لا يحتاج إثبات أزمة الأحزاب السياسية في مصر- كما في مختلف البلاد العربية التي تسمح بتعددية مقيدة- إلى برهان؛ فمظاهرها أكثر وضوحا من أن تحتاج إلى البحث عنها. كما أن قادتها أصبحوا أكثر استعدادا للاعتراف بوجودها، بعد أن كانوا ينفونها، وإن ظلوا على حرصهم على تحميل القيود المفروضة عليها المسؤولية الكاملة عن هذه الأزمة. وبالرغم من أن هذه القيود لعبت دورا "تأسيسيا" في إرباك أحزاب المعارضة المصرية، وبالتالي خلق الأزمة التي تفاقمت مع الوقت، فإنه يظل من الصعب تصور إمكان وصول هذه الأزمة إلى ما وصلت إليه بعد 34 عاما على التحول من الواحدية السياسية إلى التعدد الحزبي المقيد بدون اختلالات جوهرية في بناء الأحزاب وطريقة تسييرها.
أولا: مصادر أزمة أحزاب المعارضة
تنبع الأزمة التي كبلت حركة أحزاب المعارضة وحوّلتها إلى ديكور سياسي، من مصدرين رئيسيين أحدهما موضوعي يتعلق بطابع النظام السياسي والبيئة التي تعمل فيها هذه الأحزاب، والآخر ذاتي يتصل بالاختلالات الداخلية فيها بناء وتسييرا وأداء.
1- بيئة الأحزاب كمصدر لأزمتها
تختلف أوضاع الأحزاب السياسية في الدول الديموقراطية عنها في البلاد التي تضطر فيها نظم الحكم التسلطية إلى شيء من الانفتاح السياسي، ولكن في الإطار نفسه الذي لا ينهي هيمنتها على المجتمع.
ويقتضي الأمر هنا، وقفة منهجية سريعة مع النمط التسلطي في النظم السياسية وأهم سماته، كي نفهم كيف وصلت الأحزاب المعارضة في مصر إلى حافة الانهيار؛ فلم يعرف العالم العربي النمط الشمولي الذي شهدته الدول الشيوعية إلا في حالة واحدة هي اليمن الجنوبي السابق. ولكن العالم العربي كان في الواقع مصنعا للنمط التسلطي. وبالرغم من أن معظم علماء السياسة ودارسيها يعتبرون النمط الشمولي أكثر قسوة وأشد جذرية في إهداره لمقومات الحرية، لأنه لا يترك أية مساحة خارجة عن إطاره أو أي حيز خاص يتنفس فيه الناس، فقد ثبت أن النمط التسلطي يترك أثرا أخطر وأفدح في المجتمع.
فالنمط الشمولي، الذي يميز تمييزا صارما بين "رجاله" الذين ينضوون تحت لواء حزبه الواحد أو المهيمن وغيرهم، يشترط في من يلتحق به التزاما كاملا ويمتلك آليات منظمة للتجنيد السياسي، أي يضع قواعد معينة بخلاف النظام التسلطي الذي يفتقد إلى أية قواعد أو معايير. وحتى إذا كانت قواعد النظام الشمولي غير ديموقراطية، فهي أفضل من غياب القواعد بما يؤدى إليه من عشوائية وافتقاد للاتجاه. كما أن وجود قواعد -أيا يكون نوعها- يقلل مستوى الفساد السياسي الذي ثبت أنه يصل إلى ذروته في النمط التسلطي ليطفح على المجتمع برمته، ويشمل الكثير من المثقفين، ويمتد إلى السياسيين الذين لا يلتحقون بالنظام إما لأنهم يرفضونه أو لكونه يستبعدهم.
وهذا يفسر لماذا يكون معارضو النظام الشمولي أقل عرضة للإفساد مقارنة بنظرائهم في النظام التسلطي وأكثر قدرة على تشكيل معارضة تتسم بالمصداقية، كما حدث في كثير من بلاد أوروبا الشرقية في مرحلتها الاشتراكية حتى سقوط حائط برلين عام 1989.
وأهم ما يميز النظامي التسلطي هو قدرته على التجدد وإعادة إنتاج نفسه، في الوقت الذي لا يمتلك النظام الشمولي القدر نفسه من المرونة. وسجل النظام التسلطي في العالم العربي نجاحا قياسيا في هذا المجال منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، حين بدأت تحولات متفاوتة ومتنوعة في اتجاه الانفتاح السياسي الذي أتاح له الصمود أمام رياح الديموقراطية التي هبت على العالم في العقد الأخير من ذلك القرن، عكس النظام الشمولي الذي عصفت به هذه الرياح وانهار في بلاد كثيرة.
فقد ثبت أن النظام التسلطي يمكن أن يستوعب عوامل التغيير التي تدفع في اتجاه الدمقرطة Democratization، عبر انفتاح سياسي جزئي يشمل تعددية حزبية مقيدة ومحكومة من أعلى، تصبح أحزاب المعارضة في ظلها ديكورا لتزيين النظام، ما لم تمتلك إرادة المقاومة والقدرة عليها. فالتعددية المقيدة إذن، هي بمثابة امتداد للنظام التسلطي في صورة أخرى تنطوي على قدر من الانفتاح السياسي الذي يتفاوت مداه من فترة إلى أخرى حسب مقتضيات التعامل مع المشاكل التي تواجهه. ويحدث ذلك عادة حين لا يستطيع النظام التسلطي المغلق المحافظة على شرعيته وتجديدها أو لا يقدر على مواصلة كبت التعدد، فيلجأ إلى انفتاح سياسي جزئي يتوازى في الغالب مع انفتاح اقتصادي أكثر اتساعا.
ويسعى النظام التسلطي المنفتح جزئيا (المعدل) إلى تصوير حاله كما لو كان نظاما ديمقراطيا، رغم أن الانفتاح الذي طرأ عليه يظل محدودا. ويمكن إجراء هذه المقارنة بين النظام التسلطي المغلق والنظام التسلطي المنفتح – جزئيا – والذي سنطلق عليه هنا لدواعي التمييز نظاما تعدديا مقيدا.
مقارنة بين النمط التسلطي المغلق والنمط التعددي المقيد
|
النمط التسلطي المغلق |
النمط التعددي المقيد |
النظام الحزبي |
- نظام حزب واحد أو نظام لا حزبي. - حظر إنشاء أحزاب سياسية، أو السماح ببعضها وإدماجها في كيان يهيمن عليه الحزب الحاكم. |
- تعدد حزبي محكوم من أعلى.
- حرمان قوى وتيارات أساسية من تشكيل أحزاب. |
2- الاختلالات الداخلية في المعارضة الحزبية
أ- ضعف التكوين وهشاشة البناء
لا تعتبر مصر من البلاد حديثة العهد بالظاهرة الحزبية، فقد عرفت هذه الظاهرة بمعناها الحديث منذ ما يقرب من قرن كامل من الزمن، بل شهدت مقدمات لها منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. غير أن التعددية الحزبية لم يقدر لها أن تحقق التراكم الضروري كي تنضج وتترسخ. وكان الانقطاع الذي حدث في هذه التعددية بعد ثورة 1952 مؤثرا بعمق عليها. وظهر هذا الأثر واضحا عندما بدأ التحول إلى التعددية المقيدة في منتصف سبعينيات القرن العشرين.
ولعل أهم ما ترتب على تدمير مقومات التعددية في مصر هو ضعف تكوين النخبة السياسية والثقافية. فما إن بدأ الانتقال نحو التعددية المقيدة حتى تبين أن هذه النخب أضعف من أن تحمل على كاهلها أعباء بناء نظام تعددي قادر على النمو والتطور. فقد ذهب بعضها بعيدا في مساومات غير مجدية مع نظام الحكم، وتخبط بعض آخر بين المواجهة والمهادنة، وقنعت كلها في النهاية بدور "كومبارس". بدت هذه النخب عاجزة عن المبادرة والفعل المؤثر، وأسيرة ردود فعل غلب عليها الطابع العشوائي، الأمر الذي أدخل التعددية الوليدة في أزمات مبكرة.
كما ظهر أن هذه النخب تعاني من محدودية المعرفة العامة في عصر لم يعد العمل الحزبي فيه خطبا عصماء وشعارات منمقة. لم تكن هذه النخب مؤهلة لبناء أحزاب قادرة على تقديم برامج وطرح سياسات محددة بديلة، وتكوين كوادر على مستوى مرتفع من المعرفة. ولم تكن مدركة أن الأحزاب الفاعلة في هذا العصر تعتمد على قواعد معلومات واسعة، ومراكز أبحاث متطورة، ومتابعة دقيقة لما يحدث حولها في مجتمعها وفى العالم.
بطبيعة الحال كان هناك المؤهلون لذلك والقادرون عليه في مختلف الأحزاب المعارضة، ولكنهم كانوا إما أقل عددا أو أضعف نفوذا، واستسلموا سريعا فاستقال معظمهم واحتفظ من لم يستقيلوا بآرائهم لأنفسهم. وكلما حاول "قادمون جدد" إلى الأحزاب إصلاح ما يمكن إصلاحه فيها وجدوا الطريق مغلقا وأدركوا أن محاولة فتحه تحتاج إلى نضال طويل غير مضمونة نتائجه، وقد تؤدي إلى صدام يعَّرض الحزب إلى خطر حله أو تجميد نشاطه، فقعدوا عن المحاولة.
وليس فقط التكوين المعرفي للنخب الحزبية هو الذي يعاني ضعفا شديدا، فكذلك الحال بالنسبة إلى التكوين الأخلاقي الذي يظهر ضعفه ليس فقط في الفساد الذي ضرب قطاعات من هذه النخب، ولكن أيضا في ميل أعداد متزايدة من هذه النخب إلى نفاق رؤساء الأحزاب والحلقة المحيطة بهم بمن فيهم الموظفون الإداريون في "السكرتاريات" الخاصة لهؤلاء الرؤساء. وكم يبدو المشهد عبثيا عندما ينضم شخص ذو حيثية ما إلى حزب معارض لينافق رئيسه طمعا فى "منصب" حزبي أو للعمل في شركات يملكها.
ب- غياب أو ضعف الديموقراطية داخل الأحزاب
ويقودنا ذلك إلى العنصر الرئيسي الثاني للاختلالات الداخلية في الأحزاب، وهو الطابع الديكتاتوري الذي اتسمت به الأحزاب. وبالرغم من أن مستوى الديموقراطية المفترض وجوده في داخل الحزب يعتبر أقل من ذلك الذي ينبغي أن يتوفر في النظام السياسي، بسبب حاجة الحزب إلى التماسك لخوض التنافس المستمر مع غيره من الأحزاب، يظل حد أدنى من الديموقراطية شرطا لا غنى عنه لضمان هذا التماسك وحل الخلافات الداخلية بطريقة مرضية. والملاحظ أن النظرية التعددية لا تفرد مبحثا مستقلا للديموقراطية داخل الأحزاب السياسية بشكل منفصل عن ديموقراطية المنظمات غير الحكومية بوجه عام. ولكن إسهامات بارزة في هذه النظرية تصل إلى أن إمكانات توفر الديموقراطية داخل الأحزاب وجماعات الضغط السياسية تعتبر أعلى من غيرها في المنظمات الأخرى.
والحال أن مستوى الديموقراطية داخل الأحزاب السياسية المصرية كان أقل من أن يسمح بإدارة رشيدة للخلافات في أوساط نخبة الحزب ونشطائه؛ فالمشكلة الجوهرية لهذه الأحزاب في مجملها تتصل بكيفية تسيير المستوى العلوي أو القيادي فيها، أكثر مما ترتبط بتسيير الحزب بشكل عام؛ فغياب أو ضعف الآليات الديموقراطية في إدارة العلاقة بين المستويات التنظيمية للحزب أمر مألوف في الظاهرة الحزبية إجمالا. لكن مساوئه لا تقارن بعجز المستوى القيادي (نخبة الحزب) عن تنظيم العلاقة بين عناصره؛ فآفة الأحزاب المعارضة المصرية تتعلق بضعف أو غياب القدرة على حل الخلافات بين عناصر قيادية قبل أن تنفجر؛ فمن النادر أن يواجه حزب في مصر أزمة حادة في العلاقة بين قيادته وقواعده. وهذا النوع من الخلاف قليل في الأحزاب بشكل عام. فالتنافس بين الأحزاب يخلق بطبيعته تعبئة تقل في ظلها إمكانية تصاعد أي توترات قد تظهر على المستوى الرأسي. وتقل هذه الإمكانية أكثر في الأحزاب المصرية بسبب ضعف الميل العام للمشاركة، بما في ذلك مشاركة المستويات القاعدية لهذه الأحزاب.
ولذلك تتركز أزمة كثير من الأحزاب في مستوياتها القيادية؛ حيث العجز عن إدارة الخلافات والنزوع "للشخصنة" و"الشللية". وهذا هو النقد المنصف الذي يمكن توجيهه لهذه الأحزاب بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال. فإذا كانت أساليب التسيير غير الديموقراطي تسود الأحزاب عموما، إلا أنه من الصعب أن نساوي بين أحزاب تنفجر أو معرضة للانفجار من داخلها، وأخرى تستطيع تجنب ذلك عبر أساليب متحضرة حديثة – وليس بالضرورة ديموقراطية – لإدارة الخلافات بين قيادييها.
ثانيا: أحزاب المعارضة المصرية: 34 عاما عجافا
أربعة وثلاثون عاما كاملة تمر في نوفمبر/تشرين الثاني 2010 على قيام أحزاب سياسية متعددة في مصر. فقد افتتح الرئيس الراحل أنور السادات الدورة البرلمانية في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1976 بإعلان تحويل التنظيمات التي كانت قد نشأت في إطار الاتحاد الاشتراكي العربي (التنظيم السياسي الواحد) إلي أحزاب. وكانت هذه الأحزاب الثلاثة (مصر العربي الاشتراكي، والتجمع الوطني التقدمي الوحدوي، والأحرار الاشتراكيون) هي فاتحة الحياة الحزبية الجديدة.
وأربعة وثلاثون عاما تعتبر أكثر من كافية لنضج التنظيم الحزبي؛ فلا يحتاج الحزب إلى أكثر من عامين لكي يشب عن الطوق، وإلى خمس سنوات لينضج، أو ليتضح أنه غير قادر علي أن يكبر. وفي النظم التعددية المقيدة من أعلي (كما هي حال مصر)، يمكن أن تمتد هذه الفترة إلى عشر سنوات. ولذلك كان مفترضا أن يصل معظم الأحزاب المصرية المعارضة أو بالأحرى غير الحاكمة، والتي يبلغ عددها 23 حزبا، إلي مرحلة النضج والتأثير قبل حلول الذكرى الرابعة والثلاثين لإعلان قيام الأحزاب. فهناك 14 حزبا مر عليها أكثر من عشرة أعوام، منها ثلاثة بلغ عمرها أربعة وثلاثين عاما، وثلاثة أخرى في عمر الحادية والثلاثين (الوفد والوطني والعمل)، وإن كان حزب الوفد فقد خمس سنوات في ظل تجميد اختياري، وحزب العمل نحو خمسة عشر عاما في حالة تجميد قسري ما زالت مستمرة حتى الآن.
ومن بين الأحزاب الثمانية الأخرى، التي مضى عليها أكثر من عشرة أعوام، أربعة أصابها شلل مبكر بسبب تكالب بعض مؤسسيها علي مواقع النفوذ فيها وتدخل لجنة شئون الأحزاب في شؤونها، وهى مصر الفتاة الذي نشأ عام 1989، والخضر والشعبي الديموقراطي (1990)، والعدالة الاجتماعية (1993). أما الأحزاب الأربعة الأخرى فأهمها الحزب الناصري (1992)، بالرغم من أن حزبين سبقاه في النشأة وهما الأمة (1983) والاتحادي الديموقراطي (1990)، بالإضافة إلى التكافل الاجتماعي الذي تأسس في 1995. ولأن الفترة ما بين العامين 1996 و1999 خلت من تأسيس أحزاب، فالأحزاب التسعة الباقية لا يزيد عمر أقدمها (الوفاق القومي) على عشر سنوات، ثم حزب (مصر 2000) تسعة أعوام، وحزب (الجيل الديموقراطي) ثماني سنوات. أما الأحزاب الأحدث فيصل عمر اثنين منها (المحافظين والجمهوري الحر) إلى خمسة أعوام، بينما أكمل حزبان آخران (السلام الديموقراطي وشباب مصر) ستة أعوام، ويبلغ عمر حزبين غيرهما (الغد والدستوري الديموقراطي) سبعة أعوام.
ولكن هذا التفاوت الشديد في أعمار الأحزاب المصرية لا نجد مثله في أحجامها وقدرتها على النفاذ إلي قلب المجتمع والاتصال بفئاته وشرائحه المختلفة، بالرغم من أن بعضها كان موجودا في الشارع في مرحلته التأسيسية، ثم انحسر هذا الوجود بشكل سريع. فليس هناك فرق كبير الآن بين أحزاب المعارضة التي تعبر عن اتجاهات لها تاريخها مثل الوفد والتجمع والناصري والغد والجبهة الديموقراطية، والأحزاب الأخرى التي تعتبر في معظمها أحزاب أشخاص وشلل وعائلات؛ فلم تحافظ الأحزاب التي تسمى رئيسية على العضوية التي بدأت بها، سواء على المستوى المركزي أو الوسيط أو القاعدي. كما لم تعوضها بغيرها لأن عضويتها الأولى تكونت من خلال الإقبال عليها، وليس عن طريق توجهها إلى الناس حيث هم إلا في أقل القليل.
ولذلك فحين انصرف من أقبلوا، لم يكن لديها ما يؤهلها للتعويض عنهم. وكان للقيود الإدارية والأمنية التي فُرضت عليها أثر كبير في ذلك. ولكن كان لضعف الديموقراطية في داخلها، وغيابها تماما عن بعضها، وحدَّة الصراعات بين قادتها ومؤسسيها، أثر لا يقل أهمية. ومن المفارقات التي يندر مثلها في أي نظام سياسي أن يتساوى في الضعف والهوان الآن حزب أقبل عليه عند تأسيسه أكثر من أربعمائة ألف رغبوا في الانضمام إليه حين كان عدد سكان مصر أقل من 40 مليونا ثم انصرف غالبيتهم الساحقة عنه (حزب الوفد الجديد)، وأحزاب لم يزد عدد أعضائها في أي يوم على مؤسسي الحزب الوطني القديم قبل قرن كامل من الزمن (1907) والذين كان عددهم 250 عضوا، أو مؤسسي حزب الأمة القديم في العام نفسه وعددهم 108 أعضاء.
وهكذا تختم أحزاب المعارضة المصرية بمختلف اتجاهاتها العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وهي في حالة ضعف وتشتت وفقدان للاتجاه. تحمل هذه المعارضة على كاهلها ميراث أكثر من ثلاثين عامًا من الإحباط. فلم تمض أشهر على بداية التحول من التنظيم السياسي الواحد إلى تعدد الأحزاب عام 1976 حتى تبين أن ثورة التوقعات التي اقترنت بهذا التحول أبعد ما تكون عن الواقع.
كانت الفجوة واسعة بين هدف نظام الرئيس أنور السادات من هذا التحول وتطلعات كثير من نخب المعارضة سواء التي شاركت في تأسيس الأحزاب (التجمع والأحرار ثم الوفد والعمل 76 – 1978)، أو التي بقيت خارج إطار العملية السياسية الجديدة حينئذ وطمحت إلى استثمار أجواء الانفتاح التي اقترنت بها لاكتساب أرض جديدة على الساحة السياسية. وفي المسافة بين تعددية مقيدة محكومة من أعلى وتنافس حر مفتوح، دخل بعض الجيل الأول في المعارضة معارك أنهكته وخلقت بداية الإحباط السياسي الذي تراكم يومًا وراء آخر مؤديًا إلى القناعة بدور "الديكور" وتسول بعض مقاعد في البرلمان. كانت القيود على حركة المعارضة شديدة ومنهكة حقًا. ولكن قيادة هذه المعارضة لم تكن لديها القدرات الضرورية للتعامل مع هذه القيود بتكتيكات وأساليب تقلل أثرها المانع للحركة وتقلص احتمالات الصدام بما يترتب عليه من إنهاك.
ولذلك كانت المسؤولية عن التوتر الذي ملأ أجواء الحياة السياسية خلال السنوات الأولى للتعددية الحزبية مشتركة بين نظام الحكم وقيادة المعارضة. أراد النظام "ديكورًا سياسيًا يتزين به أمام شركائه الجدد في الولايات المتحدة وأوروبا (الغربية حينئذ). ولم يكن لدى قيادة المعارضة القدرات القيادية اللازمة لإدارة العلاقة مع هذا النظام باتجاه تحويل "الديكور" الشكلي إلى جزء من البناء نفسه.
ومازال هذا هو جوهر أزمة المعارضة الحزبية المصرية الآن بعد أكثر من ثلاثين عامًا لم تجر خلالها مياه جديدة كثيرة في نهر النظام الحزبي المقيد بالرغم من التغيرات الاجتماعية الواسعة والهائلة التي حدثت. وليس هناك دليل على عمق أزمة هذه المعارضة الحزبية أكثر من تهافت أدائها فى لحظة بالغة الدقة في تاريخ البلاد يثار فيها جدل حول مستقبل الحكم وانتقال السلطة بعد الرئيس حسني مبارك أو في عهده. ويعرف معظم المتابعين لأوضاع أحزاب المعارضة المصرية بدقة والعالمين بأنماط تفاعلاتها الداخلية في اللحظة الراهنة أن هذه الأحزاب لن تكون جزءًا من أية معادلة للتطور السياسي، وإنما قد يستطيع بعضها القيام بدور إذا أدت معادلة جديدة غير منظورة الآن إلى فتح باب ما أمام مشاركة شعبية أوسع وانتخابات برلمانية ورئاسية أكثر حرية ونزاهة.
فالجمود السياسي وغلق المجال العام أمام هذه الأحزاب أفقدها حيويتها. وفى هذه الأجواء اشتد إحباطها وتحولت طاقاتها إلى الداخل فأنتجت خلافات وصراعات ومحنًا أدت إلى تصدع أبنيتها وأفقدتها الحد الأدنى من التماسك. وكلما ازداد الإحباط قلت الحماسة وتراجع الاستعداد للعمل الجاد؛ ولذلك تفتقد أحزاب المعارضة، بما فيها الأحزاب الرئيسية وهي الوفد والتجمع والناصري، برامج بالمعنى الدقيق الذي يتيح الحديث عن استعدادها لتولي السلطة. ولا يرجع ذلك إلى عجز أو عدم قدرة؛ ففي الأحزاب الثلاثة، وعلى هوامشها وبالقرب منها، سياسيون ومثقفون وأكاديميون وخبراء يستطيعون إنتاج برامج معقولة في حدود المستوى العام للأداء في المجتمع المصري الآن، والذي يتراوح بين متوسط وضعيف. كما أن هناك متعاطفين مع بعض هذه الأحزاب يستطيعون خوض انتخابات برلمانية والمنافسة فيها. ولكنهم يحجمون عن ذلك في انتخابات لا تتوفر ضمانات لنزاهتها، ويحيطها مناخ يجعلها شديدة المحلية والاستغراق في أدنى نوع من الخدمات (الخدمات المباشرة من المرشح إلى الناخب)، ويطغي فيها دور المال، ويسودها شراء الأصوات. ولذلك تبدو هذه الأحزاب اليوم في حالة عجز كامل إلى الحد الذي يدفع مكونات المعارضة الجديدة من حركات احتجاجية وجماعات افتراضية "إنترنتية" إما إلى تجاهلها أو إلى مهاجمتها باعتبارها تابعة لنظام الحكم أو الحزب الحاكم.
ثالثا: المعارضة الحزبية: العجز المستديم عن بناء تحالفات
كان مشهد المعارضة الحزبية في صيف 2010، عشية الانتخابات البرلمانية التي ستجري في آخر نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، مضحكا مبكيا. فقد اشتد تخبطها بشأن التعامل مع ائتلاف تم إعلانه عام 2007 بين الأحزاب الأربعة الأكثر أهمية نسبيًا وهي الوفد والتجمع والناصري والجبهة الديموقراطية، وأُطلق عليه الائتلاف الديموقراطي.
فبعد أن ظل هذا الائتلاف حبرًا على ورق لم يظهر منه شيء يدل على وجوده في الواقع، دبت حركة مفاجئة فيه ولكنها عشوائية مرتبكة ومتخبطة؛ فقد فكرت هذه الأحزاب في تفعيله في أوائل عام 2010 عندما شعر قادتها بأن ظهور المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية د. محمد البرادعي في الساحة السياسية، والأمل الذي بثه حين طالب بالتغيير، يمثل تهديدا لهم ولأحزابهم التي رفض "القادم الجديد" إلى العمل المعارض التعامل معها واعتبرها ملحقة بنظام الحكم وحزبه.
وكان الزخم الذي أثاره استقبال حافل حظي به البرادعى في أوساط المعارضة غير الحزبية لدى عودته إلى القاهرة في فبراير 2010 مثيرا لقلق أحزاب المعارضة. كما كانت صراحته في الحديث عن هوانها والتحاقها بنظام الحكم مستفزة لقادة هذه الأحزاب، الذين تنادوا إلى عقد مؤتمر للإصلاح والتغيير. وحين عُقد هذا المؤتمر في أحد الفنادق الفخمة في 12 مارس 2010، بدا التناقض واضحا بين حضوره الذين قلَّ بينهم الشباب أو ندر، ومعظم الناشطين في حملة التغيير التي أطلقها البرادعى وجُلُّهم من الشباب.
ولأن أحزاب "الائتلاف الديموقراطي" حرصت على استعادة وإعادة إنتاج مطالبها الديموقراطية القديمة، لم يكن هناك اختلاف جوهري بين مضمون وثيقة التغيير التي تبناها البرادعى والورقة التي قدمتها هذه الأحزاب في المؤتمر، أو قُلِ الورقتين لأن تحدي البرادعي لم يكن كافيا لتجسير الفجوة التاريخية بين حزب الوفد والحزب الناصري حيث قدم كل منهما ورقة.
وكانت الورقتان متطابقتين تقريبا فيما عدا ديباجات أيديولوجية صارت ساذجة، وخصوصا حين يكون الهدف هو تفعيل ائتلاف بينهما. ومع ذلك كان الفرق الجوهري بين مؤتمر هذه الأحزاب ونشاطات أنصار البرادعى جيليًّا في الأساس؛ فقد ندر الشباب في مؤتمر الأحزاب، بدءا بمن جلسوا على المنصة. في أربع جلسات وعددهم أربعة عشر متحدثا كان أصغرهم سنا في أواخر الخمسينيات من عمره. وهذا هو الفرق الرئيسي بين المعارضة الحزبية وحركات التغيير الجديدة التي تعتمد على شباب أثار البرادعي إلهامهم وأعاد إليهم أملا غامضا في المستقبل.
ولم تمض أسابيع على هذا المؤتمر، الذي استهدف تذكير الناس بأحزاب المعارضة، حتى كانت خلافات صغيرة وغامضة قد دبت بين بعضها، وخصوصا بعد تولى د. السيد البدوي رئاسة حزب الوفد في يونيو 2010 إثر انتخابات كان شكلها مغايرا لمحتواها؛ فقد أُجريت في حرية ونزاهة على نحو أدى إلى إسقاط رئيس الحزب السابق محمود أباظة. ولكنها شهدت شراء للأصوات والذمم لا سابق له في أحزاب المعارضة، التي لم يكن ينقصها إلا استشراء هذا الداء الخبيث فيها لكثرة ما تعانيه من أمراض.
وكان مشهد الخلاف بين حزب الوفد وحزب الجبهة الديموقراطية عضوي الائتلاف بشأن كيفية تفعيله مبكيا مضحكا أيضًا، خصوصا وقد بدا أن رئيسي الحزبين تنافسا في تسفيهه، حين اعتبره رئيس الوفد مولودا ميتا، فيما وصفه رئيس الجبهة بأنه قليل الحيلة ضعيف الفاعلية.
غير أن هذا المشهد ليس جديدا أو غريبا في الحياة السياسية المصرية عموما، وفى الخلافات بين قوى المعارضة الحزبية وغيرها؛ فكثيرة هي المحاولات الفاشلة لبناء تحالفات وائتلافات بين هذه القوى منذ عام 1977 عندما تم تأسيس "الجبهة المصرية للدفاع عن الحريات" عقب انتفاضة يناير/كانون الثاني من العام نفسه. ويرجع ذلك إلى ضعف النزعة التوافقية في الحياة السياسية المصرية، وهشاشة ثقافة التوافق وطغيان الميل إلى الانشقاق والتبعثر، وضعف القدرة على الحوار البنَّاء المثمر الذي يقود إلى تفاهم على نقاط واتفاق على كيفية إدارة الخلاف على غيرها.
ولذلك فكثيرة هي -بل أكثر من أن تُحصى- اللقاءات التي عقدت بين أطراف المعارضة الحزبية، وشمل بعضها قوى معارضة أخرى، منذ التحول إلى التعددية المقيدة عام 1976. وكانت كلها لقاءات من أجل الديموقراطية المحجوز تطورها، ولكن بدون حوار حقيقي حول كيفية التوافق على عمل مشترك يدعم قدرتها على الضغط والتأثير الفاعل سعيًا إلى تحقيق أهدافها في نظام أكثر ديموقراطية. وفضلا عن مصادر الاختلالات في أحزاب المعارضة الحزبية، ونتيجة لبعض هذه الاختلالات، عجزت هذه الأحزاب عن بناء كتلة أو ائتلاف ديموقراطي صلب قابل للتوسع. وكان هذا هو العامل الرئيسي وراء فشلها، وليس فقط في التأثير في مسار التطور في بلادها، ولكن في إيجاد مكان يعتد به لها على الخريطة السياسية. فعندما يكون كل من هذه الأحزاب ضعيفًا هشًا تذروه الرياح، لا يبقى سبيل أمامها إلا العمل المشترك المتواصل الذي يدعم موقفها في ميزان القوى السياسي، ويحقق تراكما تدريجيا تكون إحدى نتائجه دعم قدراتها الذاتية.
وأسهمت أزمة الأحزاب الليبرالية بمقدار وفير في هذا الفشل؛ فالمفترض أن هذه الأحزاب (الوفد والغد والجبهة الديموقراطية الآن) مؤهلة أكثر من غيرها لإدراك أهمية بناء التوافق اللازم لإقامة كتلة ديموقراطية مؤثرة، بحكم خلفيتها الفكرية التي تقوم أساسا على المبدأ الديموقراطي.
ونقصد بالتوافق، الذي فشلت المعارضة الحزبية المصرية في تحقيقه، أن تصل هذه المعارضة عبر الحوار بينها إلى تراض عام Consensus قد يقتصر على مبادئ عامة للغاية، وربما شديدة العمومية، وقد يتسع ليشمل نقاطا برنامجية في قضايا محددة تحظى بأولوية خاصة لدى المجتمع أو الشعب في لحظة معينة.
والمفترض أن يشمل هذا التوافق تفاهما عاما على كيفية حل الخلافات التي تنشأ بين هذه الأحزاب في مجرى العمل الحزبي، حتى تظل التناقضات بينها ثانوية ولا تتحول إلى صراعات حادة تزيدها ضعفا. ففي غياب مثل هذا التوافق، وفي ظل انشغال الأحزاب بالأحداث اليومية، يحدث أن الفجوة بينها تتوسع والشكوك تزداد، فيصبح بعضها على بعض عبئا، بدلا من أن يكون بعضها لبعض عونا. فالاتفاق على ضرورة الإصلاح الديموقراطي، مع كل أهميته، لا يكفي لتحقيق تقدم مطرد في الطريق إلى الديموقراطية ما لم يقترن بتوافق عام بين الأحزاب المؤمنة بهذا الإصلاح. كما أن السعي إلى التوافق يحدث بالضرورة من خلال الحوار، الأمر الذي يمكن أن يفيد في نشر الثقافة الديموقراطية المفقودة أو الضعيفة في المجتمع. والحوار هو أحد أهم عناصر النسق الثقافي الديموقراطي؛ إذ لا يمكن تعويض غيابه ولا إيجاد بديل عنه.
والمفترض أن تقوم الأحزاب الليبرالية بالدور الأكبر في هذا المجال، لأنها هي الأكثر إيمانا بهذا النسق الثقافي عموما وبقيمة الحوار خصوصا. كما أن هذا الحوار يعلَّم أطرافه، وربما أطراف أخري ينعكس عليها، ما لا يمكن أن يتحقق تحول ديموقراطي بدونه وهو الاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة، وبالتالي عدم التشبث بكل ما يؤمن به هذا الحزب أو ذاك واعتباره هو الخير المطلق. ففي غياب حد أدنى من الثقافة الديموقراطية، يقع الإنسان في خطيئة الاعتقاد في أن ما لديه خير مما عند غيره، وأن الحقيقة المطلقة طوع يديه.
ومن شأن الحوار، الذي يهدف إلى بناء التوافق بين أحزاب المعارضة، أن يرسي تقاليد – لا تتقدم الديموقراطية بدونها – في العلاقة بين الأحزاب المختلفة، وبين الناس عموما. وهي تقاليد تمثل مزيجا من الحرية والمسؤولية؛ لأن كل من يشارك في الحوار إنما يفعل ذلك بمطلق حريته دون إرغام. وهو يستطيع، بالتالي، أن يطرح ما يشاء، وأن يصر على ما يرغب فيه، وأن يقلب حتى مائدة الحوار على رؤوس الجميع، مثلما حدث في بعض الحوارات التي نُظمت بين أحزاب معارضة في مصر مثلا. ولكن المشارك في الحوار لا يفعل مثل ذلك حين يكون لديه حد أدنى من المسؤولية والإحساس بالمصلحة العامة والاستعداد لوضعها فوق المصلحة الحزبية.
والحال أنه باستثناء بعض الأحزاب المغربية، فشلت الأحزاب العربية المعارضة في بلوغ هذا المستوى من الحوار الذي يقود إلى توافق يؤسس لبناء كتلة معارضة ديموقراطية قوية. ومن هنا أهمية حالة (الكتلة الديموقراطية) التي شكلتها أحزاب المعارضة المغربية في عام 1992، بعد فصول من الحوار والتنسيق على مستويات مختلفة. وهي الكتلة التي نجحت في استثمار لحظة تاريخية مواتية للتقدم نحو تداول السلطة للمرة الأولى. وقد لعب حزب الاستقلال (شبه الليبرالي) دورا كبيرا في هذا الإنجاز، لانجد مثله في مصر التى قد لا تعرف أحزابها الليبرالية الكثير عن تجربة المغرب المثمرة فى مجال التوافق الديموقراطى. ففي مصر الآن ثلاثة أحزاب ذات منحى ليبرالي هي الوفد والغد والجبهة الديموقراطية. خرج الثاني من رحم الأول وتباعدت بينهما المسافات. وجاء الثالث جديدا؛ فتزامنت نشأته مع انهيار الثاني (الغد) بعد إدانة رئيسه قضائيا وحبسه. وفي الوقت الذي يميل حزب الوفد إلى تكتيكات مرنة في علاقته مع نظام الحكم سعيًا إلي إصلاحه في الأغلب وبحثًا عن صفقات في بعض الأحيان، اتبع حزب الغد منهجا صداميا يستهدف تغييرا أكثر جذرية مما أدى إلى كسره، في الوقت الذي تعثر حزب الجبهة لوقوعه في أسر صراعات داخلية حادة من اليوم الأول.
وقد عجزت هذه الأحزاب، وغيرها من المنابر والشخصيات الليبرالية، عن الوصول إلى منهج للمعارضة لا يبالغ في تقدير إمكانات إصلاح نظم الحكم العربية من داخلها، ولا يتطرف في تصور إمكانات تغييرها، مثلما فشلت فى إيجاد صيغة للعمل المشترك. وفضلا عن أن هذا التفتت أضعفها كلها، فقد حال أيضا دون قيامها بإحدى الوظائف الرئيسية التي يفترض أن تؤديها، وهي قيادة الحوار الغائب بين أحزاب المعارضة سعيا إلى بناء كتلة ديموقراطية تدعم مركزها في الساحة السياسية وتؤدى إلي تغيير تدريجي في موازين القوى الداخلية في البلاد.
رابعا: مستقبل المعارضة الحزبية: "ديكور" لا يزيَّن
كان وجود أحزاب المعارضة في نظام تعددي مقيد نجح في تكبيلها على نحو أدى إلى انغماسها في صراعات داخلية، مساعدا في تزيين هذا النظام وتسويق ادعاءاته الديموقراطية، وخصوصا فى الخارج وفى أوساط قطاعات لا يستهان بها في الداخل أيضا. وأدت المعارضة الحزبية هذا الدور "الديكوري"، الذي قنعت به بعد أن فشلت في القيام بدور أكثر جدية، طوال العقدين الأخيرين في القرن الماضي، وخصوصا الأخير (التسعينيات) الذي اتجه فيه معظمها إلى الاستسلام بعد أن حاول بعضها أن يقاوم خلال الثمانينيات في حدود إمكاناته الهشة وفي بيئة سياسية ضاغطة. وما أن انتهى ذلك العقد، وفي مطلع الألفية الجديدة، إلا كان واضحا أن المعارضة الحزبية تعاني سكرات الموت.
وأسهم في ذلك تجميد حزب العمل في مايو 2000؛ فكان صعود تيار إسلامي في داخله في منتصف الثمانينيات قد دفعه إلى تبني خط معارض أكثر جذرية من باقي الأحزاب المعارضة. فكان تغييبه عن الساحة الحزبية تكريسًا لدور ديكوري قبلته الأحزاب الأخرى وعلى رأسها حزب الوفد الجديد والتجمع الوطني التقدمي الوحدوي، وتبعها فيه الحزب الديموقراطي العربي الناصري الذي بدأ بداية قوية، سبقته إلى مثلها أحزاب أخرى في أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، ولكنه لم يلبث أن تراجع بسرعة قياسية.
غير أن الدور "الديكوري" للمعارضة الحزبية في مصر بدأ في الانكشاف عندما ظهرت معارضة جديدة خارج إطار النظام الحزبي منذ تأسيس حركة "كفاية" في أواخر عام 2004، وحتى إعلان "الجمعية الوطنية للتغيير" في أوائل عام 2010. ووصل انكشاف هذه الأحزاب إلى حد الاستهانة بها، بل بلغ مبلغا يدفع إلى إنكار وجودها ليس بالمعني الفيزيقي بطبيعة الحال، بل بالمعني السياسي. ولم يكن عالم الجيولوجيا المصري المشهور عالميا د. فاروق الباز مبالغا أو مستخدما لغة مجازية عندما قال -في مقابلة أجرتها معه صحيفة "الأهرام المسائي" ونشرتها في عددها الصادر في الأول من يوليو 2010- : إنه لا أحزاب في مصر.
فقد عبر عن الواقع الذي لم يعد لهذه الأحزاب حضور سياسي فيه بالرغم من التشجيع الذي باتت تلقاه من نظام الحكم لاستخدامها في تغطية عملية إقصاء جماعة "الإخوان المسلمين" من التمثيل البرلماني، وإخراجها من الساحة السياسية بوجه عام. وإذا كان هناك من أصابه الشك في حكم د. الباز على المعارضة الحزبية في حينه، لأنه تزامن مع تجربة بدت مبشرة في حزب الوفد الذي انتقلت رئاسته بيسر وسلام من رئيس إلى آخر في انتخابات كان شكلها بديعًا؛ فالأرجح أن هذا الشك بدأ في الانحسار عندما تبين أن أزمة هذا الحزب كغيره من أحزاب المعارضة هي أعمق وأكبر من أن يغطيها مشهد مهما كان طيبًا.
كان تعطش النخبة السياسية والثقافية المصرية إلى أي مشهد ديموقراطي دافعا إلى المبالغة في أهمية تجربة الانتخابات في حزب الوفد وتمجيد نزاهتها وسلامة إجراءاتها، بدون النظر إلى ما وراء هذا المشهد أو ما في داخل الإطار أو تحت السطح؛ فلم تمض أسابيع قليلة حتى تبين أن الأجواء "المسممة" في داخل هذا الحزب صارت أكثر تسممًا، وأن الصراعات الصغيرة تجددت وتكاثرت في ظل سعى الرئيس الجديد إلى تمكين أتباعه، وانقسام أنصار الرئيس السابق إلى من اختاروا "الصمود والتصدي"، ومن أبدوا استعدادًا للولاء للرئيس الجديد بشرط إبقائهم في مواقعهم وعدم إسقاطهم في انتخابات الهيئة العليا.
وصار موعد هذه الانتخابات موضوعًا لصراع اشتد وأطلق موجة جديدة من التلاسن والاتهامات المتبادلة، وفاقم حالة التربص التي لم تكمن إلا لبضعة أسابيع بعد انتخاب رئيس الحزب في يونيو الماضي لتظهر مرة أخرى في صورة أكثر حدة. ومثلما لم يكن مشهد الانتخابات النزيهة كافيا لتغطية أزمة وصلت إلى نخاع حزب الوفد، لم تفلح مشاهد انضمام مثقفين وأكاديميين إلى الحزب- "ثقة في رئيسه" الجديد- في تغطية التصدع في هذا الحزب، بل أسهم بعضها على الأقل في إظهاره بوضوح أكبر. فالإقبال المفاجيء على حزب كان موجودا على مدى 34 عامًا لمجرد "الثقة في رئيسه" أو "فرحا بانتخابات داخلية فيه" هو دليل على اشتداد المرض، وليس مؤشرا على بدء الشفاء منه.
الحال أن الاتجاه الذي تمضي فيه المعارضة الحزبية، التي اختارت المساعدة في عملية إقصاء تيار "الإخوان المسلمين" مقابل ثمن بخس قد لا يتيح لها مجتمعة نصف عدد المقاعد التي حصل عليها هذا التيار في الانتخابات البرلمانية 2005 (88 مقعدًا)، يعجِّل بإقصائها هي من الشارع السياسي، ويفقدها آخر ما قد يكون باقيا لها من صدقية أو حتى قدرة على أداء دور "الديكور"؛ وعندئذ يكف "الديكور" عن أداء وظيفته "التزينية"، وتغدو هذه المعارضة الحزبية ورقة محروقة، وتقل حاجة من أرادوا لها هذا الدور إليها، في الوقت الذي قد تتنامي بدائلها غير الحزبية على نحو يؤدي تدريجيا إلى إعادة صوغ الساحة السياسية في ظل حال استقطاب بين نظام الحكم ومعارضة جديدة. وفي هذه الحال، قد لا يبقي مكان لمعارضة حزبية تتجه لأن تكف عن كونها معارضة، ولا تصلح لدور "الديكور" الذي قنعت به لفترة طويلة. وهذا هو ما ينتظر المعارضة الحزبية ما لم يدرك قادتها هول ما يأخذونها إليه، أو يظهر فيها من يستهولون هذا المصير ويستطيعون تغيير الاتجاه الذي يقود إليه.
___________________
وحيد عبد المجيد، مستشار بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية