البوسنة والهرسك خمس عشرة سنة بعد اتفاقية دايتون

يخلص د نرزوك تشوراك أستاذ العلوم السياسية بجامعة سراييفو إلى تسمية دولة البوسنة والهرسك بالبوسنة الدايتونية، فهي انتصار للسياسة الخارجية الأمريكية خلال الخمسة عشر عاما المنصرمة لكن على أمريكا تعزيز انتصارها هذا ببناء الدولة التي ستغير بمرور الزمن قالبها الدايتوني غير المعقول
17 January 2011







نرزوك تشوراك



أنهت اتفاقية دايتون العنف المنظم في البوسنة والهرسك؛ وهذا أهم توصيف لهذه الوثيقة التاريخية المتناقضة؛ والتي توجت محاولات المجتمع الدولي السابقة الرامية إلى منع وقوع الحرب أو إيقافها. إن وساطة كوتيلير، وخطة فانس/أوين، وخطة ستوتنبيرغ، واتفاقية واشنطن، وخطة مجموعة الاتصال(1)، كلها لم تجلب السلام؛ بل كانت إلهاما للعنف. وكان سبب الفشل المستمر لمساعي وسطاء السلام جليا تماما: تناولت الولايات الأمريكية المتحدة موضوع مجزرة البوسنة بطريقة تتصف بالمثالية وعدم المسؤولية حيث كانت تكيّف معاييرها الدبلوماسية لما يناسب الآخرين.


من اهتمام كلينتون إلى تناسي بوش
الاندماج والانفصال
الحاجة إلى سياسة متعددة الأطراف


البوسنة من اهتمام كلينتون إلى تناسي بوش






وكانت معاهدة السلام في البوسنة والهرسك انتصارا كبيرا للسياسة الخارجية لإدارة كلينتون أذلّ بها البيت الأبيض بقية الفاعلين السياسيين الدولييين بعدما أقنعهم بأن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة المشعة بالقوة العالمية في الوقت الراهن
عندما استلمت واشنطن الزعامة في الأزمة البوسنية أخضعت السياسات البلقانية الأخرى لرغبتها، وتناولت بالعقلانية قوة وأهمية لندن وباريس وبرلين وموسكو في الصراع البوسني عندئذ، فقط اتخذت الوساطة في المفاوضات بين الأطراف المتحاربة مأخذ الجدية وتحولت من نزهة التفاوض من أجل التفاوض إلى الآلية الجادة والمسؤولة للسياسة الأمريكية الخارجية(2).


جلبت واشنطن في شهر نوفمبر/ تشري الثاني 1995 إلى طاولة المفاوضات أطراف الحرب الرئيسية، وذلك بعد سلسلة من المناورات الدبلوماسية استخدمت خلالها بمهارة سياسة العصا والجزرة في التفاوض فأقنعت حلفاءها بأن الولايات الأمريكية قادرة وراغبة في إيقاف الحرب في البلقان. وهو الأمر الذي لم تنجح فيه الدبلوماسية الأوربية المتباطئة؛ ومن المفارقات أن تنجح فيه السياسة التهجمية للقوة الأولى على وجه الأرض. وكانت معاهدة السلام في البوسنة والهرسك انتصارا كبيرا للسياسة الخارجية لإدارة كلينتون أذلّ بها البيت الأبيض بقية الفاعلين السياسيين الدولييين بعدما أقنعهم بأن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة المشعة بالقوة العالمية في الوقت الراهن. وحصل الأمر نفسه مع ميلوشيفيتش وتوجمان وعزت بيغوفيتش، زعماء الحرب البوسنية الذين أُجبروا هم أيضا على وضع توقيعاتهم على أوراق دايتون. بعد تلك المصادقة كان بإمكان مبعوث كلينتون للعمليات الدبلوماسية الخاصة ريتشارد هولبروك (المبعوث الحالي الخاص لأفغانستان وباكستان قبل أن يوافيه الأجل نهاية سنة 2010) أن يدعو مفتخرا رئيس الولايات المتحدة ليعلن انتهاء الحرب ضد البوسنة والهرسك.



لكن وللأسف، تحولت بوادر السلام خلال الترتيبات الدستورية التي جرت بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1995 في قلب القوة الأمريكية العسكرية، بقاعدة رايت باترسون (Wright Patterson) المقر الرئيسي للقوات الجوية بمدينة دايتون في ولاية أوهايو (Ohio)، إلى بوادر ذات مغزى نسبي بسبب إبعاد القوة القانونية التشريعية عن مجالها السيادي من أراضي دولة البوسنة والهرسك. وقدمت بذلك للعلوم السياسية وعلم العلاقات الدولية والقانون الدولي التجربة المنهجية المثيرة للاهتمام: وهي أنه تم وضع دستور لدولة من خارج حدودها المعترف بها عالميا وأصبحت بتاريخ 22 مايو/ أيار 1992 عضوا رسميا بمنظمة الأمم المتحدة، وصار ذلك الدستور بطريقة ما غير واضحة ميثاقا دوليا قانونيا! ما يعني أنه تم إنشاء الدستور الوطني لدولة ما كمعيار مفروض من قبل المنظومة السياسية الدولية. نحن هنا أمام طريقة التعامل الثورية (الانقلابية) البحتة للقانون. ويبدو أننا غير مخطئين إذا عبرنا عن ذلك بتعبير لينين وقلنا إن دستور البوسنة والهرسك الدايتوني هو إرادة المنظومة العالمية المتحكمة التي حُوّلت إلى قانون.



وفي حقيقة الأمر أنشئت الدولة البوسنية بطريقة تستوجب دورا أمريكيا رئيسا ومستمرا. عندما يكون ذلك الدور بدائيا وثانويا فإن هذه الدولة لا تعمل. إنها صنعت كدولة ذات كيانين، اعتقادا من إدارة كلينتون بأن اتفاقية السلام في البوسنة والهرسك باعتبارها أصلا غير قابلة للتنفيذ ستتطلب استمرار النفوذ والضغط الأمريكي الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى الغاية المرجوة أي الدولة المنظمة التي تقدم خدماتها المشتركة لجميع سكانها.





أصبحت البوسنة والهرسك مع مجيء جورج بوش الأصغر لسدة الحكم حالة ثانوية في السياسة الخارجية الأمريكية ولم يتغير ذلك حتى بعد مجيء باراك أوباما إلى سدة الحكم
توقف توجه الاهتمام الأمريكي بالبوسنة والهرسك في اللحظة التي أصبحت فيها هذه الدولة خارج إطار أي وجه من أوجه المصالح القومية الأمريكية، وتصادف ذلك مع مجيء جورج بوش الأصغر لسدة الحكم في الولايات الأمريكية المتحدة. فمن ذلك الوقت ولحد نهار اليوم، ومنذ عشر سنوات كاملة، تعتبر البوسنة والهرسك حالة ثانوية في السياسة الخارجية الأمريكية ولم يتغير ذلك حتى بعد مجيء باراك أوباما إلى سدة الحكم. إن الزيارة التي قامت بها سكرتيرة الدولة هيلاري كلينتون إلى سراييفو مؤخرا، ورغم أن هدفها كان افتتاح السفارة الأمريكية الجديدة في عاصمة البوسنة والهرسك (في مرتبة ثامنة بحجمها في أوروبا)، إلا أن هذه الزيارة عبرت عن سياسة أمريكية ضعيفة للغاية تجاه بلد بنيته الداخلية غير فعالة نتيجة معاهدة سلام تحققت تحت الرعاية العظيمة لزوجها، رئيس الولايات المتحدة آنذاك.


من الاندماج إلى الانفصال





تشترط جمهورية صربسكا ونخبتها السياسية بقاء دولة البوسنة والهرسك المعترف بها دوليا بوجوب التعامل مع جمهورية صربسكا على أنها واقع قائم لا يمكن إنكاره أبدا. وإذا جرى إنكاره، فحسب تفسير زعيم حزب الاشتراكيين المستقلين ميلوراد دوديك، الذي يستمد قوته من بلغراد وموسكو، يجب أن تختفي البوسنة والهرسك من المشهد التاريخي
اليوم تمضي خمسة عشر عاما على المصادقة الدولية على معاهدة السلام الخاصة بالبوسنة والهرسك ترجح كفّة القوى الانفصالية على كفة القوى الاندماجية وهو الأمر الذي أفلس "روح ونصوص دايتون"، وأمّا الكيانان اللذان أريد لهما أن يكونا إقليمين داخليين فقط ويتمتعان بمستوى عال من الحكم الذاتي، فقد صارا دولتين "زائفتين". بينما أُفرغت البوسنة والهرسك بقدر كبير من محتوى الدولة. قوتها الرئيسية التي تجعلها دولة تكمن في القانون الدولي: البوسنة والهرسك هي دولة عضو في الأمم المتحدة. لكن هذا الأمر ليس كافيا ليضمن لها المستقبل الآمن. لقد أصبحت فدرالية البوسنة والهرسك وجمهورية صربسكا (الكيان ذو الأغلبية الصربية في البوسنة والهرسك) من الحقائق التاريخية الشائعة للبوسنة والهرسك الجديدة. وتشترط جمهورية صربسكا ونخبتها السياسية بقاء دولة البوسنة والهرسك المعترف بها دوليا بوجوب التعامل مع جمهورية صربسكا على أنها واقع قائم لا يمكن إنكاره أبدا. وإذا جرى إنكاره، فحسب تفسير زعيم حزب الاشتراكيين المستقلين ميلوراد دوديك (الذي يستمد قوته من بلغراد وموسكو)، يجب أن تختفي البوسنة والهرسك من المشهد التاريخي. وللأسف، وجد دوديك لهذا الموقف الذي يفتقر إلى الإلمام بالتأريخ مساندة من الاتحاد الأوروبي والولايات الأمريكية المتحدة لسبب بسيط وهو ما تتسم به الإرادة الدولية من بيروقراطية في مواقفها وابتعادها عن أي التزام بمواقف جدية وجادة في الشأن البوسني.


وبأنني لست أبالغ، فإنّي أستشهد بقول ميروسلاف لايتشاك أحد الممثلين الساميين للبوسنة والهرسك (كان يدير البوسنة والهرسك بطريقة غير ناجحة قبل الممثل السامي الراهن فالينتين أنسكو) الذي صرح أثناء المقابلة معه بالقناة المحلية (OBN) بالآتي: "إنّ دوديك محقّ عندما يقول إنه يريد أن يسمع من شركائه في التحالف أنهم يعترفون بجمهورية صربسكا فعندئذ يحق لهم القول: ها نحن ذا نعترف بجمهورية صربسكا وكفى الكلام عن الاستفتاء حول الانفصال، لأن مثل ذلك الكلام كلام الأطفال وكلنا نعرف ذلك".  وأضاف لايتشاك بصفحة الانترنتw w w. reci. ba الآتي: "مما لا نزاع فيه أن جمهورية صربسكا معترف بها دستوريا وفقا لاتفاقية دايتون، وفي نفس الوقت على الجميع وبمعية جمهورية صربسكا احترام وحدة أراضي البوسنة والهرسك وسيادتها. وإنّ التصريحات التي تضع وحدة الأراضي وسيادة البوسنة والهرسك تحت علامة الاستفهام مغرضة، والقصد منها توليد الشكوك والشعور بانعدام الأمن. وهذه التصريحات التي تضع الكيانات تحت علامة الاستفهام لها نفس المفعول"(3).


تأكّد هذه التصريحات على المساواة في التعامل مع الدولة والكيانات. وهذا هراء يضخ منه اللاعبون المناوئون للبوسنة وقودهم لهدم الدولة.


وقد سلك الطريق المشابه دانيال فريد، وكيل سكرتير بوزارة الخارجية الأمريكية عندما سجل ملاحظته التالية: "أنا شخصيا كنت بشدة غير مشجع للمساعي الرامية لإلغاء جمهورية صربسكا". وكان قد أدلى بملاحظته هذه أثناء شهادته أمام لجنة الكونغرس للسياسة الخارجية حيث صرح أيضا بقوله: "إن بعض الزعماء السياسيين في البوسنة والهرسك وخصوصا في جزئها المسمى بجمهورية صربسكا يوازون بين كوسوفو ووضعهم ويهددون بالانفصال. يجب أن يوقف هؤلاء الناس خطابهم الخطير الذي يحفر تحت الدستور الدايتوني، والذي هو ذاته الأساس لوجود جمهورية صربسكا. كما دعوات العنصريين البوسنيين (وُضع الخط من قبل كاتب المقالة ) لإلغاء جمهورية صربسكا كذلك غير مقبولة بل وتساهم في تعميق النزعة الراديكالية. ويمكن للإصلاحات أن تحسّن وليس أن تقوم مقام دايتون التي أُوقفت بها الحرب في البوسنة والهرسك."(4)


تصريحات لايتشاك وفريد تكمّلان بعضهما البعض وتعتبران نموذجيا لإستراتيجية سياسة المجتمع الدولي في البوسنة والهرسك التي امتدت في جمودها لحد اليوم.


إن المجتمع الدولي لا يشترط بقاء البوسنة والهرسك بوجود الفدرالية الكرواتية البوشناقية لكنه يرسل رسالة في غاية الوضوح: لا وجود للبوسنة والهرسك بدون جمهورية صربسكا! لقد عاشت البوسنة والهرسك هزيمة تاريخية ومع ذلك فهي أمام خيار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل، وغم أنّ البوسنة والهرسك لم تستوف المعايير الأساسية للدولة الفعالة لها فقط سمح لها أن توقّع معاهدة الاستقرار والانضمام، وفي الواقع فإن المعاهدة قد وقعتها جمهورية صربسكا وفدرالية البوسنة والهرسك. إن هذا الجزاء الذي يعرض على البوسنة والهرسك لمضحك فعلا: ماذا تريدون؟ إن جمهورية صربسكا تحافظ على البوسنة والهرسك فطالما ظلت جمهورية الصربسكا قائمة فإن وحدة أراضي البوسنة والهرسك وسيادتها لن تكون موضع الاستفهام. نعم! ومن أصلا يتكلم عن ذلك! ومن أين أصلا وُجدت علاقة بين تغيير الهيئة الداخلية في مجتمع واحد من جهة وبين سيادته من جهة أخرى!!



وأُرسلت بهذا الربط إلى جميع المواطنين المهتمين بالتقدم السياسي والقانوني والاقتصادي والاجتماعي للدولة رسالة فحواها بأن أقصى شيء يُمكنهم الحصول عليه هو الحقيقة بأن البوسنة والهرسك لن تنقسم ولن تختفي من المشهد التاريخي. فمن أجل هذه الجائزة يجب القبول بعدم وجود المجتمع السياسي بالمستوى الداخلي. هذه ليست الإستراتيجية التي يربح فيها الجميع – تحققت السيادة من الناحية الشكلية – القانونية ولا يمكن أن تكون موضع تسوية وإذا صارت موضع التسوية فستظهر كعدوّ للبوسنة والهرسك لانّ سيادتها في الواقع تكون مستديمة وممكنة في حال عدم وجود البوسنة والهرسك على المستوى الداخلي !هذا يعني بأنّ لايتشاك وفريد أي الولايات الأمريكية المتحدة والاتحاد الأوربي وقعا بطريقة منظمة في كمين تساكن الكيان والدولة – الشيء الوحيد الذي يحافظ على البوسنة والهرسك من التفكك هو حقيقة تفككها الداخلي ! ويسلك نفس الاتجاه بيان اللجنة الإدارية التابعة لمجلس تنفيذ السلام الصادر في 27 فبراير 2008 م. الذي يعلن فيه المجتمع الدولي بأن هدفه طويل الأمد هو إنشاء البوسنة والهرسك كدولة آمنة قادرة على البقاء تمضي من غير رجعة في الطريق المؤدي نحو الاندماج الأوربي. في الظاهر شي جميل وأما في الجوهر فهي ضربة قاسية تضع مجددا البوسنة والهرسك في السجل الأمني وليس في السجل التنموي. إن صياغة الهدف بهذه الطريقة تابعة إلى إدارة الأزمات وليس إلى الاقتصاد التنموي: لن نفعل شيئا يُعتبر التزاما فعليا للمجتمع الدولي (إنشاء الدولة ) والبوسنة بسلام. وبكلام آخر حتى تبقى البوسنة بسلام لابدّ من تأجيل بناء الدولة. ما أحزن هذه الاستراتيجية! ويا له من قبول بائس بباتالوجية السياسة من قبل السياسة الدولية!.


البوسنة والهرسك.. الحاجة إلى سياسة متعددة الأطراف



يمكن لواشنطن أن تقنع الاتحاد الأوربي بأنّ البوسنة والهرسك تبقى باستمرار دولة غير مكملة إذا بقت مجرد مجموع الكيانين. وبما أن البوسنة والهرسك ستبقى هكذا بالضبط. فربما عدم اكتمال الدولة التي تتطلب الضغط الخارجي يبقى أملا وحيدا للبوسنة والهرسك. ومثلما بحقّ يشير الاتحاد الأوربي إلى مؤسسيه شومان وأداناور والآخرين في سبيل إعطاء فكرة أوربا موحدة بُعدا تاريخيا كذلك البوسنة والهرسك الدايتونية - (يقولون الوحيدة الممكنة ) تشير إلى مؤسسيها، حكومة الولايات الأمريكية المتحدة وريتشارد هولبروك. وبغض النظر عن اختلاف قوة الدعم من الإدارة الأمريكية للبوسنة والهرسك (دعم محفّز للغاية أو دعم ضئيل) من الأهمية القصوى أن تفهم البوسنة والهرسك والاتحاد الأوربي والولايات الأمريكية المتحدة بأنه طالما البوسنة والهرسك منظمة كمجتمع كيانين لا يمكن أن يكون للاتحاد الأوربي في البوسنة والهرسك سياسة مستقلة عن واشنطن. مما يعني أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون اتحادا أوروبيا للولايات الأمريكية المتحدة. وعندما أو إذا بدأ يوما ما تغيير بنية الدولة التي تولّد منها شيء لم يقصده مؤسسها. أيْ إذا تهيأت بجهود بروكسيل وواشنطن وسراييفو الظروف لقيام المجتمع السياسي الجديد الفعال، العادل والمعقول. عندئذ تكون أية عاصمة كبروكسيل أهم من أية واشنطن.



عندئذ يصبح من الممكن كما قال رومانو برودي أن يتحول الطموح السياسي الكبير جدا (البوسنة كالدولة الناجحة وكالمجتمع المرجوّ متعدد الأعراق) إلى  سلسلة قرارات تكاد تكون شبه فنية"(5). حينها تكون المصالحة الفعلية ممكنة، لكن إذا أصرّت بروكسيل (بدعم من واشنطن) في الاعتقاد أنه منذ الآن يمكن بالقرارات الفنية فقط من دون الاستراتيجية السياسية تغيير النظام السياسي الثنائي في البوسنة والهرسك سوف تدخل البلد مرحلة جديدة لدوامة طويلة الأمد. وبكلام آخر لا يمكن أن تندمج البوسنة والهرسك بالاتحاد الأوربي بدون الضغوط الأمريكية المناسبة. يبدو غريبا لكن لا يضمن الآمال المستقبلية الأوربية لدولة غير مكملة إلاّ الحضور القوي للولايات الأمريكية المتحدة المبني على نفوذ القيم.



عندما تسود نفوذ القيم في السياسة الخارجية الأمريكية يمكنها أن تشتمل على مصادر القوة في مسعاها لتمنح للقوة الهوية الأخلاقية وفي الحالة المعاكسة يمكن أن تُداس المبادئ الأخلاقية تحت أقدام الجنود الأمريكان. بدأ في مرحلة رئاسة كلنتون التدخل الأمريكي في البوسنة ومن أجل البوسنة متبعا السياسة المبنية على نفوذ القيم. أمكن هذا المطلب الأخلاقي آنذاك استخدام القوة وبالتوكيل من منظمة الأمم المتحدة. بخلاف التدخل من جانب واحد في العراق ذلك التدخل الذي غطى أمريكا ودول العالم بظلال عدم الاستقرار. يحتاج العالم إلى انعطافة جديدة نحو سياسة متعددة الأطراف وأما في إقليمنا وفي البوسنة والهرسك فنحتاج إلى التركيز الأمريكي الذي بدوره أن يعزز القوة الناعمة (soft powers ) للاتحاد الأوربي بالقدرات الاحتوائية المتوفرة لدى أمريكا كالقوة العالمية الوحيدة. أقول الوحيدة لأن القوى الأخرى المتصاعدة (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، إيران، تركيا، الاتحاد الأوربي.... ) هي قوى على المستوى الإقليمي ولازالت غير قادرة على تشكيل القوة ذات العمق الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي والثقافي والعسكري والأمني كالعناصر الضرورية التي تتصف بها القوة العالمية الحقيقية. لذلك من المهمّ فيما يتعلق الأمر ببلدنا أن نؤكّد بأن الاتحاد الأوربي غير قادر لوحده على إدخال البوسنة والهرسك في اتّحاده. لا تستطيع البوسنة والهرسك دخول الاتحاد الأوربي بدون الولايات الأمريكية المتحدة.



رغم غرابة الاستنتاج المذكور أعلاه فإنّه واضح وبالعين المجردة يتبين التخلف المؤسساتي في الدولة الدايتونية. إن نظام الكيانين معقد بما يكفيه أن يولّد بنفسه الخطأ. وليس بالضرورة أن يكون في الأمر علاقة بنخب سياسية: لو أتت أية نخبة من أية دولة أوربية إلى الدولة الدايتونية لتعثرت بشبكة العوائق العنكبوتية للنظام المتحجر. وما كان بمقدور أي أحد باستثناء الولايات الأمريكية المتحدة أن يصمم نظاما سياسيا كهذا وبمقدورها هي فقط أن تتصور بأن نظام كهذا يمكنه أن يتقدم. السبب واضح: لأن مثل هذا النظام بحاجة دائمة لوجود المدير الأمريكي. تتحرك البوسنة والهرسك الدايتونية بالطلب الأمريكي. وإذا غاب ذلك الطلب تأخرت البوسنة. أنا آمل أن تعي ذلك الإدارة الأمريكية الراهنة أنها باستخدام زعامتها العالمية ستساعدنا خطوة بخطوة لنبني دولة قادرة على الدخول في الاتحاد الأوربي.


تميّزت الإدارة الكلينتونية بالزعامة العالمية فاتحة لها المجال لتحقيق المصالح الأمريكية القومية وبطريقة كانت مقبولة نسبيا. وقد كان تكوين ونمو القطاع غير الحكومي بالبلدان المارّة بمرحلة التحول وانتشار الديمقراطية بطريقة سلمية غالبا وتماثل عدد كبير من السياسيين في صفوف الديمقراطيات الشابة بكلينتون وفريقه بمثابة المعايير المرجعية للتدخلات الأمريكية التي قبل بها المواطنون أو لم يبدوا بالمعارضة لها. لا يفتقر أوباما لقوة الزعامة بل بالعكس. لكن أين هي البوسنة والهرسك في خريطته الجيوعالمية ؟ ليس لها مكان حتى في المرتبة المتوسطة من المصالح الأمريكية. فالعراق وأفغانستان وباكستان وإيران وكوريا الشمالية واليمن وجورجيا والصومال والكونغو والحرب ضد الإرهاب والتغييرات المناخية والنهوض الجيوسياسي الروسي كلها أولويات اكبر قياسا إلى البوسنة والهرسك.


رغم كل ذلك تبقى البوسنة والهرسك أكبر الانتصارات للسياسة الخارجية الأمريكية خلال الخمسة عشر عاما المنصرمة وهذا هو منتوج "السلام الأمريكي" الذي لم يتجدد فيه العنف. ويعتبر هذا الانتصار من منظور المتابع المستقل لسياسة بلد ما انتصارا استثنائيا. أعطت البوسنة والهرسك المصداقية للسياسة الخارجية الأمريكية التي يقف أمامها واجب مواصلة تعزيز تلك المصداقية من خلال بناء الدولة التي ستغير بمرور الزمن قالبها الدايتوني غير المعقول. ما صُنعت البوسنة الدايتونية من قبل كازاخستان ولا روسيا البيضاء أو الصين أو البرازيل أو تركيا أو إيران بل صنعتها الولايات الأمريكية المتحدة بمعية ما يسمى بالإجماع – (الـconsensus) بين زعماء الحرب في البوسنة والهرسك. وإذا لم تقو ارتباطات واشنطن في البوسنة والهرسك في سبيل بناء بلد أفضل فماذا يتأمل مواطنوها الذين عامة يرغبون رؤية بلدهم في العالم الغربي؟



إن الأسلوب المعياري للاتحاد الأوربي في إيجاد الحل للأزمة البوسنية عن طريق بناء الدولة (state building) غير قادر على بلوغ النتيجة من دون حضور الهوية الأمريكية التي تعمل عندما يتوفر لها القرار. لذلك تحتاج البوسنة والهرسك أفضل اللاعبين الأمريكان كالدعم اللوجستي لعملية الاندماج الأوربي. البعض من هؤلاء اللاعبين حاضرون ونأمل أن ينضم إليهم الآخرون. لماذا يعتبر هذا الأمر من الأمور المهمة؟. سوف نرى كيف يكون مصير مكتب المندوب السامي (OHR) اختصارا(6)  لكن هناك توجه واضح نحو تقليص مكتب المندوب السامي وتعزيز مكتب المندوب الخاص للاتحاد الأوربي(7). وبما أنه لا تتوفر لدى بلدنا بسبب بنيته الداخلية الصلاحيات المطلوبة للدخول في الاتحاد الأوربي كان من الأفضل لو منح مندوب الاتحاد الأوربي صلاحيات قوية. أنا عندي ما يبرر شكوكي في قدرة مكتب المندوب الخاص للاتحاد الأوربي على إصدار الأوامر حتى لو اندلعت الأزمة إلى حدود غير متوقع. لماذا؟ لأنه ليس للاتحاد الأوربي في الحقيقة أي ارتباط بالأمور المهمة المتعلقة بالبناء الدستوري الدايتوني ولأن الاتحاد الأوربي مكلّف بإنشاء البوسنة والهرسك البروكسيلية. لذلك أميل إلى الاقتراح أن يتم تحويل مكتب المندوب السامي (في حالة إنهاء تفويضه المعروف حاليا) إلى مكتب المندوب الأمريكي للبوسنة والهرسك الدايتونية. إذا كان للاتحاد الأوربي مكتبه فلماذا لا يكون مثله للولايات الأمريكية المتحدة،الصانعة لاتفاقية دايتون؟. من المفروض أن يكون ذلك مكتبا أمريكيا ولكن ليس كجهاز قومي تابع لها. يعني ليس في إطار المؤسسات الأمريكية في البوسنة والهرسك بل أن يكون ذلك المكتب جهاز المجتمع الدولي الذي تديره الشخصية الأمريكية لها الصلاحية للتدخل كلما كان بناء الدولة مهددا كمؤسسة محايدة تقدم الخدمات لمواطنيها. في الواقع هذه صيغة جديدة للعمل المتزامن من قبل الولايات الأمريكية المتحدة والاتحاد الأوروبي كعمودي السياسة الدولية في البوسنة والهرسك.



لكن هل بإمكان إدارة أوباما أن تخطو مجددا خطوة أخرى إلى الأمام كما حدث ذلك خلال التسعينات وأن تعلن بأن البوسنة والهرسك مصلحة أمريكية ولو في أدنى حدّ؟ وإذا كان ذلك ممكنا فستكون للبوسنة والهرسك فرصة لتبني نفسها مع مرور الزمن كمجتمع القانون. وبعكس ذلك ستبقى البوسنة والهرسك دولة أسيرة بشعب أسير يعتبر إمكانية الحصول على تأشيرات الدخول من أقصى انتصاراته.


لذا من الأهمية الحاسمة أن تقوم الولايات الأمريكية المتحدة والاتحاد الأوربي من خلال العمل المنسق بينهما وبزعامة واضحة من قبل واشنطن بإيقاف إنتاج الأضرار وأن يجددا المصلحة الأساسية الاستراتيجية للبوسنة والهرسك حتى تصبح البوسنة والهرسك الدايتونية دولةَ مستديمة.
_______________
دكتوراه العلوم السياسية، الأستاذ المشارك بكلية العلوم السياسية، جامعة سراييفو.


1 - استخدم الكاتب المصطلح الفرنسي: الفنّ من أجل الفن، "Promenade l'art pour l'art"



2 - راجع حول خطط السلام في البوسنة والهرسك: البوسنة والهرسك من مهمّة فانس إلى اتفاقية دايتون، قاسم بيغيتش، الناشر – بوسانسكا كنيغا -1997.



3 - تصريح ميروسلاف لايتشاك بموقع انترنت www. reci. ba المنشور في 14/3/2008م.



4 - شهادة دانيال فريد أمام لجنة الكونغرس للسياسة الخارجية حول الأوضاع الجنوب الشرقي لأوروبا بعد إعلان الاستقلال في كوسوفو http:// w w w. kliker. info/index. php?id=6784 المؤرخ في 13/3/2008 م آخر مراجعة في 18/10/2010 م.



5 - كلمة رومانو برودي بمعهد العلوم السياسية في باريس بتأريخ: 29/5/2010 م.



6 - مكتب المندوب السامي مؤسسة دولية تكونت خصيصاَ لتولي مسؤولية الإشراف على تنفيذ الجوانب المدنية لاتفاقية دايتون. أقيم منصب المندوب السامي وفقا للإطار العام لاتفاقية السلام في البوسنة والهرسك الذي عادة يسمى اتفاقية دايتون للسلام التي عقدت في دايتون، ولاية الـOhio والتي تم توقيعها في باريس بتاريخ. 14/12/1995 م.. راجع التفاصيل في http:/ / w w w. ohr. int/ohr-info/gen-info/default. asp?content_id=38528 آخر مراجعة 19/10/2010 م



7 - المندوب الخاص للاتحاد الأوروبي هو في نفس الوقت المندوب السامي للمجتمع الدولي في البوسنة والهرسك واُستمدّ تفويضه من الأهداف السياسية للاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك وتحديدا يقصدون بتفويضه المساعدة وتحقيق التقدم في تنفيذ اتفاقية السلام وعملية الاستقرار والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، راجع التفاصيل في http / w w w. eusrbih. eu/gen-info/?cid=200,3,1 آخر مراجعة 19/10/2010 م.