة الحصص في استقبال المهاجرين.


وبحسب دراسة (كنولتون)؛ فإنه خلال الفترة بين عامي 1908 و1941 وصل إلى البرازيل 48.326 سوري ولبناني. وشكَّل هؤلاء المهاجرون 4% من إجمالي المهاجرين إلى البرازيل خلال تلك الفترة. (Apud Truzzi, 2009:46) ويمثل المهاجرون العرب وأحفادهم اليوم نحو 11 مليون نسمة, أو ما يعادل 5 % من سكان البرازيل. وبحسب الاتحاد الإسلامي البرازيلي فإن 1.5 مليون منهم مسلمون, يخدمهم 50 مسجدًا، وأكثر من 80 مركزًا إسلاميًّا في أنحاء البلاد.


كانت الولايات المتحدة الأميركية هي الوجهة الأساسية التي يسعي إليها معظم المهاجرين المغادرين لمينائي: بيروت وطرابلس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وفي المرتبة الثانية كانت البرازيل والأرجنتين تمثلان مصدر جذب للمهاجرين العرب, بينما تأتي المكسيك وكندا في المرتبة التالية.


ومن اللافت للانتباه أن كثيرين من المهاجرين جاءوا إلى البرازيل دون قصد أو بطريق الخطأ, وربما خدعتهم شركات الملاحة الفرنسية أو اليونانية أو الإيطالية التي كانت تعمل عبر هذا الطريق البحري، وهدفت إلى شحن أكبر عدد ممكن من المسافرين؛ حيث كانت هذه الشركات تبيع تذاكر سفر إلى "أميركا"، وحين تصل هذه السفن إلى ميناء سانتوس في ولاية ساو باولو بالبرازيل كانت تبرر موقفها للمسافرين -وهي تُنزلهم على الميناء- بأن القارة بأكملها تُسمَّى "أميركا" (Amrik).  


انتشر المهاجرون السوريون واللبنانيون في كافَّة أرجاء البرازيل, من إقليم الأمازون في الشمال إلى مدينة تشيوي في أقصى الجنوب على الحدود مع باراغواي. واستقبلت ولاية ساو باولو أغلب المهاجرين العرب، تلتها ولايات: ريو دي جانيرو، وميناس جيرايس, القريبتين من ولاية ساو باولو, ثم ولاية ريو غراندي دو سول.


بين الزراعة والتجارة


مثَّلت مزارع البُنِّ الوجهة الأساسية للمهاجرين الأجانب الوافدين إلى ولاية ساو باولو مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ ففي هذه المزارع كانت الأسر المهاجرة تنخرط بأكملها في العمل الزراعي القاسي المستغِلِّ للمهاجرين، والمعروف باسم نظام المستعمرة الزراعية "الكولونتو Colonto".


وكان هؤلاء المهاجرون مجبَرِين على العمل في الزراعة حتي يسدِّدُوا ديونهم للشركة التي نقلتهم من أوطانهم إلى البرازيل. وخلال عملهم في هذا النظام -وبأجور متدنِّية للغاية- كانوا يقعون في ديون جديدة نتيجة اضطرارهم شراء حاجاتهم الأساسية من متاجر المزرعة؛ ومن ثَمَّ الدخول في حلقة مُفرَغة تهدف إلى الإبقاء عليهم كعمالة رخيصة في تلك المزارع.


ولأن هذه الظروف من العمل الاستعبادي قد حلَّت محل العبودية والسُّخْرة منذ عام 1870؛ فإنَّ الدولة سارعت بإبطال هذا النظام تمامًا منذ عام 1880. وخلافًا لغالبية المهاجرين إلى ولاية ساو باولو, لم يعمل المهاجرون السوريون واللبنانيون في مستعمرات البُنِّ الزراعية, ولم يصبحوا قوة عاملة جماعية ضمن عملية التصنيع التي شهدتها البرازيل؛ وذلك رغم أن غالبية المهاجرين العرب كانوا ذوي أصول زراعية في قُراهم وأقاليمهم التي أتوا منها, ولم تكن لديهم خبرة متراكمة للعمل كباعة متجولين أو غيرها من مهن البيع في الشوارع؛ فمثل هذه المهن في سوريا ولبنان كانت في أيدي اليونانيين والأرمن واليهود؛ ومن ثَمَّ كان من المتوقع أن يتجه المهاجرون العرب إلى النشاط الزراعي باعتباره العمل الذي جرَّبوه في أوطانهم, وبالتالي كان من المنتظر أن ينضموا إلى المستعمرات الزراعة، لكنهم عزفوا عن ذلك.


وفي البحث عن السبب الذي دفع المهاجرين العرب إلى عدم الانخراط في الأعمال الزراعية يقدم الباحثون إجابات متفاوتة؛ فيقدم تروزي أكثر التفسيرات رجاحةً لتفسير عزوف العرب المهاجرين عن العمل الزراعي في البرازيل معلِّلاً ذلك باختلاف البيئة الزراعية في سوريا ولبنان عن طبيعة ونمط البيئة الزراعة في البرازيل؛ ففي سوريا ولبنان كان العربي يعمل في مِلكية زراعية خاصة وصغيرة، أمَّا في البرازيل فقد كانت الحقول الزراعية تملكها جماعة محدودة من ملاك الأراضي. وإذا عمل المرء في مستعمرة زراعية فمن غير المتوقع أن ينتهي به الحال بتملُّك هذه الأرض أو جزء منها.


وحين بدأ ميناء سانتوس في 1908 يسجل العرب المهاجرين بجنسياتهم وحرفهم المهنية؛ فإن القليل من هؤلاء المهاجرين سجَّلوا أنفسهم كمزارعين، وربما جاء ذلك استجابةً لنصيحة ذويهم ممن سبق لهم الوصول إلى البرازيل الذين نصحوهم بأن الأفضل هو التوجه إلى المدن والبلدات، والبدء بالخطوة الأولي كباعة جائلين، ومنها إلى المجال التجاري الأكثر ربحًا.


ومن ثَمَّ فإن عدد العمال الزراعيين من المهاجرين العرب كان محدودًا مقارنة بالجنسيات الأخري؛ حيث لم يُشِر من العرب الوافدين إلى الزراعة كحرفة سوى 18 % منهم مقارنة بـ 49 % من البرتغاليين، و79 % من الأسبان، و99% من اليابانيين، و31 % من الألمان.


الرُّوَّاد: باعة جائلون


كان معظم المهاجرين إلى البرازيل من اليابانيين والإيطاليين يصطحبون معهم أسرهم ويأتون بتذاكر مدفوعة من قبل الشركات التي نقلتهم إلى البرازيل نظير عملهم لاحقا في مزارع البن. لم يكن العرب كذلك، إذ سدَّدوا تذاكر سفرهم مقدمًا، وكانت نيتهم البقاء في البرازيل لفترة ثم العودة إلى أوطانهم بعد تحقيق بعض المدخرات، ومن ثَم لم يصطحبوا معهم أسرهم. ونظرا لأنه لم تكن بحوزتهم رؤوس أموال كافية، فإن العمل الوحيد الذي كان أمامهم في البداية هو النشاط التجاري البدائي، القائم على التنقل من بيت إلى بيتٍ لبيع السلع والبضائع.


وعلى هذا فإنَّ الصورة التي تكوَّنت عن العربي في مدن البرازيل هي صورة البائع الجائل الواقف عند باب البيت يعرض بضاعته. وفي القري والريف -وحتي في أقصى البقاع البرازيلية- أصبحت صورة "التاجر" مرادفة بشكل تلقائي لصورة "العربي". ولم يكن ذلك يعني بأي حال من الأحوال صورة ازدرائية، بل على العكس قدَّم ذلك بديلاً إيجابيًّا واقعيًّا للصورة الغرائبية القديمة عن العرب كشعب مثير للدهشة على نحو ما صورت الكتب والأساطير.


كان بعض المهاجرين العرب -في حقيقة الأمر- على دراية بالنشاط التجاري بالفعل. وتشير دراسة قُربان Kurban إلى السِّير الذاتية لعديد من المهاجرين الذين كانوا ينتمون إلى أسر احترفت التجارة في مدن مثل: بيروت وزحلة وحمص.  


وهناك حالات فردية بالغة التميز، مثل عائلة الصفدي التي كانت تبيع في البرازيل الحبوب والفواكه المجفَّفة المنتَجة في سوريا. ومع ذلك فإن السبب الأساسي الذي وقف وراء امتهان العرب للتجارة في البرازيل يعود إلى رغبتهم في تأسيس عمل يكونون فيه "سادة أنفسهم" على نحو ما أعرب البعض منهم.


لم يكن نشاط العرب التجاري قاصرًا على المدن الكبري، بل امتد ليشمل القرى والمناطق الريفية. وكان الزبائن الأكثر وفرة لدي التجار العرب المتجولين من أولئك المزارعين العاملين في مستعمرات البن الريفية؛ حيث وجدوا في السلع والبضائع التي كان يبيعها العرب بديلاً أرخص ممَّا كان متوفرًا في متاجر تلك المستعمرات ذات الأسعار المبالَغ فيها.


بلغ البائعون العرب الجائلون أصقاعًا بعيدة في المناطق الريفية، وأقاموا علاقات تجارية في المدن الصغيرة في قلب المناطق الداخلية من ولاية ساو باولو، بل امتد نشاطهم -وإن بدرجة أقل- إلى كافة أرجاء البرازيل فتوغلوا في سوق كان يحتكرها سابقًا المهاجرون الإيطاليون.


وتبعًا لدراسة كنولتون، فإنه بحسب تقديرات عام 1983م كان 90 % من الباعة الجائلين في مدينة ساو باولو من العرب.


وبعد أن نجح العرب في "إزاحة الإيطاليين" ومراكمة بعض رأس المال، غمروا السوق بالمتاجر الصغيرة التي ملأت كافَّة المجاورات السكنية المحيطة بشارع 25 مارس  25 de Marco في البلدة العتيقة من مدينة ساو باولو.


وكان بوسع المرء في عام 1983م أن يحصي على الأقل سبعة متاجر للعرب تبيع الملابس، ومعدات الحياكة من أزرار وإبر للخياطة، وكان أصحابها من السوريين واللبنانيين في تلك المنطقة العامرة بالتجارة من وسط مدينة ساو باولو.


من التجوال إلى الاستقرار


مع بداية القرن العشرين تمكن المهاجرون السوريون واللبنانيون، الذين بدءوا كباعة جائلين، من تأسيس محال تجارية في كافة أرجاء البلاد. وكانت هذه المحال تنزع للتخصص في تجارة الأقمشة، رغم حقيقة أن المهاجرين العرب الأوائل في ريو دي جانيرو قد بدءوا نشاطهم ببيع أشياء صغيرة كأعواد الثقاب، وكان بعضهم يتخذ من المركز المسيحي الكاثوليكي في منطقة أباريسيدا دو نورتي  Aparecida do Norte بولاية ساو باولو ميدانًا يبيعون فيه تعاويذ دينية جلبوها من سوريا.


وفي مدينة ساو باولو، بدأ التجار السوريون واللبنانيون يسيطرون بالتدريج على المحال التجارية في شارع 25 مارس النابض بالحياة، فضلاً عن وسط المدينة. حتي إذا جاء عام 1910 كان هؤلاء التجار قد بدءوا فعليًّا في الهيمنة على المنطقة، وفي ذلك يقول كنولتون: "لقد أصبح شارع 25 مارس يُعرف باسم المستعمرة السورية اللبنانية، فقد غادر معظم الألمان، وأخذت أعداد الإيطاليين في التناقص، وإن بقي بعض البرتغاليين يعيشون على مقربة من السوق. وكانت أغلبية السوريين واللبنانيين يعيشون في منازل مستأجرة قريبة من محالهم التجارية أو في الطابق العلوي لها مباشرة. وأصبح العرب متخصصين في تجارة التجزئة المتعلقة بالأقمشة، والأزرار، وإبر الخياطة، واللاسات (أغطية حريرية للرأس والكتفين).


وقد واجه البائعون الجائلون من السوريين واللبنانيين منافسة شرسة من المهاجرين الإيطاليين، وحين بدأ العرب في إقامة محالهم التجارية اختار كثير منهم تجارة الأقمشة نظرًا لقلَّة المنافسة في ذلك المجال. وكانت محال تجارة الجملة والتجزئة التي يملكها البرتغاليون والألمان والأيرلنديون قد تخصصت أساسًا في بيع المنتجات الزراعية والغذائية ومواد البناء والحديد.


وفي حقيقة الأمر كان ما يُميز المهاجرين السوريين واللبنانيين في البرازيل هو ارتباط أجيالهم المهاجرة بعضها ببعض؛ حيث إن الجيل الأول قد سهَّل الطريق لمجيء الجيل الثاني، والثاني للثالث، وهكذا. فالمهاجرون العرب بداية من القرن العشرين عادةً ما كانوا يأتون لِحاقًا بذويهم الذين كانوا قد تمكنوا من تأمين وضع مناسب لهم في البرازيل، أو صار لهم على الأقل اتصال بمجتمع المهاجرين القدامي الذين يعرفون من أين يبدأون مشروعهم التجاري، وبأفضل الطرق لتحقيق النجاح.


وعلى خلاف ما عانى المهاجرون الأوائل في سبعينيّات وثمانينيّات القرن التاسع عشر، لم تكن الموجات التالية من المهاجرين تنزل أرضًا لا تعرف فيها أحدًا، بل صار لديهم بالتدريج من يعينهم ويسهِّل لهم الطريق.


وبحسب دراسة تروزي، ليس هناك من شك في أن رواد المهاجرين العرب قد شكَّلوا "ثورة حقيقية في الممارسات التجارية" في البرازيل؛ وذلك بفضل ما تمتعوا به من مرونة، وحماسة متقدة في التجارة، واستعدادٍ يقظ ليس فقط لبيع ما معهم من سلع، بل ومقايضة هذه السلع بأي شيء يعرضه المشتري، من البُنِّ إلى الذهب. كما تميز العرب أيضًا في أسلوب البيع بالإقراض، والذي وصلت مهلته الزمنية لنحو عام كامل وقد أسهم كل ذلك بفاعلية في إنعاش القطاع التجاري للاقتصاد الوطني البرازيلي.


ومنذ البداية، تبنَّى هؤلاء التجار العرب مبدأ البيع بسعر رخيص من أجل البيع بكميات كبيرة، وتحقيق هامش ربح طفيف (لكنه مستديم)، وكانوا يتبعون نظام تدوير السلع حسب حداثة الإنتاج Stock Rotation ؛ يحيث يبيعون أقدم السلع أولاً قبل أن يطرحوا السلع الجديدة في السوق. وقد يرى البعض فيما أنجزه العرب في البرازيل قدرة على اختراع التجارة الشعبية بكافة معالمها وممارساتها.


الخطوة التي تلت ذلك من جانب مُلاّك محلات التجزئة الأثرياء من التجار العرب في شارع 25 مارس في مدينة ساو باولو هي فتح متاجر للبيع بالجملة؛ وذلك في شارع فلورنسا دي أبريو، وهناك كان عليهم أن ينافسوا ملاك المحَالِّ البرتغاليين الذين كرسوا جهودهم في نفس التجارة.


التوجه نحو التصنيع


في النصف الأول من القرن العشرين كان بوسع المرء أن يقيم مصنعًا للملابس برأس مال صغير، يقوم على استخدام أربعة أو خمسة عمال في غرفة مستأجَرة، بالاستعانة بماكينة خياطة قد تكون مستعملة.


وكان هذا النوع من التصنيع يخدم التجارة المتجولة التي كان العرب بارعين فيها في البرازيل. وكان الوضع النموذجي في تلك الفترة أن تقوم الزوجة بحياكة الملابس في بيتها بمساعدة عامل أو اثنين، بينما يقوم الزوج بالتنقل من بيت لبيت لبيع المنتجات. وبهذه الطريقة كانت الأسر العربية تزدهر اقتصاديًّا بما يكفي لإرسال أطفالهم لمدارس وجامعات جيدة المستوى؛ ليصبحوا فيما بعد أطباء ومهندسين. وفي بعض الأحيان كانت دورة الإنتاج والبيع -جملة أو تجزئة- يقوم بها أفراد العائلة دون الاستعانة بأحد من خارجهم إلا في أضيق الحدود.


وباستخدام هذا المنهج في المشروعات التجارية شكَّل المهاجرون السوريون واللبنانيون قوة دافعة في عملية التصنيع البرازيلي في لحظة تاريخية كانت الدولة تسعي خلالها إلى استبدال نمط الاقتصاد القائم على الاستيراد، وتُحِلُّ محلَّه تصنيع المنتجات محليًّا. وقد تم استيراد الآلات الصناعية من الخارج -بتسهيلات ومحفزات حكومية-، وحقَّق الإنتاج الوطني ما اعتُبِر حينَها إنجازًا رائعًا. وقد اتضح من التعداد السكاني الذي أُجرِي في عام 1920 أنَّ من بين 91 مصنعًا يمتلكها المهاجرون السوريون واللبنانيون، ينتج 65 منها الملابسَ، بينما كانت 12 منها ينتج الأنسجة القماشية المصنَّعة.


واعتُبِرَ عَقْدُ العشرينيَّات من القرن الماضي العصر الذهبي لصناعة الملابس في البرازيل، ونظرًا للمخاطر التي تعرضت لها الأعمال التجارية التي كان يتولاها المهاجرون؛ فإنها تأثرت بشدة بالأزمة المالية التي شهدتها الأسواق المالية في عام 1929، حين انهارت ثروات كبيرة بين يوم وليلة. وحين نعود للوراء -في تلك الفترة- سنجد أن بعض أبناء المهاجرين العرب قد تحملوا بشجاعة ومسؤولية أزمة انهيار مؤسسات آبائهم، على خلاف آخرين في تلك الدولة. وطِبقًا لما ذهب إليه تروزي فإنَّ "الوضع الاقتصادي النسبي للجالية العربية قد حافظ على نفسه.


وفي عام 1934، كان السوريون واللبنانيون -من بين المجموعات العِرقية الرئيسية في ساو باولو- يمتلكون بعض أكبر المصانع في المدينة. وبشكل عام كان وضعهم جيدًا للغاية بين رجال الصناعة في ساو باولو.


وفي حقيقة الأمر تمكن السوريون واللبنانيون في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين من تدعيم وتنمية أعمالهم التجارية؛ مما دعَّم القوة الاقتصادية الإجمالية للجالية العربية. وقد احتكروا من الناحية العملية قطاع تجارة التجزئة في منتجات الأقمشة، إضافة إلى صناعات صغيرة مرتبطة بالأقمشة والملابس، وكان لهم تميز واضح بين أبناء الجاليات الأخرى العاملة في قطاع تجارة الجملة في هذا النوع من المنتجات. وفي أربعينيَّات القرن العشرين، كانت الجالية العربية تمتلك ما يزيد عن 50 % من إجمالي رأس المال المستَثمَر في صناعة المنسوجات في ولاية ساو باولو.


السِّمات الاجتماعية والاقتصادية


عملت الجالية العربية خارج المجالات التقليدية للنشاط الزراعي من ناحية، وخارج المجال الفني لمهن الطب والهندسة من ناحية أخرى، ومع ذلك ضمنت لنفسها في النصف الأول من القرن العشرين ازدهارًا كبيرًا، وتمكَّن بعض أبناء هذه الجالية من تحقيق ثروات ومراتب اجتماعية مرموقة، وهو ما أسهم بالتالي في تحسين الصورة المرتبطة سابقًا بـ"التاجر التركي" التي تكونت عن البائع العربي الجائل.





عملت الجالية العربية خارج المجالات التقليدية للنشاط الزراعي من ناحية، وخارج المجال الفني لمهن الطب والهندسة من ناحية أخرى، ومع ذلك ضمنت لنفسها في النصف الأول من القرن العشرين ازدهارًا كبيرًا
وعلى أية حال، ورغم أن الناظر من خارج الطبقة يعتقد أن "الجالية العربية" متجانسة إلا أن الواقع يشير إلى أن هذه الجالية شهدت ترتيبًا طبقيًّا بشكل متزايد؛ حيث شهدت الجالية تركيبًا هرميًّا معقَّدًا نما بالتدريج على مستوى المكانة والنفوذ داخل هذه الجالية، ولم يأتِ ذلك الترتيب الهرمي على أسس من الانتماءات الدينية، أو الأصل الجغرافي، أو الهُويَّة السياسية في البلد الأم للمهاجرين، بل كان المعيار وراء هذا الترتيب هو الفرق في مستوى النمو الاقتصادي بين العائلات في المجتمع الجديد.

كانت الثروات الصناعية والتجارية الكبرى التي تكوَّنت في أربعينيَّات وخمسينيَّات القرن العشرين تنتمي إلى أولئك المهاجرين الذين وصلوا في نهاية القرن التاسع عشر أو البدايات المبكرة للقرن العشرين، ممَّن قطعوا الطريق من أوله، من البيع التجوالي إلى إقامة المحال التجارية الصغيرة، ثم امتلاك محال تجارة الجملة، انتهاء بإقامة المنشآت الصناعية. كان هذا هو الطريق الذي سار فيه اللبنانيون المهاجرون إلى البرازيل وفي مقدمتهم أسرة يافت من لبنان (2)، وأسرتي عبد الله وسالم من سوريا.


وبالنسبة لأولئك الذين وصلوا في الربع الثاني من القرن العشرين، خاصة بعد عام 1929م، كانت فرص صناعة الثروة في البرازيل قد صارت أقل، وأصبح الوضع الاجتماعي-الاقتصادي المتاح لهم في البرازيل يعتمد بدرجة كبيرة على الظروف التي أتوا منها في بلادهم الأصلية.


وبمجرد أن تمكن الأعضاء البارزون في الجالية العربية من الاستفادة من وضعهم الاجتماعي-الاقتصادي بالدرجة التي سمحت لهم بالبدء في تكوين مؤسسات جلبت لهم ثروة ورفاهية، أصبحت الظروف مهيأة بعد ذلك لبروز الفروقات الداخلية بين أفراد الجالية على أسس إقليمية تبعًا للأماكن التي أتى منها المهاجرون (إقليم حضري أم منطقة ريفية وقروية).


وعلى نحو ما أشرنا فإن أغلبية عرب البرازيل مسيحيون ومن بينهم نسبة صغيرة من المسلمين.


وهناك العديد من المؤسسات الدينية التي أنشأتها الجالية العربية في ساو باولو على أسس دينية، والتي يمكن أن تعطينا لمحة عن التركيب الديني لهذه الجالية، مثل الجمعية الخيرية المارونية (تأسست سنة 1897)، وجمعية الحِمْصِيين الشبَّان للأعمال الخيرية (تأسست سنة 1908)، وجمعية "الأيادي البيضاء" الخيرية (تأسست سنة 1912)، وجمعية "السيدات" الخيرية (1918)، وجمعية بيروت الخيرية (1920)، وجمعية أنطاكية الخيرية (1927)، وجمعية المسلمين الخيرية (1929).


ثم تأسست بعد ذلك جمعيات تعليمية على غِرار المدرسة الشرقية (1912)، والمدرسة السورية-البرازيلية (1917)، والمدرسة السورية الحديثة (1919)، ومدرسة سان ميغيل (1922). ثم ظهرت النوادي الرياضية مثل النادي السوري الرياضي (1917)، ونادي حِمْص (1920)، ونادي زَحْلة الرياضي (1922)، ونادي جبل لبنان للرياضة (1934)، ونادي راشيا (1936) وغيرها. ومن بين المؤسسات الأخرى تم تأسيس "دار المسنين" (1935)، والمصحة السورية ( 1944).


المشاركة الثقافية


وعلى نحو ما ذكر تروزي، فإنَّ النزاع بين المؤسسات العربية كان دافعه الانقسامات الطائفية الداخلية، والتي كانت مرتبطة بخلافات العرب في أوطانهم التي أتوا منها، والتي كانت تُثار غالبًا بعد وصول رجل دين أو مفكر. وكان أبرز أشكال الانشقاق وأطولها ما وقع بين المؤسسات السورية واللبنانية، خاصة أن المهاجرين من هاتين الدولتين كانوا يمثلون أغلب الهجرة العربية، وكانت فترة الهجرة التي تمت إلى البرازيل هي التي جرت خلالها مراحل الصراع من أجل استقلال هاتين الدولتين عن الاحتلال الفرنسي.
فعلى سبيل المثال، شهدت بداية الحرب العالمية الثانية نزاعًا حادًّا على اسم المستشفى الرئيسية التي أنشاها أعضاء الجالية العربية؛ ففي ظلِّ اعتراض بعض الأعضاء المؤسسين والمموِّلين الرئيسيين للمستشفى؛ فإن اسم المستشفى تحوَّل من المستشفى السوري إلى المستشفى السوري-اللبناني، وما يزال هذا المستشفى واحدًا من أهم مستشفيات مدينة ساو باولو، إلى جانب مستشفى ألبرت أينشتاين الذي أسسته الجالية اليهودية والمستشفى الخيري البرتغالي. وبعد تلك الفترة فضَّل الأثرياء السوريون الاستثمار في مستشفى الأمراض الصدرية، ويُعرَف اليوم باسم "مستشفي القلب"، وهو أيضًا واحد من أهم مستشفيات ساو باولو.


وقد استقبلت البرازيل مثقفين عرب ممن انخرطوا في حركة التحرير القومي ومشروعات النهضة الثقافية، من أولئك الذين لاقوا التضييق السياسي، وتعرَّضوا في بعض الأحيان للنفي، ولم يكن أمامهم خيار سوى الهروب من قبضة الحكم العثماني.





تحقق الاندماج العربي في المجتمع البرازيلي، من شماله إلى جنوبه، بناءً على جهد واعٍ وراغب في الاندماج؛ فقد تقدَّم أبناؤهم للدراسة في نفس المدارس التي يتعلم فيها الطلاب البرازيليون، وشاركوا بفاعلية في كافة المناسبات الحياتية الاجتماعية والسياسية في البرازيل
لذا فقد تطورت بشكل لافت الصحف والمجلات التي نشرتها الجالية العربية؛ ففي البداية كانت هذه الصحف والمجلات ناطقة بالعربية، وكان كثير من موضوعاتها يركز على دعم قضية استقلال سوريا ولبنان عن الاستعمار الفرنسي، وقامت هذه الصحف بتقديم تقارير عن تطور الأوضاع السياسية في هاتين الدولتين، كما عبَّرت عن آراء محلية تجاه تلك القضايا. ونشرت هذه الصحف كذلك أبرز إبداعات أدب "المهجر" العربي في البرازيل.

وقد ظهرت أُولى الصحف العربية في ريو دي جانيرو في عام 1896م وفي ساو باولو في 1898م وأصدرها مثقفون ممن تلقوا تعليمهم في الجامعة الأميركية في بيروت. وفي عام 1900م أسَّس نعوم لبكي المنتدى الأدبي الذي عُرف باسم "روَّاق المعرِّي"، وبعد أن عاد نعوم لبكي إلى لبنان ليصبح عضوًا في البرلمان تولَّى إدارة المنتدى الطبيبان سعيد أبو جمرة، وفضلو حيدر.  وفيما بين عامي 1890م و1940م كان هناك ما لا يقلُّ عن 394 صحيفة ومجلة تصدر في البرازيل. 


وتبعًا لما ذهب إليه البروفيسور فارغينس؛ فإنَّ أكبر مركزين أدبيين للعرب في القرن العشرين خارج العالم العربي، كانا في الولايات المتحدة والبرازيل، لكن منذ عام 1931م وبعد وفاة أحد أبرز شعراء أميركا الشمالية فَقَدَ الأدب العربي في الولايات المتحدة صدارته لصالح نظيره في البرازيل. وهكذا أصبحت "العُصبة الأدبية الأندلسية" في البرازيل أكبر جماعة أدبية عربية في أميركا الجنوبية، وكان من بين أبرز روادها ميشيل نعمان معلوف، ونضير زيتون، ونصر سمعان، وداود شكر، وحسني غراب، وإسكندر كرباج، وشكر الله الجر. وقد نشرت هذه العصبة دورية "مجلة العُصبة" والتي استمرت في الصدور حتي عام 1953م، وكانت تُوزَّع بنجاح في كافة أرجاء دول أميركا الجنوبية والعالم العربي.


ويرى الكاتب الجزائري سليمان زغيدور أن مدرسة الأدب البرازيلي الحداثية أثرت على الأدب العربي الحديث بدرجة فاقت تأثير مدرسة أميركا الشمالية. ويعود ذلك إلى سببين: الأول مرده حقيقة أن الجالية السورية-اللبنانية التي عاشت في البرازيل كانت كثيفة من حيث عدد المنتمين إليها وعدد الإصدارات (صحف، دوريات، مجلات، ونوادٍ أدبية)، والسبب الثاني مرده العلاقة الوثيقة التي قامت بين هذه الدوائر الأدبية العربية ونظيرتها البرازيلية المحلية التي كانت ذات توجه حداثي، وكانت حركة مزدهرة في ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن العشرين.


ورغم أن القصائد التي كتبها شعراء المهجر العرب في البرازيل تضم حنينًا بالغًا للأوطان، إلا أنهم سرعان ما أظهروا تكيُّفًا أدبيًّا مع واقعهم الجديد. وانتظمت العلاقات البينية داخل الجالية العربية من خلال النوادي الأدبية والمدارس وغيرها، كما احتفظت الطوائف الداخلية داخل هذه الجالية بزواج فيما بينها لا يتجاوز الطائفة. ولكن مع ذلك كان هناك حقيقة أن المهاجرين السوريين واللبنانيين كيَّفوا أنفسهم بسرعة بالغة واندمجوا في المجتمع البرازيلي.


ولم يكن المسيحيون أو المسلمون يعانون من أية تفرقة عنصرية داخل المجتمع البرازيلي. 


وكان لذلك علاقة وثيقة بالأوضاع الداخلية في البرازيل، فالدولة في الواقع كانت تستقبل أعدادًا كبيرة من المهاجرين من مختلف الجنسيات والجذور، فضلاً عن حقيقة أن لهؤلاء المهاجرين دورًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا كانت البرازيل تحتاجه.


كما ارتبط ذلك القَدْر من الاستقرار في حياة الجالية العربية بسمات المهاجرين أنفسهم، وكَوْن معظمهم من المسيحيين الذين كان بوسعهم الاندماج في المجتمع البرازيلي المسيحي دون أية صعوبات، لكن مما ساعد على ذلك أيضًا أن المهاجرين العرب قد أظهروا بعد بضعة عقود -وبصفة خاصة منذ بداية القرن العشرين- جهدًا واعيًا للاندماج في الحياة البرازيلية، في الوقت الذي حافظوا فيه على بعض التقاليد والعادات والقيم العربية، وفي ذلك يقول المهاجر العربي نعمي يافت: "صحيح أنه يجب علينا أن نحافظ على خصالنا الشرقية المتعلقة بتقاليد عائلاتنا وتقاليدنا الأصيلة، ومحبة أوطاننا؛ كَيْ نساعد سوريا التي تعاني من الاحتلال التركي. لكن من الحقيقي أيضًا أن نمضيَ متعاونين مع سكان البرازيل، ونقترب منهم ونتبنَّى منهم بعض طرقهم في الحياة. علينا أن نتحد مع الأحداث القومية البرازيلية، في السرَّاء والضرَّاء. وذلك من أجل إدارة رشيدة ودعم كل الجهود الساعية إلى نهضة الأمة.


وفي النهاية فإن هناك الكثير المختفي تحت العموميات التي ذكرناها والتي تُظهر اندماجًا ناجحًا في المجتمع البرازيلي، وخاصة تلك التعقيدات التي ترافق أية موجه من موجات الهجرة، وأي جيل يُولد في أرض ووطن جديدَيْن، على نحو ما يعبر عن ذلك بوضوح أدب "المهجر" العربي في البرازيل؛ فالقصائد التي كُتبت أولا بالعربية، ثم بالبرتغالية لاحقًا، تعكس في الغالب تنازعًا لا مفرَّ منه بين الرغبة في الاندماج في الوطن البرازيلي الجديد وحلم العودة للوطن الأم، وأحيانًا صعوبة تحقيق أيٍّ من الخيارين.


لقد تحقق الاندماج العربي في المجتمع البرازيلي، من شماله إلى جنوبه، وخاصة في ولاية ساو باولو، بناءً على جهد واعٍ ومستمر وراغب حقيقةً في الاندماج؛ فقد تقدَّم أبناؤهم للدراسة في نفس المدارس التي يتعلم فيها الطلاب البرازيليون، وهناك تعلموا اللغة البرتغالية كلغة مشتركة بين الجميع، وشاركوا بفاعلية في كافة المناسبات الحياتية الاجتماعية والسياسية في البرازيل. وقد تواكب ذلك مع التقدير والاحترام الذي اكتسبته الجالية العربية في المجتمع البرازيلي، وكذلك المؤسسات التي أقاموها.


المشاركة السياسية


منذ بداية القرن العشرين، وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، لم تكن هناك فرصة لعرب البرازيل، أو لغيرهم من المهاجرين حديثا، للانخراط في السياسة المحلية البرازيلية، وذلك بسبب الانشغال اليومي بالصراع مع بيئة حياتية جديدة. غير أن ذلك سرعان ما تغير مع أربعينيات القرن العشرين وذلك حين بدأ المنحدرون من أصول عربية المنافسة على الانتخابات البرلمانية. وفي ستينيات القرن العشرين كانت نسبة المنحدرين من أصول سورية ولبنانية من المشاركين في العمل السياسي (أعضاء في البرلمان، أو عُمد المدن، أو حكام الولايات) أعلى من نسبة عرب البرازيل لإجمالي سكان البلاد.





دخول الجالية العربية إلى حلبة السياسة البرازيلية كان بفضل ما أظهرته من اندماج اجتماعي ملحوظ؛ إذ نجح عرب البرازيل من اللبنانيين والسوريين -دون أن يفقدوا هويتهم- في أن يصبحوا جزءا من النسيج الاجتماعي البرازيلي
لم يكن المرشحون السياسيون من العرب-ممن تم انتخابهم ووصلوا إلى مناصب سياسية- يعتمدون على أصوات الجالية العربية فقط، ولم يكونوا يرفعوا شعارات تمثيل مصالح العرب. فبحسب دراسة أوزوالدو تروزي فإن دخول الجالية العربية إلى حلبة السياسة البرازيلية كان بفضل ما أظهرته من اندماج اجتماعي ملحوظ؛ إذ نجح عرب البرازيل من اللبنانيين والسوريين -دون أن يفقدوا هويتهم- في أن يصبحوا جزءا من النسيج الاجتماعي البرازيلي.

وبمقارنة هذه السمات بتوجهات مجتمعات المهاجرين الأخرى يلاحظ عضو البرلمان السابق كاميلو أشكار أن "لعرب البرازيل سمات مختلف عن بقية الجاليات جعلتهم لا يشكِّلون مجموعة منغلقة على نفسها، أو منعزلة عرقيا أو دينيا عن المجتمع البرازيلي؛ فبمجرد وصولهم إلى البرازيل سرعان ما تأقلموا مع البيئة الثقافية المحلية، ولم ينغلقوا عل نحو ما فعلت جاليات أخرى، مثل: اليابانيين أو الأقليات الأوربية المهاجرة".


وفي عام 1962 أصبح 10 مرشحين من أصول عربية ممثلين عن الشعب البرازيلي في البرلمان الوطني (من بين 50 عضو وهو ما يعني أن عرب البرازيل في تلك السنة احتلوا 17 % من المقاعد البرلمانية). كما احتل عرب البرازيل 11 مقعدا في مجلس ولاية ساو باولو (من بين 115 مقعدا أي بنسبة 10 % تقريبا). وفي انتخابات عام 1966 وصل 7 مرشحين عرب إلى مجلس البرلمان الوطني (أي بنسبة 12 % من إجماليي المقاعد)، بينما وصل 19 منهم إلى مجلس ولاية ساو باولو (أي بنسبة 17 %). ومنذ ذلك التاريخ "صارت الجالية تمثل نفسها سياسيا بأكثر من نسبتها لإجمالي السكان، ولم يكن ذلك قاصرا على ولاية ساو باولو فحسب بل شمل الولايات الأخرى.


وفي عام 1987؛ فإن ما سُمي في البرلمان بالمجموعة البرازيلية–اللبنانية حصلت على 33 مقعدا في مجلس النواب، وسبعة مقاعد في مجلس الشيوخ، واثنين من مناصب حكام الولايات. وبينما نجح ذوو الأصول العربية في شق طريقهم إلى السياسة البرازيلية؛ فإنهم على الجانب الآخر لم يُظهروا نزوعا نحو الاهتمام بالقضايا ذات الصلة بالشؤون العربية. غير أنه في عام 2007 بادر البرلماني نيلسون موراو -مدفوعا بالمبدأ وليس بالروابط العائلية-، ومدعوما ببرلمانيين آخرين -ليس لأي منهم جذور عربية- (وهم كولبرت مارتن، وسيفيرانو ألفس، وجون مورايس، وأوغسطو كارفالو) بالإعلان رسميا عن تشكيل "المجموعة البرلمانية للبرازيل والدول العربية".


ويوجد اليوم على الأقل 16 عضوا في مجلس النواب من ذوي الأصول العربية ممن لا يشاركون في أنشطة تلك المجموعة، ولم يُظهر أي منهم دعما لانعقاد قمة البرازيل والعالم العربي، أو قضية العرب أمام إسرائيل، كما لم يسهموا بتقديم أي دعم لغزة أو للمهاجرين الفلسطينيين في البرازيل.


وفي الوقت الحاضر هناك في مجلس ولاية ساو باولو 11 عضوا من أصل عربي يرتبطون في تشكيل واحد، لكن أيًّا منهم لا يمثل المجموعة البرازيلية العربية. ويُعتبر "سعيد مراد" واحدا من هؤلاء -وهو مؤسس تجمع ساو باولو لإحياء الذكري السنوية ليوم التضامن مع فلسطين، الموافق 29 نوفمبر/تشرين الثاني-. وتجدر الإشارة أيضا في ساو باولو إلى "جميل مراد" كواحد من السياسيين ذوي الأصول العربية ممن كافحوا لتشكيل قاعدة برلمانية لدعم "القضية العربية".


ولا يتمتع العرب بحضور ملموس في البرلمان فقط، بل ثمَّةَ حضور عربي مميز عند كافة المستويات السياسية في مجالس المحليات والولايات والمجالس الفيدرالية. وعلى أية حال فإن هناك ضَعفا بالغا في التنسيق بين مجموعات البرلمانيين العرب والمنظمات العربية أو الإسلامية في المجتمع المدني، فضلا عن غياب ذلك التنسيق بين تلك المنظمات والجالية العربية نفسها.


وبصفة عامة يمكن القول: إن النجاح الذي حققه عرب البرازيل في المسار السياسي قد تم بحكم السعي لتحقيق المصالح الداخلية في المقام الأول وليس لتحقيق أية أجندة ذات علاقة بالقضايا العربية في الشرق الأوسط، ولعل ذلك في حد ذاته ما يعطي لعرب البرازيل دورا كبيرا في الإسهام في المعترك السياسي البرازيلي وتفاصيل شؤونه الداخلية.


وعلى مستوى المجتمع المدني، هناك أكثر من مائة منظمة إسلامية، أغلبها سني المذهب، وتتحد جميعها ضمن الاتحاد الوطني الإسلامي (União Nacional Islâmica – UNI)، كما أن هناك العديد من المنظمات العربية، مثل الاتحاد الفيدرالي للمنظمات العربية-البرازيلية. ويُعتبر "معهد الثقافة العربية" واحدا من أحدث تلك المنظمات، وقد تشكل هذا المعهد في عام 2003-2004 بعد وفاة المفكر الكبير إدوارد سعيد، وفي أعقاب تزايد إدراك المثقفين البرازيليين -في ظل الصورة المشوَّهة والمغلوطة عن العرب في وسائل الإعلام- لأهمية تعزيز معرفة البرازيليين بالثقافة العربية، ودور العرب في التاريخ، وإسهامهم في الحضارة الإنسانية.
__________________________
أرليني كليميشا، مؤرخة وأستاذة جامعية تدرس مادة الثقافة العربية ضمن برنامج اللغة العربية وآدابها في قسم اللغات الشرقية بجامعة ساو باولو، ومديرة مركز الدراسات العربية في الجامعة نفسها. لها العديد من الدراسات والأبحاث والكتب عن الثقافة العربية، والحضارة الإسلامية، والأدب العربي. مشهورة بأعمالها الأكاديمية التي أرخت للأقلية العربية في البرازيل ووثقت إسهامها الحضاري في هذا البلد. ترجم النص من الإنجليزية إلى العربية عاطف معتمد عبد الحميد.
(1) أميرك Amrik ـ أو أميركا على نحو ما ينطقها عرب البرازيل ـ هو الاسم الذي حمله مؤخَّرًا معرض فوتوغرافي رائع نظَّمه معهد الثقافة العربية بدعم من وزارة الخارجية البرازيلية. وقد عرض ذلك المعرض لتاريخ الهجرة العربية إلى أميركا اللاتينية من خلال عدسات بعض أمهر وأشهر المصورين في القارة.
(2) تم ذلك بجهود عائلات وأسر أخرى من رواد التصنيع في البرازيل، وربما كانت عائلة يافت (الوافدة من بيروت) من أكثر العائلات ثراء؛ فقد شاركت هذه الأسر في التصنيع الذي شهدته مدينة ساو باولو، خاصة بتأسيس مصانع النسيج وشركات التعدين، وكان لهذه العائلات شرف الريادة في المشاركة في صناعة الصلب المتخصص في تصنيع أقطاب الصلب المؤلَّفة من قطعة واحدة. 


المصادر
Greiber, B.L., Maluf, L.S., Mattar, V.C. 1998. Memórias da Imigração: Libaneses e Sírios em São Paulo., São Paulo: Discurso.
Hajjar, C. F. 1985. Imigração Árabe: 100 Anos de Reflexão. São Paulo: Ícone.
Knowlton, C. 1961. Sírios e Libaneses: Mobilidade social e espacial. São Paulo: Anhembi.
Safady, W. 1966. Cenas e Cenários dos Caminhos de Minha Vida. Belo Horizonte: Santa Maria, 1966.
Sebe. J.C.B.M. 2008. Ser Árabe na Cultura Brasileira: Construção de Identidade. Tiraz. Revista de Estudos Árabes e das Culturas do Oriente Médio. No 5, São Paulo: Humanitas/USP.
Sendlmayer, S. 2004. Perambulações: presença árabe na literatura brasileira. Tiraz. Revista de Estudos Árabes e das Culturas do Oriente Médio. No 1, São Paulo: Humanitas/USP.
Truzzi, O. M. S. 2009. Patrícios: Sírios e Libaneses em São Paulo. São Paulo: Unesp.
Zéghidour, S. 1982. A Poesia Árabe Moderna e o Brasil. São Paulo: Brasiliense.


عودة إلى الصفحة الرئيسية للملف