مفارقات (داعش): الآمال السياسية التي خابت

يرى الباحث في هذه الورقة أنه يمكن النظر إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بوصفه كتلة من المفارقات، التي تتجلى في مستويات عدة. هذه المفارقات هي تعبير بليغ عن خيبات سياسية معممة.
201411238238473734_20.jpg
(الجزيرة)
ملخص
يرى الباحث في هذه الورقة أنه يمكن النظر إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بوصفه كتلة من المفارقات، التي تتجلى في مستويات عدة. هذه المفارقات هي تعبير بليغ عن خيبات سياسية معممة؛ تجلَّت مفارقة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الأولى في سياق ظهوره في قلب الربيع العربي، والتي اعتبرت انطلاقته توقيعًا على شهادة وفاة أيديولوجيا القاعدة. إن هذه المفارقة الأولى هي تعبير عن خيبة الأمل فيما بشرت به هذه الانطلاقة. تقدم (داعش) نفسها كجماعة إسلامية تسعى لإحياء مبادئ الإسلام الحقيقية، عبر تحقيق نظام الخلافة الإسلامية، في حين أنها، لو حُقِّق أمرُها، تتمثل جوهر الدولة الحديثة التي تسعى لمحوها، هذه هي مفارقة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش): إنها دولة ضد الدولة. وهي مفارقة تعبِّر بوضوح عن فشل الدولة القُطرية العربية. لقد مثَّل بزوغ تنظيم (داعش) كفاعل من غير الدول إرباكًا معمَّمًا لسياسات الدول الخارجية: دول الإقليم أو الولايات المتحدة الأميركية. لقد اضطرت الولايات المتحدة للانخراط في المنطقة مرة أخرى، على الضد من استراتيجية أوباما القاضية بالابتعاد ما أمكن عن التدخل العسكري في الشرق الأوسط، بينما ترفض تركيا الانضمام إلى حلف عسكري ضد (داعش) وليس ضد نظام الأسد، ودول الخليج بالمثل تتلكأ في دعم العمليات ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) نظرًا لكونها لا تخدم هدفها المتمثل في الإطاحة بالأسد. بالنسبة لإيران فهي تستغل نفوذها في العراق وسوريا فيما يشبه ابتزازًا سياسيًّا لواشنطن. مثَّل بزوغ (داعش) انتكاسة للثورة السورية خاصة، وتعبير عن خيبة كبيرة في الربيع العربي ككل.

مقدمة

كان اندلاع الثورات العربية(1) بداية من تونس في نهايات العام 2010، حدثًا يحض على التفاؤل بلا شك. تفاؤل قد سوَّغ للجميع أن ينعته باحتفاء بـ"الربيع العربي"(2). ولكن بعد مرور ما يربو على ثلاث سنوات بعد هذا التاريخ، لم يعد أحد قادرًا على الاحتفاظ بتفاؤله، الجميع مدفوع برغبة صامتة في تقديم رثاء مناسب ضمن عملية تأبين واسعة لما كان ربيعًا عربيًّا يومًا ما؛ فلقد سارت الأحداث في اتجاهٍ ما كان يؤمَّل لها أن تسير فيه؛ فباستثناء تونس التي تكافح لإبقاء ثورتها على المسار الصحيح(3)، فإن أحوال باقي الثورات ليست على ما يرام؛ ففي مصر انتصرت الثورة المضادة بفضل الانقلاب العسكري الذي أطاح في يوليو/تموز 2013 بأول رئيس منتخب في تاريخ مصر الحديث برمته، ومن ثمة صارت ثورة 25 يناير/كانون الثاني مجرد ذكرى سعيدة من الماضي(4). أما ليبيا فقد غرقت من بعد مقتل القذافي في تطاحن سياسي وعسكري مرير، لا تلوح في الأفق أية بشائر على قرب نهايته(5). وفي اليمن لا تقل الأمور تعقيدًا؛ لقد سقطت العاصمة صنعاء في أيدي الحوثيين بسهولة مذهلة(6)، والقاعدة -تبعًا لذلك- في حالة ازدهار(7)، ومن حين لآخر ينشط الحراك الجنوبي داعيًا للانفصال. لقد ضاعت الثورة اليمنية وسط هذه الأجواء المعتمة. أما الثورة السورية، فقد اندثرت تمامًا تحت غبار حالة حرب متعددة الجبهات. تلك الحرب التي بزغ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)(8) من قلبها، كقوة سياسية وعسكرية فظيعة ومثيرة للارتباك.

تسعى هذه الورقة لتقديم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) كمفارقة، تتجلى طبيعتها المفارقة في مستويات عدة؛ في سياق ظهورها، وفي كنهها السياسي، وفي أثرها على سياسات الدول الخارجية والعلاقات بين-الدولية. وسأجادل عن كون هذه المفارقات يمكن النظر إليها كحالة من حالات خيبة الأمل السياسية المعممة.

(داعش): بجعة الربيع العربي السوداء

بحسب نسيم طالب(9)، يمكن النظر إلى حدثٍ ما بوصفه بجعة سوداء، حال توافَرَ على الشروط الثلاثة التالية: غير متوقع، وتأثير تبعاته بالغ الشدة، وبعدما يحدث يمكننا فهمه وتفسيره(10). هل يمكننا اعتبار بزوغ (داعش) في سياق الربيع العربي بجعة سوداء؟ كان ثمة إجماع على أن الربيع العربي (والذي يمكن اعتباره بجعة سوداء هو الآخر) قد مثَّل ضربة قاصمة لأيديولوجيا القاعدة؛ فبحسب هذه الأيديولوجيا يعتبر قتال الولايات المتحدة وحلفائها (العدو البعيد) أو الأنظمة العربية المستبدة (العدو القريب) هو السبيل الوحيد لتحقيق استقلالية العالم الإسلامي؛ فجاءت الثورات العربية لتبرهن على خطأ هذه القناعة؛ إذ بدا أن الشعوب العربية قد استطاعت أن تسقط الأنظمة المستبدة عبر وسائل الاحتجاج السلمي. بل استطاعات حركات الإسلام السياسي أن تصل للسلطة أو على الأقل أن تكون جزءًا منها، عبر وسائل ديمقراطية. لقد سبَّب الربيع العربي إذن إحراجًا بالغًا للقاعدة، فانزوت وخَبَا نجمها ولم تُعِرِ الشعوب الثائرة خطابات قادتها الذين يحاولون اللحاق بالحدث أي اهتمام. إن الجميع قد تصور أن الربيع العربي هو بداية النهاية للقاعدة، ولكن ماذا جرى في المقابل؟ من قلب الثورة السورية بزغ (داعش) بوصفه النسخة الأكثر تطرفًا لنموذج القاعدة، إنه لحدث خارج نطاق التوقعات إذن، وقد ترتب عليه تبعات جيوسياسية وإنسانية ضخمة. كذلك من المستطاع الآن بعدما أصبح تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) واقعًا عينيًّا أن نفسر ونحلل أسباب ظهوره ومختلف التداعيات التي ترتبت على هذا الظهور. إنه إذن بمثابة بجعة سوداء، بالنسبة لسياق الربيع العربي.
يمكن تأويل مفارقة بزوغ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) هذه كخيبة أمل للربيع العربي؛ فقد كان الرهان الأساسي لهذا الربيع هو الخلاص من سلطة مستبدة، عبر وسائل مدنية وسلمية تمامًا، ولكن هل أنجز بالفعل مهمته؟ تشترك كل حالات الربيع العربي في كونها لم تنجز مهمتها بصورة تامة(11)، بينما تختلف فيما بينها في درجة هذا الفشل وفي أسبابه. فهل بوسعنا أن نعتبر بزوغ (داعش) هو الصورة الأكثر واقعية لهذا الفشل؟ إن خيبة الأمل هذه قد أعادت البريق للفكرة التي تنهض عليها القاعدة: لا سبيل لإحداث تغيير جذري إلا بالقتال، وأتاح لأتباعها الفرصة لأن يقولوا بفخر: لقد أكدنا لكم مرارًا أنكم لن تجنوا من وراء الديمقراطية شيئًا يُذكر.

إن القاعدة لم تؤمن قطّ بالربيع العربي، فقط هي بدأت تفعل ذلك عندما فشل، عندما تحول في سوريا لحالة حرب معمَّمة، عندها فقط بدأت ترى فيه ربيعًا حقيقيًّا. إن لحظة تحول الثورة السورية لحرب، هي لحظة فشل الربيع العربي، وهي لحظة بزوغ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). هذه هي إذن مفارقة ظهور (داعش) في سياق الربيع العربي، والتي تمثل تعبيرًا فجًّا عن خيبة الأمل فيه.

(داعش): دولة ضد الدولة

يبدو جليًّا أن تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) يناصب الدولة القومية الحديثة العداء، إنه يسعى وفق تصور إمبراطوري للإسلام إلى إزالة الدولة القُطرية التي تشكَّلت عقب الحقبة الاستعمارية، لتحل دولة الخلافة الإسلامية محلها. ولكن ما هو كُنه تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)؟ هل ننظر إليه كحركة ثورية أخيرة في وجه الإمبريالية الغربية، أم حركة اجتماعية إسلامية أصولية؟ لعل المقاربة الأنسب لفهم (داعش) هي أن ننظر إليها كدولة حديثة؛ إن (داعش) تتوافر بصورة مدهشة على البنية التي تنهض عليها الدولة الحديثة، أي الدولة بوصفها "ليفياثان" أو "إله فانِ" بتعبير هوبز(12)، يخضع له الجميع، ويحتكر الحق في استخدام العنف بصورة مطلقة. تلك هي المفارقة إذن؛ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الذي يقدم نفسه كضد للدولة الحديثة، هو في جوهره دولة حديثة. بل هو يتمثل في واقع الأمر الدولة الحديثة في أبشع صورها: الدولة التوتاليتارية/الكليانية؛ ففي تحليلها للظاهرة التوتاليتارية، ترى حنا أرندت أن معمار النظام التوتاليتاري يتكون من الآتي: كاريزم، أيديولوجيا تاريخية، آلة قمع، وجهاز بروباجاندا(13)، لقد خصت أرندت في نصها الكلاسيكي هذا ثلاثة نماذج توتاليتارية بالدراسة: الفاشية والنازية والستالينية.

والحال، أننا لو تدبرنا في كنه تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وممارساته، سنجد أنه يتوافر على مكونات هذا المعمار؛ فتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) يتبنى أيديولوجيا تحمل تصورًا ما لمسار التاريخ، يعمل هو على تحقيقه. إنها أيديولوجيا الخلافة، الخلافة الإسلامية بما أنها هي المآل الذي ينبغي أن يؤول التاريخ إليه، عليه إذن أن يتخذ كل الخطوات اللازمة لتسريع تحقق هذه الغاية فعليًّا في هذا العالم. يبدو جليًّا استعجال (داعش) الوصول لغاية التاريخ هذه في إعلانه المبكر عن قيام الخلافة الإسلامية بعد سيطرته على أجزاء من العراق وأجزاء من سوريا ثم إن (داعش) لديه كاريزما تتمثل في الخليفة، بوصفه وريثًا للنبوة منوطًا به حفظ الدين وسياسة الدنيا به، له بيعة واجبة في رقبة كل مؤمن. أما عن جهاز القمع، فتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) حوَّل كل من ينتسب إليه لآلة قتل، تحت غطاء مفهوم الجهاد. ومن جهة البروباجاندا، فلا مراء في أن (داعش) يمتلك جهازًا دعائيًّا قويًّا، يروِّج من خلاله لنفسه، جهازًا قد استغل بنشاط كل منتجات الحداثة (التي هي ضدها)، من وسائل التواصل الاجتماعي، إلى التصوير السينمائي(14). إذن (داعش) هو فاشيست حقيقي، ولكنه ينهض هذه المرة على أيديولوجيا دينية، مما يجعله أكثر خطرًا في واقع الأمر؛ فالأيديولوجيا الدينية تهب من يعتنقها قدرًا من الاطمئنان الميتافيزيقي الذي يُكسبه بدوره جرأة على تنفيذ ما يعتنقه، فهو ينفذ إرادة الله هذه المرة وليس إرادة بشرية. وهذه هي مفارقة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)؛ بينما هي تعلن عن عداء نشط للدولة الحديثة، إذ بها تتمثل جوهر هذه الدولة في أشد صوره عنفًا وقسوة.

ولكن عن أية خيبة أمل تعبِّر هذه المفارقة؟ إنها تعبير عن هشاشة الدولة العربية المتضخمة بتعبير نزيه الأيوبي(15)، إنها دولة هشة وإن بدت في صورة لفياثان هوبز المخيف. لنفهم ذلك ربما كان علينا أن نعود لمفهوم السياسي عند كارل شميت(16)؛ فجوهر السياسة عند شميت هو القدرة على تدشين لحظة الاستثناء، أي: لحظة الحرب، والسياسي الحق هو من يملك القرار في لحظة الاستثناء هذه. وعليه، فتاريخ السياسة بحسب شميت هو تاريخ الحرب، وما السلم إلا فترات بينية تتخلل حالة الحرب، ليست مقصودة في حد ذاتها وإنما هي خادمة للحرب بطريقة أو بأخرى(17).

إذن الدولة (أو السياسي) التي لا تملك قرار الحرب هي دولة "مبتسرة" سياسيًّا، وفاقدة لقدر كبير من شرعيتها ككيان سياسي. والحال، أن الدولة القُطرية العربية التي خلَّفها الاستعمار، هي دولة لا ينطبق عليها تصور السياسي لدى شميت؛ إنها في واقع الأمر لا تملك القدرة على تدشين لحظة الحرب الخاص بها. إن الدولة العربية لا تستطيع أن تقدم لنا  تمييزًا واضحًا بين الصديق والعدو، التمييز الذي يراه شميت ركيزة أساسية للسياسي. من هو عدو الدولة العربية والتي يمكن أن تدشن لحظة الحرب من أجله؟ لا أحد. في ظل غياب عدو خارجي للدولة توجه عنفها تلقائيًّا نحو الداخل. لقد صارت علاقة الدولة بالمجتمع ذات طابع حربي بدرجة أو بأخرى. لقد جاءت القاعدة لتسد هذا الفراغ الذي خلَّفته الدولة العاجزة عن الحرب، إنها أعادت رسم خريطة سياسات العداوة بكل وضوح، إن كل نشاط القاعدة في واقع الأمر ليس سوى تدشين دائم للحظة الحرب. لقد وفرت بتعبير طريف لياسين الحاج صالح "سوقًا سوداء" للحرب(18)، بعدما عجزت الدولة العربية أن توفره بصورة مشروعة. القيام بواجب الحرب هذا (الفريضة الغائبة وفق المعجم الجهادي) يفسر -جزئيًّا- الجاذبية التي تحظى بها القاعدة لدى أشياعها.

ما أضافه تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في هذا السياق، أنه وسَّع من نطاق عمل سياسات العداوة، بحيث صار من يخضع له هو وحده الصديق بينما من سواه هو العدو. توسل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في تمييزه الصارم هذا بين الصديق والعدو بتقنيات ميتافيزيقية كتقنية التكفير التي وظَّفها بعنف لإخراج من يخالفه من إطار الإسلام ومن ثم استحلال دمه وماله باسم الإرادة الإلهية، والتي هي إرادة هوبزية لو حُقِّق أمرها. هذه هي إذن مفارقة كنه تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) كدولة ضد الدولة، والتي هي بمثابة تعبير عن خيبة أمل الدولة العربية في تحقيق جوهرها السياسي.

التحدي: (داعش) وإرباك السياسات الخارجية

بحسب أدبيات علم السياسة، ينتمي تنظيم "الدولة الإسلامية" لما يُسمى بالفاعلين من غير الدول  Non-state actors(NSAs)، وهي كيانات تنازع الدولة في احتكارها للفعل السياسي. وتتوافر على السمات التالية: كيان منظم يمتلك هيكلية قيادية، يتمتع باستقلالية عن الدولة التي ينتمي لها جغرافيًّا، يعبِّر عن أو يمثل جماعة معينة إثنية أو طائفية أو أيديولوجية، يمتلك أهدافًا سياسية بعينها، ويمتلك من القوة ما يمكِّنه من تحقيق هذه الأهداف، ومن ثم يستطيع أن يؤثر على سياسة الدولة. هذا ويتم تقسيم الفاعلين من غير الدول وفق معيارين: نطاق العمل: محلي أو دولي، والتسليح: مسلَّح أم غير مسلَّح(19).

(داعش) وفق هذه المقاربة هو فاعل من غير الدول مسلَّح ودولي(20)؛ فهو يمتلك هيكلية قيادية واضحة (خليفة وولاة)، ويتسم باستقلال تام عن الدولتين اللتين ينتمي لهما جغرافيًّا (العراق وسوريا)، ويمثل جماعة أيديولوجية بعينها (طيف من الجهاديين)، ويضع نصب عينيه هدفًا سياسيًّا واضحًا (التوسع في بسط الهيمنة وصولاً للخلافة). ويمتلك قدرًا من الإمكانات العسكرية والاقتصادية جعله أغنى وأقوى فاعل من غير الدول على الإطلاق. ما هو التحدي الذي يمثله تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) كفاعل من غير الدول إذن لسياسات الدول الخارجية، على المستوى الدولي والإقليمي؟ وكيف يتبدى هذا التحدي في صورة مفارقة ومعبِّرة عن خيبة أمل سياسية؟

1- واشنطن: لعنة الشرق الأوسط
معلوم أن وصول أوباما للبيت الأبيض في 2008 كان إيذانًا بتغيرات جذرية على طبيعة الاستراتيجية الأميركية التي كانت معتمدة أثناء ولايتي بوش الابن 2000-2008، والتي كانت تقضي بترسيخ دور الولايات المتحدة كقطب أوحد للعالم. وفي سبيل ذلك اعتمد بوش مبدأ الحرب الاستباقية أو الوقائية، فأجاز من ثمة لواشنطن أن ترسل جنودها إلى حيث شاءت. كان حصاد هذه الاستراتيجية مرًّا في أفغانستان والعراق. ثم جاء أوباما ليؤكد على أن الولايات المتحدة ليست وحدها سيدة العالم، وإنما ثمة تعددية قطبية، تتيح لباقي الدول مشاركة الولايات المتحدة في تدبير شأن النظام الدولي. لقد أصبحت السياسة الخارجية الأميركية إذن أكثر تواضعًا وأقل عسكرة. لقد جاء أوباما إذن لترميم ما دمره بوش وبطانته من المحافظين الجدد، فهو سيسعى إلى تجنب الدخول في أي حرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وسيسعى للابتعاد وسعه عن منطقة الشرق الأوسط المزعجة، مقابل إعطاء منطقة الباسيفيك قدرًا أكبر من الأهمية. وبناءً عليه سوف يعتمد سياسة "القيادة من الخلف" لتدبير أموره في الشرق الأوسط. وبالفعل كانت هذه السياسة هي المتبعة في تعامله مع أحداث الربيع العربي (التي فاجأت الولايات المتحدة كما فاجأت الجميع)، والتي تجلَّت بوضوح تام في موقف إدارة أوباما الحذر من الثورة الثورية(21).

ولكن بعد ثلاث سنوات من "القيادة من الخلف" ما الذي جنته واشنطن في سوريا؟ إنه تنظيم "الدولة الإسلامية"؛ فالحال، أن كثيرًا من الانتقادات التي توجَّه في الداخل والخارج لسياسة واشنطن تجاه الثورة السورية، تجادل بأن إحجام واشنطن عن التدخل بجدية لإسقاط الأسد، هو الذي مهد السبل لتحويل سوريا مع الوقت إلى قبلة للجهاديين من أرجاء العالم، ومن ثم بزوغ تنظيم "الدولة الإسلامية" في نهاية المطاف. هذا البزوغ الذي اضطر واشنطن لأن تعود مرة ثانية للشرق الأوسط، تحت غطاء تحالف واسع لمحاربة (داعش)، هذه العودة التي كافح أوباما كي لا يتورط فيها أبدًا.

هذه هي المفارقة إذن: إحجام واشنطن عن دعم الثورة السورية بجدية، تجنبًا لتكرار سيناريو العراق، ورغبة في الابتعاد عن الشرق الأوسط، قد تَسبَّب (ولو جزئيًّا) في بزوغ تنظيم "الدولة الإسلامية"، ومن ثم هي مضطرة الآن للعودة بطريقة أو بأخرى إليه(22). إن هذه المفارقة تعبِّر عن خيبة أمل واشنطن في النأي بنفسها عن الشرق الأوسط. يبدو الأمر وكأن الشرق الأوسط بمنزلة "لعنة" تطارد الولايات المتحدة، بحيث لا تستطيع الفكاك منه.
 
2- تركيا: التحدي الكردي
عندما راحت واشنطن تجمع حلفاءها لخوض الحرب ضد (داعش)، أبدت تركيا قدرًا ملحوظًا من التمنع عن المشاركة في عمليات التحالف. والحال، أن أنقرة حليف لا يمكن الاستغناء عنه في هذا السياق؛ نظرًا لإمكاناته العسكرية، ولمكانته الجيوسياسية التي تيسر استهداف تنظيم "الدولة الإسلامية" في كل من سوريا والعراق، لذلك لم تكلَّ الدبلوماسية الأميركية عن الإلحاح على تركيا كي تنخرط بصورة جدية في التحالف(23). بالقطع أنقرة ليست حليفًا لـ(داعش)، ومن ثم تأبى أن تقاتله، وهو بالنهاية يمثل تهديدًا أيديولوجيًّا وعسكريًّا لتركيا. فما الذي يمنع تركيا من القيام بعمليات عسكرية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"؟

واقع الأمر، أنه وبالرغم من كون أنقرة ترى في تنظيم "الدولة الإسلامية" خطرًا عليها، إلا أنها لا ترى أية جدوى حقيقية من الانخراط في حرب ضده في كل من سوريا والعراق. ما تريده أنقرة أن يكون قتال (داعش) ضمن استراتيجية شاملة يكون هدفها الأول هو إسقاط نظام الأسد. إن أنقرة ترى أن التحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة قد أسقط تمامًا من أجندته هدف الإطاحة بالأسد، ويريد أن يزج بها في أتون حرب ضد (داعش)، طويلة الأمد ومشكوك في جدواها بدرجة كبيرة.

يزيد الأمور تعقيدًا بالنسبة لأنقرة، أن تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) يحاصر ما يقرب من 100 جندي تركي في منطقة تقع وراء الحدود السورية تسمى ضريح سليمان شاه، والتي تحتضن قبر عثمان شاه مؤسس الدولة العثمانية(24)، كما أنه كان تحتجز عددًا آخر من الدبلوماسيين الأتراك في الموصل قبل ذلك، لكن استطاعت أنقرة أن تحررهم بطرق تفاوضية. إذن تركيا لا تريد أن تتورط في قتال مباشر مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، مخافة ردود فعله.

اتضح هذا الاحجام التركي جليًّا، خلال أزمة مدينة كوباني (عين العرب)، تلك المدينة الحدودية والتي يحاصرها (داعش) ويُبدي عزمًا لا يلين على السيطرة عليها، ولم يفتَّ في عضده كل الغارات الجوية التي شنَّها التحالف عليه حتى الآن. والحال، أن هذا الإحجام لا يُفسَّر وفقط ضمن استراتيجية أنقرة العامة القاضية بعدم الانخراط في حرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وحدها، وإنما لكون هذه المدينة واقعة تحت سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي، ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا والذي تقاتله تركيا كمنظمة إرهابية طوال ثلاثة عقود قد خلَتْ، إن تركيا تريد أن يكون تدخلها للدفاع عن المدينة وفق استراتيجيات التفاوض بينها وبين حزب العمال التي تشكِّل واحدة من أهم قضايا السياسة التركية الداخلية(25).

ها هي إذن تركيا التي رغبت كثيرًا في أن تتدخل الولايات المتحدة مبكرًا في الشأن السوري بقدر أعمق، وأن يكون ثمة تحالف إقليمي-دولي تلعب هي فيه دورًا كبيرًا، بغرض الإطاحة بالأسد، تتلكأ في الانضمام لتحالف قائم يشبه تمامًا ذلك الذي ترغب فيه، ولكنه للمفارقة يستهدف تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وليس الأسد.

موقف تركيا من تنظيم (داعش) إذن أشبه بعداء مكتوم، أو حرب باردة، لا ترغب تركيا في نزع فتيلها. والحال، أن هذا الموقف يعبِّر عن خيبة أمل السياسات التركية تجاه سوريا، فحتى الآن لا ترى أنقرة أي سبيل يمكن أن يحقق هدفها الذي اعتمدته منذ اندلاع الثورة السورية، وهو الإطاحة بالأسد؛ ومن ثم هي لا تريد أن تنخرط في حرب ضد (داعش) لن تخدم أبدًا هذا الهدف.
 
3- دول الخليج: مع (داعش) أم ضدها؟
يمكن مقاربة السياسات الخليجية تجاه تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) من خلال النظر في طبيعة موقفها من الثورة السورية؛ لقد كان هَمُّ دول الخليج، هو إسقاط نظام الأسد، وفي هذا السياق قامت بدعم فصائل المعارضة السورية المختلفة، ثم بزغ تنظيم "الدولة الإسلامية" ليقلب الموازين؛ فانخرط في قتال مع باقي الفصائل المعارضة، وحقق انتصارات كبيرة عليها، ومن ثم ذهب الدعم الذي قدمته لها دول الخليج بغرض الإطاحة بالأسد سُدى، فبدلاً من مقاتلة الأسد انشغلت بالدفاع عن نفسها ضد تنظيم (داعش).

عند هذه النقطة انزعجت واشنطن؛ إذ رأت أن سوريا قد تحولت لساحة مجاهدين كبيرة، يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية"، وراحت تُحمِّل دول الخليج بدرجة أو بأخرى وزر ازدهار الجهاديين في سوريا(26). بعد ذلك جمعت واشنطن حلفاءها لتنفيذ عمليات ضد (داعش) في كل من العراق وسوريا وكان على دول الخليج أن تلتحق بهذا التحالف، ولكن هل تريد دول الخليج فعلاً القضاء على (داعش)؟ واقع الأمر، أن موقفها يقترب بشدة (من حيث الهدف وإن اختلفت المنطلقات) من الموقف التركي؛ نعم يمثل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) خطرًا أيديولوجيًّا وعسكريًّا على دول الخليج، ولكن هذا الخطر يظل محتملاً على المدى المتوسط أو البعيد، ما دام تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) محصورًا في العراق وسوريا، بينما ثمة هدف آخر أكثر أهمية وهو  الإطاحة بالأسد، ذاك الهدف الذي لا يعطيه التحالف أي اعتبار. وعليه، فإننا لا نجد الرياض أو الدوحة متحمستين لعمليات التحالف بالقدر الكافي(27).

موقف دول الخليج هنا هو نفسه موقف تركيا، كلاهما سعى حثيثًا منذ بداية الثورة السورية لإنشاء تحالف إقليمي-دولي بغرض الإطاحة بالأسد، ولكن بلا جدوى. وها هو التحالف قد تشكَّل بالفعل وهما يُعرضان عنه الآن؛ لأنه اتخذ لنفسه هدفًا مغايرًا تمامًا لهدفهما الرئيس المتمثل في الإطاحة بالأسد.

إن هذا الوضع يعبِّر عن خيبة أمل السياسات الخليجية في سوريا؛ إن دول الخليج لم تستطع أن تطيح بالأسد، ولم تستطع من ثمة أن تُضعف من نفوذ طهران في المنطقة بل العكس يكاد يكون قد تحقق؛ فلا يلوح في الأفق أن نظام الأسد سينهار قريبًا، وها هي إيران تزداد نفوذًا فوق نفوذها.

4- إيران: حينما يصير العدو مفيدًا!
على المستوى الأيديولوجي يمثِّل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بلا شك عدوًّا لإيران(28)، ولكن كيف هي الحال على المستوى السياسي؟ لنقل بداية: إن هدف إيران الرئيسي في سوريا هو الحفاظ على نظام بشار الأسد بكل ما أوتيت من قوة، لمنع سقوط دمشق في يد نظام إسلامي أو نظام موال للرياض. وكذلك يتمثل هدفها في العراق في الإبقاء على نظام يحافظ على نفوذها الذي حققته بعد الغزو الأميركي في 2003. فما هو الأثر الذي خلَّفه تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على أهداف طهران هذه قبل وبعد تدخل واشنطن وحلفائها؟

فيما يخص العراق، فقد شكَّل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) فعلاً خطرًا على مصالح طهران فيها؛ حيث سيطر التنظيم على مساحات كبيرة من العراق (الموصل، الأنبار) مما دفع طهران للتخلي عن رجلها نوري المالكي، ومن ثم دعمها لحيدر العبادي كبديل أكثر توافقية، في سياق حل سياسي للأزمة، ثم هي اضطرت في سياق الحل العسكري، لإرسال قادة عسكريين إيرانيين إلى العراق لمساعدة قوات الجيش العراقي والبشمركة الكردية في قتال تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). كما قامت أيضًا بالزج بالميليشيات التابعة لها في العراق (أو التي استقدمتها من سوريا) لمقاتلة (داعش)(29). لكن في المحصلة، لا يمكننا القول بأن خسائر طهران في العراق فادحة؛ فالعبادي لا يزال شيعيًّا وعلاقته بطهران ليست على درجة ملحوظة من السوء بحيث يسوغ لنا القول بأن طهران قد فقدت نفوذها على الحكومة العراقية؛ فواقع الأمر أن هذه الحكومة الجديدة والتي يُرجى منها أن تقلِّل من حدة التهميش السني، لا تزال مفاصلها في يد الفصائل الشيعية(30).

كيف هو تأثير بزوغ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على أهداف طهران في سوريا؟ أولاً: تمدد (داعش) ونفوذه في سوريا أقل منه في العراق؛ فتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) ليس وحده في سوريا؛ إذ ثمة مروحة واسعة من الجهاديين (جبهة النصرة وأحرار الشام) أو قوات المعارضة المنشقة عن الجيش السوري، كلهم منخرطون في قتال الأسد. ثم ثانيًا: واقع الأمر أن (داعش) من بين كل هؤلاء لا يمثل الخطر الأهم على الأسد، إنه مشغول بتثبيت أقدامه أولاً في الأراضي التي لا يسيطر عليها الأسد أصلاً، ومن ثم انخرط في حرب مريرة مع رفاقه من المجاهدين، على حساب مقاتلة الأسد. إن تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وللمفارقة لم يشكِّل حتى الآن الخطر الأساسي على الأسد، وبالتالي لم يشكِّل بالتبع الخطر الأساسي على مصالح إيران في سوريا. هذا هو واقع الأمر قبل بدء عمليات التحالف الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في العراق وفي سوريا، فكيف هي الحال بعد بدء هذه العمليات؟

الحال، أن إيران بالطبع ليست سعيدة ببزوغ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، فهي في النهاية تقع في دائرة خصومه الحقيقيين، ومن ثم فإن عمليات التحالف ضده تصب في مجرى المصالح الإيرانية في العراق وسوريا. ولكن كيف لنا أن نفسر والحالة هذه سخط إيران الظاهري على التحالف(31)؟ واقع الأمر أن طهران تدرك مدى نفوذها في كل من العراق وسوريا، وهو نفوذ يمكن توظيفه جيدًا في محاربة (داعش)، وهي تدرك أيضًا أن واشنطن مدركة لهذا النفوذ ولأهميته؛ ومن ثم فإن طهران تود أن تستثمر نفوذها هذا في سبيل تغيير دفة علاقتها بواشنطن. إن طهران طمعت في أن يتم ضمها بصورة ولو شبه رسمية للتحالف الذي تتزعمه واشنطن ضد (داعش)؛ مما سيعني الاعتراف بها كقوة إقليمية. وفي مقابل وضع نفوذها هذا تحت يد التحالف تريد طهران أن تنال بعض الامتيازات في المفاوضات النووية الشاقة بينها وبين مجموعة 5+1. والحال، أن واشنطن تُبدي قدرًا كبيرًا من الارتباك أمام هذا العرض الضمني من طهران؛ فهناك أحاديث عن رسالة سياسية من أوباما للمرشد الأعلى تتحدث عن تنسيق إيراني-أميركي لمحاربة (داعش)(32). ولكن بالتوازي معها هناك تأكيدات مستمرة على رفض واشنطن القاطع لعرض كهذا(33)، وغياب أي تنسيق بين واشنطن وطهران في سياق الحرب مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)(34). إن واشنطن بين مطرقة وسندان إذن؛ هي تعلم ما يمكن أن تقدمه طهران من عون في معركتها (المتأزمة) ضد (داعش)، ولكنها ليست مستعدة أبدًا للاعتراف بها كقوة إقليمية، ولا تقديم تنازلات حقيقية في مسألة الملف النووي الإيراني.

على أية حال، فإن محصلة بزوغ (داعش) في العراق وسوريا، وتدخل الولايات المتحدة وحلفائها لقتاله، يبدو أنها تمثل بدرجة أو بأخرى مكسبًا سياسيًّا لإيران؛ إذ لم يتأثر نفوذها في العراق سلبًا وإنما على العكس قد ازدادت نفوذًا فوق نفوذها، بإرسال عسكريين إيرانيين ودعم ميليشيات شيعية للدفاع عن بغداد وعن كردستان العراق ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). إيران تلعب دور المنقذ إذن في العراق. أما في سوريا فغارات التحالف تصب وبطريقة مذهلة في مصلحة إيران، حيث إن هذه الغارات تسهم بطريقة مباشرة في تقوية نظام الأسد.

وتلك هي المفارقة؛ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) العدو الأيديولوجي لإيران مفيد لها بدرجة أو بأخرى. وإن كانت هذه المفارقة تعبِّر عن خيبة أمل ما، فإنها لا تعبر عن خيبة أمل السياسات الإيرانية في المنطقة وإنما على الضد، هي تمثل خيبة أمل سياسات الولايات المتحدة (وحلفائها الخلجيين). يبدو الأمر أن سياسات واشنطن ومنذ غزوها للعراق في 2003، تسهم في خدمة مصالح طهران بطريقة مفارقة بالرغم من حرصها الدؤوب على فعل العكس.

خاتمة

هذه هي إذن جملة مفارقات (داعش) المتعلقة بسياق ظهورها في زمن الربيع العربي، وبطبيعة كنهها السياسي، وبإرباكها لسياسات الدول الإقليمية والولايات المتحدة. لقد مثَّل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) كفاعل من غير الدول تحديًا حقيقيًّا للدولتين اللتين ينشط في إطارهما الجغرافي، العراق وسوريا؛ ففي العراق تسبب في الإطاحة بحكومة المالكي ومجيء حكومة جديدة. وسوَّغ التدخل الخارجي في العراق مرة ثانية. وفي سوريا أثَّر سلبًا على مسار الثورة السورية؛ إذ دعم موقف الأسد الذي لم يكِلَّ عن ترويج روايته الخاصة عن الثورة السورية بوصفها تخريبًا يتزعمه متطرفون ظلاميون ومأجورون.

كذلك هو قد أربك طبيعة السياسات الخارجية لباقي الدول الفاعلة في الإقليم؛ فها هي الولايات المتحدة تجد نفسها في نهاية المطاف ترسِّخ بعملياتها العسكرية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) أقدام الأسد في سوريا. ومن ثم تزيد من نفوذ إيران في المنطقة بطريقة أو بأخرى، وقد تجد نفسها مضطرة لعقد صفقات سياسية مع الملالي في طهران، وكأن واقع الحال إذن أن واشنطن تقف مع طهران والأسد في نفس الخندق.

كما أن علاقة واشنطن بأنقرة معرَّضة للتوتر بسبب تباطؤ الأخيرة في الانضمام للتحالف ضد (داعش) بصورة جذرية؛ حيث إن أنقرة لا ترى في عملياته ضد (داعش) وحده دونما استراتيجية شاملة تتضمن الإطاحة بالأسد، جدوى حقيقية.

مفارقات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) هذه تعبير عن خيبات أمل معمَّمة؛ دول الخليج بعد ثلاثة أعوام من الاستثمار في المعارضة السورية، جاء (داعش) ليقضي على آمالها دفعة واحدة، وتركيا لا ترى أي ضوء في آخر النفق يبشرها بقرب رحيل الأسد، والولايات المتحدة انجرَّت لتدخل عسكري في المنطقة مرة ثانية وهي التي كانت عازمة على عدم التورط فيه أبدًا.

والحال، أن خيبة الأمل الأشد وطأة والتي عبَّر عنها بزوغ (داعش)، هي خيبة الأمل في الربيع العربي، كحركة تحررية كان يُرجى منها أن تغير وجه المنطقة العربية إلى الأبد.
__________________________________
طارق عثمان: باحث متخصص في قضايا الفكر الإسلامي

المصادر والهوامش
1- لا تثريب علينا في استخدام مصطلح ثورة لتوصيف هذه الأحداث، بغضِّ النظر عن السجال الأكاديمي الدائر حول أهليته بوصف الثورة؛ إذ يجادل البعض بأن التوصيف الأدق لها هو انتفاضة أو هَبَّة، نظرًا لكونها لم تنجز التغيير الجذري للنظام السوسيو-سياسي القائم، والذي هو شرط استحقاق وصف الثورة بحسبهم. ولكن واقع الأمر أن كل هذه المصطلحات: ثورة، صحوة، انتفاضة، هبَّة، تُستخدم بضرب من التجوز والتساهل كمترادفات في توصيف هذا الحدث. وعن مفهوم الثورة راجع: حنا أرندت، في الثورة، ت: عطا الله عبد الوهاب، المنظمة العربية للترجمة. 2008.
2- مصطلح الربيع العربي مستعار في الأصل من السياق الأوروبي، حيث أطلق على موجة الثورات التي اجتاحت أوروبا في 1848-1849 مصطلح الربيع الأوروبي. وأول استخدام لمصطلح الربيع العربي كان في لبنان عام 2005، بعد مقتل رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان، استبشارًا بحقبة لبنانية جديدة أكثر استقلالاً. وقد استُخدم أيضًا من قِبل صحفيين أميركيين كتعبير عن التفاؤل الذي صاحب رغبات الإدارة الأميركية حينئذ في دمقرطة منطقة الشرق الأوسط، كحل لأزماتها. وكان أول من استخدمه لتوصيف الثورات العربية هو مارك لينش في مقال له بمجلة "فورين بوليسي" بعنوان: أوباما والربيع العربي في ديسمبر/كانون الأول 2010. ثم شاع استخدام المصطلح من بعدها.
3- عن خصوصية الحالة التونسية، راجع: الاستثناء التونسي: نجاح التوافق وعوائقه، مجموعة الأزمات الدولية، يونيو/حزيران 2014.
4- عن الانقلاب العسكري في مصر، راجع: السير في دوائر: خطورة المرحلة الانتقالية الثانية في مصر، مجموعة الأزمات الدولية، أغسطس/آب 2013.
5- لتحليل معمق لحالة ليبيا السياسية والعسكرية فيما بعد القذافي، راجع: ليبيا بعد القذافي: الدروس والآثار المستقبلية، كريستوفر شيفيز وجيفري مارتيني، مؤسسة راند 2014. وأيضًا: في أعقاب الحرب: الصراع على ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي، جيسون باك وبارك بارفي، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، فبراير/شباط 2012.
6- عن مكاسب الحوثيين السياسية الراهنة، راجع: الحوثيون: من صعدة إلى صنعاء، مجموعة الأزمات الدولية، يونيو/حزيران 2014.
7- استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء، دونما مقاومة تُذكر، وفَّر للقاعدة فرصة حقيقية لتبزغ مرة ثانية بوصفها المدافع الوحيد عن القبائل في وجه التمدد الحوثي. لقد وفَّر ذلك للقاعدة حاضنة قبَلية ممتازة، وأكسبها مشروعية وجودية بدرجة كبيرة؛ فالقتال على أشده اليوم بين أنصار الله (الحوثيين) وأنصار الشريعة (القاعدة) وبينهما قد ضاع اليمن الذي لم يعد أبدًا سعيدًا.
8- تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) (الدولة الإسلامية في العراق والشام) تم الإعلان عن تأسيسه بسوريا في إبريل/نيسان 2013، ولكن في يونيو/حزيران 2014 أعلن عن قيام الخلافة ومبايعة أميره أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين، ومن ثم تحول اسمه إلى الدولة الإسلامية، ولكننا نؤْثِر استخدام اسم (داعش) لاشتهاره، وتجنبًا للبْس الذي يثيره اسم الدولة الإسلامية.
9- نسيم نيقولا نجيب طالب (1960-... )، أكاديمي أميركي من أصل لبناني، يدرس علوم الإدارة وهندسة المخاطر ونظريات الفوضى والعشوائية واللاتوقع. هو صاحب نظرية البجعة السوداء.
10- نسيم طالب، البجعة السوداء، ت: حليم نصر، بيروت: الدار العربية للعلوم، 2009، ص10.
11- لا يسعنا أن ننكر أن حال الثورة التونسية هنا أفضل من غيرها. ولكن لا يسعنا أن ننكر أيضًا استمرار حضور النظام القديم في المشهد التونسي الثوري (خاصة بعد الانتخابات الأخيرة 2014 التي حصل فيها حزب نداء تونس على أعلى عدد من المقاعد البرلمانية). أفضلية تونس ترجع في المقام الأول لمقارنتها بسوء الأحوال في غيرها من بلدان الربيع العربي، لا إلى معايير ثورية جذرية.
12- راجع: توماس هوبز، اليفياثان، ت: ديانا حرب وبشرى صعب، أبو ظبي: كلمة للنشر ودار الفارابي، 2011.
13- راجع: حنا أرندت، أسس التوتاليتارية، ت: أنطوان أبو زيد، لندن: دار الساقي، 1993.
14- بثَّ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) مؤخرًا فيلمًا ترويجيًّا عالي الجودة يحمل اسم لهيب الحرب.
15- بروفيسور نزيه نصيف الأيوبي في عمله الكلاسيكي: تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، المنظمة العربية للترجمة 2011.
16- Carl Schmitt, the concept of the political, 1927
17- قوبلت أفكار شميت بالنقد؛ إذ تم الربط بينها وبين النازية التي انضم إليها شميت.
18- ياسين الحاج صالح، القاعدة: إمبراطوريتنا البديلة، 9 مايو/أيار 2014، موقع الجمهورية، على الرابط:
 http://therepublicgs.net/27974
19- راجع: William Wallace, Daphne Josselin (editors), non-state actors in world politics, Palgrave Macmillan, 2012
20- هي فاعل من غير الدول ولكنها كما أسلفنا تتوافر على جوهر الدولة الحديثة بما هي كذلك.
21- راجع: تطورات الموقف الأميركي من الثورة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فبراير/شباط 2013.
22- راجع: أسامة أبو أرشيد، هل تنساق الولايات المتحدة إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط؟ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أكتوبر/تشرين الأول 2014.
23- راجع: عماد يوسف قدورة، تركيا ومسألة التدخل العسكري بين الضغوط والقيود، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أكتوبر/تشرين الأول 2014
24- كانت هذه المنطقة جزءًا من الدولة العثمانية، وبعد سقوط الخلافة أصرَّ أتاتورك على أن تظل تحت سيطرة تركيا.
25- أقصى ما فعلته أنقرة لكوباني حتى الآن (نوفمبر/تشرين الثاني 2014) أنها سمحت (تحت ضغط واشنطن) لبعض قوات البشمركة الكردية القادمة من كردستان العراق وبعض قوات الجيش السوري الحر وبعض العتاد العسكري بالمرور عبر حدودها إلى البلدة ليدافعوا عنها ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
26- من أبرز التصريحات في هذا السياق، تصريح جون كيري في جامعة هارفارد عن دعم تركيا ودول الخليج للجهاديين في سوريا وأثر ذلك في بزوغ تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
27- ربما كانت الإمارات العربية أكثر تحمسًا في هذا السياق، ولعل ذلك يرجع لأسباب أيديولوجية محضة أكثر منها أسبابًا متعلقة بأجندة سياسية خارجية محددة.
28- أولوية مقاتلة الشيعة عند تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) تمثل فرقًا مهمًّا بينها وبين تنظيم القاعدة الذي يعطي الأولوية لمقاتلة الغرب.
29- عن الميليشيات الشيعية التابعة لإيران في العراق، راجع:
Phillip Smyth, all the ayatollah’s men, foreign policy, 18 September,2014
على الرابط:
http://www.foreignpolicy.com/articles/2014/09/18/all_the_ayatollahs_men_shiite_militias_iran_iraq_islamic_state
30- عن هذه الحكومة راجع: البرلمان العراقي يقر الحكومة الجديدة برئاسة حيدر العبادي، رويتز، 8 سبتمبر/أيلول 2014، على الرابط:
http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN0H322B20140908
31- إيران: التحالف المناهض للدولة الإسلامية يكتنفه غموض شديد، رويترز، 11 سبتمبر/أيلول 2014، على الرابط:
http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN0H60XJ20140911
32-  انظر: Obama wrote secret letter to Iran’s Khamenei about fighting Islamic state, The Wall Street Journal
على الرابط:
 http://online.wsj.com/articles/obama-wrote-secret-letter-to-irans-khamenei-about-fighting-islamic-state-1415295291
33- واشنطن ترفض عرضًا إيرانيًّا لربط محاربة (داعش) بتنازلات نووية، الشرق الأوسط اللندنية، 23 سبتمبر/أيلول 2014، على الرابط:
http://classic.aawsat.com/details.asp?section=4&article=788163&issueno=13083#.VGXwKvmUe3Q
34- واشنطن: لم نقم بأي تنسيق عسكري مع إيران للتصدي لـ(داعش)، الحياة اللندنية، 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، على الرابط:
http://www.alhayat.com/Articles/5557304/%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86--%D9%84%D9%85-%D9%86%D9%82%D9%85-%D8%A8%D8%A3%D9%8A-%D8%AA%D9%86%D8%B3%D9%8A%D9%82-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A-%D9%85%D8%B9-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%B5%D8%AF%D9%8A-%D9%84%D9%80-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-

عودة للصفحة الرئيسية للملف

ABOUT THE AUTHOR