العلاقات المصرية السودانية في عهد مبارك

دائما توصف العلاقات المصرية السودانية بالأزلية، وإن بدا هذا الوصف عاطفيا فإنه صحيح بحكم الجغرافيا والتاريخ والروابط الثقافية والاجتماعية، وبحكم الترابط والمصير المشترك...
8 August 2011
346d2f3109b141ffaa44e048c66aed55_18.jpg
العلاقات المصرية السودانية في عهد مبارك (الجزيرة)

دائما توصف العلاقات المصرية السودانية بالأزلية، وإن بدا هذا الوصف عاطفيا فإنه صحيح بحكم الجغرافيا والتاريخ والروابط الثقافية والاجتماعية، وبحكم الترابط والمصير المشترك الذي يوجده نهر النيل، شريان الحياة للبلدين. من هنا يمثل السودان العمق الإستراتيجي الجنوبي لمصر، وما يحدث فيه له بالغ الأثر على الأمن القومي المصري. فكيف أدار نظام الرئيس حسني مبارك علاقات مصر بالسودان طيلة الثلاثين عاما الماضية؟ وما تأثير هذا النمط من إدارة العلاقات الثنائية على البلدين حاضرا ومستقبلا؟

تمهيد
السودان الحديث، بحدوده الحالية، هو نتاج للتفاعل المصري السوداني المشترك. حيث بدأ السودان الحالي في التشكل مع دخول محمد علي باشا إلى السودان عام 1821، وقد استمرت مرحلة التوحيد والتكوين هذه زهاء نصف قرن، إلى أن اكتمل السودان الحديث في العام 1874 بعد أن تم إلحاق سلطنة دارفور بالسودان على يد الزبير باشا ود رحمة الجموعي الذي كان قائدا سودانيا تحت إمرة الخديوي إسماعيل، وكان قد سبق ذلك استكشاف وضم إقليم جنوب السودان الذي كان يعرف في ذلك الوقت باسم "المديرية الاستوائية"، عبر ثلاث حملات استكشافية كبرى أثقلت كاهل الخزانة المصرية، وهو ما ساهم بعد ذلك، إلى جانب إسراف الخديوي إسماعيل في حفل افتتاح قناة السويس في وقوع مصر تحت طائلة الديون الأجنبية، مما أفسح الطريق بعد ذلك للتدخلات الأجنبية التي انتهت باحتلالها من قبل بريطانيا عام 1882.

وقد ظل الترابط بين السودان ومصر قائما ولم ينقطع إلا لفترة محدودة في عهد الدولة المهدية (من 1885 إلى 1898)، حيث عادت مصر مرة أخرى للسودان عبر الحكم الثنائي (المصري-البريطاني) إلى أن حصل السودان على استقلاله في الأول من يناير/كانون الثاني 1956.

والسودان له أهمية خاصة لمصر، فهو العمق الجنوبي المباشر لأمنها القومي كما سبق أن ألمحنا، وقد تجلى ذلك بصور عديدة، كان السودان فيها السند والداعم لمصر، من ذلك على سبيل المثال: إرسال ما تبقى من سلاح الجو المصري إلى قاعدة "وادي سيدنا" الجوية في الخرطوم في أعقاب هزيمة العام 1967 حتى يكون بعيدا عن مرمى طيران العدو الإسرائيلي، وكذلك نُقلت الكلية الحربية المصرية إلى السودان، وخرج الشعب السوداني في حشود هائلة لاستقبال الرئيس جمال عبد الناصر في قمة الخرطوم المشهورة بلاءاتها الثلاث، وهو ما كان له تأثير كبير في بث روح التماسك والبدء بمسار حرب الاستنزاف (1) ثم حرب أكتوبر 1973 بعد ذلك.

على الناحية الأخرى تمثل مصر للسودان الظهير الإقليمي والأخ الشقيق. وقد حرصت مصر على تقديم الدعم للسودان بصور مختلفة، ووصلت العلاقة بين البلدين إلى ذروتها في عهد الرئيسين جعفر النميري وأنور السادات. وتجدر الإشارة إلى أنه لو قدِّر للتعاون المصري السوداني أن يستمر لأوجد ذلك قوة كبيرة جديدة في المنطقة تستطيع أن تشكل قاطرة لمسار نهضوي عربي أفريقي.

العلاقات المصرية السودانية بين المد والجزر

منذ استقلال السودان في مطلع العام 1956 والعلاقات المصرية السودانية تمر دوريا بحالات من المد والجزر، أو بدورات من الصعود والهبوط. وكان التحليل السائد لدى قطاع لا بأس به من السودانيين يعتمد مقولة أن مصر تفضل التعامل مع أنظمة الحكم العسكرية في السودان، وأن هذا يعد من بين أسباب بقاء هذه النظم في الحكم لفترات أطول. وقد أدى شيوع هذا "الانطباع" -فضلا عن أسباب أخرى سيأتي ذكرها لاحقا- إلى تدهور العلاقات المصرية السودانية خاصة في مرحلة "الديمقراطية الثالثة" (2)، التي عبرت عن نفسها من خلال إلغاء اتفاقية الدفاع المشترك، وإلغاء اتفاقيات التكامل المصرى السوداني، وتعويضها بورقة فارغة من المضمون أسماها السيد الصادق المهدي (رئيس الوزراء المنتخب آنذاك) ميثاق الإخاء.

في عقد التسعينيات من القرن الماضي تدهورت العلاقات المصرية السودانية بشكل غير مسبوق، وصل إلى مستوى الحرب الباردة الحقيقية، التى لم تتوقف عند حد التراشق بين الأنظمة، وإنما امتدت في الداخل السوداني إلى مدى أبعد عبر الشحن الإعلامي المستمر والتعبئة ضد ما كان يصور على أنه خصم خارجي، وهو ما أوجد جيلا في السودان ينظر إلى مصر بعين الريبة والتوجس.

وهذه المرحلة رغم سوداويتها كانت مفيدة، على الأقل، من ناحية استخلاص العبر لعدم الانزلاق إلى هذه الوهدة مرة أخرى، وأيضا من أجل إدراك حقيقة بسيطة.. هي أن مصر والسودان لا غنى لإحداهما عن الأخرى مهما كان اختلاف الأنظمة الحاكمة هنا أو هناك، وأن هناك ضرورات يجب أخذها في الاعتبار قبل الإقدام على أي فعل أو رد فعل.. وهي أن مصر والسودان باقيان في هذا المكان منذ فجر الخليقة.. وسوف يظلان كذلك، مهما كانت الأحداث أو التطورات في شمال الوادي أو جنوبه، وأن هناك تأثيرا وتأثرا متبادلين سوف ينتج أثرهما في كل الأحوال، ومن ثم فإن التعاون من أجل الصالح المشترك هو الأجدى والأكثر نفعا، وهو المنطق الطبيعي للأمور، وأنه مهما افترقت السبل فإنه ليس هناك مفر من العودة إلى التعاون والتفاهم والتنسيق من جديد.

ومع مطلع الألفية الجديدة بدأت العلاقات المصرية السودانية في التحسن، بعد الانشقاق الذي وقع في صفوف نظام الإنقاذ وخروج الدكتور حسن الترابي من الحكم، وبعد تجاوز الأزمة التي أثارها توقيع اتفاق ماشاكوس عام 2002 (3)، اكتسبت العلاقات المصرية السودانية دفعة قوية عبر الزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس مبارك للخرطوم في الأول من مايو/أيار 2003، بعد فترة انقطاع طويلة دامت أكثر من 13 عاما، وقد مثلت الزيارة بحد ذاتها حدثا كبيرا، وجاءت تتويجا لمسار التحسن البطيء في العلاقات بين البلدين، وأعطت الإشارة إلى أن كثيرا من الهواجس والملفات العالقة بين البلدين، خاصة الملف الأمني، قد تم طيها أو تجاوزها، ولا سيما التأثيرات الناتجة عن محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا عام 1995، وأن مصر قررت تغليب مصالحها الإستراتيجية بفتح صفحة جديدة تماما مع سلطة الإنقاذ وتنحية المخاوف أو الشكوك الصغيرة جانبا.

وفي هذه الزيارة قرر الرئيسان مبارك والبشير تفعيل مؤسسات التكامل بين البلدين مرة أخرى، وهو ما تم تطويره بعد ذلك بوقت وجيز أثناء زيارة الرئيس عمر البشير إلى القاهرة في 18 يناير/كانون الثاني 2004، حيث اتفق البلدان على إصدار قانون يقر العمل بحريات أربع، هي التملك والتنقل والإقامة والعمل بين مصر والسودان، كما وجه الرئيس مبارك الحكومة المصرية أثناء هذه القمة في القاهرة بالبدء فورا بافتتاح وحدات صحية ومشاريع خدمية في الجنوب إسهاما في خلق الاستقرار وتثبيت السلام.

غير أن اتفاقية الحريات الأربع لم تحدث الآثار المتوقعة منها، بسب بقاء تطبيقها منقوصا من الجانب المصري، حيث لم تلغ تأشيرات الدخول للسودانيين بشكل كامل، وعلى الناحية الأخرى بقي السودان منشغلا بملاحقة الأزمات المتلاحقة في الجنوب والغرب في محاولات مستمرة للوصول إلى تحقيق الاستقرار دون جدوى.

مصر وعملية إعادة هيكلة السودان

أطلقت عملية التسوية السياسية للحرب الأهلية في جنوب السودان التي تجسدت في توقيع اتفاقية "نيفاشا 4" في يناير/كانون الثاني2005، موجة هائلة من التفاعلات داخل السودان، وكذلك في المحيطين الإقليمي والدولي، خاصة مصر، وبات واضحا للجميع أن السودان منذ تلك اللحظة لم يعد هو ذلك السودان الذي عهدناه طوال الخمسين عاما الماضية، بل سيكون هناك سودان مختلف، لم تستقر ملامحه وقسماته النهائية بعد، إذ يوشك الجنوب على الانفصال، ومن ثم سينقسم السودان إلى دولتين شمالية وجنوبية.

وقد لا يكون انفصال الجنوب هو نهاية المطاف للأزمة السودانية، بل ربما يمثل بداية لصراع جديد بين الشمال والجنوب، إذ لا تزال هناك الكثير من بؤر الخلاف والتأزم على رأسها الوضع في منطقة أبيي وفي مناطق التخوم (جبال النوبا، وجنوب النيل الأزرق) فضلا عن استعصاء أزمة دارفور على الحل، وفي حالة عودة الحرب الأهلية مرة أخرى قد ينقسم السودان إلى ثلاث دول أو قد ينزلق إلى الفوضى.

في هذا الإطار بدا أن مصر التي انشغلت على الدوام بحدودها الشمالية الشرقية وبقضية الصراع العربي الإسرائيلي، قد "بوغتت" بأن هناك تغيرات هيكلية بدأت تفصح عن نفسها في جنوب الوادي، وسوف تؤثر هيكليا على أمنها القومي بالمعنى الواسع للكلمة، فأهمية السودان لمصر لا يمكن اختزالها في قضية المياه، بل هو جزء من القلب والجسد، وإذا حدث وتحول السودان إلى منطقة اضطرابات وعدم استقرار فإن هذا سيعني بلا شك تقوقع مصر وحصارها داخل حدودها الجغرافية وانكماش دورها الإقليمي وفقدانها ربما للفرصة الأساسية التي مازالت متاحة أمامها لإعادة صياغة نظرتها إلى نفسها وإلى دورها في هذه المنطقة عبر التواصل مع انتمائها العريق في حوض النيل الذي يقع السودان في القلب منه.

فالانفصال المتوقع في جنوب السودان لن يتوقف عند حدود الجنوب بل قد يتعداه إلى تفكيك الشمال نفسه إلى دويلات وكانتونات متصارعة فقيرة الموارد ومنحبسة في أزماتها الداخلية، وهذا السيناريو يمثل خطرا حقيقيا ماثلا، وربما تمثل أزمة دارفور المثال الواضح على ذلك.

إن انفصال جنوب السودان سوف يؤدي إلى إعادة صياغة التوازنات الإستراتيجية في المنطقة الممتدة من الحدود الشمالية للسودان مع مصر وليبيا وصولا إلى منطقتي البحيرات العظمى من ناحية ومنطقة القرن الأفريقي من الناحية الأخرى، ولا تخفى أهمية هذه المناطق لمصر وارتباطها الوثيق بقضايا مياه النيل وأمن البحر الأحمر وتأمين قناة السويس. كما سيؤثر أيضا سلبيا على الأمن المباشر لمصر على حدودها الجنوبية ودورها ومكانتها فى الإقليم، وسوف ينقل قضية حاجة مصر من المياه إلى مرحلة جديدة تحتاج إلى إستراتيجيات مختلفة للتكيف مع الأوضاع المستجدة.

وفي ظل الأوضاع الحالية فإن عملية إعادة الصياغة قد تتم خصما من مكانة مصر وقدرتها على التأثير والتدخل لحماية مصالحها الحيوية، لصالح قوى وأطراف إقليمية ودولية أخرى ذات وجود فعلي في هذه المناطق وتسعى بقوة لتوسيع نفوذها.

لقد تعرض الدور العربي لمصر الذي صاغه الرئيس جمال عبد الناصر، وكذلك مكانتها الإقليمية لنكسات عديدة أصبحت معالمها واضحة للعيان، ولا يتسع المجال هنا لنقاشها، وربما جاءت التطورات الجارية في السودان بمنزلة جرس إنذار هائل، يثير الكثير من الأسئلة حول السياسة المصرية تجاه السودان الآن وفي المرحلة الانتقالية.

وأهم هذه الأسئلة تلك المتعلقة بالتحديد الدقيق لمصالح مصر في السودان، التي يجب العمل على الحفاظ عليها، وهل بقاء السودان في إطار كيان واحد يمثل مصلحة إستراتيجية أساسية أم يمكن التعامل مع دولة الجنوب في حالة انفصاله؟ وهل انفصال كيان جنوبي سيساهم في خلق تكتل معاد لمصر في منابع النيل أو على الأقل غير متعاون، أو يستخدم أداة للضغط عليها؟ وما شكل العلاقات والتحالفات الدولية لهذا الكيان الجديد؟ وهل سيكون واقعا تحت نفوذ دول أخرى تهدف إلى تحجيم مصر وحصارها مثل إسرائيل على سبيل المثال؟ وما طبيعة علاقات دولة الجنوب بالكيان الشمالي المجاور لها؟ وهل سيؤدي ذلك إلى الاستقرار أم ستبدأ دورة جديدة من العنف والحروب الأهلية الداخلية وعلى الحدود؟ وهل يمكن طرح تصور لوحدة كونفدرالية بين شمال السودان ومصر؟ وهل يمكن المناورة بمثل هذا المشروع لإنجاحه في ظل ظروف إقليمية ودولية غير مواتية؟.. كلها أسئلة يجب التفكير فيها بجدية وعمق.

إن الإجابة الأولية عن هذه الأسئلة هي أن هناك مصالح حيوية للغاية تقتضي العمل بقوة لمساندة السودان ومساعدته على التماسك وتجاوز هذه المرحلة الخطيرة والحساسة من تاريخه عبر تطوير التعاون بين البلدين والدفع به إلى الحد الأقصى عبر سياسة متدرجة تراعي توازن المصالح بين مصر والسودان، وأيضا بين الفئات المختلفة بعضها وبعض داخل السودان.

تحفظ مصر على حق تقرير المصير
كانت مصر قد سعت إلى المساهمة في حل الأزمة السودانية من خلال المبادرة المشتركة التي قدمتها بالاشتراك مع ليبيا، وكانت هذه المبادرة أكثر شمولا للقضايا الخلافية واحتواء للأطراف السياسية السودانية كافة، وكانت تدعو الى حل الأزمة السودانية من خلال إعمال مبدأ المواطنة والمساواة التامة دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو اللون، غير أنها لم تكن تشتمل على مبدأ حق تقرير المصير الذي اشتملت عليه "مبادرة الإيغاد" (5)، وكان هذا السبب بالتحديد هو الذي وقف عائقا أمام تقدم المبادرة المشتركة، إذ إن الحركة الشعبية لتحرير السودان قبلت بها شكلا وظلت تعرقلها مضمونا من خلال المراوغات الإجرائية.

وفي نهاية المطاف حين عين السيناتور الأميركي جون دانفورث مبعوثا رئاسيا في 5 سبتمبر/أيلول 2001، أعلن أنه سيسعى إلى توحيد المنابر عبر الجمع بين المبادرة المشتركة التي تعبر عن رؤية الشمال العربي ومبادرة الإيغاد التي تعبر عن الجوار الأفريقي. وبعد تطورات عدة جرى تجاهل المبادرة المشتركة والدعوة إلى بدء مفاوضات التسوية في كينيا على أساس مبادئ مبادرة الإيغاد. وقد رفضت مصر المشاركة في هذه المفاوضات بسب احتوائها على مبدأ حق تقرير المصير الذي كانت مصر تتحفظ عليه طوال الوقت لإدراكها بخطورة التداعيات التي سوف تترتب عليه.

غير أن الحكومة السودانية ومنذ المرحلة الأولى للمفاوضات في كينيا (بروتوكول ماشاكوس في 20 يوليو/تموز 2002)، أعلنت موافقتها على منح حق تقرير المصير لإقليم جنوب السودان بعد فترة انتقالية قدرها ست سنوات من تاريخ التوقيع النهائي على الاتفاقية.

وقد أدى التوقيع المفاجئ على بروتوكول ماشاكوس إلى إثارة الكثير من التحفظ في مصر على المستوى الرسمي، وأحدث ما يشبه الصدمة لدى الرأي العام وكذلك لدى العديد من الكتاب والمثقفين ووسائل الإعلام، حيث بدا أن مصر قد فوجئت بهذه القضية وتناولت وسائل الإعلام المصرية حق تقرير المصير باعتباره المعادل الموضوعي للانفصال، وألقت باللائمة على الحكومة السودانية، ولاسيما أن حق تقرير المصير بالصورة التي ورد بها في إطار ماشاكوس وتقول بالتصويت على أحد خيارين اثنين هما الوحدة أو الانفصال ليس له سند قانوني طبقا للقانون الدولي الذي يحدد منح الأقليات حق تقرير المصير في حالات معينة، والسودان ليس واحدا منها، كما أن هناك صيغا عديدة لمنح هذا الحق أو المضامين الأساسية له مثل الوضع الفيدرالي أو الكونفيدرالي، وليس القفز مباشرة إلى المغامرة بالانفصال.

وبدا أيضا أن الهيمنة الأميركية التي أصبحت تتجاوز الشرعية الدولية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول قد ألقت بظلالها على المفاوضات، بعد استبعاد مصر منها، التي بدا واضحا عدم إلمامها بمجريات التفاوض أو إحاطتها علما بها، لا من الحكومة السودانية ولا من الوسطاء، وظهر ذلك من خلال تصريح وزير الخارجية المصري آنذاك "أحمد ماهر" الذي قال "إن مصر علمت بالاتفاق من وكالات الأنباء".

وبدا للكثير من المراقبين في مصر منذ وقت مبكر أن حق تقرير المصير سيؤدي إلى الانفصال مهما تكن إغراءات الوحدة وحقيقة دوافعها، ونادرا من المنظور التاريخي أن تجد أي مجموعة سكانية فرصة لإنشاء دولة مستقلة ثم تختار العكس، وأن حل الأزمة السودانية لم يكن يستدعي الموافقة على حق تقرير المصير الذي لم يظهر على الأجندة السياسية السودانية إلا في العام 1992 بعد مجيء نظام الإنقاذ حين جرى تداوله مع بعض الفرقاء الجنوبيين في اجتماع "فرانكفورت" بواسطة "علي الحاج" المسؤول الإنقاذي المتنفذ آنذاك، ومن ثم فإن تكريس هذه المسألة في اتفاق مكتوب برعاية القوة العظمى في العالم يعد من أعمال المخاطرة بوحدة التراب الوطني والتماسك الإقليمي للدولة السودانية.

على الناحية الأخرى في السودان، قوبل التحفظ المصري الرسمي والشعبي على اتفاق ماشاكوس بقدر من الفتور والجمود، فظهرت بعض المقولات في الإعلام السوداني من قبيل أن أبناء السودان هم الذين كانوا يقاتلون، ومن ثم فلهم وحدهم الحق في إيقاف الحرب بالطريقة التي يرونها مناسبة، وأن مصر لم تبذل الجهد الكافي لدعم السودان وأنها كانت تستقبل المعارضة السودانية بأطرافها الشمالية والجنوبية الممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، وأنها تحتفظ كذلك بعلاقات جيدة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وزعيمها "جون قرنق"...، وغير ذلك من الانتقادات، التي لم تقف عند هذا الحد بل تعدته إلى التلويح بتحريك ملف الخلاف الحدودي حول حلايب، وهو ما ورد في لقاء للرئيس البشير مع صحيفة "الشرق" القطرية آنذاك، ثم جرى نفيه بعد ذلك.

التحولات في الموقف المصري
بعد أن هدأت الانفعالات الأولى التي صاحبت التحفظ المصري على حق تقرير المصير، والناتجة بالأساس عن الإحساس بالإقصاء والمفاجأة، بدأ يظهر بالتدرج نوع من التحول الهادئ في السياسة المصرية التي اتجهت إلى التعامل مع الأمر الواقع، باعتبار أن حق تقرير المصير للجنوب قد أصبح أمرا واقعا عبر اتفاق قانوني ملزم، ولاسيما أن كل القوى السياسية السودانية كانت قد أعلنت تأييدها للاتفاق، وهو تأييد في الحقيقة يدخل في باب تحصيل الحاصل، إذ إن هذه القوى كانت قد وافقت على حق تقرير المصير من قبل، منذ التوقيع على "مقررات أسمرا" (6) في مؤتمر القضايا المصيرية عام 1995، وأكدت هذه القوى أنها تؤيد الوحدة الطوعية القائمة على الإقناع والتفهم المشترك.

ومن ثم لم يعد في إمكان الموقف المصري أن يكون "ملكيا أكثر من الملك"، لكن ذلك لم يؤثر في القناعات المصرية الراسخة بأن الانفصال لن يكون في مصلحة جنوب السودان ولا شماله ولا شرقه ولا غربه، ولن يقتصر هذا على تفكيك السودان بل قد تنتقل عدواه إلى الدول الأفريقية، ومن الأهمية بمكان العمل على مساندة الوحدة.

غير أن التحول الذي طرأ على الموقف المصري اقتصر على طريقة التعامل مع هذا الملف الذي أخذ منذ ذلك الوقت يتسم بالهدوء ويعمل على مد الجسور، في محاولة تقديم المساعدة والمساندة ما أمكن ذلك، حيث وجدت مصر أن الاكتفاء بمجرد إعلان التحفظ والامتناع عن المشاركة لن يغير الأوضاع، بل سيؤدي إلى الانفراد بالسودان الذي يشعر بالضعف نتيجة لفقدانه الظهير الإقليمي والسند الدولي معا، فأعلنت مصر أنها سوف تساند الجهود السودانية من أجل جعل الوحدة الجاذبة ومن أجل تذليل الصعاب أمامها.

السياسة المصرية تجاه السودان
يمكن القول إن هناك اهتماما مصريا واضحا بما يحدث في السودان وحرصا على استصحاب الأبعاد المعقدة للأوضاع السودانية، مع نزوع نحو تبني سياسات عملية قابلة للتطبيق، والسعي إلى الحفاظ على وحدة السودان عبر العمل على تقوية ودعم كل المسارات التي يمكن أن تفضي إلى ذلك.

وقد عبر الموقف المصري في مناسبات عديدة عن دعمه للسودان في كل المحافل الإقليمية والدولية، بدءا من مفاوضات تسوية الجنوب الشاقة في كينيا التي انتهت بتوقيع اتفاقية نيفاشا، ومرورا بالمراحل المختلفة لأزمة دارفور، وانتهاء بأزمة المحكمة الجنائية الدولية (7)، مع قيام مصر بجهد متواصل لتصحيح العديد من المواقف الإقليمية والدولية غير الإيجابية تجاه السودان مع محاولة الحد من التأثيرات السلبية لهذه المواقف.

كل ذلك مع حرص مصر أيضا على الانفتاح المتواصل مع كل القوى السياسية السودانية في جميع أنحاء السودان، بتركيز خاص على دعم التنمية في الجنوب بطرق ووسائل مختلفة، ودعم الأعمال الإغاثية في دارفور.. إلخ.

عموما يمكن القول إن المصالح الإستراتيجية والأمنية لمصر بأبعادها المختلفة تتطابق مع الحفاظ على السودان موحدا ومستقرا، ولعل تلك القناعة هي التي جعلت مصر تتخذ مواقف التأييد للسودان أو الدفاع عنه في كل المحافل الإقليمية والدولية حفاظا على الدولة السودانية من الانفراط، حتى لو كانت هناك بعض الخلافات حول التفاصيل.

ولعل هذا يفسر وقوف مصر مع السودان في مجلس الأمن في منتصف التسعينيات إبان ذروة الخلاف والتوتر، رافضة توقيع عقوبات اقتصادية على السودان بحجة دعمه للإرهاب ورعايته لحادث محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995، وهو ما يوضح وعي صانع القرار المصري بإستراتيجية العلاقة بين البلدين ووجوب أن تبقى مصانة عن الإضرار بالمصالح العليا التي يجب أن تترفع عن التوقف عند كل ما هو تكتيكي أو مرحلي.

لكن اللافت للنظر أن السياسة المصرية "الحالية" نحو السودان تبدو غير متناسبة مع الثقل المفترض لمصر وضخامة مصالحها من ناحية، والظروف والتعقيدات التي يواجهها السودان من ناحية أخرى، فقد ظلت المواقف المصرية تراوح في تحركاتها بطريقة قد تصلح للتعامل مع أوضاع مستقرة وليس مع مثل هذه التفاعلات الهائلة التي تهدف إلى الفك والتركيب، حيث تظهر الحاجة الماسة إلى رؤية جديدة متكاملة تنظر إلى ما يجري، وتعيد تعريف المصالح المصرية في السودان وتسعى إلى تحقيقها بالوسائل والسياسات المطلوبة.

وذلك كان يستوجب مبادرة مصرية تسعى إلى توظيف كل الإمكانيات في اتجاه تحقيق اختراق في الأزمة السودانية لتغيير مسارها من التشظي والتشرذم في المواقف الداخلية، وفتح الباب واسعا للتدخلات الخارجية.. إلى مسار جديد يبني الوفاق في الداخل، وينقل الخلافات من الدوران في فلك الصراعات إلى دائرة البحث عن الحلول ذات الطابع التفاوضي السلمي القائم على الحلول الوسط وعلى الانتقال التدرجي نحو أهداف محل وفاق عام، مع التركيز على التنمية في الداخل لصالح الجميع.

وغني عن القول أن حجم الفرص والمخاطر فيما يتعلق بملف السودان يحتاج إلى إحداث التفاتة كاملة في التوجه الإقليمي لمصر، وذلك كأولوية إستراتيجية واضحة، وهذا لا يعني بطبيعة الحال إهمال الأولويات الإستراتيجية الحالية لمصر، ولكنه يعني رفع الاهتمام بالشأن السوداني من ناحية الترتيب ووضعه على قدم المساواة مع ملف الصراع العربي الاسرائيلي وتسوية القضية الفلسطينية.

والشاهد أن مصر لم تقدم على طرح مبادرة أو تحرك من هذا النوع رغم الحاجة الملحة لذلك، ورغم النداءات التي وجهتها أطراف سودانية عديدة ذات ثقل، وأيضا رغم أن مصر هي الطرف المؤهل لتبني مثل هذا العمل، بحكم علاقاتها التاريخية مع السودان وخبرتها ومعرفتها بالشأن السوداني التي لا تضاهيها أي خبرة أو معرفة أخرى، بالإضافة إلى العنصر الأكثر حاكمية، وهو أن مصالح مصر وأمنها سوف يتأثران دون شك بما يحدث من تطورات على الجبهات السودانية كافة.

ومن ثم فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا.. ما دوافع الإحجام المصري عن مثل هذه المبادرة؟

من الصعب بطبيعة الحال تقديم إجابات قطعية، غير أن الاجابات الأولية قد تنحصر في مجموعة من الأسباب، ربما يأتي على رأسها: الخوف من الفشل الذي قد يواجه مثل هذا التحرك، على أساس أن الوضع في الداخل السوداني معقد ونجاح أي مسعى في هذا الإطار يستلزم جهدا شاملا واسع النطاق وذا طبيعة متواصلة، لاستيعاب ومعالجة ومتابعة كل التفاصيل، كما يستلزم أيضا حشد وتعبئة قدر كبير من الموارد المادية والسياسية والدبلوماسية. وقدرا كبيرا من التنسيق والتفاهم مع الأطراف الإقليمية والدولية المتورطة في الأزمات السودانية، لتخطي العقبات ومحاولات العرقلة والإجهاض (المفترضة ضمنا) والتي سوف تقوم بها هذه الأطراف.

ومن ثم فإن بذل كل الجهود والمساعي الممكنة دون الذهاب إلى حد تقديم ورعاية مبادرة متكاملة قد يبدو وكأنه هو الخيار المتاح في الظروف الحالية لمصر، باعتبار أن القيام بتحرك لا يؤتي الثمار المطلوبة سوف يكون خصما من الموقف المصري ومكلفا بدرجة أكبر مما لو اكتفي بطريقة الاقتراب أو المعالجة الحالية.

ويبدو أيضا أن هناك نوعا من التقدير بأن هناك بعض الأطراف الأساسية في الداخل السوداني ربما لا تكون مرحبة بتحرك مصري على هذا المستوى، وأن هناك تفضيلا لدى هذه الأطراف لقبول وساطات أو تحركات من دول أخرى لا يتوافر لها نفس الخبرة أو الثقل أو الوطأة التي قد تنتج من التحرك المصري. وفي السياق نفسه يمكن القول إن هناك أسبابا أخرى ربما تتعلق بترتيب الأولويات المطروحة على صانع القرار المصري، خاصة فيما يتعلق بالتطورات المتلاحقة والحرجة في ملف الصراع العربي الاسرائيلي والانقسام الفلسطيني، وأزمة الملف النووي الإيراني، إضافة إلى العديد من الملفات الأخرى الداخلية والخارجية.

الاستفتاء على حق تقرير المصير
في التاسع من يناير/كانون الثاني 2011 يواجه السودان استحقاق الاستفتاء على حق تقرير المصير لإقليم جنوب السودان‏,‏ وهو المنعطف الأكثر أهمية وخطورة في تاريخ الدولة السودانية منذ الاستقلال‏، وقد كان من المفترض طبقا لاتفاقية نيفاشا أن يعمل الطرفان معا في الفترة الانتقالية من أجل أن تكون الوحدة جاذبة‏,‏ غير أن كل المؤشرات الحالية توضح أن جنوب السودان مقبل علي الانفصال طبقا لتصريحات قادة الحركة الشعبية وللاستعدادات العملية الجارية على قدم وساق‏,‏ وهو ما دفع مصر إلى دعوة طرفي اتفاقية نيفاشا، وهما حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان، إلى جولتي حوار في القاهرة تحت الرعاية المصرية، وقد عقدت الجولة الأولى في فبراير/شباط 2010 قبيل إجراء الانتخابات السودانية، بينما عقدت الجولة الثانية في أغسطس/آب الماضي.

في الجولة الأولى من الحوار كان هناك بعض الأمل في استكشاف أي صيغة تكفل الحفاظ علي العلاقة الوحدوية بين الطرفين‏,‏ لكن بات من الواضح أن قيادة الحركة الشعبية قد عقدت النية والعزم على التوجه للانفصال‏,‏ مع العزوف عن مناقشة أي سيناريوات بديلة‏,‏ عبر الحديث عن شروط ومطالب من المعروف أنها سوف تكون عسيرة التطبيق حتى لو قبلها حزب المؤتمر الشريك الرئيسي للحركة الشعبية في الحكم‏.‏

وعلى الناحية الأخرى، رغم الحملة الإعلامية واسعة النطاق الداعية للحفاظ علي الوحدة والتنبيه إلى تبعات الانفصال ومخاطره‏,‏ ورغم الجهود الكثيفة التي يقودها الرئيس البشير ونائبه علي عثمان طه لإقناع الجنوب بالبقاء في الوحدة‏,‏ يمكن القول إن هناك نوعا من عدم الممانعة الشمالية الواضحة في انفصال الجنوب إذا كان ذلك تعبيرا عن رغبة حقيقية لأغلبية الجنوبيين عبر استفتاء حر ونزيه وغير مزور.

ولذا أصبج من الضروري حث الطرفين على التوصل إلى اتفاقات واضحة حول العديد من الملفات والقضايا العالقة بين الطرفين‏,‏ حتى لا يكون الانفصال بداية لصراعات أو حروب جديدة بين الدولة الجنوبية المنتظرة ودولة شمال السودان‏.‏

وقد أوضحت جولات الحوار هذه بقراءتها مع مجمل التحركات المصرية الأخيرة تجاه الجنوب مثل افتتاح خط طيران جديد بين القاهرة وجوبا فى أغسطس/آب 2010، والاتفاق على بدء الدراسة بفرع جامعة الإسكندرية في منطقة التونج بجنوب السودان بدءا من العام الدراسى 2011، أن السياسة المصرية تقوم على القناعة بأن الحل الأفضل لكل مشاكل السودان هو الحفاظ على الوحدة,‏ أما إذا تعذر ذلك وأصبح الانفصال حتميا‏,‏ فإنه يجب الحفاظ على علاقات تعاونية ومستقرة بين دولتي الشمال والجنوب.

فالصراع قد يؤدي إلى تحول السودان نحو الصوملة‏,‏ أو تهيئة الظروف لانفصالات جديدة في الشمال وفي الجنوب أيضا‏,‏ كما سوف يفتح الباب لقوى وأدوار خارجية متربصة للتلاعب بهذه المنطقة وتعميق الخلافات والتوترات الكامنة‏،‏ ولا سيما الوجود الإسرائيلى القائم في الجنوب بالفعل الذي سوف يتزايد بالتأكيد بعد الانفصال.

ويجب على مصر بحكم مصالحها الإستراتيجية ودواعي أمنها القومي وأيضا بحكم مسؤوليتها وعلاقاتها التاريخية بالسودان‏,‏ أن تسعى ‏-في حالة وقوع الانفصال‏‏- لمساعدة دولة جنوب السودان على الاستقرار والتماسك‏,‏ وأن تعمل مصر عبر علاقتها الجيدة بالدولتين الشمالية والجنوبية,‏ على تشجيع التواصل والتوافق‏ بينهما,‏ ومراعاة وتفهم الظروف والتحديات التي تواجه كلا منهما‏,‏ وليس السعي لاستمرار الحرب الباردة أو محاولة الاستمرار في إدارة الصراع بوسائل جديدة‏,‏ مثل تشجيع الاضطرابات وظواهر عدم الاستقرار لدى الآخر‏.‏

الشراكة الإستراتيجية والتطلع إلى المستقبل

في الختام.. نقول إن العلاقات المصرية السودانية بحاجة إلى منظور جديد، لأن المنظور القديم الذي يقول بالتكامل بين البلدين والشعبين قد انقضى عهده، ولم يعد صالحا للتعامل في الوقت الحالي مع استحقاقات الأوضاع المستجدة، فالتكامل كان قائما بين البلدين من قبل، واقتصر على مؤسسات الدولتين ولم ينتج شيئا يذكر، وتم (مسحه) بجرة قلم، كما أنه محمل بشحنات سالبة بسبب أنه اعتبر دعما لنظام الرئيس نميري.

فى الوقت الحالي يجب التحول إلى منظور جديد يتمحور حول السعي إلى إقامة "شراكة إستراتيجية" تقوم على دعامتين أساسيتين، هما المصالح الأمنية المشتركة والمتبادلة بين البلدين، والتعاون الاقتصادي واسع النطاق الذي ينهض عبر إطلاق حريات ثلاث، هي: حرية تحرك الأفراد والسلع ورؤوس الأموال، لكي يكون هناك تعاون اقتصادي حقيقي ومتجذر يربط بين الشعبين برباط المصالح الاقتصاية إضافة إلى الروابط التاريخية والاجتماعية الموجودة بالفعل.

هذه الشراكة الإستراتيجية تستهدف في حدها الأعلى الوصول التدرجي إلى عملة موحدة وجواز سفر موحد (على غرار الاتحاد الأوروبى)، مع احتفاظ كل دولة بسيادتها ونظامها السياسي وأطرها الثقافية والاجتماعية الخاصة بها، على أن يكون دور الدولة على الجانبين توفير الحماية والرعاية وتذليل العقبات أمام انطلاق الحركة المتبادلة (في الاتجاهين) للأفراد والسلع ورؤوس الأموال.

إن الأساس القانوني لهذه الإستراتيجية موجود بالفعل في اتفاقية الحريات الأربع الموقعة بين البلدين، ومن ثم ليس هناك ما يعوق تنفيذ هذه الإستراتيجية، والمطلوب فقط هو الوعي بهذه الرؤية واتخاذها مرشدا وهاديا للعلاقات المصرية السودانية وشرحها والتبشير بها وجعلها على قمة ورأس الاهتمامات، ليس فقط لدى الأجهزة الرسمية والتنفيذية بل لدى النخب والرأي العام بمعناه الواسع والعريض، فالشعوب هي التي يجب أن تحمل هذه الرؤية، فهي التي سوف تقوم بتنفيذها، كما أنها هي صاحبة المصلحة الأساسية فيها.

وقد يقول قائل "كيف يمكن النظر في مثل هذا الأمر في ظل الأزمات الحالية وفي ظل اقتراب انفصال الجنوب؟"، والإجابة تكمن في أن الشراكة الإستراتيجية بين البلدين قد تكون هي الترياق الذي يساعد دولة الشمال على التماسك، والصمود أمام كل المتغيرات والمهددات الناتجة عن تداعيات الانفصال في حالة وقوعه كما هو الاحتمال الغالب.
_______________
رئيس وحدة دراسات السودان ودول حوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، وقد كتبت هذه الورقة في سبتمبر/أيلول 2010، أي قبل أربعة أشهر من استفتاء تقرير مصير جنوب السودان. (المحرر).

1- يقصد بحرب الاستنزاف تلك الاشتباكات المسلحة التي أرادت مصر من خلالها استنزاف قدرات القوات الإسرائيلية التي احتلت سيناء بعد هزيمة 1967. وقد بدأت هذه الاشتباكات بموقعة "رأس العش" بالقرب من مدينة بورفؤاد الساحلية يوم 1 يوليو/تموز 1967 وأوقعت فيها قوات الصاعقة المصرية خسائر بالقوات الإسرائيلية المهاجمة. لكن إسرائيل في المقابل قامت أيضا بعملية استنزاف مماثلة للقدرات المصرية، فاستهدفت بطائراتها العمق المصري ودمرت مدارس ومنشآت اقتصادية تكبدت فيها مصر خسائر مادية وبشرية جسيمة. وتوقفت حرب الاستنزاف هذه بعد ثلاث سنوات حينما قبلت القيادة المصرية مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار في أغسطس/آب 1970. (المحرر).

2- يصنف بعض الباحثين فترات الحكم في السودان إلى فترات ديمقراطية نيابية وأخرى عسكرية على النحو التالي: الحكم الديمقراطي النيابي الأول 1954- 1958م، والثاني 1964-1969م، والثالث 1985-1989م.

الحكم العسكري الأول: 1958- 1964م، والثاني 1969-1985م، والثالث 1989-حتى الآن.

و"الديمقراطية الثالثة" المشار إليها هنا تقع بين العامين 1985 و1989، وفيها كان السيد الصادق المهدي رئيسا للحكومة قبل الانقلاب العسكري لـ"ثورة الإنقاذ". (المحرر).

3- اتفاق ماشاكوس هو ذلك الاتفاق الذي تم في ماشاكوس بكينيا تتويجا لمفاوضات بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان يوم 20 يوليو/تموز 2002، وكان من بين بنوده الاتفاق على تقسيم عادل للثروة والسلطة بين الطرفين، والاتفاق على منح الجنوب حق تقرير المصرير عبر استفتاء. (المحرر)

4- وقعت اتفاقية نيفاشا في نيروبي بكينيا يوم 9 يناير/كانون الثاني 2005 بين حكومة جمهورية السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان، وهي حصاد وتتمة لعديد من البروتوكولات والاتفاقيات السابقة التي تم التوصل إليها من قبل، مثل بروتوكول ماشاكوس في 20 يوليو/تموز 2002، واتفاقية الترتيبات الأمنية في 25 سبتمبر/أيلول 2003، واتفاقية تقاسم الثورة في 7 يناير/كانون الثاني 2004، وبروتوكول تقاسم السلطة في 26 مايو/أيار 2004، وبروتوكول حسم النزاع في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان ومنطقة أبيي في 26 مايو/أيار  2004. واتفق الطرفان على وقف دائم لإطلاق النار ووسائل التنفيذ في الفترة قبل الانتقالية والانتقالية. كما اتفق الطرفان على أن يجري الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب في يناير/كانون الثاني 2011. (المحرر).

5- أعلنت في 20 مايو/أيار 1994 دول منظمة (إيغاد) التي تضم سبعا من دول أفريقيا الشرقية، هي جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وأوغندا والصومال والسودان، وتتوسط في محادثات السلام بين أطراف النزاع السوداني منذ العام 1993 مبادرتها لحل الأزمة السودانية، وقد وقعت هذه المبادرة التي سميت إعلان مبادئ الإيغاد الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق والحركة الشعبية المتحدة بقيادة رياك مشار آنذاك، ورفضت حكومة الإنقاذ التوقيع عليها عام 1994 وعادت ووقعت في 9/7/1997 دون تعديل. (المحرر).

6- مقررات أسمرة هي تلك القرارات والتوصيات التي خرجت عن مؤتمر "قوى التجمع الوطني الديمقراطي" الذي انعقد في مدينة أسمرة عاصمة إريتريا تحت شعار "مؤتمر القضايا المصيرية"، في الفترة من 15 إلى 23 يونيو/ حزيران 1995، وشارك فيه جمع كبير من القيادات السياسية والنقابية والعسكرية والشخصيات الوطنية المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي، ومن أبرزها: الحزب الاتحادي الديمقراطي، وحزب الأمة، والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، وتجمع الأحزاب الأفريقية السودانية، والحزب الشيوعي السوداني، والنقابات السودانية، ومؤتمر البجة، وقوات التحالف السودانية، وشخصيات وطنية مستقلة أخرى. وكان من أهم ما خرج به هذا المؤتمر من مقررات الاعتراف بحق تقرير المصير للجنوب كإحدى آليات إحلال السلام بين شمال السودان وجنوبه، فضلا عن توصيات بشأن العلاقة بين الدين والسياسة. كما بحث المؤتمر وسائل تصعيد "النضال" من أجل إسقاط نظام الجبهة الإسلامية القومية. (المحرر)

7- تطالب المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الرئيس السوداني عمر البشير ومسؤولين آخرين بدعوى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور. (المحرر).

8- كتبت هذه الورقة في سبتمبر/أيلول 2010، أي قبل أربعة أشهر من استفتاء تقرير مصير جنوب السودان. (المحرر).