لا يكاد المرء يجد منطقة جغرافية يمكن مقارنتها مع منطقة البلقان، من حيث العلاقات المتبادلة بين شعوبها وبين الجماعات العرقية القاطنة فيها. إن هذه المنطقة الكثيرة التقلبات، التي كانت على مدى عدة قرون ميدانا تتبارز فيه القوى الكبرى للتعبير عن مصالحها، قد ضَمَّخت ترابَها بالدماء على مر العصور باسم المصالح القومية المتضادة.
عوامل استثنائية
بعد تيتو.. تايتانيك
"سلوبو – سلوبودو" أيتها الحرية
أوروبا والبوسنية.. توجمان وميلوشيفيتش
عدم مسؤولية القادة.. والطريق إلى الهاوية
القومية الرومانسية عند شعوب البلقان كانت في الأصل موجهة ضد السلطات المحتلة، وخاضعة في نفس الوقت للمصلحة العليا المتمثلة في البحث عن الوحدة السلافية الجامعة، غير أنها تتحول بين الفينة والفينة إلى العفريت الذي يتحرر من القمقم، لتصبح مولدا لأحداث جائحة، تنطلق في طريق لا رجعة عنها بين الشعرب البلقانية نفسها |
عند البحث عن "المتسبب" بهذا الظهور البارز للذاكرة التاريخية في البلقان وهذا التغريب المتكلّف للجماعات العرقية، لا بد في المقام الأول من الالتفات إلى النخب والأفراد الذين خصص لهم سيناريو الماضي أدوار الأشرار والمستبدين بكرامة الإنسان وسلامته.
وبما أن المسار الزمني المتواصل لتاريخ البلقان لم يكن مستقيما ومستقرا، بل كثيرا ما كانت تقطعه أحداث صاخبة وشخصيات تملأ تلك الأحداث بتصرفاتها، فإنه من المستحيل أن ننظر إلى الأحداث التي ميزت السنوات العشرين الأخيرة نظرة اختزالية، معزولة عن سابقاتها من الحقب والفترات التاريخية، التي كانت في معظمها عينة مشابهة لها.
وباطلاع بسيط وسطحي على نهاية القرن التاسع عشر في هذه المنطقة، وعلى الحقائق التاريخية الكثيرة، والأعمال الأدبية، وتاريخ الفكر الاجتماعي السياسي لتلك الحقبة، يمكن أن للمرء، أن يحس وبوضوح، من خطاب المستشرفين لاتجاهات المستقبل أمثال (لوديفيت غاي Ljudevit Gaj، وديمتري توتسوفيتش Dimitrije Tucović ، وسفيتوزار ماركوفيتش Svetozar Marković، وغيرهم) بتطابق طموحات الجماعات العرقية بالتحرر من السلطات الإمبريالية الأجنبية، والتعبير عن المصالح والاحتياجات المشتركة، التي أسفرت عن تعزيز الوحدة الوطنية، سواء في الجانب المادي الحسي، أو في الجانب القانوني الرسمي. لكن تسلسل الأحداث الذي تبدو بدايته معروفة، بينما لا تلوح له نهاية في الأفق، يشير بوضوح إلى أن "الحرية في البلقان لا تتقن الغناء".
إن القومية الرومانسية عند شعوب البلقان التي كانت في الأصل موجهة ضد السلطات المحتلة، وخاضعة في نفس الوقت للمصلحة العليا المتمثلة في البحث عن الوحدة السلافية الجامعة، إن هذه القومية الرومانسية تقدَّم على أنها وسيلة للمواجهة بين شعوب البلقان، فتتحول بين الفينة والفينة إلى العفريت الذي يتحرر من القمقم، لتصبح مولدا لأحداث جائحة، تنطلق في طريق لا رجعة عنها. إن قتل ستيبان راديتش وألكسندر كراجورجيفيتش، ومحمد سباهو، وإقامة شبه دولتين عميلتين برئاسة بافيليتش ونيديتش إبان الحرب العالمية الثانية، والربيع الكرواتي، ووفاة جمال بييديتش الغامضة، والاضطرابات الطلابية في كوسوفو، ليست سوى بعض الأحداث الحاسمة التي فجرت الأوضاع أو أسيء استعمالها من أجل إضفاء المسحة الإلهية على العداوات بين الشعوب في منطقة البلقان، بغية النجاح في محو كل ما هو مغاير ومختلف، مما أدى إلى عواقب لا يمكن حصرها.
مسؤولية الشعوب الأكثر تعدادا هي الأعظم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاستقرار أو عدم الاستقرار، وفي الحالة اليوغوسلافية، فإن النزعة القومية الكرواتية، كانت، بشكل أو بآخر، "تتحدث" باسم جميع الشعوب والقوميات غير الصربية |
لكن من المؤسف أن ذلك السلام كان يقوم عموما على السلطة المطلقة التي كان يتمتع بها المارشال نفسه، مع وضع القضايا العالقة من الماضي في المرتبة الثانية، ومحاولة تسوية التناقضات الداخلية بشعار "الأخوة والوحدة"، دون تبني الأفكار الفعالة التي من شأنها أن تكفل لمؤسسات النظام الاستقرار والديمومة، بعد رحيله عن هذا العالم. لقد تميزت الحياة السياسية في (مملكة) يوغوسلافيا الأولى بالعداء المستمر بين القيادات السياسية الصربية والكرواتية، وقد ورث تيتو (جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية) نفس المشكلة، وتجلت هذه المشكلة في الخصومات بين القادة والمسؤولين في الجمهوريتين من أبناء الحزب الواحد، والتي كان من الحتمي أن تنتقل إلى المستويات الدنيا، إلى الشعبين الأكثر تعدادا في يوغوسلافيا. كان من الواضح أن الإطار الأيديولوجي المشترك للاشتراكية ومهارة تيتو في "المناورة" لم يكونا قادرين على إزالة أسباب المشكلة، بل كانا "يدفعان بها تحت البساط". أضف إلى ذلك، أنه مع اقتراب نهاية تيتو، كانت المشاكل تتضاعف، وبرحيله زال آخر حاجز كان يقف أمام الصراع المباشر.
ويمكن وصف صراع تيتو مع المنشقين من داخل النظام نفسه، بأنه كان صراعا "ثنائي القطب". من الجهة الأولى، وفي وقت مبكر، وبعد الحرب مباشرة، كان مؤيدو قرار المكتب الإعلامي (وأكثرهم من الكوادر الشيوعية في صربيا والجبل الأسود) هم أكثر من ذاق ويلات سكين النظام، في حين كانت أنساق المنشقين في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي تملأ في الغالب من أولئك الذين كانوا ينادون بإقامة التوازن بين صربيا وكرواتيا (توجمان Tudžman، دابتشيفيتش Dapčević، تريبالو Tripalo).
حدثت أول انتفاضة شعبية كبيرة في يوغوسلافيا الاتحادية في مناخ ما سمي "بالربيع الكرواتي"، وهزّت تلك الانتفاضة الشعبية على نحو خطير الأسس الثابتة الموهومة للدولة المشتركة. كان ذلك تعبيرا عن السخط الكرواتي، الذي جاء –من جهة– ردا على النزعة القومية الصربية، لكنه كان يضم في طياته أيضا أبعادا من النزعة القومية الكرواتية الأصيلة. إن النزعة القومية الصربية التوسعية كانت بالتأكيد أكثر خطورة، وذلك لأن انحرافات الرؤى السياسية عند قادة الشعب الأكثر تعدادا في المجتمع المتعدد القوميات، يمكن أن تؤدي إلى عواقب مدمّرة. إن مسؤولية الشعوب الأكثر تعدادا هي الأعظم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالاستقرار أو عدم الاستقرار، سواء على مستويات العلاقات الداخلية أو الدولية، وهذا يتطلب التضحية بجزء من السلطة، وترسيخ مبادئ التمييز الإيجابي، من أجل الحفاظ على درجة أكبر من "الانسجام" داخل أنظمة مركبة من هذا النمط. وفي الحالة اليوغوسلافية، فإن النزعة القومية الكرواتية، كانت، بشكل أو بآخر، "تتحدث" باسم جميع الشعوب والقوميات غير الصربية.
"سلوبو – سلوبودو" أيتها الحرية
مما يدل على نقص الرؤية عند ميلوشيفيتش وعجزه عن مواكبة متطلبات العصر، توجهه نحو موسكو، وتصوره أنها ستكون الراعي المنشود للمصالح القومية الصربية، وذلك في لحظة الانهيار التام للاقتصاد المخطط والنظام السياسي ووحدة الاتحاد السوفيتي آنذاك |
ومما لا شك فيه أن ظهور سلوبودان ميلوشيفيتش على المسرح السياسي في صربيا ويوغوسلافيا، كان هو العامل المسرّع للأحداث التاريخية. وعلى الرغم من أنه لم يكن حتى تلك اللحظة معروفا عند عامة الناس، إلا أن مهاراته الإدارية في القطاع المصرفي، جعلته يتمتع بثقة مرشده السياسي إيفان ستامبوليتش غير المحدودة، والذي كان رجل جمهورية صربيا الأول، والذي كان بمزاجه الهادئ يوحي بأنه رجل عقلاني، مستعد لتقديم التنازلات واحترام المصالح المتعددة (بعد عقد ونصف من الزمن، ردّ ميلوشيفيتش الجميل لستامبوليتش بتصفيته جسديا). ومن ناحية أخرى، سرعان ما كشف سلوبودان ميلوشيفيتش عن نفسه للجمهور رجلا طموحا، يتخذ من المكيافيلية مبدأ في الحياة، وكان متعطشا للإمساك بمقاليد السلطة وللامتيازات التي تأتي بها.
نجح ميلوشيفيتش في التخلص من العيش في ظل ستامبوليتش، بمساعدة خلية كبيرة وعميقة البيروقراطية داخل نظام التسمية الحزبي الصربي، والتي كان من الواضح أنها تسعى إلى تعيين زعيم قوي جديد. إن تقدم ميلوشيفيتش السهل والسريع وتربّعه على قمة هرم النفوذ بين الصرب، اكتسب أبعادا أسطورية وملحمية، وكانت تدعمه في ذلك وبصورة لا محدودة وسائل الإعلام التي تم استغلالها لتدغدغ أحطّ الأهواء القومية عند الشعب وتسخنها، مستخدمة العروض السياسية الغوغائية الرخيصة التي تتحدث عن موقعه غير المتكافئ داخل الاتحاد اليوغوسلافي.
كانت محصلة تلك الإستراتيجية السياسية الحصول السريع على الدعم شبه التام لرؤيته السياسية، التي كشفت عن وجهها الحقيقي في عيد القديس فيد (فيدوفدان) في وادي غازيمستان سنة 1989، مسخرة السخط الشعبي لمصلحتها ومستنفرة له ضد مصالح الشعوب الأخرى ومواقعها. ولم يمض على ذلك الاحتفال وقت طويل، حتى أعقبته تعديلات في الدستور الصربي، جعلت أحكامه متناقضة تماما مع أسس روح الدستور الاتحادي لجمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية لعام 1974 ونصه، والذي كان يحرس توازن القوى والحقوق بين الوحدات الاتحادية. لقد استسهل ميلوشيفيتش أن يعرض هذا التوازن على أنه "عقاب" لأكثر الشعوب تعدادا، ألا وهو الشعب الصربي، الذي لا يمكن مساواته بالشعوب الأخرى –حسب زعمه– نظرا لإنجازاته التاريخية وكثرة عدده، بل إنه يستحق مكانة "الأول بين أقرانه" على أقل تقدير، ولجأ ميلوشيفيتش إلى استخدام العنف القانوني الوحشي فسحق به الإدارة الذاتية في كل من كوسوفو وفويفودينا.
أنتج أداء ميلوشيفيتش السياسي المتغطرس والمتعجرف لدى الشعب الصربي (كان مفهوم الشعب في عمومه بسيطا، وذلك بسبب عجز الرياح السياسية المعارضة في ذلك الوقت) تعاطفا ووهما عن ذلك الصربي، الذي يحكم بطريقة تيتو السلطوية، والقادر على "تصحيح الظلم التاريخي الذي وقع على ذلك الشعب ذاته".
لعل أفضل مثال على عدم كفاءة تلك السياسة في التعامل مع حتميات تلك المرحلة، ومع الظواهر العالمية في الساحة الدولية، حقيقة أن تلك العمليات قد تزامنت مع هدم جدار برلين، ومع العقد الذي شهد "فتح بوابات التحرر" على موجة "الثورات المخملية"، أمام الشعوب التي كانت تعيش وراء الستائر الحديدية. كانت الأحداث في يوغوسلافيا تتابع الواحد تلو الآخر، وكأنها على شريط متحرك، وكان سلوبودان ميلوشيفيتش هو الذي يحدد ديناميكيتها. لم يكتف ميلوشيفيتش بالقضاء على قيادة كوسوفو (عازم فلاسي) ودفع ألبان كوسوفو نحو العمل السياسي السري والعصيان المدني، بل أعرب عن طموحاته في إعادة تنظيم يوغوسلافيا وفقا لرغباته، وبما يحقق مصلحة شعبه، متجاهلا تماما جميع الخطابات الأخرى. وقد انهارت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوغوسلافي بسبب الطموحات المستبدة لقيادات النخب الشيوعية السلوفينية والكرواتية، مما أدى إلى إدخال التعددية السياسية والإعلان عن إجراء انتخابات عامة في جميع الجمهوريات.
من المؤكد، أن إدخال التعددية الحزبية في يوغوسلافيا جاء في التوقيت الأقل ملاءمة، لاسيما إذا أخذ بعين الاعتبار التنافر بين الشعوب الذي كان في ذروته، ووجود الفراغ المؤسساتي على المستوى الاتحادي، والذي ظهر في فترة ما بعد الانتخابات، في صورة ترتيبات توافقية، تتميز بها الديمقراطيات غير المستقرة. إن التعددية السياسية، بطبيعة الحال، أمر حتمي، ما دامت توجد الرغبة بالتحول الديمقراطي، باعتباره الموجة المقبولة عموما للأحداث السياسية في أوروبا في تلك الفترة الحاسمة. ومما يدل على نقص الرؤية عند ميلوشيفيتش وعجزه عن مواكبة متطلبات العصر، توجهه نحو موسكو، وتصوره أنها ستكون الراعي المنشود للمصالح القومية الصربية، وذلك في لحظة الانهيار التام للاقتصاد المخطط والنظام السياسي ووحدة الاتحاد السوفيتي آنذاك. واستمر "تصدير" ميلوشيفيتش للنفوذ، واستنفار الكوادر الذين سيكونون في خدمة الدعم اللوجستي لوجهات نظره السياسية، عن طريق الجبل الأسود، التي "سقطت بالهمس" تحت رعاية ما يسمى بالثورة المناهضة للبيروقراطية، ولكن في الواقع كان ذلك استحضارا للوحدة التاريخية بين صربيا والجبل الأسود، والتي أخضعت لها مصالح الاتحاد اليوغوسلافي.
أوروبا والبوسنية.. توجمان وميلوشيفيتش
كان من غير الممكن في تلك اللحظة تشبيه الأوضاع السياسية في يوغوسلافيا السابقة بالأوضاع السياسية في أوروبا بعد الحقبة الشيوعية، والدليل على ذلك عدة ظواهر. فبينما تم توجيه طاقة الشعوب السلبية في وسط أوروبا وشرقها في الاتجاه الإيجابي، بمعنى إزالة أنظمة الحكم المسؤولة عن أحوال المواطنين الصعبة، فإن يوغوسلافيا شهدت تناميا كبيرا للنزعات القومية. والدليل على ذلك تفكك تشيكوسلوفاكيا السلمي الذي حدث لاحقا.
وكذلك، وبعد إدخال التعددية الحزبية، لا يوجد تشابه في تشكيل النخب الجديدة، وما تلاه من ممارسات سياسية، في يوغوسلافيا وفي باقي بلدان المعسكر الاشتراكي. فبينما نجح المنشقّون أمثال فاسلاف هافل وليخا فالنسا، في قيادة شعوبهم نحو الديمقراطية الحقيقية، لم ينجح بتحقيق ذلك في يوغوسلافيا، سوى القيادة الجديدة التي تم انتخابها في جمهورية سلوفينيا، وهذا لا يدعو كثيرا للاستغراب، إذا ما أخذنا في الاعتبار العقلانية السلوفينية في التعامل، والاهتمام بالاقتصاد، اللذين جعلا من سلوفينيا –وهي داخل الإطار اليوغوسلافي السياسي والاقتصادي الموحد– الجمهورية التي كانت تقود النمو الاقتصادي في البلد كله، فكانت بذلك مؤهلة لتُحسن التعامل بسرعة مع ظروف تنافس السوق القاسية التي تتميز بها العلاقات الرأسمالية.
من ناحية أخرى، فإن رواد هذا المشروع في سلوفينيا، كانوا من الشيوعيين أنفسهم، على عكس الدول الأخرى المتحررة من حكم الأيديولوجية الشيوعية الواحدة. لقد كان التحول السياسي في الأوساط الشيوعية السلوفينية مذهلا، وخاصة إذا علمنا أن عددا من أكبر مساعدي تيتو وأكثرهم ولاء وتعصبا له، كانوا من السلوفينيين، مثل إدوارد كاردل Edvard kardel مبتكر فكرة "الإدارة الذاتية" التي ثبت فشلها، وستانى دولانتس Staneta Dolanc وزير داخلية يوغوسلافيا السابقة. لكن، وبالرغم من أمثال هذه العناصر البائدة، فإن الحالة السلوفينية كانت هي القصة السعيدة الحقيقية الوحيدة في يوغوسلافيا السابقة، وما تزال سلوفينيا حتى اليوم، مثالا يحتذى في جوانب كثيرة، بالنسبة لباقي الجمهوريات التي نشأت بتفكك جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية، والتي ما زالت تكابد غمار عملية التحول الصعبة والمتأخرة.
ما كان لهذه النتيجة أن تحدث لولا لامبالاة ميلوشيفيتش باستقلال سلوفينيا وموافقته الضمنية على ذلك، وكان الدافع لذلك ما تتمتع به سلوفينيا من تجانس عرقي، إلى جانب قلة عدد الصرب فيها.
أما حالة البوسنة والهرسك فإنها معاكسة تماما لحالة سلوفينيا. إذ تبين أن التعددية السياسية لم تكن "هدية الديمقراطية القاتلة" لأي دولة في المنطقة مثل ما كانت قاتلة للبوسنة والهرسك. وبالرغم من أن قادة الأحزاب لحظة تشكيلها كانوا من المنشقين، إلا أنهم ساهموا في تعميق الانقسامات القومية، وذلك بمساعدة النخب في الجمهوريات المجاورة، وكان من الواضح أنهم لم يستطيعوا السيطرة على تلك الانقسامات رغم ماضيهم المشترك في مناهضة الشيوعية.
من الظلم بمكان، المساواة بين جميع القيادات القومية لشعوب البوسنة في تحملها للمسؤولية عن المأساة التي أصابت البوسنة والهرسك في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، ولعل الأحكام الصادرة عن محكمة لاهاي، من حيث العدد وشدة التجريم تمثل أفضل مؤشر على درجة مسؤولية كل طرف من الأطراف المتحاربة وقادتها. كان رادوفان كاراجيتش وراتكو ملاديتش سيدا الحياة والموت في سراييفو المحاصرة وفي جميع أنحاء البوسنة والهرسك، وإن سريبرينيتسا، ذلك المشهد الختامي لخطط الحرب البشعة التي رسمها هذا الثنائي، ستبقى وصمة عار دائمة على جبين الضمير الإنساني وأوروبا الديمقراطية.
إن مظهر توجمان الكاريزمي وتصميمه وأهدافه السياسية المحددة بوضوح، والدعم السخي وغير المشروط من قيادة جمهورية ألمانيا الاتحادية (التي كانت في تلك اللحظة مستعدة "للمقامرة" بمكانتها في الاتحاد الأوروبي)، إن كل هذا جعل منه الشخص الذي يحظى بدعم الشعب الكرواتي بأسره، وبأنه مخول بالكلام باسمه. وكما كان الحال مع القيادة السلوفينية، فإن توجمان كان يتمتع بخبرة المسؤول الاشتراكي والجنرال السابق، إلا أنه يتميز عن باقي أقرانه بأنه خاطر بمكانته الاجتماعية والسياسية، وبمزايا المناصب التي كان يشغلها في العهد الاشتراكي، في سبيل " القضية الكرواتية". ثم عاد إلى المشهد السياسي، بصفته الشخص الذي يتقن التصدي للنزعة القومية الصربية التوسعية، ولكن بطريقة تمثل "الصورة التي تعكسها المرآة" لتلك التهديدات.
لم تمض فترة طويلة من الزمن حتى تبين أن اختلاف توجمان القومي مع ميلوشيفيتش كان قصير الأمد، فقد كان ذلك الاختلاف – مهما بدت هذه الكلمة قاسية – قد استنفد حول الأنماط التقنية لحل "المسألة الصربية" في كرواتيا، والتي حلها توجمان من جانب واحد بما حدث إبان عملتي "العاصفة" و "فلاش" الحربيتين.
إذا استثنينا الصراع العسكري وجرائم القوات الصربية في بداية الحرب في كرواتيا (فوكوفار ودوبروفنيك)، وسياسية "تصفية" يوفان راشكوفيتش Jovan Raškovića (القائد الأول للصرب في ما يسمى بجمهورية صربسكا كرايينا، الذي كان يرى حل النزاعات القومية بين الصرب الكروات من خلال التفاوض، فلم يكن بذلك ملائما لميلوشيفيتش أو لتوجمان)، فإن كامل الفترة المتبقية من التفاعل بين ميلوشيفيتش وتوجمان كانت تتسم بالاحترام المتبادل والتفاهم، وكان تكمن في قلب ذلك كله، المصلحة المشتركة في تقسيم البوسنة والهرسك (كان اتفاق كراجورجيفو يعني فقط تنسيق التحركات المستقبلية، والتي كانت أكثر وضوحا من خلال تعاون القوات العسكرية الصربية والكرواتية وعدم تحاربها فيما بينها إبان الحرب في البوسنة والهرسك). كان مشروع توجمان في التعبئة الفعالة للعوامل القومية، يسير عبر أطروحتين أساسيتين، في المقام الأول، تم تكثيف الحديث والكتابة عن يوغوسلافيا باعتبارها "سجن الشعب الكرواتي"، والتي كانت تهدف منذ لحظة تأسيسها الأولى، إلى "استعباد الكروات" وجعل حريتهم القومية خاضعة لاستبداد صربيا الكبرى.
كما أن توجمان، على الرغم من أنه شارك في حرب التحرير الشعبية، سخّر كل قدراته في سبيل خلق بيئة مواتية للمصالحة بين الأوستاشا والثوار، الأمر الذي يعني تعديلا تاريخيا جذريا، وخفضا من قيمة إنجازات النضال ضد الفاشية، تحت ضغط رغبات المغتربين القومية المتطرفة.
عدم مسؤولية القادة.. والطريق إلى الهاوية
أطلقت بيليانا بلافشيتش، في بداية الحرب في البوسنة والهرسك فكرة بالغة البشاعة، معتبرة المسلمين البوسنيين، صربا فسدت مادتهم الوراثية |
ومن أجل تأييد هذه المزاعم، سوف نأتي ببعض الأمثلة القليلة التي تدل على هذا الجهاز المطلق. صرح سلوبودان ميلوشيفيتش، أثناء نضاله من أجل تعزيز مواقعه، أن الصرب قد لا يتقنون العمل، لكنهم بالتأكيد يتقنون العراك، محتقرا أيما احتقار القدرات الذهنية للشعب الذي ينتمي إليه.
من طرفها، أطلقت بيليانا بلافشيتش، في بداية الحرب في البوسنة والهرسك فكرة بالغة البشاعة، معتبرة المسلمين البوسنيين، صربا فسدت مادتهم الوراثية، فسارت بذلك على خطى أحلك تقاليد الإمبريالية البيولوجية. وعلينا ألا ننسى، ونحن نعيش في عالم اليوم، رئيس وزراء الجبل الأسود ميلو جوكانوفيتش، ذلك الديمقراطي المعروف، الذي صرح أمام وسائل الإعلام، عندما كانت قوات الاحتياط من الجبل الأسود ترتكب جرائم الإبادة العمرانية أثناء الحرب في دوبروفنيك، وبلهجة ملؤها السخرية والاستخفاف، كيف أنه بات يكره لعبة الشطرنج لأن رقعة الشطرنج صارت رمزا للدولة الكرواتية.
رادوفان كاراجيتش (الذي جاء في الحقيقة من الجبل الأسود، والذي يعتبر أحد المهندسين الأساسيين للجرائم التي ارتكبت باسم الشرف الصربي في هذه المناطق، الأمر الذي يحفز على التفكير في ظاهرة أزمة الهوية الغريبة، والمعروفة عبر التاريخ، والتي يمثلها نابليون، القادم من كورسيكا، كيف استطاع أن يستعبد أوروبا بأكملها "تمجيدا" لفرنسا، وهتلر، ذلك النمساوي، الذي ألحق العار بالشعب الألماني، الذي أنجب بيتهوفن وكانْتْ وهيغل، ثم ستالين الذي ولد في جورجيا، فأقام الإمبراطورية الروسية السائدة على أساس من سياسة الجريمة، الخ).
صرح كاراجيتش في مقابلة صحفية أجرتها معه إحدى وكالات الأنباء الأجنبية، أنه بالتطهير العرقي لأراضي البوسنة من المسلمين، إنما ينفذ الأعمال القذرة بالنيابة عن أوروبا، ناسيا أنه قد مضى سبعة قرون على انتهاء آخر حملة صليبية. وأخيرا، دعونا نتذكر ما تفتحت به قريحة فرانيو توجمان من عبارات التمييز العنصري الغبية، وهو يتحدث عن سعادته الغامرة لأن زوجته ليست صربية ولا يهودية.
_______________
كاتب صحفي