إيران في السياسة العالمية بعد روحاني

يُجري الدكتور آرشين أديب مقدم في هذه الورقة تقييمًا للتحولات التي أحدثتها رئاسة روحاني لإيران في مجال السياسة الخارجية؛ وذلك مع التركيز بوجه خاص على التفضيلات الاستراتيجية الدائمة للدولة الإيرانية، ومن ضمنها مسألة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية.
31 March 2014
201433171531298734_20.jpg
(الجزيرة)

ملخص
يُجري الدكتور آرشين أديب مقدم في هذه الورقة تقييمًا للتحولات التي أحدثتها رئاسة روحاني لإيران في مجال السياسة الخارجية؛ وذلك مع التركيز بوجه خاص على التفضيلات الاستراتيجية الدائمة للدولة الإيرانية، ومن ضمنها مسألة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية.

منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 تأرجحت السياسة الخارجية الإيرانية حول خمس أفضليات استراتيجية وضعت الخطوط العريضة العامة لعلاقات إيران الدولية؛ ويعتقد الباحث أن الاستراتيجية الحالية لإدارة روحاني تقوم بإعادة ترتيب هذه التفضيلات؛ ولكن دون الخروج عنها بشكل جذري، ويرى أن الدولة الإيرانية شأنها كأي دولة أخرى في النظام الدولي لديها مصالحها الوطنية التي تسعى إليها، ويذهب إلى أن من أخطاء التحليل افتراض أن هذه التفضيلات هي مجرد تكتيكات قصيرة الأجل، وأن إيران بعد الثورة تتصرف بشكل "غير عقلاني" وآني؛ ومما لا شك فيه أن هناك تحولات خطيرة في مسار مواقف إيران في الشؤون الدولية، وكما أن روحاني ليس أحمدي نجاد فإن باراك أوباما ليس جورج دبليو بوش. ويرى أديب مقدم أن أفضليات الاستراتيجية لأية دولة لا تتحول فجأة بمجموعها تبعًا لتغير الحكومات؛ فالأفضليات الاستراتيجية تأتي بشكل مؤسسي ممنهجة وثقافية، ولها أبعاد عميقة وعريضة تتجاوز السياسات اليومية.

وتخلص الورقة إلى أن روحاني هو التأثير السطحي للتغييرات التدريجية في السياسة الداخلية لإيران ما بعد الثورة، وهو منتج لجيل ما بعد الثورة الذي يتوق للإصلاحات؛ لكنه يواصل العمل ضمن الخطوط العريضة العامة للأفضليات الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية كما ظهرت بعد الثورة في عام 1979.

مقدمة

منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، تأرجحت السياسة الخارجية الإيرانية حول خمس أفضليات استراتيجية وضعت الخطوط العريضة العامة لعلاقات إيران الدولية؛ والاستراتيجية الحالية لإدارة روحاني تقوم بإعادة ترتيب هذه التفضيلات؛ ولكن دون الخروج عنها بشكل جذري، والدولة الإيرانية شأنها كأي دولة أخرى في النظام الدولي لديها مصالحها الوطنية التي تسعى إليها، وكان من أخطاء التحليل افتراض أن هذه الأفضليات هي مجرد تكتيكات قصيرة الأجل، وأن إيران بعد الثورة تتصرف بشكل "غير عقلاني" وآني؛ ومما لا شك فيه أن هناك تحولات خطيرة في مسار مواقف إيران نفسها في الشؤون الدولية، وكما أن روحاني ليس أحمدي نجاد؛ فإن باراك أوباما ليس جورج دبليو بوش(1)؛ لكن أفضليات الاستراتيجية لأية دولة لا تتحول فجأة بمجموعها تبعًا لتغير الحكومات، ولكنها تأتي بشكل مؤسسي ممنهجة وثقافية، ولها أبعاد عميقة وعريضة تتجاوز السياسات اليومية؛ فروحاني هو التأثير السطحي للتغييرات التدريجية في السياسة الداخلية لإيران ما بعد الثورة، وهو منتج لجيل ما بعد الثورة الذي يتوق للإصلاحات؛ لكنه يواصل العمل ضمن الخطوط العريضة العامة للأفضليات الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية كما ظهرت بعد الثورة في عام 1979؛ في الفقرات التالية سأقوم بتقييم التعديلات التي أحدثتها رئاسة روحاني؛ وذلك مع التركيز بوجه خاص على التفضيلات الاستراتيجية الدائمة للدولة الإيرانية.

ماهي أفضليات الاستراتيجية الإيرانية؟

أولا:كانت أولى أفضلية استراتيجية وضعتها الطبقة الحاكمة في إيران تدفع إلى فكرة تعظيم الاستقلالية الاقتصادية(2)، وتم أدراج هذه الأفضلية في الدستور الإيراني من قبل الليبراليين الذين درسوا في السوربون، وأحاطوا بآية الله الخميني في بداية الثورة، خاصة أول رئيس وزراء مهدي بازركان وأول رئيس للدولة أبو الحسن بني صدر(3)، وفي صلب ذلك تكمن القناعة -على غرار النظريات الاقتصادية الإسلامية، التي ألفها آية الله مطهري في إيران، وآية الله باقر الصدر في العراق- أن دولة الرفاه "العادل" يجب أن تكون في صلب النظام الاقتصادي؛ وبينما حاولت إيران تحرير الاقتصاد في السنوات الأخيرة، وسعت إلى الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في الماضي، بقيت البلاد تحافظ على مسافة قريبة من المؤسسات المتعددة الأطراف والإصلاحات الجذرية الليبرالية الجديدة. واستمرت الطبقات الحاكمة بمتابعة شكل من أشكال القومية الاقتصادية التي تجلت في السياسات المذكورة أعلاه، وأيضًا في التركيز على إتقان دورة الوقود النووي الكاملة على الأراضي الإيرانية.

ويحاول روحاني تقديم إيران بقوة أكبر في المحافل الاقتصادية الدولية، وفي خطابه الأخير في دافوس أوضح أن إيران مفتوحة للأعمال التجارية، وهناك بالتأكيد تركيز تكنوقراطي في سياساته التي ينفذها كادر كفوء جدًّا من الخبراء الاقتصاديين، الذين قام بتوزيعهم في مناصب داخل الوزارات الرئيسية؛ لكن من المستبعد جدًّا أن تقوم الدولة الإيرانية -خاصة التكتلات القوية التابعة للحرس الثوري- بالموافقة على تحرير الاقتصاد إلى درجة تؤدي إلى أن تفقد مركزها المتميز؛ ولن يكون هناك سياسة انفتاح ليبرالية جديدة مقارنة مع ما حدث في مصر في عهد السادات، أو في تونس في ظل حكم بن علي؛ بل سيستمر الاقتصاد الإيراني بالبقاء مختلطًا، وسوف تضمن الدولة أن لا يحدث تنازل كبير عن الأرض لصالح القطاع الخاص، ولا حتى بأقل من ذلك لصالح المستثمرين الأجانب.

ثانيًا: وحيث خصصت إيران الثورة موارد أيديولوجية ومادية ضخمة للقضية الفلسطينية مع تحقيق نتائج متباينة؛ سواء بالنسبة إلى الفلسطينيين أو لمصلحة إيران الوطنية، كان ياسر عرفات أول زعيم سياسي كبير يزور إيران بعد قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، استقبله الثوار بحفاوة كبيرة، وسلموه مفاتيح المجمع الإسرائيلي في طهران، الذي كان بمنزلة مركز رئيسي للعمليات الإسرائيلية في عهد الشاه، وعلاوة على ذلك وفي محاولة لإضفاء الطابع المؤسسي على المشاعر المؤيدة للفلسطينيين بين أتباعه من المسلمين ومن اليسار الإيراني خصص آية الله الخميني الجمعة الأخيرة من رمضان يومًا لتحرير القدس فيما (يسمى: يوم القدس). "والطريق إلى القدس يمر عبر بغداد" كان شعارًا بارزًا لملايين المتطوعين في تنظيم الثورة الإسلامية الجديد؛ متمثلاً في الحرس الثوري وميليشيا الـ"بسيج" أثناء الحرب المدمرة بين إيران والعراق، التي استنزفت الموارد المادية والبشرية لكلا البلدين لعقود قادمة، وبالتحديد لأن الحرب شحنت بأحقاد أيديولوجية هائلة(4)

وقد اختيرت فلسطين من قبل الدولة الإيرانية على الأقل من أجل مقولة: "القيادة الإقليمية والدور المركزي لها" كمدافع عن حقوق المسلمين؛ فعلى سبيل المثال يَعْتَبِر الزعماءُ الدينيون في البلاد الأماكن المقدسة مثل المسجد الأقصى أوقافًا إسلامية، يجب أن تكون السيادة عليها مشتركة لجميع المسلمين، وليس فقط للفلسطينيين؛ وهناك أيضًا دعم حقيقي للقضية الفلسطينية داخل المجتمع المدني الإيراني، وتشارك العديد من المنظمات غير الحكومية في جهود جمع الأموال، وقدمت العديد من المستشفيات الإيرانية المساعدة الطبية المجانية للجرحى الفلسطينيين في الانتفاضات المتعاقبة في الأراضي المحتلة، ولم ينفصل روحاني عن هذه السياسات، وفي الآونة الأخيرة فقط استضافت إيران وفدًا رفيع المستوى من حركة الجهاد الإسلامي، وهناك استئناف للمحادثات مع منظمة التحرير الفلسطينية، واستمرت البلاد في إقامة علاقات ودية مع حماس، على الرغم من الاختلاف حول سورية.

في الوقت نفسه هناك تحولات دقيقة حدثت: فقد أحجم المسؤولون الإيرانيون تمامًا كما كان بفترة حكم الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1997-2005) عن استخدام مصطلح "الكيان الصهيوني" لوصف إسرائيل، ولم يستهدف روحاني هذا البلد على طريقة ما فعله سلفه أحمدي نجاد؛ وبتوازٍ آخر مع سنوات حكم خاتمي أشار وزير الخارجية الحالي ظريف مؤخَّرًا إلى أن الحكومة الإيرانية تقبل أية تسوية نهائية يوافق عليها الفلسطينيون، وسئل عما إذا كانت إيران ستعترف بدولة إسرائيل إذا تم حل القضية الفلسطينية، أجاب ظريف: "تعرفون أن هذا قرار سيادي ستأخذه إيران؛ ولكن ليس من شأنه أن يؤثر على الوضع على أرض الواقع في الشرق الأوسط، وإذا كان الفلسطينيون سعداء بهذا الحل فلا أحد خارج فلسطين يمكنه منع ذلك من الحدوث، المشكلة على مدى السنوات الـ 60 الماضية هي أن الفلسطينيين لم يكونوا سعداء، ولم يتم إرضاء الفلسطينيين، ولهم كل الحق ألا يكونوا راضين؛ لأن حقوقهم الأساسية لا تزال تنتهك، والناس ليسوا على استعداد لمواجهة تلك الحقوق"(5).

ثالثًا: دعمت الثورة شعور العظمة في الوعي التاريخي الإيراني، الذي كان واضحًا بالقدر نفسه في الفكر الذي ساد أيام الشاه؛ ولكن في مقابل تبعية الشاه للغرب، التي لم تسمح له بالتصرف وفقًا لعقليته الإمبراطورية، فإن الثورة الإسلامية حولت إيران إلى ندٍّ لهيمنة الولايات المتحدة (إسرائيل) في غرب أسيا وشمال إفريقيا والعالم الإسلامي الأوسع؛ وذلك في سعي كبير لوضع البلاد كقوة رئيسية في النظام الدولي؛ وعلى هذا النحو ترى إيران نفسها منافسًا رئيسًا لقوة الولايات المتحدة في غرب أسيا وشمال إفريقيا وما وراءها، وهذا يتضح من المعارضة الصارمة لتواجد قواعد قوات حلف شمال الأطلسي والقواعد العسكرية الأميركية في "الخليج الفارسي" وأسيا الوسطى، وأماكن أخرى تقع في الجوار الجغرافي الاستراتيجي لإيران.

وفي هذا الصدد -أيضًا- بدأت إيران تحولاً تدريجيًّا في سياستها الخارجية، وبالنسبة إلى روحاني وإدارته فإن التنافس مع الولايات المتحدة لا يستبعد إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين، وفي محادثاتي مع إيرانيين مقربين من الإدارة كثيرًا ما يثيرون النموذج الصيني؛ فالصين والولايات المتحدة لديهما خلافات خطيرة في شرق أسيا، ليس فقط بسبب قضية تايوان المثيرة للجدل؛ لكن البلدين تربطهما علاقات اقتصادية وثيقة، وتمكنتا من التواصل دبلوماسيًّا كذلك.

ويمكن أن يكون مستقبل العلاقات الإيرانية الأميركية مماثلاً، فحول قضايا الاتفاق هناك وحدة أراضي العراق، ومعارضة حركة طالبان في أفغانستان، ومجموعات القاعدة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فإن إيران والولايات المتحدة لديهما الكثير من الأسباب لتعزيز الروابط الأمنية دائمًا، وحول قضايا الخلاف هناك فلسطين/إسرائيل، وسورية وحزب الله؛ حيث إن كلا البلدين يبدو أنه يبعد أصابعه ويحاول تحقيق مصالحه الوطنية دون عقلية محصلة الصفر، التي من شأنها أن تثير الجانب الآخر.

إن مثل هذا "السلام البارد" المخفف يمكن أن يكون عاملاً رئيسًا في تحقيق الاستقرار للمنطقة، وقد بنى كل من روحاني وأوباما حملته الانتخابية على أساس أنه سيتحدث إلى الجانب الآخر، وفي الواقع يقومان بالوفاء بهذا الوعد، وأنا لا أعتبر هذه خطوة تكتيكية، وأعتقد أنها استراتيجية؛ وما دام أن العملية الدبلوماسية الحالية بشأن برنامج الطاقة النووية الإيراني تعطي نتائج يمكن ترويجها من قِبَل كلا الإدارتين كنجاحات أمام الدوائر المحلية المتشككة؛ فإن المصالح المشتركة تلزم إيران والولايات المتحدة معًا تحفيز وتوثيق العلاقات بينهما.

رابعًا: منذ ثورة 1979 دعت نخب السياسة الخارجية الإيرانية إلى تمكين "العالم الثالث"؛ ولهذه الغاية أوقفت الجمهورية الإسلامية فورًا عضويتها في معاهدة منظمة (السنتو)، وأصبحت مدافعًا قويًّا عن حركة عدم الانحياز، وتحولت هذه السياسة في طبيعة الخطاب؛ الذي يبرز الحاجة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، لا تهيمن عليه قوة عظمى واحدة بمفردها، وبالطبع تَعتبر إيرانُ نفسها واحدًا من أقطاب مثل هذا النظام الدولي جنبًا إلى جنب مع البرازيل، والهند، والصين، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة. وسياسة عدم الانحياز المغلفة بشعارات مثل: "لا شرقية ولا غربية"، "إسلامية إسلامية" (فقط الجمهورية الإسلامية) تجلت بعلاقات إيران الوثيقة مع الحكومات ذات العقلية المشابهة في أميركا اللاتينية، ولا سيما مع الطليعة "البوليفارية" في فنزويلا، وبوليفيا، والبرازيل، وكوبا، والإكوادور، ونيكاراغوا.

وقد عززت إيران العلاقات السياسية والاقتصادية الوثيقة مع هذه الدول في العقود الماضية، واتخذ الرئيس السابق للبرازيل "لولا" خطوة جريئة جنبًا إلى جنب مع رئيس الوزراء التركي أردوغان لاقتراح حل للمأزق النووي خلال فترة رئاسة أحمدي نجاد؛ ولكن تم رفضه من قبل البيت الأبيض؛ وبينما يعتبر روحاني من أولويات إدارته إصلاح العلاقات مع الغرب، وإيجاد حل نهائي للأزمة النووية؛ فقد أشار روحاني بالفعل إلى إنه سيسعى إلى تعميق علاقات إيران الحالية مع أميركا اللاتينية(6). ونظرًا إلى أن هذا التوجه اكتسب أبعادًا استراتيجية؛ فإن لدى إدارته الكثير من الفرص لتحقيق هذه الغاية.

خامساً: منذ الثورة الإسلامية عام 1979 ركز خطاب النخب الحاكمة في إيران على المثل الأعلى الإسلامية غير الطائفية، التي تنتهجها الدولة الإيرانية في المقام الأول؛ وذلك من خلال منظمة التعاون الإسلامي وشبكة "بنياد" (الأسس) التي تعمل في قم/"الفاتيكان" المقر الديني للبلاد؛ بينما تغرق رموز وصور الثورة في التقاليد الإيرانية والشيعية، وكان آية الله الخميني يصر على تصوير الثورة باعتبارها إسلامية شاملة؛ بل باعتبارها ثورة جميع المستضعفين ضد مضطهديهم، ولا يعني ذلك فقط توسيع نطاق المطالبة بالقيادة خارج الحدود المحصورة بالأقلية الشيعية في الإسلام؛ وتحقيقًا لذلك وضع الثوار "أسبوع الوحدة"، وهي سياسة تعتمد ثقافة إضفاء الطابع المؤسسي للوحدة بين السنة والشيعة، وفي الوقت نفسه لم تضحِّ إيران قط بالمصلحة الوطنية للبلاد لصالح المدينة الإسلامية الفاضلة، وبقيت الطبقة الحاكمة في البلاد حريصة جدًّا على عدم انتقاد روسيا والصين بسبب سياساتهما الوحشية ضد أقلياتها الإسلامية في الشيشان وإقليم شينجيانغ على التوالي؛ لكي لا تعرض للخطر علاقات إيران الودية مع البلدين، وبالمثل تميل إيران إلى دعم أرمينيا المسيحية الأرثوذكسية في نزاعها الإقليمي مع أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية، وليس هناك تضامن إسلامي تستطيع الدولة الإيرانية متابعته في كل مناسبة، وبينما تسعي إلى توثيق التعاون بين البلدان ذات الغالبية الإسلامية من خلال المؤسسات المختلفة، فإن الطموحات الإسلامية الكبيرة للثورة المفروضة على الدولة القومية الإيرانية -التي تتطلب مبررًا عسكريًّا- لا تسمح لدولة مرتكزة على العقلانية أن تخوض بنفسها في مغامرات الخلافة الإسلامية.

المحددات الداخلية لشؤون إيران الدولية

مما تبين تبقى الأفضليات الاستراتيجية الخمسة للدولة الإيرانية بارزة خلال فترة رئاسة روحاني، على الرغم من التحولات الواضحة في تصرفات إيران الدولية، ويبدو أن الموقف التفاوضي للرئيس الإيراني قويًّا بشكل خاص؛ لأنه تلقى الدعم من المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، الذي أبدى بوضوح -لا يحتمل الشك- أن الرئيس لديه الضوء الأخضر لمواصلة سياساته في المشاركة البناءة، وبالتالي فإنه للمرة الأولى في تاريخ إيران ما بعد الثورة تتفق أقوى مؤسستين في الدولة الإيرانية بالتأكيد على الانفراج والدبلوماسية في الشؤون الدولية كوسيلة لتحقيق أقصى قدر من المصلحة الوطنية الإيرانية، ويتمثل هذا التحول في الصورة الثقافية للجمهورية الإسلامية، وفي الخطاب الحالي للجمهورية الإسلامية -الذي يتميز عن خطاب السياسة المركزية لآية الله خامنئي، الذي يقوم على إبراز "المرونة الشجاعة" في تعاملات إيران مع الخصوم الدوليين- تبرز براغماتية الإمام الحسن حفيد النبي محمد والإمام الثالث للشيعة(7). ففي خطابة أمام قدامى كبار المحاربين من الحرس الثوري قال خامنئي: إن "المصارع المحترف يظهر -أيضًا- مرونة أحيانًا لأسباب فنية؛ لكنه لا ينسى من هو منافسه، وما هو هدفه الرئيس"(8). وبالتالي فإن ما ركز عليه ثوار الأمس من "البطولة" والتضحية من جانب الإمام الحسين الأخ الأصغر للإمام الحسن، الذي قتل مع عائلته من قبل جيوش يزيد في القرن السابع الميلادي؛ نجد الطبقات الحاكمة اليوم في إيران تكرر الإشارة إلى أخيه الأكبر الإمام الحسن، الذي اشتهر بالبراغماتية واستراتيجيات الصلابة والتكيف مع السياسات؛ وبالتالي بينما يؤكد نموذج الحسين على التغيير الثوري على غرار تشي غيفارا، يتجلى بتضحية الحسين بنفسه في معركة كربلاء؛ فإن "نموذج الحسن" يرمز إلى البراغماتية، ويتمثل في معاهدة السلام التي وقعها الحسن مع معاوية عندما سلم له طوعًا بقيادة الأمة في القرن السابع الميلادي.

هناك تغييرات مؤسسية ملموسة بِتْنَا نجدها في عملية صنع القرار في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية؛ فعلى سبيل المثال الملف النووي هو الآن ثابت في يد وزارة الخارجية من دون أي تدخل ملموس من قبل مجلس الأمن القومي المحافظ، وقد وضع في وزارة الخارجية نفسها موظفين من أفضل وألمع الكوادر الدبلوماسية الإيرانية بعد الثورة، وفي إشارة أخرى على السياسات التوافقية بين الرئيس والمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي كرر مرارًا وتكرارًا للحرس الثوري المتنفذ أنه ينبغي لهم ألا يتدخلوا في العملية الدبلوماسية الحالية؛ وعلى الرغم من أن روحاني لم يحدث إلى اليوم أي إصلاح جذري في السياسة المحلية؛ إلا أن هناك تحولات تدريجية بعيده عن الأجواء المقلقة للغاية، التي كانت سمة رئاسة أحمدي نجاد، خاصة بعد المظاهرات الحاشدة ضد إعادة انتخابه في عام 2009، وتم تخفيف نظام الرقابة قليلاً، وبدأ المجتمع المدني الإيراني في العمل ثانية بوجود قيود أقل.

وهنا فإن من جوهر التحليل الإشارة إلى أن روحاني (وجميع الرؤساء قبله في هذا الشأن) هم نتاج وليسوا قادة لتلك التغييرات، التي تتحدد بواسطة أوضاع وأولويات المجتمع الإيراني، وقد صيغت هذه النظرية على أنها "زخم التعددية"، التي تُفرض بشكل مستمر على نطاق الدولة؛ وذلك من خلال عملية من القاعدة إلى القمة، من المجتمع الإيراني إلى الطبقات الحاكمة(9). السمة المركزية لهذا الزخم التعددي في إيران هي أن كسب رجال الدين لولاء أتباعهم في الطبقات الاجتماعية لم يعد أمرًا مفروغًا منه.

والتعددية تولد المنافسة، وسياسات الدولة يجب أن "يتم ترويجها" لجمهور لم يعد مضطرًّا "إلى الشراء" من مصدر واحد، وفي "وضع السوق" هذا يتقطع احتكار شريحة معينة للسلطة السياسية؛ ونتيجة لذلك فإن المؤسسات والنخب العاملة في نطاق الدولة عليها أن تنظم نفسها بطريقة الحشد لدوائرها الانتخابية، وتدخل في وضع تنافسي مع الجماعات الأخرى، التي تتبع المنطق السياسي نفسه، وبالمقارنة مع الحملات الانتخابية في طهران وشيراز والأهواز وتبريز وأصفهان وبروجرد ومدن أخرى خلال صيف عام 2005، فإني أعتبر أن أحد أكثر الجوانب ملاحظة هي أن المرشحين للرئاسة بمن فيهم محمود أحمدي نجاد، نادرًا ما استخدموا صورًا أو مراجع إسلامية للإشارة للإرادة السياسية لآية الله الخميني من أجل تعزيز أجنداتهم، وكانت حملة روحاني مشابهة لذلك، وموجهة إلى قضايا محددة بدلاً من شعارات مجردة؛ وباختصار: فَهِمَ القادة الإيرانيون أن الرأي العام هو الذي يهم. 

وعلى صعيد آخر تتعرض كافة المؤسسات التابعة للدولة لضغوط لتحقيق نتائج؛ خاصة في المجال الاقتصادي، وفي المقابل فإن الضغط لتحقيق نتائج في الوضع التنافسي يستلزم ترشيدًا للسياسات، وهذا يفسر لماذا تبنَّى كل من الإصلاحيين والمحافظين الدعوة إلى النمو الاقتصادي والمشاركة الشعبية في العملية السياسية والثقافية؛ وفي وضع التعددية حيث تصبح الأحزاب السياسية وكالات تسويق للدولة لا ينحصر احتكار الإصلاح على الأحزاب التي تعلن نفسها إصلاحية، وبعبارة أخرى: فإن أجندة الإصلاح هي جوهرية بالضرورة للعملية السياسية التي تضم كافة مؤسسات الدولة؛ بل تتجاوز الفجوة السببية بين المحافظين والإصلاحيين؛ لأن أداء جهاز الدولة ككل يعتمد على مشاركة الجمهور. والعلاقات العامة مع الأتباع والطبقات الاجتماعية وكسب التأييد وجمع الأموال والمشاركة في الاقتصاد العلماني؛ في جميع هذه الجوانب الرتيبة لشؤون الدولة فإن الجمهورية الإسلامية تعتمد على المجتمع المدني في البلاد، وفي مثل هذا الوضع التفاعلي ليس من المستحيل (على المحافظين والإصلاحيين على حد سواء) ترويج سياسات لعدد من السكان المستهلكين، دون الأخذ في الاعتبار رغباتهم بشأن مضمون تلك السياسات، وبالتالي فإن روحاني هو أثر سطحي لهذه الديناميات وسياساته الخارجية التوافقية، خاصة نحو الغرب، التي تعكس الوضع الذي يفضله التيار الرئيسي في المجتمع الإيراني.

وهناك عوامل اجتماعية تؤثر في قدرة المجتمع الإيراني على دفع هذا الزخم التعددي: في بداية الثورة عام 1980 كان هناك فقط 175،000 طالب و15،000 أستاذ محاضر ينتشرون في حوالي 20 مدينة في إيران، وفي عام 2012 كان هناك أربعة ملايين من طلبة التعليم العالي، وأكثر من 110،000 محاضر في 120 مدينة، وفي عام 2010 جاءت إيران في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة بمرتبة أعلى من البرازيل وتركيا(10)، وطبقًا للجمعية الملكية البريطانية زاد عدد المنشورات العلمية في إيران من 736 في عام 1996 إلى 13،238 في 2008، وهو أسرع نمو مماثل في العالم(11). وارتفع عدد مستخدمي الإنترنت بمقدار 13.000?(12). في عام 2012 أعلنت إيران أنها ستقوم بإنشاء مركز تكنولوجيا النانو، وتخصيص 4? من الناتج المحلي الإجمالي للبحث والتطوير كجزء من خطة علمية شاملة، وهو من أعلى مخصصات البحوث في العالم، وفي الواقع توسعت الثورة الإسلامية بجغرافيا المعرفة في إيران؛ مما كان له تأثير على إعداد أفضليات المجتمع المدني الإيراني.

الاستنتاجات

لقد تغيرت إيران في ظل حكم روحاني؛ خاصة فيما يتعلق بالشؤون الدولية، ومواقف المصالحة مع الولايات المتحدة؛ ولكن هذه التغييرات الدقيقة تعوقها الأفضليات الاستراتيجية الدائمة للدولة، التي ستستمر بتوجيه الشؤون الدولية للجمهورية الإسلامية، وهذه التفضيلات للدولة الإيرانية لا تحول دون توثيق العلاقات مع الولايات المتحدة، حتى تكيفًا ضمنيًّا مع قضية إسرائيل؛ ولكنها تجعل من المستحيل لإيران أن تظهر رهينة تابعة. وفي النهاية فإنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة والغرب فإن إيران المستقبل لن تكون إيران الشاه، وكلُّ رئيس إيراني بعد ثورة عام 1979 جاء ليتولى تقديم المصلحة الوطنية الإيرانية، ونقل الدولة نحو المزيد من الديمقراطية والمساءلة، وقد تعززت أوضاع تفضيلات المجتمع المدني الإيراني بواسطة الثورات العربية، التي أثبتت أن المعيار الجديد للسياسة في المنطقة لم يعد هو الأيديولوجيا بعد الآن؛ بل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمساواة الاجتماعية، والرئيس روحاني هو مجرد مظهر أخير من مظاهر واقع المجتمع الإيراني المعاصر، والسياق الإقليمي الذي تقبع إيران فيه.
_______________________________
آرشين أديب مقدم - رئيس مركز الدراسات الإيرانية، كلية الدراسات الشرقية والإفريقية، جامعة لندن. لدية عدد من المؤلفات والمحاضرات الهامة حول إيران، والعلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي.
 
الهوامش والمصادر
(1) For a comprehensive analysis of the foreign policy under President Ahmadinejad see Anoush Ehteshami (2007) Iran and the rise of its neoconservatives: The politics of Tehran’s silent revolution.
(2) Iran in World Politics (London: IB Tauris) and more recently Maaike Warnaar (2013) Iranian foreign policy during Ahmadinejad: Ideology and actions (London: Palgrave Macmillan).
(3) Mehdi Bazargan resigned amidst the US hostage crisis. Abol-Hassan Bani Sadr fled the country into exile in Paris where he continues to live until today.
(4) See further Arshin Adib-Moghaddam (2006) The international Politics of the Persian Gulf: A cultural genealogy (London: Routledge).
(5) Fars News Agency (FNA) (2014), 5 February, http://english.farsnews.com/newstext.aspx?nn=13921116001667 (accessed 12 February 2014).
(6) IRIB World Service (2014) ‘Iran firm to boost ties with Latin America: President Rouhani’ 10 February, http://english.irib.ir/news/iran1/item/178359-iran-firm-to-boost-ties-with-latin-america-president-rouhani (accessed 12 February 2014).
(7) Amir Dabiri Mehr ‘ http://iranpulse.al-monitor.com/index.php/2013/09/2854/khameneis-heroic-flexibilty.
(8) Iranian Diplomacy (2013) ‘Supreme Leader underlines belief in insightful “heroic flexibility”’, 17 September,  إضغط هنا (accessed 12 February 2014).
(9) See further Arshin Adib-Moghaddam (2008) Iran in World Politics: the question of the Islamic Republic (London, New York: Hurst and Oxford University Press), part 4.
(10) See further Arshin Adib-Moghaddam (2013) On the Arab Revolts and the Iranian revolution: Power and resistance today (London: Bloomsbury), p. 145.
(11) See further ‘Iran and Global Scientific Collaboration in the 21st Century’ (2011) Association of Professors and Scholars of Iranian Heritage, 3 September, http://www.apsih.org/index.php/news/english-news/275-iran-and-global-scientific-collaboration-in-the-21st-century (accessed 12 January 2012). On the growth of the science sectors see also The Royal Society (2011) Knowledge, Networks and Nations: Global Scientific Collaboration in the 21st Century, London, March,  إضغط هنا (accessed 12 June 2011), p. 21.
(12) The Royal Society, Knowledge, Networks and Nations, p. 65.

عودة للصفحة الرئيسية للملف

ABOUT THE AUTHOR