الدولة اليوغسلافية من الاتصال إلى الانفصال

عرف مسار الدولة اليوغسلافية قبل تفككها تطورات معقدة لا بد من الوقوف عليه لفهم ما يجري في منطقة البلقان حيث تداخلت في هذا المسار أبعاد عديدة منها الإثني الاجتماعي ومنها الديني الإيديولوجي ومنها الخارجي المرتبط بنفوذ الدول الإقليمية أو القوى الكبرى
17 January 2011







محمد م. الأرناؤوط


يمكن القول إن الدولة اليوغسلافية التي ظهرت أولا إلى الوجود في 1/12/1918 باسم "مملكة الصرب والكروت والسلوفين" قد حملت في أحشائها مكوّنات تفككها وانهيارها الأول في 1941، وهو ما تكرّر في ولادتها الثانية تحت حكم الحزب الشيوعي في 1945 وانهيارها في 1991-1992.


النشأة الأولة.. دولة وإديولوجيتان
الحرب الأولى: يوغسلافيا والولادة غير الطبيعية
الحرب العاليمة الثانية والوجه الجديد للدولة
الرئيس تيتو والانعطاف غير المسبوق
يوغسلافيا الفيدرالية ومصلحة "التوافق"
تفكك يوغسلافيا وتصادم المشاريع


النشأة الأولة.. دولة وإديولوجيتان





في الواقع لقد كان مصير "المشروع اليوغسلافي" مرتبطا بمزاج سلاف الجنوب/ اليوغسلاف في إمبراطورية هابسبرغ، لأنه بدونهم لا يمكن أن يتحقق ذلك المشروع
كانت "يوغسلافيا الأولى"(1918-1941) نتاجا لإيديولوجيتين مختلفتين ("يوغسلافيا الكبرى" و"صربيا الكبرى") ولمفهومين مختلفين لنظام الحكم (المركزي والفدرالي) ورؤيتين مختلفتين للمسلمين الذي وجدوا أنفسهم في أولاهما بين القبول بهم أو التخلص منهم)في الثانية ونتاجا لوضع دولي كان يرتبط بحرب عالمية جديدة.

كانت الشعوب السلافية في الجنوب أو "اليوغسلاف" (السلوفين والكروات والبشناق والصرب والبلغار والمونتنغريون) حتى مطلع القرن التاسع عشر يتوزعون بين الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية، وبالتالي فقد ارتبطت "الفكرة اليوغسلافية" القائلة بتشكيل دولة واحدة لهذه الشعوب بمآل الإمبراطوريتين. وفي الواقع كانت "الفكرة اليوغسلافية" متفرعة من فكرة "الجامعة السلافية" التي تنادى وحدة الشعوب السلافية التي أصبحت أداة للسياسة الخارجية لروسيا القيصرية لإثارة هذه الشعوب ضد خصميها اللدودين (إمبراطورية آل هابسبرغ والدولة العثمانية).


وفي هذا السياق فقد أدى انبعاث صربيا من جديد، بعد أن قضى العثمانيون على وجودها السياسي في 1459، وبالتحديد كإمارة ذات حكم محلي محدود في 1815 ثم كإمارة وراثية بحكم ذاتي في 1830، إلى أن انتعشت "الفكرة اليوغسلافية" في أوساط المهاجرين البولونيين في باريس بزعامة الأمير آدم تسارتورسكي والذين لجئوا إليها بعد أن تم تقسيم وطنهم ما بين روسيا وبروسيا والنمسا في 1795، ولكن ليس لأجلهم ذلك بأنهم ليسوا من سلاف الجنوب بل من سلاف الغرب غير أن الفكرة جاءت لأجل زعزعة الدول التي شاركت في اقتسام وطنهم وعلى رأسها النمسا التي كانت تحوي غالبية اليوغسلاف..


وهكذا فقد تحولت في باريس "الفكرة اليوغسلافية" إلى مشروع سياسي كتبه فرانيو زاخ بعنوان " السياسة السلافية لصربيا" وقدمه إلى بلغراد لكي تأخذ به. وقد تضمن هذا المشروع برنامج عمل للتعاون بين الصرب والكروات من أجل تأسيس "دولة يوغسلافية" على أنقاض الإمبراطوريتين النمساوية والعثمانية. ولكن الإمارة الصربية الطموحة أخذت الفكرة الرئيسة من هذا المشروع البولوني، لكي تبلور في 1844 مشروعها الخاص الذي طرحه الوزير إيليا غراشانين، الذي بقي أساس السياسة الخارجية الصربية حتى 1918. أما المشترك بين المشروعين فهو إقامة "دولة كبيرة" على أنقاض الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية، وكان الجديد في الأمر بعث صربيا بحدودها الواسعة كما كانت في القرون الوسطى خلال عهد الإمبراطور دوشان (1331-1355)، مع الاستفادة من "المشروع اليوغسلافي" في انجاز ذلك.


ومع أن المشروع الصربي في 1844 كان يبدو ضربا من الخيال الجامح إلا أنه بدأ يتحقق مع توسع صربيا واستقلالها في 1878، ثم في انتصارها في الحرب البلقانية مع جيرانها (بلغاريا والجبل الأسود واليونان) ضد الدولة العثمانية. ومع هذه الحرب تحقق الشرط الأول (انهيار الحكم العثماني في البلقان) ولم يبق سوى الشرط الثاني (انهيار الحكم النمساوي).


ولكن انتصار صربيا الكاسح ضد الدولة العثمانية أثار نتيجتين متعاكستين كان لهما أثرهما في تشكيل الدولة اليوغسلافية في 1918. فقد أثار انتصار صربيا وتوسعها الحماس لدي بعض السلاف في إمبراطورية النمسا (في كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة) لـ "المشروع اليوغسلافي" الذي ارتبط بصربيا في أذهانهم آنذاك. ولكن من ناحية أخرى فقد أجج الانتصار الصربي حمى القومية الصربية التي تستلهم الماضي الأوربي المرتبط بالقرون الوسطى، وليس الحاضر الأوربي (الديمقراطي)، ولذلك فقد تعاملت القوات الصربية مع احتلال كوسوفا ومقدونيا على أنه "تحرير" لما تعتبره "الأرض الصربية" وليس للسكان المسلمين الذين كانوا يشكلون الغالبية والذين أصبحوا عبئا على "المشروع الصربي".


ومن هنا فقد أصبحت صربيا تشكل تهديدا لإمبراطورية النمسا وهو ما تمثل في اغتيال ولي عهد النمسا في صربيا على يد مجموعة قومية صربية في حزيران 1914، والذي أدى إلى اكتساح القوات النمساوية لصربيا واندلاع الحرب العالمية الأولى. ومع اصطفاف القوى الأوربية خلال الحرب فقد أصبحت صربيا في معسكر الحلفاء (روسيا وبريطانيا وفرنسا الخ). ومن هنا فقد أصبح مصير "المشروع الصربي" و"المشروع اليوغسلافي" مرتبطا بمصالح الحلفاء وترتيبات ما بعد الحرب. فنظرا لان مصالح الحلفاء أصبحت ترتبط بتفكيك الإمبراطوريات الثلاث المعادية (العثمانية والنمساوية والألمانية) أصبح "المشروع اليوغسلافي" أكثر انسجاما مع مصالح الحلفاء طالما أنه يقوم على تفكيك إمبراطورية آل هابسبرغ وضم أطرافها الجنوبية (كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة) إلى صربيا في دولة كبرى، وهو ما أصبح مغريا لبلغراد أيضا فيما لو طوعته لخدمة "المشروع الصربي".


وفي الواقع لقد كان مصير "المشروع اليوغسلافي" مرتبطا بمزاج سلاف الجنوب/ اليوغسلاف في إمبراطورية هابسبرغ، لأنه بدونهم لا يمكن أن يتحقق ذلك المشروع. فقد برز بينهم تياران : الأول ينادي بتوحيد اليوغسلاف في كيان واحد تتحول معه الإمبراطورية إلى ثلاثية (النمسا والمجر ويوغسلافيا)، والثاني ينادي بتوحيد كل اليوغسلاف في البلقان في دولة واحدة (يوغسلافيا الكبرى).


الحرب العالمية الأولى يوغسلافيا والولادة غير الطبيعية





جاءت الدولة الجديدة بولادة غير طبيعية لجنينين يحملان تصورين مختلفين عن الحياة الجديدة.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى تبنت بلغراد في تصريح 7/12/1914 دمج المشروعين بتأكيدها على أن الهدف من الحرب التي تخوضها "تحرير وتوحيد الإخوة غير المحررين". وقد شجعت بلغراد بعض زعماء اليوغسلاف في المنفى على تشكيل "المجلس اليوغسلافي" في ربيع 1915. ومع تسارع التطورات العسكرية لصالح الحلفاء عقد لقاء بين حكومة بلغراد و"المجلس اليوغسلافي" في جزيرة كوروفو اليونانية تمخض عن "بيان كوروفو" في 17/7/1917 بتشكيل "دولة مشتركة للصرب والكروات والسلوفين".

وفي المقابل فقد اجتمعت بعض القوى والأحزاب السياسية لسلاف الجنوب في إمبراطورية هابتسبرغ وأصدروا في مارس/آذار 1918 "بيان زغرب" الذي أكد على حق تقرير المصير وتوحيد الكروات والسلوفين والصرب الذين يعيشون في الإمبراطورية في دولة مستقلة وديمقراطية. ومع اقتراب الحرب من نهايتها سارع زعماء اليوغسلاف في الإمبراطورية المتداعية إلى تأسيس "المجلس الشعبي" في زغرب خلال 8/10/1918 والذي أصبح الممثل السياسي لليوغسلاف هناك. ومع انهيار الإمبراطورية تم الإعلان في 29/10/1918 في زغرب عن تأسيس دولة يوغسلافية باسم "دولة السلوفين والكروات والصرب" واعتبار "المجلس الشعبي" بمثابة السلطة العليا، وعن تشكيل حكومة في 3/11/1918.


وفي غضون ذلك كانت القوات الصربية التي جاءت مع الحلفاء من جبهة سالونيك قد أعادت احتلال كوسوفا من النمسا ومقدونيا من بلغاريا وضمت مملكة الجبل الأسود وفويفودينا إليها، مما قوى موقفها كثيرا أمام "دولة السلوفين والكروات والصرب" التي كانت تضم في الواقع سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة ولكنها لا تملك القوة العسكرية للدفاع عن هذه الأراضي أمام أطماع ايطاليا وفرض الأمن في الداخل. ولذلك فقد أرسلت "دولة السلوفين والكروات والصرب" وفدا إلى بلغراد للتباحث حول الاتحاد بين الدولتين، وبعد أن كانت تصر على ترك موضوع نظام الحكم الجديد للجمعية التأسيسية الجديدة اكتفت بلقاء الملك الصربي ألكسندر كاراجورجيفتش ونقلت إليه مذكرة "المجلس الشعبي" الذي يدعوه ليكون رئيسا للدولة الجديدة. وفي نهاية هذا اللقاء في 1/12/1918 ردّ الملك ألكسندر بالقبول والإعلان عن تشكيل الدولة المتحدة باسم "مملكة الصرب والكروات والسلوفين"، التي تمتعت فورا بتأييد الحلفاء.


لقد جاءت الدولة الجديدة بولادة غير طبيعية لجنينين يحملان تصورين مختلفين عن الحياة الجديدة.


أما الأول منهما(صربيا الكبرى) فقد اعتبر الدولة الجديدة إنجازا وتتويجا لما خطط له منذ 1844، ولذا فقد سعى إلى أن تكون الدولة الجديدة في خدمة مشروعه (صربيا الكبرى) بتصريب ما يمكن تصريبه من الأراضي والسكان. وهكذا فقد أطلق على مقدونيا وكوسوفا اسم "صربيا الجنوبية"، متجاهلا وجود غالبية غير صربية تعتبر وجوده احتلالا، كما وألغى كيان الجبل الأسود التاريخية معتبرا أن سكانه من الصرب أيضا، وركز بكل قوته على تصريب البوسنة أو جعل البوسنة بغالبية صربية على حساب المسلمين، وكذلك الأمر مع فويفودينا على حساب المجريين هناك. ولتطبيق ذلك فقد عمد إلى جعل الجيش والإدارة العامة والقضاء بخدمة هذا المشروع وتطبيقاته.


وأما الثاني (يوغسلافيا الكبرى) فقد بقي وفيا لتصوره عن دولة ديمقراطية للشعوب اليوغسلافية المكونة لها (الصرب والكروات والسلوفين)، ولذلك فقد اتجه تدريجيا إلى الخيار الفدرالي للدولة الجديدة باعتباره هو الأنسب في مقابل الخيار المركزي للدولة الذي كان يناسب بلغراد. ولا شك أن هذا التصور كان يناسب المسلمين، الذين كانوا يشكلون حوالي 12% من سكان الدولة (أكثر بقليل من عشرة ملايين)، الذين وجدوا أنفسهم فجأة ضمن حدود هذه الدولة نتيجة للتطورات المتسارعة.


وعلى الرغم من عنف السلطة الجديدة (الصربية) الذي شمل أملاك وأرواح المسلمين في البوسنة وكوسوفا بشكل خاص، إلا أن الانتخابات الأولى للجمعية التأسيسية التي عقدت في 28/11/1920 كشفت عن تمحور قومي واضح بين الأطراف الرئيسة (الصرب والكروات والسلوفين والبشناق) بحيث أن الصرب كانوا يحتاجون إلى طرف من هؤلاء لكي يمرروا الدستور الذي يناسبهم. وقد استغل الصرب حاجة المسلمين في البوسنة(البشناق) إلى الحد الأدنى للأمن على أنفسهم ووطنهم فعقدوا في 15/3/1921 صفقة مع د. محمد سباهو رئيس الحزب البشناقي (منظمة المسلمين اليوغسلاف) الذي حاز 24 مقعدا في الجمعية التأسيسية لتمرير الدستور الجديد في 28/6/1921 المناسب للصرب مقابل أن يتم الحفاظ على حدود البوسنة التاريخية وأن يشارك البشناق بوزيرين في الحكومة الجديدة(محمد سباهو وحمدي كارامحمدوفيتش) الخ.


ولكن تقاعس بلغراد عن تنفيذ كامل بنود الاتفاق جعل محمد سباهو ينسحب من الحكومة في 1922 وينتقل إلى المعارضة مع الكروات والسلوفين، وبذلك دخلت الدولة الجديدة في متاهة استمرت حتى 1938 وانتهت بانهيارها في نيسان 1941.


فبسبب هذا الانعطاف جاءت الانتخابات البرلمانية في آذار 1923 لتكشف عن فوز كاسح لأحزاب المعارضة الكرواتية والسلوفينية والبشناقية بثقة شعوبها (70 مقعدا لـ"الحزب الجمهوري الفلاحي الكرواتي" و21 مقعدا لـ "الحزب الديمقراطي السلوفيني" و18 مقعدا لـ "منظمة المسلمين اليوغسلاف")، وبذلك فقد أسست هذه الأطراف الثلاثة "التجمع الفدرالي" الذي أصبح يقود المعارضة في وجه المحاولة الصربية للهيمنة على الدولة الجديدة ويطالب بنظام فدرالي يعكس التعدد القومي في الدولة.


ومع تصاعد هذه المعارضة التي تمثل غالبية الشعوب اليوغسلافية في الدولة وفي البرلمان لم يعد أمام الملك ألكسندر سوى أن يحل البرلمان مرة بعد مرة على أمل أن يؤدي تدخل الأجهزة الحكومية في الانتخابات إلى إضعاف المعارضة، وهو ما لم يحصل في 1925 ولا في 1927. ولأجل ذلك فقد تحول البرلمان الجديد إلى ساحة لإرهاب المعارضة، حيث قام أحد النواب الصرب في 20/6/1928 بإطلاق النار على نواب الحزب الفلاحي الكرواتي فأردى رئيسه ستيبان راديتش واثنين من نوابه، مما أدى إلى وصول الدولة الجديدة إلى طريق مسدود.


وفي هذه الظروف قام الملك ألكسندر بوقف العمل بالدستور وإعلان الديكتاتورية في 6/1/1929 وإلغاء بعض الأحزاب السياسية (ومنها "منظمة المسلمين اليوغسلاف"). وفي هذا السياق قام الملك بتغيير اسم الدولة إلى "يوغسلافيا"، وهو ما كان تطالب به زعامة البشناق، وإلغاء الحدود التاريخية بين الكيانات (كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة الخ) لإنشاء محافظات مختلطة لأجل إضعاف المعارضة. وهكذا، على سبيل المثال، تم تقسيم البوسنة بين أربع محافظات جديدة تحول في كل واحدة منها المسلمون إلى أقلية.


ولكن هذا الانعطاف دفع المعارضة (الكرواتية والألبانية والمقدونية) إلى التحول إلى العمل المسلح والى التواصل مع ايطاليا الجديدة (الفاشية) التي كانت معنية باختراق يوغسلافيا. وفي هذا السياق فقد جاء اغتيال الملك ألكسندر في 1934 خلال زيارة إلى فرنسا ليكشف عمق الأزمة المتفاقمة في يوغسلافيا بين الطبقة الصربية الحاكمة وبين المعارضة. ومع ظهور النازية أصبح مصير الدولة اليوغسلافية المتصدعة في الداخل يرتبط أيضا بالوضع الإقليمي الذي أخذ يتعقد في أوربا بعد تأسيس محور برلين روما في 1936.


وفي هذه الظروف، التي اتسمت بتزايد الضغوط الفاشية النازية على يوغسلافيا، أدركت الطبقة الحاكمة الصربية أنه لابد لها من "تنازل تاريخي" لصالح الطرف الأقوى في المعارضة(الكروات) الذي يقبل باستمرار الدولة مع مشاركة فاعلة له لتجنيب البلاد خطر المعارضة الكرواتية في الخارج المرتبطة مع ايطاليا وألمانيا والتي تريد تقسيم الدولة لأجل كرواتيا مستقلة. ولكن أي اتفاق بين الصرب والكروات كان مرتبطا بالبوسنة، التي كان يدعي كل طرف أنها له وأن المسلمين فيها هم "كروات مسلمين " أو "صرب مسلمين". فقد سعى كل طرف بكل الوسائل لإقناع المسلمين بالإعلان عن قوميتهم كصرب أو ككروات لان هذا كان يتيح لهم الإعلان بأن البوسنة بـ "غالبية صربية" أو بـ "غالبية كرواتية".


ولكن مع فشل الصرب والكروات في ذلك لم يبق أمام الطرفين سوى التفاهم على تقسيم البوسنة لأجل "تفاهم تاريخي" يعطى الكروات فقط الحق بإقامة كيان لهم يتمتع بالحكم الذاتي داخل يوغسلافيا، على أساس أن هكذا تفاهم يخرج الكروات من المعارضة ويجعل بلغراد قادرة على التعامل مع بقية أطراف المعارضة (السلوفين والبشناق الخ). وهكذا فقد بدأت المفاوضات السرية بين الصرب والكروات، وبالتحديد بين رئيس الحكومة دراغيتشا سفيتكوفيتش ورئيس الحزب الفلاحي الكرواتي فلادكو ماتشاك، وتتوجت في 26 آب 1939 بالإعلان عن "التفاهم التاريخي" الذي قضى بتقاسم البوسنة (ثلث لكرواتيا وثلثان لصربيا) وتشكل كيان كرواتي يتمتع بالحكم الذاتي في إطار يوغسلافيا.


الحرب العاليمة الثانية والوجه الجديد للدولة





تم تأسيس "دولة كرواتيا المستقلة" التي ضمت البوسنة، وبينما تمّ مقدونيا إلى بلغاريا وفويفودينا إلى المجر وكوسوفا إلى ألبانيا وبعث كيان الجبل الأسود، وبذلك تم تحجيم صربيا وتحويلها إلى دويلة داخلية معزولة
أحبط "الاتفاق التاريخي" بين الصرب والكروات المعارضة وخاصة البشناق، ولم ينقذ الدولة اليوغسلافية كما كان يؤمل منه لأنه بعد أيام من توقيعه اندلعت الحرب العالمية الثانية وأصبح مصير يوغسلافيا مرتبطا بالظروف الجديدة في المنطقة(البلقان) التي فرضتها تطورات الحرب الجديدة.

فمع ضغوط ايطاليا الفاشية التي كانت لها أطماعها في المنطقة، وخاصة بعد أن احتلت ألبانيا في نيسان 1939 ووطدت علاقاتها مع المعارضة الكرواتية والمونتنغرية، ومع انضمام بلغاريا التي كان لها مطامعها في مقدونيا إلى محور برلين روما، وجدت بلغراد نفسها محاصرة من الشرق (بلغاريا) والشمال (المجر وألمانيا بعد ن ضمت النمسا إليها) والغرب (ايطاليا)، ولذلك آثر الأمير بول الوصي على العرش الانضمام إلى دول المحور لضمان الحفاظ على الدولة في 5/3/1941. ولكن الانقلاب العسكري الذي قاده بعض ضباط الجيش في 27 آذار 1941 تمخض عنه انسحاب يوغسلافيا من دول المحور وإعلان بطرس الثاني ملكا على يوغسلافيا وتشكيل حكومة جديدة. وقد أدى هذا إلى اجتياح عسكري ألماني ايطالي بلغاري ليوغسلافيا في 6/4/1941، والتي انهارت بسرعة دون أن يدافع عنها أحد من غير الصرب، وهو ما انتهى إلى تقسيمها إلى كيانات جديدة تخدم مصالح دول المحور في المنطقة.


وهكذا فقد تم تأسيس "دولة كرواتيا المستقلة" التي ضمت البوسنة، وبينما تمّ مقدونيا إلى بلغاريا وفويفودينا إلى المجر وكوسوفا إلى ألبانيا وبعث كيان الجبل الأسود، وبذلك تم تحجيم صربيا وتحويلها إلى دويلة داخلية معزولة.


ولكن هذا الحل للمشكلة اليوغسلافية الذي جاء من الخارج لم يكن هو البديل الأفضل لأنه أثار مشاكل جديدة بين الأطراف المكونة ليوغسلافيا الأولى (1918-1941)، ولأنه ارتبط بدول المحور التي فرضت هذه الخريطة الجديدة. ولذلك عندما خسرت هذه الأخيرة الحرب واستسلمت أمام الحلفاء برزت خريطة جديدة ليوغسلافيا جاءت هذه المرة بدعم من الحلفاء (الاتحاد السوفييتي وبريطانيا الخ).


مع إعلان تأسيس يوغسلافيا الأولى ("مملكة الصرب والكروات والسلوفين") في 1/12/1918 بالشكل المتسرع تحت ضغط الأحداث وجدت بعض الأحزاب السياسية نفسها في مواجهة مع الدولة الجديدة منذ البداية. ومن ذلك كان لدينا "الحزب الجمهوري الفلاحي الكرواتي" و"الحزب الشيوعي اليوغسلافي" و"اللجنة الكوسوفية" الخ. وعلى حين أن المعارضة الكرواتية الكوسوفية لم تتقبل الدولة الجديدة لدوافع قومية كان موقف الحزب الشيوعي مرتبطا بالخارج، وبالتحديد بالأممية الثالثة (الكومنترن) في موسكو التي كانت تعتبر يوغسلافيا مجرد "صنيعة امبريالية".


ومن هنا فقد جاءت محاولة اغتيال الملك ألكسندر في 29/6/1921 على يد أحد أعضاء الحزب الشيوعي، التي أعقبتها عملية اغتيال وزير الداخلية بعد أقل من شهر تحديدا بتاريخ (21 يوليو/ تموز 1921)، لتشير إلى حدة المواجهة التي استغلتها الدولة لملاحقة أعضاء الحزب الشيوعي في أرجاء البلاد. وفي المقابل فقد جاء اغتيال زعيم "الحزب الفلاحي الكروتي" ستيبان راديتش في البرلمان اليوغسلافي بعد أن أسقط الخيار الجمهوري من اسم الحزب ليشير إلى حدة الافتراق على المستوى الإيديولوجي بين مكوّنات الدولة اليوغسلافية الجديدة.


الرئيس تيتو والانعطاف غير المسبوق





ساعد الحزب الشيوعي اليوغسلافي لاحقا في اجتذاب المزيد من الأعضاء تطور الأوضاع على الأرض بعد انهيار يوغسلافيا في نيسان 1941 نتيجة للاجتياح الألماني الايطالي لحدودها في 6/4/1941، وما تبعه من مجازر متبادلة خلال سنوات الحرب 1941-1945 أدت إلى مئات الألوف من الضحايا بين الصرب والكروات والبشناق بشكل خاص
مثل وصول جوزف بروز تيتو إلى قيادة الحزب الشيوعي اليوغسلافي في 1936 انعطافا على صعيد الأزمة اليوغسلافية في الداخل، وبالتحديد إسهاما في تقبّل الخيار الفدرالي كحل أفضل للدولة اليوغسلافية التي كانت قد دخلت في طريق مسدود. فالمشكلة في الداخل لم تعد في سخط الكروات والسلوفين من عدم المساواة مع الصرب، بل في سخط الشعوب الأخرى التي كانت محرومة من الاعتراف بها. فبلغراد الصربية كانت تعتبر البشناق من "الصرب المسلمين" وكانت تعامل سلاف مقدونيا باعتبارهم من "الصرب الأرثوذكس" وكذلك الأمر مع المونتنغريين، بينما لم تعترف بالغالبية الألبانية في كوسوفا حتى كأقلية قومية.

ومن هنا فقد أدرك تيتو الحاجة إلى الاعتراف بهذه الشعوب الموجودة في يوغسلافيا وفسح المجال لها للمشاركة في بناء يوغسلافيا جديدة فدرالية تمثل التعدد القومي الموجود فيها. وهكذا فقد أعطت قيادة الحزب الشيوعي إشارات مشجعة للبشناق في البوسنة والمونتنغريين في الجبل الأسود والسلاف في مقدونيا والألبان في كوسوفو خلال 1938- 1940، مما جعل الحزب يشكل جذبا لأعضاء جدد من هذه الشعوب.


وربما ساعد الحزب الشيوعي اليوغسلافي لاحقا في اجتذاب المزيد من الأعضاء تطور الأوضاع على الأرض بعد انهيار يوغسلافيا في نيسان 1941 نتيجة للاجتياح الألماني الايطالي لحدودها في 6/4/1941، وما تبعه من مجازر متبادلة خلال سنوات الحرب 1941-1945 أدت إلى مئات الألوف من الضحايا بين الصرب والكروات والبشناق بشكل خاص.


ففي 10 نيسان 1941 ساعد الألمان والطليان على تأسيس "دولة كرواتيا المستقلة" التي ضمّت البوسنة وتسليم قيادتها إلى الحزب القومي الكرواتي المتطرف (الاوستاشا)، الذي كان يريد كرواتيا نقية للكروات فقط. ومن هنا فقد اعتبر النظام الجديد البشناق من "الكروات المسلمين" ومارس إجراءات إرهابية ضد السكان الصرب الذي وجدوا ضمن هذه الدولة، وهو ما حمل معه نوعا من الانتقام من الماضي القريب (1918-1939).


ومن ناحية أخرى فقد قاد أحد ضباط الجيش الملكي الصربي (دراجا ميخائيلوفيتش) المقاومة الصربية ضد ما لحق بيوغسلافيا على يد البلغار والألمان والطليان، وهو ما تحول إلى حركة قومية صربية متطرفة (التشتنيك) تسعى إلى إعادة تشكيل يوغسلافيا بمعايير صربية جديدة. وبعبارة أخرى فقد دمجت هذه الحركة المشروع القومي الصربي (مشروع 1844) مع المشروع اليوغسلافي بحيث يتم توسيع حدود صربيا ضمن يوغسلافيا مع تنقيتها من العناصر غير الصربية وجعلها تسيطر بقوة أكبر على يوغسلافيا. ونظرا لان الملك بطرس الثاني في المنفى (لندن) منح لقب جنرال لميخائيلوفيتش وعيّنه وزيرا للحربية في حكومة المنفى فان المجازر التي ارتكبتها هذه الحركة ضد البشناق والكروات لم تعد تمسّ سمعة هذه الحركة فقط بل الحكومة الملكية في المنفى، التي أصبحت عودتها غير مقبولة للكثيرين.


والى جانب ذلك فقد كان سلاف مقدونيا، الذين كان أول من اعترف بخصوصيتهم الإثنية الحزب الشيوعي، ضحية للسياسة الصربية التي تعتبرهم من الصرب والدعاية البلغارية التي تعتبرهم من البلغار. ومع ضم مقدونيا إلى بلغاريا في نيسان 1941 بدأت الإجراءات الفورية لبلغرة الأرض والسكان في مقدونيا وقمع كل معارضة لذلك. وفي الوقت نفسه كانت ايطاليا التي احتلت كوسوفا في نيسان 1941 قد أعلنت ضمها إلى ألبانيا التي كانت قد احتلتها في نيسان 1939 لتشكل فيما سمي "ألبانيا الكبرى". وفي هذه الدولة الجديدة استعاد الألبان في كوسوفا حقوقهم القومية التي حرموا منها طيلة 1918-1941 (مثل تعلم اللغة الألبانية الخ)، ولكنهم أيضا قاموا بتهجير الصرب الذين وفدوا لاستيطان كوسوفا خلال 1918-1941.


وفي هذا الوضع الذي اتسم بالمجازر الجماعية المتبادلة بين الصرب والكروات والبشناق كان الحزب الشيوعي اليوغسلافي يرفع لواء تحرير البلاد من الاحتلال الألماني الايطالي البلغاري ويعترف بالمكوّنات القومية الموجودة التي حرّمت من التعبير عن نفسها (البشناق في البوسنة والسلاف في مقدونيا والألبان في كوسوفا والمونتنغريين في الجبل الأسود) ويعد الجميع بيوغسلافيا جديدة فدرالية تعبر عن خصوصياتهم القومية. وهكذا فقد تبلور خلال "حرب التحرير" المفهوم اليوغسلافي الجديد الذي كان يقوم على ست جمهوريات (صربيا والبوسنة وسلوفينيا وكرواتيا والجبل الأسود ومقدونيا)، بينما اعترف للألبان في كوسوفا بحق تقرير المصير.


ولكن مصدر قوة المشروع اليوغسلافي الفدرالي الجديد لم يكمن فقط في المنضويين إليه كبديل عن الصراع الدائر على الأرض بين الصرب والكروات والبشناق والألبان وغيرهم، بل في الدعم الذي حصل عليه من الخارج أيضا، وبالتحديد من الطرف المناوئ للألمان والطليان والبلغار في الحرب العالمية الدائرة (الحلفاء). وإذا كان دعم الاتحاد السوفييتي للحزب طبيعيا لدوافع إيديولوجية إلا أن الحزب أخذ يحظى بدعم متزايد بالسلاح والعتاد من بريطانيا مما جعله قوة عسكرية قادرة على حسم الأمر لصالحه في نهاية الحرب. وكانت بريطانيا معنية في أسوأ الضغوط العسكرية عليها في 1941-1942 إلى دعم أي حركة مقاومة في البلقان لإشغال القوات الألمانية هناك. وهكذا بعد تمكّن "جيش التحرير"(البارتيزان) من تحرير مناطق في البوسنة مكنته في 26-27/11/1942 من عقد المؤتمر الأول لـ "مجلس التحرير الشعبي المناهض للفاشية"، الذي أصبح نواة السلطة/ الدولة الجديدة، جاء أول اعتراف للحلفاء بذلك في خريف 1943 عندما أرسلوا بعثة عسكرية لـ "جيش التحرير" الذي أصبح يتكون حينها من ثمانية ألوية تتألف من 26 كتيبة الخ.


وفي هذه الظروف، التي أصبح فيها الحزب الشيوعي يتحول إلى قوة عسكرية تحظى بدعم الحلفاء، عقد المؤتمر الثاني لـ "مجلس التحرير الشعبي المناهض للفاشية" في المناطق المحررة في البوسنة (يايسه 29-30/11/1943) التي وضعت فيها أسس الدولة اليوغسلافية الفدرالية الجديدة. فقد أقرّ في هذا المؤتمر تحويل المجلس إلى حكومة تحل محل الحكومة اليوغسلافية في المنفى وإرساء الخيار الفدرالي ليوغسلافيا الجديدة التي أصبحت تضم 6 جمهوريات فدرالية (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وصربيا ومقدونيا والجبل الأسود).


وفي غضون ذلك كان "مجلس التحرير الشعبي المناهض للفاشية في كوسوفا" الذي أنهى أعماله صباح 1/1/1944 في بويان قد قرر بغالبية الأصوات الانضمام إلى ألبانيا، التي كان الحزب الشيوعي هناك يقود فيها "حرب تحرير" مشابهة. ومع أن الحزب الشيوعي اليوغسلافي كان قد وعد الألبان في كوسوفا بحق تقرير المصير إلا أن هذا القرار اعتبر وقتها مقدمة لـ "ثورة مضادة"، وهو ما دفع "جيش التحرير" إلى السيطرة على كوسوفا في ربيع 1945 بعد ضرب المقاومة الألبانية وإعلان الأحكام العرفية هناك. وفي هذه الظروف قامت السلطة السياسية/العسكرية الجديدة باختيار أعضاء جدد لـ "مجلس التحرير الشعبي المناهض للفاشية" أو اجتمعوا في بريزرن خلال 8-10 تموز 1945 وأعلنوا عن رغبتهم في ضم كوسوفا إلى "جمهورية صربيا الفدرالية".


وبهذا أمكن للاجتماع الثالث والأخير لـ "مجلس التحرير الشعبي المناهض للفاشية" أن يجتمع خلال 7-10 آب، بعد أن تقرر توسيعه بالتفاهم مع الحلفاء ليضم 36 نائبا من البرلمان اليوغسلافي الأخير و69 ممثلا جديدا بالاتفاق مع الأحزاب السياسية الأخرى في البلاد. وفي هذا المؤتمر أعلن في آخر الأمر عن تحول المجلس المذكور إلى " مجلس الشعب" لـ "جمهورية يوغسلافيا الفدرالية".


يوغسلافيا الفيدرالية ومصلحة "التوافق"





 بعد أن اعتمد الشعار الجديد للدولة الذي يتألف من خمس شعلات ترمز إلى خمسة شعوب يوغسلافية فقط (الصرب والكروات والسلوفين والموتنغريين والمقدونيين) بدا واضحا أن الدولة اليوغسلافية الجديدة بدأت تكرّر أخطاء الدولة اليوغسلافية الأولى بتغييب حق شعب بأكمله (البشناق) من التعبير عن نفسه والتمتع بالمساواة التي وعد بها خلال "حرب التحرير".
ولدت "يوغسلافيا الفدرالية" نتيجة وعود مغرية لشعوب يوغسلافية متعبة من المجازر المتبادلة تضمنت الاعتراف بها وبكياناتها التاريخية وتمثيلها على قدم المساواة في النظام الفدرالي الجديد مع ضمان الحياة الرغيدة للجميع. وضمن هذا الحماس الجديد كانت يوغسلافيا الجديدة في "شهر عسل" مع الدولتين المجاورتين (بلغاريا وألبانيا) التي وصل إلى الحكم في كل واحدة منها الحزب الشيوعي. وضمن "شهر العسل" هذا الذي استمر خلال 1945-1948 أمكن ضمان دعم بلغاريا للشعب الجديد (المقدوني) في يوغسلافيا الفدرالية، بعدما كانت الحكومات البلغارية في السابق تعتبره جزءا من الشعب البلغاري، كما أمكن ضمان صمت ألبانيا لما حدث مع الألبان في كوسوفا التي باتت الآن جزءا من "جمهورية صربيا الفدرالية". وقد وصل "شهر العسل" إلى ذروته في 1947 حين طرح اقتراح الاتحاد اليوغسلافي مع بلغاريا (باعتبار أن البلغار هم من اليوغسلاف) وبدء العمل في اتحاد آخر مع ألبانيا.

ولكن "شهر العسل" انتهى فجأة في صيف 1948 بعد الخلاف بين ستالين وتيتو، الذي تحول إلى خلاف إيديولوجي بين خطين اشتراكيين. ونتيجة لهذا الخلاف انحازت بلغاريا وألبانيا إلى الاتحاد السوفييتي وبدأت الحملة الإعلامية العنيفة ضد القيادة اليوغسلافية "المنحرفة"، التي انعكست سلبا على الألبان والمسلمين بشكل عام في يوغسلافيا الجديدة حتى 1966، مما أدى إلى ضغوط وهجرة لمئات الألوف من الألبان والبشناق من يوغسلافيا إلى تركيا.


وفي الواقع لقد كان البشناق هم الضحية الثانية بعد الألبان في كوسوفا ليوغسلافيا الفدرالية. فبعد الإشارات الأولى لهم كـ "مجموعة إثنية" متمايزة عن الصرب والكروات وبعد الوعود لهم بالمساواة كأحد "شعوب البوسنة" جاءت التنازلات بسرعة بعد 1945 لتضع البشناق في إحباط كبير. ويمكن القول أن أحد الأسباب وراء ذلك الحماس الكبير للاشتراكية بمفهومها الستاليني، خلال "شهر العسل" مع الاتحاد السوفييتي 1945-1948، التي كانت تعتمد على أطروحة ستالين حول القومية باعتبارها من مخلفات الأنظمة البرجوازية التي سقطت حينها. وبعبارة أخرى كان يبدو للبعض أن الحديث وقتها عن الاعتراف بقومية جديدة (البشناق) كأنه يتعارض تماما مع أطروحة ستالين التي لم يكن يتجرأ أحد آنذاك على مناقشتها.


ومن ناحية أخرى فقد جاء هذا في مصلحة "التوافق" القديم الصربي الكرواتي على عدم الاعتراف بالبشناق كشعب مستقل بل الضغط عليهم لكي يعترفوا بأنفسهم كصرب أو ككروات. وقد أصبح هذا أسهل الآن في ظل وجود النظام الشمولي (نظام حكم الحزب الواحد) الذي تتقرر فيه الأمور ضمن حلقة ضيقة في القيادة وتفرض بعد ذلك بمسوغات إيديولوجية ودون إمكانية للمعارضة كما في السابق. ونظرا لان الصرب والمونتنغريين المتماهين معهم أصبحوا يشكلون نسبة كبيرة في الحزب الشيوعي اليوغسلافي وفي الجيش والأجهزة الأمنية فقد أصبح فرض مثل هذا الحل ينعش الآمال الصربية القديمة في السيطرة على البوسنة برفع نسبة الصرب فيها من خلال استقدام الكوادر الحزبية والأمنية من صربيا والجبل الأسود والضغط على البشناق للإعلان عن أنفسهم كصرب (معظم البشناق الذين انتخبوا في اللجنة المركزية الأولى للحزب الشيوعي في البوسنة بعد 1945 كانوا من أولئك الذي أعلنوا عن أنفسهم كصرب) الخ.


وهكذا بعد أن اعتمد الشعار الجديد للدولة الذي يتألف من خمس شعلات ترمز إلى خمسة شعوب يوغسلافية فقط (الصرب والكروات والسلوفين والموتنغريين والمقدونيين) بدا واضحا أن الدولة اليوغسلافية الجديدة بدأت تكرّر أخطاء الدولة اليوغسلافية الأولى بتغييب حق شعب بأكمله (البشناق) من التعبير عن نفسه والتمتع بالمساواة التي وعد بها خلال "حرب التحرير". وهكذا جاء الإحصاء الأول للسكان في 1948 ليمنح البشناق ثلاثة خيارات للتعبير عن أنفسهم : كصرب أو ككروات أو كـ "غير منتمين قوميا". وعلى الرغم من الإغراءات التي يوفرها الخيار الأول إلا أن غالبية البشناق فضلوا الأخذ بالخيار الثالث المهين لهم (غير منتمين قوميا) وهو ما تكرر في إحصاء 1953.


وقد تزامن ذلك مع تبلور سياسة "القبضة القوية" تجاه المسلمين في كل "يوغسلافيا الاشتراكية"، أي في البوسنة والجبل الأسود والسنجق وكوسوفا ومقدونيا، التي كانت ترمز إلى تزايد دور الأجهزة الأمنية في الدولة الجديدة التي كان مسؤولا عنها ألكسندر رانكوفيتش، الذي أصبح الشخص الثاني في الحزب والدولة بعد تيتو. وقد هدفت هذه السياسة إلى دفع المسلمين للبحث عن خلاص لهم بالهجرة إلى تركيا، وهو ما كانت تطبقه الدولة اليوغسلافية الأولى التي وقّعت بالأحرف الأولى في 1938 على اتفاق مع تركيا يسمح بتهجير معظم المسلمين من يوغسلافيا السابقة.


وهكذا فقد بدأت "مجزرة" جماعية جديدة ضد المسلمين في ظل صمت مطبق من وسائل الأعلام أخذت هذه المرة شكل "الهجرة الطوعية" باتجاه تركيا، حيث أن "الراغبين" بذلك كان عليهم أن يتخلوا عن جنسيتهم اليوغسلافية ويعلنوا أنهم من "الأتراك" (دون الحاجة إلى إثبات "تركيتهم") لكي يحصلوا على موافقة من السفارة التركية في بلغراد أو من القنصلية التركية في سكوبيه على الهجرة إلى تركيا حيث منحوا فور وصولهم الجنسية التركية هناك. ومن المثير أن هؤلاء بالذات لم يعد يسمح لهم لاحقا باسترداد جنسيتهم اليوغسلافية، في الوقت الذي كانت فيه يوغسلافيا تهتم وتعطي الجنسية لكل من يثبت أنه من أصول يوغسلافية. وقد أدت هذه "الهجرة الطوعية" إلى إجبار حوالي ربع مليون مسلم من البوسنة والسنجق وكوسوفا ومقدونيا على التخلي عن موطنهم والاستقرار في تركيا خلال 1950-1966، وهو ما يشكل لطخة عار لدولة كانت تدعي المساواة الجديدة بين الشعوب باسم الاشتراكية.


كانت هذه السياسة التمييزية ضد المسلمين في الداخل تتناقض تماما مع السياسة اليوغسلافية في الخارج (عدم الانحياز) التي جعلت ليوغسلافيا مصالح كبيرة في العالم العربي الإسلامي. وفي هذا السياق قام تيتو في صيف 1966 بالتخلص من رموز "القبضة القوية" وعلى رأسهم رانكوفيتش، مما مهّد الطريق لبروز يوغسلافيا جديدة (ثالثة) ارتبطت بوجود تيتو هذه المرة، وهو ما سيعجّل بانهيارها بعد وفاته في 1980.


وقد برزت يوغسلافيا الثالثة (التيتوية) بعد 1966 بسلسلة من التعديلات الدستورية خلال 1968-1971 وصولا إلى الدستور الجديد في 1974 الذي ولدت معه دولة جديدة بمفهومها ومؤسساتها. فمع هذا التطور أعطيت كوسوفا وفويفودينا حكما ذاتيا واسعا وتحولتا إلى وحدتين فدراليتين متساويتين مع الوحدات الفدرالية الأخرى التي أصبحت تشكل الفدرالية اليوغسلافية (6+2)، مما كان يعني تقلص سيطرة صربيا كجمهورية داخل الاتحاد اليوغسلافي الجديد. ومن ناحية أخرى فقد تم الاعتراف في 1968 بحق البشناق في التعبير عن أنفسهم كشعب على قدم المساواة مع الشعوب الأخرى، وهو ما طبق لأول مرة في إحصاء 1971 الذي كشف عن ظهور البشناق (باسم "مسلمين بالمفهوم القومي") كغالبية (39،57%) بدلا عن الصرب الذين تراجعوا إلى المرتبة الثانية.


ومع هذا التوجه نحو تعزيز سيادة الوحدات الفدرالية الجديدة، الذي استفاد منه المسلمون في الدرجة الأولى في البوسنة والسنجق والجبل الأسود وكوسوفا ومقدونيا، برز لأول مرة في القيادة اليوغسلافية شخصيات مسلمة مثل جمال بيديتش الذي أصبح في 1972 رئيسا للوزراء الخ، ولقد ساعدت كثيرا على تلميع صورة يوغسلافيا الجديدة في العالم العربي الإسلامي. ولكن يوغسلافيا الجديدة أخذت في تلك الفترة تعتمد أكثر على القروض الخارجية، التي كانت تمنحها تسهيلات كبيرة، لتواجه حاجات الوحدات الفدرالية إلى التنمية وسط نوع جديد من المنافسة بين هذه الوحدات، أخذ بدوره ينعش نوعا من التنافس القومي الجديد.


تفكك يوغسلافيا وتصادم المشاريع





بدأت بعض الجمهوريات (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة) تشعر بالخطر من جموح "المشروع الصربي" الجديد الذي يعيد إلى الذاكرة التجربة المرة ليوغسلافيا الأولى (صربيا الكبرى ضمن يوغسلافيا الكبرى)، ولذلك فقد بدأت قيادات هذه الجمهوريات تتشابك مع ميلوشيفيتش على مستوى القيادة الفدرالية للحزب والدولة
مع هذه التغيرات التي جاءت لمصلحة السلوفين والكروات والمسلمين، بدأت في صربيا المعارضة الهامسة ضد "يوغسلافيا التيتوية" كما جسدها دستور 1974 الذي مثل ضربة قاصمة للصرب بعد أن خسروا سيطرتهم على كوسوفا والبوسنة والجبل الأسود وترتب على ذلك بروز التوجه المونتغرني، الذي يعتبر المونتغريين شعبا مستقلا عن الصرب، حتى أنه لم يعد لصربيا سوى صوت واحد في مواجهة سبع أصوات في قيادة الفدرالية الجديدة. لكن هذه المعارضة الهامسة تحولت إلى معارضة علنية بعد وفاة تيتو في أيار 1980 مستفيدة من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تلت الكشف عن عجز يوغسلافيا عن خدمة القروض الكبيرة التي أخذتها حتى 1980 وقد قدرت وقتها بحوالي عشرين مليار دولار.

وفي هذه التربة المناسبة لـ "نظرية المؤامرة"، أصبح كل طرف يعتبر نفسه ضحية للآخر، انتعشت تبعا لذلك النزعة القومية الصربية التي تعتبر أن صربيا "تخسر في السلم ما تكسبه في الحرب " وأن "يوغسلافيا التيتوية" ليست سوى "مؤامرة" ضد الصرب الأرثوذكس بالذات لتهميشهم في يوغسلافيا لصالح السلوفين والكروات الكاثوليك (باعتبار أن تيتو كان كرواتيا سلوفينيا) بالتعاون من البشناق والألبان المسلمين. وفي هذا السياق برز الكادر الحزبي الشاب سلوبودان ميلوشيفيتش ليركب هذه الموجة القومية الصربية ويصل إلى رئاسة الحزب الشيوعي الصربي في 1985، حيث أعاد طرح "المشروع الصربي" باسم جديد : "توحيد الصرب" في يوغسلافيا والذي أخذ غطاء أكاديميا في 1987 من خلال "مذكرة أكاديمية العلوم والفنون الصربية".


وفي الواقع أن هذا الشعار(توحيد الصرب) كان يفهم منه أولا "إعادة توحيد صربيا"، أي إعادة سيطرة صربيا على كوسوفا ووفويفودينا، وهو ما تحقق لميلوشيفيتش في 1989 وأعطاه شعبية كبيرة بين الصرب في كل يوغسلافيا. ولكن هذا الشعار(توحيد الصرب) بدأ يفهم منه إعادة سيطرة صربيا على البوسنة والجبل الأسود كما كان الأمر حتى 1966، ثم أصبح يتسع ليشمل الصرب في كرواتيا الذين باتوا يشكلون حوالي 12% من سكانها.


ومن هنا فقد بدأت بعض الجمهوريات (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة) تشعر بالخطر من جموح "المشروع الصربي" الجديد الذي يعيد إلى الذاكرة التجربة المرة ليوغسلافيا الأولى (صربيا الكبرى ضمن يوغسلافيا الكبرى)، ولذلك فقد بدأت قيادات هذه الجمهوريات تتشابك مع ميلوشيفيتش على مستوى القيادة الفدرالية للحزب والدولة. وقد تزامن هذا الاشتباك خلال 1988-1989 مع التغيرات الديمقراطية في أوربا الشرقية، مما سرّع التحول الديمقراطي في سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وكوسوفا والتوجه نحو النظام السياسي التعددي الذي أنهى احتكار الحزب الشيوعي للسلطة.


ومع الانتخابات الديمقراطية الأولى التي جرت في كرواتيا والبوسنة وغيرها فازت الحزب القومية التي صعدت في مواجهة القومية الصربية لتعزز أكثر وأكثر الافتراق بين جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي. وقد بدأ هذا الافتراق في المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي اليوغسلافي في كانون الثاني 1990، الذي انسحبت منه سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة، وتعمق مع إعلان القيادات الجديدة للجمهوريات التي اكتسبت مشروعيتها من فوزها في الانتخابات الديمقراطية الجديدة عن رغبتها في الاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي لتفادي خطر المشروع الميلوشيفي الذي كان يحظى بتأييد الحزب الشيوعي والجيش، حيث كان الصرب يسيطرون على غالبية الكوادر والمناصب القيادية فيهما.


وهكذا فقد أعلنت أولا سلوفينيا وكرواتيا عن رغبتهما في الاستقلال في 25 حزيران 1991 وتبعتهما جمهورية مقدونيا التي أعلنت الاستقلال في 8 أيلول 1991 وبعدها جمهورية البوسنة في 29 شباط 1992. وقد أدت هذه الاستقلالات إلى حرب محدودة في سلوفينيا (حزيران 1991 ) والى حرب طاحنة في كرواتيا (تموز 1991) والى حرب كارثية في البوسنة (1992-1995). ومع هذه الاستقلالات أعلن في نيسان 1992 عن تشكيل "جمهورية يوغسلافيا الفدرالية" التي أصبحت تقتصر على جمهورية صربيا (التي ضمت إليها منذ 1989 كوسوفا وفويفودينا) وجمهورية الجبل الأسود فقط. وبعد حرب 1999 خرجت كوسوفا من السيطرة الصربية ووضعت تحت الإدارة الدولية الانتقالية وازدادت الميول الاستقلالية للجبل الأسود إلى أن أعيد تسمية الدولة في 2005 باسم " صربيا والجبل الأسود "، وهو ما مهّد في 3 حزيران 2006 لإعلان استقلال جمهورية الجبل الأسود. وقد تبع ذلك الإعلان عن استقلال جمهورية كوسوفا في 17 شباط 2008، الذي اعتبر خاتمة المطاف ليوغسلافيا الفدرالية.
_______________
أستاذ بقسم التاريخ – جامعة آل البيت / الأردن