الخلافات الخليجية-الخليجية: الأسباب، القضايا وآليات الحل

مثَّلت أزمة سحب كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين لسفرائها من الدوحة، وهو الحدث الأول من نوعه على مرِّ تاريخ مجلس التعاون الخليجي منذ نشأته، علامة فارقة في طبيعة الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي الست.
201511491326755734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
مثَّلت أزمة سحب كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين لسفرائها من الدوحة، وهو الحدث الأول من نوعه على مرِّ تاريخ مجلس التعاون الخليجي منذ نشأته، علامة فارقة في طبيعة الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي الست.

ويعدُّ هذا الخلاف من أهمِّ الخلافات التي عصفت بالمنطقة في السنوات الأخيرة، وكاد يُهدِّد العمل الخليجي المشترك، ويُؤثِّر سلبيًّا على منظومة دول مجلس التعاون؛ بما أثاره من تساؤلات طرحها في أروقة البيت الخليجي، وتحولات في الأجندة السياسية، وتغيُّرات في موازين القوى في المنطقة.

تناقش هذه الورقة أسباب هذه الأزمة الخليجية التي نشبت في مارس/آذار 2014، وتستعرض قضاياها، وتطوراتها، وصولاً إلى تجاوزها بعودة السفراء إلى الدوحة، بعد أن وقَّعت دولة قطر اتفاق الرياض التكميلي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.

ويصل الباحث إلى نتيجة مفادها أن الآثار المستقبلية لهذه الأزمة على مسيرة التعاون الخليجي تظل باقية، منوهًا إلى أنه ربما تكون أزمة سحب السفراء قد انتهت، ولكن ستبقى هناك أزمة ثقة بين دول مجلس التعاون.

وتنوه الورقة أيضًا إلى أنه رغم ذلك، فإنَّ قرارات القمَّة الخليجية المختصرة التي عُقدت في الدوحة في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2014 تشير إلى حدوث بعض التقارب والتفاهم في عدد من الملفات الإقليمية بين دول المجلس، تحت ضغوطات المرحلة، وخاصة التحديات الراهنة المتمثِّلة في المخاوف الأمنية من الإرهاب والنووي الإيراني.

وتبين أنه يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار النضج الواضح للسياسة الخليجية في الآونة الأخيرة، والذي يتجلَّى في مواقفها الخارجية، ومساعيها وراء مصالحها المحلية، مؤكدة أن هذا النضج سيعزِّز عاجلاً أو آجلاً مفهوم الاندماج، ويُوحِّد من المصالح والمواقف الخليجية الخارجية.

مقدمة

ربما يظن البعض أن الخلاف بين بعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي (دولة قطر، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين) قد تمَّ طي صفحته بعودة السفراء إلى الدوحة؛ التي سبقت بأيام قلائل انعقاد قمة مجلس التعاون الخامسة والثلاثين في العاصمة نفسها؛ لكن مما لا شك فيه أن هذا الخلاف المعلن، وغير المسبوق ما بين أربع دول أعضاء في المنظومة الخليجية سوف يترك علامات فارقة على جدران البيت الخليجي؛ تلك العلامات ستؤدي إلى تحولات في الأجندة السياسية، وتغيُّرات في موازين القوى في المنطقة.

في هذه الورقة سيتمُّ الخوض في الأزمة الخليجية: الأسباب، والقضايا، وآليات الحلِّ، وقضية تجاوزها بعودة السفراء إلى الدوحة، وآثار الخلاف التي تتضمَّن نشأة تكتلات داخل مجلس التعاون الخليجي؛ والعمق السياسي الجديد لدولة قطر؛ وأثر المخاوف الأمنية على توحيد الصف الخليجي؛ وأزمة الثقة التي تعاني منها دول المجلس بسبب افتقاد منظومة مجلس التعاون الخليجي لنظام راسخ.

الأزمة الخليجية

الخلافات الخليجية-الخليجية ليست بظاهرة جديدة؛ فمن المعروف أن هنالك العديد من الاختلافات في وجهات النظر؛ تؤدِّي أحيانًا إلى خلافات ما بين دول مجلس التعاون الخليجي، كما هو الحال ما بين العديد من الدول الأعضاء في المنظمات والتجمعات الإقليمية الأخرى. ومن المعروف -أيضًا- أن بعض هذه الخلافات يبقى سريًّا؛ وذلك لطبيعة الثقافة السياسية في منطقة الخليج؛ رغم ذلك، يظهر بعضها للعلن ما بين الحين والآخر، ويتعلَّق بعضها بخلافات حدودية وتنافس ما بين العوائل الحاكمة، واختلافات الدول في رسم سياساتها الخارجية، وعدم توافق الرؤى في تحديد المصالح والتهديدات الأمنية؛ هذا إلى جانب اختلافات في طبيعة ودور مجلس التعاون الخليجي وأداؤه، وقد سبق وأدَّى بعض هذه الخلافات إلى أزمات سياسية في العلاقات البينية، حتى تطوَّرت أحيانًا إلى سحب السفراء؛ كما حدث عندما سحبت المملكة العربية السعودية سفيرها من الدوحة في عام 2002.

إلاَّ أن الخلاف الأخير بين كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين من جهة ودولة قطر من جهة أخرى يُعَدُّ من أهمِّ الخلافات التي كادت تعصف بالمنطقة؛ حيث كاد يُهَدِّد العمل الخليجي المشترك، و يُؤَثِّر سلبيًّا على منظومة دول مجلس التعاون واختلالها.

فلقد شهد الخامس من مارس/آذار 2014 لحظة فريدة في تاريخ دول مجلس التعاون الخليجي؛ وذلك عندما سحب ثلاثة أعضاء بمجلس التعاون الخليجي (المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين) سفراءهم من دولة قطر(1)؛ ويُعَدُّ هذا الحدث الأول من نوعه على مرِّ تاريخ مجلس التعاون الخليجي منذ نشأته؛ التي تجاوز الثلاثة عقود. حيث جاء هذا التصعيد من قِبَل الدول الثلاث ردًّا على السياسة القطرية؛ التي -كما ورد في البيان المشترك الخاص بسحب السفراء- تتنافى مع الاتفاق الأمني الذي وقَّعه قادة الدول الست الأعضاء بالمجلس في يناير/كانون الثاني 2014؛ والذي يكفل عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية لأي من دول المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر، وعدم دعم كل مَنْ يعمل على تهديد أمن واستقرار دول المجلس من منظمات أو أفراد؛ سواء عن طريق العمل الأمني المباشر، أو عن طريق محاولة التأثير السياسي وعدم دعم الإعلام المعادي(2)، كما علَّلت الدول الثلاث موقفها بسحب السفراء بعدم التزام الحكومة القطرية باتفاق الرياض؛ الذي وقَّع عليه أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني(3).

ففي 23 من نوفمبر/تشرين الثاني 2013 اجتمع قادة الدول الأعضاء بمجلس التعاون الخليجي في الرياض، وتم توقيع بما عُرف بـ"اتفاق الرياض الأول"(4)، وحام حول هذا الاتفاق الكثير من الغموض؛ حيث إنه حتى الآن لا يُعرف تفصيلًا ماذا تمَّت مناقشته في ذلك الاجتماع، وما زالت بنود الاتفاق غير معلنة.

إلاَّ أنه يمكن أن يُفَسَّر اجتماع واتفاق الرياض كردِّ فعل خليجي لما آلت إليه المنطقة العربية من فوضى سياسية، وعدم استقرار من جرَّاء تبعات ما يُعرف بثورات "الربيع العربي"؛ فقد حرَّكت هذه الثورات العربية المياه الآسنة، وأطاحت بقادة أربع دول عربية، وبشَّرت بتحول نحو الديمقراطية والتعددية، وإنهاء الحكم المستبد، وحكم الحزب الواحد، وانتشرت موجة ثورات التحركات الشعبية في عددٍ من الدول العربية، وشملت بعض دول الخليج كمملكة البحرين وسلطنة عُمان، واستدعت هذه الظاهرة وما آلت إليه من تحوُّلات أن تعمل بعض دول الخليج -التي تسعى لحفظ الاستقرار وسياسة الأمر الواقع- أن تتحرَّك لوقف موجات الربيع العربي، وتحصين دول الخليج من ارتداداتها.

وعملت دول الخليج على التدخل العسكري في مملكة البحرين، ودعم كلٍّ من سلطنة عُمان ومملكة البحرين ماليًّا واقتصاديًّا؛ لتجنُّب تأثرهما بهذه التحركات الشعبية، ولدعم استقرارهما، كما وسَّعت دول الخليج عملها ذلك ليس فقط لاحتواء هذه التحركات ومحاولة كبح جماحها؛ بل حتى القيام بثورة مضادَّة لإعادة النظام العربي لما كان عليه قبل هذه الثورات.

رغم ذلك كان المسار الديمقراطي وصعود تيار الإسلام السياسي في عددٍ من دول الربيع العربي، خصوصًا حركة الإخوان المسلمين؛ التي استفادت من هذه الثورات -من خلال قدرة التنظيم والحشد التي تتمتع بها- في قطف ثمارها، والفوز في الانتخابات التي عقبت الإطاحة بالأنظمة الشمولية. وإلى جانب تحدِّي التغيرات والدمقرطة مثَّل صعود حركة الإخوان المسلمين حسب قراءة بعض الأنظمة تهديدًا لشرعية النظم الحاكمة في دول الخليج نفسها؛ مما قد يُؤَثِّر على استقرارها السياسي، وفي حين شرعت دول الخليج في مسعاها لمواجهة هذه الثورات، وما نجم عنها من تغيير في النظام العربي، بقت دولة قطر مستمرَّة في دعم هذه الثورات، وما أنتجته من تغييرات على المستوى السياسي والمالي والاقتصادي والإعلامي. وتقاطع الدعم القطري لهذه الثورات مع سياسات ومحاولات دول الخليج الأخرى لوأدها، ودعم استقرار النظام المصري؛ لما تمثِّله مصر من ثقل ووزن سياسي في المنطقة العربية.

حيث أتى اجتماع واتفاق الرياض كمحاولة من دول الخليج لثني دولة قطر عن سياستها المذكورة؛ ولكن يبدو أن قطر قد فضَّلت الاستمرار في دعم الحركات الشعبية والثورات العربية، وأتت عملية سحب السفراء كعملية ضغط سياسي على دولة قطر من الدول الخليجية الثلاث؛ لثنيها عن الاستمرار في هذه السياسة، التي تراها هذه الدول تتعارض مع سياساتها.

والجدير بالإشارة هنا هو الموقف القطري إزاء سحب السفراء؛ ففي بيان لوزارة الخارجية القطرية أكدت دولة قطر أنها لن تقوم بالمثل، ولن تسحب سفراءها من الدول الثلاث؛ بل إنها تحرص على علاقتها بأشقائها الخليجيين(5)، وتعكس هذه الخطوة من قِبَل حكومة دولة قطر نضجَ سياستها واحتواءها للأزمة.

وفي حين استمرَّت قطر في سياستها حاولت ونجحت في تحييد موقف المملكة العربية السعودية من خلال عدة لقاءات بين أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني و الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية؛ التي حوَّلت دور المملكة العربية السعودية إلى باحث عن حلٍّ لأزمة سحب السفراء بعد أن كانت جزءًا من هذه الأزمة، وظلَّت الأزمة قائمة ما بين دولة قطر وبين دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تعادي علنًا تيار الإسلام السياسي، وتعتبر معظم الحركات الإسلامية "إرهابية"، وتخطَّى هذا الخلاف النطاق الرسمي، وانتقل إلى الإعلام في مرحلةٍ ما، وصارت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة مباحة لهذا النزاع، ومجالاً واسعًا للتراشق الإعلامي.

عودة السفراء

استمرَّت الأزمة لما يقارب الأشهر الثمانية؛ و شهدت الكثير من الخصام والمقاطعة على المستوى الرسمي، والكثير من اللغط على المستوى الشعبي، وكادت الأزمة تعصف بمنظومة مجلس التعاون الخليجي؛ حيث طفى على السطح إيماءات بإمكانية خروج أو انسحاب عدد من الدول الخليجية من المنظومة الإقليمية، وشهدت هذه المرحلة جهودًا مكثفة من دولة الكويت لرأب الصدع الخليجي داخليًّا بين الدول أعضاء المجلس، وظلَّت الحال كما هي عليه حتى 16 من نوفمبر/تشرين الثاني 2014؛ عندما أعلنت الدول الثلاث عودة سفرائها إلى الدوحة؛ وذلك بعد انعقاد قمة الرياض التشاورية والتي تم التوصل فيها إلى اتفاق الرياض التكميلي(6). والجدير بالذكر أنه تمَّ الإشارة إلى "وثيقة الرياض واتفاق الرياض واتفاق الرياض التكميلي" غير مرَّة من قِبَل أطراف الأزمة دون توضيح بنود أيٍّ من تلك الاتفاقيات.

تكتلات جديدة داخل المجلس

إذا نظرنا إلى مواقف أطراف الأزمة لوجدنا أن مجلس التعاون الخليجي على مشارف أزمة نشأة تكتلات سياسية ذات مصالح متضاربة؛ فمن الواضح أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين باتت في صراع سياسي مع دولة قطر؛ وذلك في حين أن سلطنة عُمان ودولة الكويت يمثلان تكتل عدم الانحياز داخل مجلس التعاون الخليجي، ومن ضمن المصالح المتضاربة التي تمَّ ذكرها على سبيل المثال دعم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة للنظام السياسي الحالي بجمهورية مصر العربية -الذي يترأَّسه الرئيس عبد الفتاح السيسي- والمؤسسة العسكرية، لدعم الاستقرار والحفاظ على مصالح هاتين الدولتين بالمنطقة، وهذا ما أشاد به مرارًا وتكرارًا الرئيس السيسي(7). يضاف إلى ذلك أنَّ ملف الإخوان المسلمين يُعَدُّ شأنًا داخليًّا يخصُّ أمن الدولة بالنسبة إلى دولة الإمارات المتحدة؛ خصوصًا بعد أن حكمت محكمة أمن الدولة بـ"أبو ظبي" على أعضاء بـ"خلية من الإخوان المسلمين" كما تم الإعلان عنه، بأحكام مشدَّدة لمساعيهم لقلب نظام الحكم(8)؛ بينما النظام في دولة قطر طالما ساند جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وندَّد بـ"الانقلاب العسكري"؛ الذي حدث في مصر في يوليو/تموز 2014، وذلك على حدِّ وصف الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر في حوار تليفزيوني إبان كلمته في الأمم المتحدة يوم 25 من سبتمبر/أيلول 2014(9).

كما يُعَدُّ الصراع اليمني مثالاً آخر لتضارب المصالح للتكتلات السياسية بمجلس التعاون؛ ففي الوقت الذي تَعتبر فيه المملكةُ العربية السعودية الحوثيين جماعة إرهابية، ترى الحكومة القطرية أن جماعة الحوثي هي أحد مكونات المشهد السياسي في اليمن(10).

عمق سياسي جديد

يمكن القول بعد تجاوز الأزمة الخليجية وعودة السفراء إلى الدوحة -أيضًا- أن دولة قطر قد وصلت إلى عمق سياسي جديد؛ حيث استطاعت دولة قطر التوصل إلى إنهاء الأزمة الخليجية دون تغيير أيٍ من مبادئ سياستها الخاجية، أو تخلِّيها عن حلفائها، وهذا ما صرَّح به الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في حواره التليفزيوني الذي بثته القناة الإخبارية الأميركية CNN في شهر سبتمبر/ أيلول 2014، بأن دولة قطر ستواصل مسار سياساتها، وستحافظ على علاقاتها مع حلفائها في المنطقة؛ وذلك في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين(11).

وكان وزير الخارجية القطري، خالد بن محمد العطية، قد صرَّح في كلمته بمعهد الدراسات السياسية في باريس أن دولة قطر "اختارت ألا تبقى على هامش التاريخ.. لقد قرَّرت الاضطلاع بدور كبير في الشؤون العالمية، والتواصل مع الدول الأخرى، والتوسُّط في النزاعات، والعمل على إنهاء النزاعات العنيفة ورعاية اللاجئين"(12).

وصرح -أيضًا- العطية بأن قطر تنتهج مبدأين؛ الأول: هو استقلال سياستها الخارجية؛ أما "المبدأ الأساسي الثاني للسياسة الخارجية لدولة قطر، هو التزامها بدعم حقِّ الشعوب في تقرير المصير، ودعمها التطلعات نحو إحقاق العدالة والحرية.. وينبغي للمرء، في هذا السياق، أن يفهم دعم دولة قطر للديمقراطيات الناشئة التي أعقبت الربيع العربي"(13).

الجدير بالذكر أن هذا التصريح جاء بعد أزمة السفراء ببضعة أيام، وموقف قطر من عدم سحب سفرائها من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين؛ مما يدلُّ على أن دولة قطر قد استطاعت أن تحتوي الأزمة بكثيرٍ من الحكمة والحنكة السياسيتين مع تأكيد التزامها بسياساتها ومواقفها الخارجية.

المخاوف من الإرهاب

من الواضح أن المخاوف من التهديدات الأمنية ستظلُّ العامل المشترك الذي يجمع دول مجلس التعاون الخليجي على مائدة واحدة دون النظر إلى الخلافات القائمة بينهم؛ فالمخاوف المحتمل قدومها من كل من إيران والعراق التي أدَّت إلى نشأة المجلس عام 1981، لا تختلف كثيرًا عن المخاوف من الإرهاب وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف بـ "داعش"؛ فمما لا شك فيه أن هذه المخاوف أدَّت دورًا أساسيًّا في توحيد الصف الخليجي وعودة السفراء إلى الدوحة في هذه المرحلة الفاصلة؛ وهذا ما أشار إليه المحلل السياسي الكويتي عايد المناع: "أصبح لدينا هاجس أكبر من مسألة التباين في السياسات الخارجية، فداعش بات يسيطر على ثلث العراق وثلث سوريا". وأضاف: "الخلافات السياسية (مع قطر) لم تَعُدْ تُشَكِّل أولوية؛ بل المشاكل المستجدة، وخصوصًا داعش؛ الذي لم يكن أحد يذكره قبل أشهر، نحن في خطر من شمال شرق سوريا إلى شمال غرب العراق، وهذا جرس إنذار حقيقي لدول المجلس لتُصَفِّي خلافاتها"(14).

وكان أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني قد دعا في افتتاح القمة الخليجية التي تستضيفها بلاده، إلى ما وصفها بـ"مواجهة الإرهاب والتطرف"، وقال الشيخ تميم في افتتاح القمة: إن "ظاهرة الإرهاب التي يشهدها عالمنا المعاصر ومنطقتنا العربية على نحو خاص" تتطلب اتخاذ "كافَّة التدابير اللازمة لمواجهتها، واستئصال جذورها وعلاج أسبابها الحقيقية السياسية والاجتماعية والاقتصادية". ودعا أمير دولة قطر إلى عدم الانشغال بـ"خلافات جانبية"؛ مشدِّدًا على أن "الظروف الإقليمية والدولية بالغة التعقيد... وتضعنا أمام مسؤوليات جسام". كما دعا إلى ألاَّ تتحوَّل الخلافات السياسية إلى "خلافات تمس قطاعات اجتماعية واقتصادية وإعلامية وغيرها".

يمكننا أن نستشف تغلُّب المخاوف من الإرهاب على الخلافات الداخلية والرؤى السياسية من البيان الختامي للقمة الخليجية الخامس والثلاثون في الدوحة؛ الذي تضمن موقفًا خليجيًّا موحدًا تجاه ملفي التهديدات الإرهابية وخطرها على الدول العربية والمجتمع الدولي، إضافة إلى إدانته الصريحة لجرائم نظام الرئيس بشار الأسد بحق الشعب السوري(15). كما أوضح ذلك -أيضًا- من خلال تأكيد البيان على مساندة المجلس بشكل جماعي لـ"خارطة الطريق" المصرية والرئيس عبد الفتاح السيسي، ووقوفه التام مع مصر حكومةً وشعبًا في كل ما يُحَقِّق استقرارها وازدهارها(16)، حيث يكشف هذا تغيرًا في الموقف القطري تجاه الملف المصري بسبب التهديدات الأمنية التي تحيط بدول المنطقة.

أزمة ثقة

ربما تكون أزمة سحب السفراء قد انتهت؛ ولكن ستظل هناك بجانب أزمة تضارب المصالح أزمة ثقة بين دول مجلس التعاون؛ وبينما تدلُّ قرارات القمَّة الخليجية الأخيرة التي عُقدت في الدوحة في التاسع من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2014، على بعض التقارب والتفاهم في عددٍ من الملفات والقضايا تحت ضغوطات المرحلة، فإن القرارات التي نتجت عن هذه القمة على الرغم من أهميتها تظلُّ أقلَّ من التوقُّعات، وربما تدلُّ على أن بعض تداعيات هذه الأزمة ما زالت قائمة رغم محاولة تجاوزها؛ فالتباين بين مواقف دول الخليج ما زال قائمًا في كثير من الأمور والقضايا، ولا توجد هناك رؤى مشتركة لماهية التهديدات ومصادرها، ناهيك عن كيفية التعامل معها ومواجهتها؛ فعلى سبل المثال لا يوجد هنالك موقف موحَّد بالنسبة إلى العلاقة مع إيران وملف برنامجها النووي، ولا حتى بخصوص انهيار أسعار النفط؛ الذي سيُؤَثِّر سلبيًّا على معظم دول الخليج؛ في حين أن بعض الدول الخليجية ترفض تخفيض مستوى إنتاجها لتحقيق بعض التوازن في سوق النفط العالمي.

إنَّ بعض دول الخليج الصغيرة ستتبع دون أدنى شك سياسات تحقق مصالحها، وتحقق لها بعض التوازن في سياسات المنطقة؛ وما محاولة سلطنة عُمان لإيجاد حلٍّ سلمي من خلال الحوار مع إيران واحتضانها لمفاوضات سرية بخصوص الملف النووي بين إيران من جهة والغرب ممثلًا بدول 5+1 من جهةٍ أخرى إلَّا أحد الأمثلة لمساعي دول المجلس في التفرد بسياساتها الخارجية في لعبة توازن القوى في هذه المنطقة الشديدة التعقيد؛ ودولة قطر اختطَّت لنفسها سياسة خارجية فاعلة وجريئة، وربما تتقاطع هذه السياسة في المستقبل مع بعض الدول الخليجية المحافظة.

ولكن على الرغم من هذا فهناك عدّة عوامل تؤشر على أن أزمة الثقة هذه لن تستمرَّ طويلاً نظرًا إلى انحصار أزمة الثقة بين الحكومات في الوقت الذي يتعزز ترابط هذه الدول على مستوى المواطن، والتجارة، والتعليم، والثقافة الخليجية المشتركة؛ هذا إلى جانب علاقات القربى والجوار الجغرافي والتاريخ المشترك.

إنَّ أحد الأسباب الرئيسة وراء أزمة الثقة هذه هو افتقاد مجلس التعاون الخليجي لنظام راسخ وقوي وواضح يُنَظِّم علاقة الدول الأعضاء ويحكمها؛ فعلى سبيل المثال نرى الدول الأعضاء يتشاورون حول اتفاق الرياض الذي ينظم العلاقة الأمنية بين دول المجلس بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على تأسيسه؛ ولكن لم يُعلن عن  بنود هذا الاتفاق أو اتفاق الرياض التكميلي؛ ولا أحد يعلم تفاصيله سوى قيادات الدول الأعضاء بالمجلس.

ما يُثير التساؤل أيضًا هو عدم وجود آلية لحل النزاعات بين الدول الأعضاء في حالة وجود اختلافات في وجهات النظر؛ مما يَحُولُ دون تحوُّل هذه الاختلافات إلى خلافات قد تُؤَثِّر سلبًا في عمل المجلس وتُعيق تطوُّره ونموُّه؛ كما أنه لا يوجد هناك عمل مؤسسي، أو مؤسسة مسؤولة لمتابعة قرارات القمة الخليجية ومتابعة تنفيذها، ولا توجد محكمة خليجية أو سياسات هيكلية تسعى إلى جعل التعاون الخليجي بعيدًا عن أهواء القادة، ومحكومًا بنظم وقوانين وتشريعات ومؤسسات وسياسات وآليات خليجية مشتركة؛ يكون للمواطن الخليجي فيها صوت وكلمة مسموعة.

خاتمة

أخيرًا وليس آخرًا؛ نجحت التحديات الراهنة التي تواجه الدول الأعضاء بمجلس التعاون الخليجي -المتمثِّلة في مخاوفهم من الإرهاب والتهديدات القادمة من الدول الإقليمية المجاورة- في تقريب السياسات الخارجية لتلك الدول وتوحيد صفوفها مرة أخرى؛ هذا التقارب ربما يكون مؤقتًا، وتختفي أسبابه مع تجاوز التحديات الراهنة، وسرعان ما تظهر حينها مرةً أخرى الخلافات في الأجندات الخارجية بين التكتلات السياسية، التي ظهرت مؤخرًا داخل المجلس؛ لافتقاد المجلس لنظام راسخ وقوي وواضح يُنَظِّم العلاقة بين دوله الأعضاء، ويُقَرِّب من مصالحهم، ويُوَحِّد من مواقفهم السياسية تجاه القضايا الخارجية؛ لذا ينبغي أن يُؤخذ بعين الاعتبار النضج الواضح للسياسة الخليجية في الآونة الأخيرة؛ والذي يتجلَّى في المواقف الخارجية، ومساعي الدول وراء مصالحها المحلية؛ فمما لا شكَّ فيه أن هذا النضج -وفي وجود مجلس التعاون الخليجي المؤثر على مستوى المواطن والتجارة والتعليم والبحوث والثقافة الخليجية المشتركة وعلاقات القربى والجوار الجغرافي والتاريخ المشترك بين الدول الأعضاء بالمجلس- سيعزز عاجلاً أو آجلاً مفهوم الاندماج، ويُوَحِّد من المصالح والمواقف الخليجية الخارجية.
______________________________
إسلام خالد حسن - باحث في برنامج دراسات الخليج بجامعة قطر

مراجع
(1) سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من قطر، (5 من مارس/آذار, 2014)، تاريخ المشاهدة 10 12, 2014 من بي بي سي العربية: http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2014/03/140305_gulfstates_qatar_envoys
(2) سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من قطر، (5 من مارس/آذار, 2014)، تاريخ المشاهدة 10 12, 2014 من بي بي سي العربية: http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2014/03/140305_gulfstates_qatar_envoys
(3) فتحي, ح: مصر.. واتفاق الرياض (19 من نوفمبر/تشرين الثاني، 2014)، شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول 2014, على الرابط http://www.alwafd.org/مقالات-الرأى/507-حسام-فتحي/772286-مصر-واتفاق-الرياض
(4) فتحي, ح: مصر.. واتفاق الرياض (19 من نوفمبر/تشرين الثاني، 2014)، شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول 2014, على الرابط http://www.alwafd.org/مقالات-الرأى/507-حسام-فتحي/772286-مصر-واتفاق-الرياض
(5) شفيق الأسدي، ومحمد المكي أحمد، (6 من مارس/آذار, 2014)، الإمارات والسعودية والبحرين تسحب سفراءها من قطر.. وحكومتها لا ترد بالمثل، شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول, 2014 من الحياة: http://www.alhayat.com/Articles/919019
(6) "اتفاق الرياض التكميلي" يُعيد السفارات الخليجية إلى الدّوحة، (17 من نوفمبر/تشرين الثاني 2014). شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول, 2014, على موقع العربية: 24:http://www.alarabiya24.com/ar/news/17916/%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82…
(7) الوزيري, ه. & حسن, س. (الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2014)، السيسي يستقبل وزيرين من السعودية والإمارات.. ويشيد بدعم دولتيهما، شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول, 2014, على موقع الوطن: http://www.elwatannews.com/news/details/588670
http://studies.aljazeera.net/reports/2013/09/201395113744690201.htm
(8) باعبود, عبد الله، "قراءة في مواقف دول مجلس التعاون الخليجي من الأزمة في مصر"، قراءة في مواقف دول مجلس التعاون الخليجي من الأزمة في مصر، مركز الجزيرة للدراسات: Web. 13 Dec. 2014. <http://studies.aljazeera.net/reports/2013/09/201395113744690201.htm>.
(9) Thani, T. b. (2014, September 25). Full interview: Emir of Qatar. (C. Amanpour, Interviewer).
(10) العربية. نت، (5 من مارس/آذار 2014)، لماذا سحبت دول الخليج الثلاث سفراءها من قطر؟  شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول, 2014, العربية:http://www.alarabiya.net/ar/saudi-today/2014/03/05/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D…%
 (11) Thani, T. b. (2014, September 25). Full interview: Emir of Qatar. (C. Amanpour, Interviewer).
(12) سي إن إن، (10 من مارس/آذار 2014)، قطر ترد على السعودية والإمارات والبحرين: لن نبقى على هامش التاريخ، شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول 2014, على موقع سي إن إن العربية: http://arabic.cnn.com/middleeast/2014/03/10/qata-saudi-uae-bahrain
(13) سي إن إن، (10 من مارس/آذار 2014)، قطر ترد على السعودية والإمارات والبحرين: لن نبقى على هامش التاريخ، شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول 2014, على موقع سي إن إن العربية: http://arabic.cnn.com/middleeast/2014/03/10/qata-saudi-uae-bahrain
(14) الدول الخليجية تحيد خلافاتها الداخلية لمواجهة "داعش"، (الأول من سبتمبر/أيلول 2014)، شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول, 2014, على موقع العرب: http://www.alarab.co.uk/?id=31883
(15) المطيري, ب. (9 من ديسمبر/كانون الأول 2014)، قمة الدوحة.. إجماع على ملفي الإرهاب والأسد ودعم مصر، شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول, 2014, على موقع العربية:http://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/2014/12/09/-%D8%A7%D9%84%D9%…
(16) المطيري, ب. (9 من ديسمبر/كانون الأول 2014)، قمة الدوحة.. إجماع على ملفي الإرهاب والأسد ودعم مصر، شوهد بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول, 2014, على موقع العربية:http://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/2014/12/09/-%D8%A7%D9%84%D9%…

عودة للصفحة الرئيسية للملف

ABOUT THE AUTHOR