صدر مؤخرا للباحث الليبي عبد السلام جمعه زاقود كتاب بعنوان "مسار المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي" بعدد صفحاته البالغة 288 صفحة من القطع المتوسطة، عن دار الزهران الأردنية في سنة 2012. وانقسم الكتاب منهجيا إلى تقديم، ومقدمة، وخمسة فصول، وخاتمة، مع تقديم للباحث والكاتب الموريتاني الحسين الشيخ العلوي.
وقد ورد في التقديم تحليل شمولي للوضع السياسي الليبي منذ الاحتلال الايطالي في 1911 وحتى 2012، مركزا على ما سماه المقدم العقلية "البدوية " التي حمّلها نصيبا معتبرا من فشلٍ كان السبب في ثورة 17 فبراير/ شباط 2011 على النظام السابق -على حد وصفه- الذي نقل قيم البداوة إلى السلطة، وهو ما تأثرت به النفسية الليبية.
ويلاحظ على التقديم أنه لم يمهّد الطريق السالكة إلى التحليل العلمي بين تداعيات خصائص العقلية البدوية وانتهاكات حقوق الانسان في المشهد الليبي الحالي، حيث نسب إلى المنظمات الحقوقية قولها إن ما ارتكب حديثا يفوق ما ارتكبه النظام السابق!
كما أن الخصائص التي وسم بها التقديم العقلية البدوية، ليست على إطلاقها، لأن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن، - مثلا- رفع غداة هجمات 11 سبتمبر 2001 شعار "من ليس معنا فهو ضدنا"، فهل يجوز وصف السلوك السياسي الأمريكي بأنه سلوك بدوي!! (وهذا ما انتبه له المؤلف نفسه في بعض هوامشه).
كما ورد في التقديم القول بقاعدية "لا تزر وازرة وزر أخرى"، وربما كان الصواب هو أنها آية قرآنية يمكن استنتاج قاعدة منها.
أما المؤلف، فقد أشار في البداية إلى أنه تهيّب كثيرا خوض غمار هذه التجربة، رغم عدالة قضيته الوطنية وحرصه على بيضة الدولة الليبية ووحدة شعبها وتماسك قبائله.
ثم تناول المؤلف - بعد ذلك - المداخل الأساسية للموضوع مناقشا جملة من المفاهيم العامة حول الوطن، الوطنية، والمواطنة، الشعب، الدولة، السيادة الوطنية، السلم الاجتماعي، الحكم الرشيد.
وتعرض المؤلف لتفسير مبادئ المصالحة الوطنية في ثمانية عشر مبدأ منها مثلا: "لا غالب ولا مغلوب "ليبيا الغالبة"، عدم استخدام العنف باسم الله تعالى، الأصل في الإنسان البراءة، احترام كرامة الإنسان، خطورة التنابز بالألقاب، التعصب القبلي والميز العنصري، خطر المكابرة والاعتزاز بالإثم، فضيلة العفو والتسامح، العفو عند المقدرة فعل الكرام.
كما عرّج المؤلف على ماهية المصالحة الوطنية وأهميتها وأهدافها وأبعادها المقاصدية، والثقافية، والأمنية، والقانونية والسياسية، والنفسية وصولا إلى البعد الإنساني العالمي، مع الإشارة إلى أهمية تحقيق المصالحة في أحوال النزاع المختلفة من النزاعات الأسرية والقبلية وغيرها.
واستعرض المؤلف نماذج من طرق المصالحة عبر التاريخ استلهم فيها قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما وردت في القرآن الكريم، والسيرة النبوية ( مثل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلح في المدينة المنورة، وصلح الحديبية)، وأكّد أهمية هذه النماذج، كمُثل وسنن يحتذي بها الإنسان المسلم في حياته الخاصة والعامة، ليصل بتمثلها إلى حالة العفو التام والشامل على النحو الذي ظهر في سير أولئك العظماء والسائرين على طريقهم.
كما أورد المؤلف المصالحة اللبنانية، كحالة عربية، أثبتت أنها قابلة للتطبيق (اتفاق الطائف الذي أسدل الستار على الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت عقدا ونصف من الآلام والخسائر البشرية المهولة).
ولم يغفل الكاتب تحليل آليات تحقيق المصالحة والسلم الاجتماعي مبتدئا بتحديد العوائق ومنها أبرزها: (غياب وعي وثقافة المصالحة الوطنية. وخشية المصلحين من التخوين، والقوي الخارجية ودورها في تأخير المصالحة الوطنية، غياب الدولة الراعية للمصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي ، أصحاب المصالح الخاصة، وأصحاب السوابق الجنائية، وارتفاع سقف مطالب التصالح ).
ويعتبر الكاتب أن هناك دولا يمكنها لعب دور راعي المصالحة والسلم الاجتماعي، حيث توجد مصر والسعودية على المستوى العربي والسعودية، هناك فرنسا والنمسا، ويشير الكاتب إلى فكرة الوسيط الدولي هذه الفكرة مستقاة من تجارب لبنان وزيمبابوي.
ويحلل المؤلف روافد المصالحة ليبياً (ومنها وحدة الدين الإسلامي، والاشتراك في منظومة القيم والعادات الاجتماعية، وتدني الكثافة السكانية، علاقات النسبية والمصاهرة داخل المجتمع)، ليحدد بعد ذلك خطوات المصالحة وأشكالها، ووسائلها (وأهمها: التسامح، العفو، العدل، الإحسان، الشوري، الأخوة الإيمانية، الوحدة الإنسانية، الاعتراف بالآخر).
وفي نفس السياق يحدد المؤلف إجراءات عملية لتحقيق المصالحة مثل : إنشاء وزارة للمصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي يعهد إليها بملف المصالحة، وتمنح الصلاحيات التنفيذية المناسبة لذلك.
ثم يختتم الكتاب بخلاصات أجمل فيها تفاعلات الأحداث في ليبيا ومخلفاتها السلبية، ونوه بمخاطر الأسلحة المنتشرة بين الناس مطالبا بجمعها من الجهات المختصة، وإبعادها عن متناول العابثين، ومناديا بحفظ الأمن وحراسة حدود الوطن وهي مسؤولية دينية وأخلاقية يتحملها الجميع، منهيا حديثه عن خطورة نهب الأموال العمومية ملتمسا من الفاعلين لذلك بالرجوع إلى الحق.
وقد بلغت مصادر ومراجع الكتاب حوالي اثنين وأربعين مصدرا ومرجعا، وثمانية مواقع الكترونية من الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت)ـ إضافة إلى أربعة ملاحق.
وبرغم الجهد البحثي البارز في الكتاب إلا أن عين الناقد لا تخطئ بعض الملاحظات الهامة، وسنورد - من - باب الأمانة العلمية - أبرزها:
-
أن عنوان الكتاب غير محدِدٍ من الناحية المنهجية ، حيث يحتفظ شكله الحالي بغموض كثيف وإجمال غير مبرر، إذ لا يبين العنوان - للوهلة الأولى- مكانا أو زمانا للمصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي ( أين، ومن يشار إليه بالمصالحة )، فهل المصالحة المتحدث بشأنها في جنوب إفريقيا أو لبنان أو زيمبابوي. ومما زاد في الإبهام غموض وجه الصلة والانتماء الوطني للمؤلف، واكتفى فقط بالإشارة إلى أنه أكاديمي ومفكر عربي إلا أن ذلك لا يكفي من الناحية الموضوعية، صحيح أن واجهة الكتاب حملت رسما للخريطة الليبية وتحتها الاسم مع لمسات فنية بالأيدي المتصافحة، لكن التضمين في العنوان الأصلي الرئيسي أمر بالغ الإيحاء غير واضح الدلالة..
-
استهل المؤلف مقدمته بالحديث عن النظام السابق ومطالبة الناس له بالإصلاح ، ثم انتقل سريعا إلى أن هناك أطرافا للصراع في ليبيا دون أن يحدد تلك الأطراف على نحو دقيق، كما لم يصنف نفسه ضمن أي طرف.
-
مع أن الكتاب تضمن إحالات مرجعية كثيرة لأغلب اقتباساته القرآنية والحديثية وغيرها، لكن بعض الآيات لم يشملها ذلك، كما أن مقولة الإمام أحمد بن حنبل حول عدم إلزامية رأيه في مسألة خلق القرآن لم تستفد من التوثيق المرجعي، مع أن هناك إحالات كثيرة إلى مسند أحمد وكتب لها علاقة بالمذهب الحنبلي، وكذلك كل الاقتباسات الاستهلالية المقترنة مع عناوين الفصول لعلماء أجلاء مثل الشعراوي، والأوزاعي، وابن تيمية.
-
عدم التوسع في توضيح دور القوى الخارجية في الأحداث الليبية ابتداء، وهو ما أوقع الكاتب في تناقض بعد تركيزه على قدرة تلك القوى على رعاية المصالحة من حيث النتيجة، مع أن سياسيين ليبيين انتقدوا صراحة دور بعض القوى الخارجية وحملوها مسؤولية استمرار توتير الأوضاع الأمنية في البلاد.
ومن الجدير بأي بحث علمي جاد أن يكون أكثر مباشرة وبعدا عن التورية والاستعارة دون أن يكون هنالك داع لذلك.
-
يمكن اختصار مبادئ المصالحة في خمسة عشر مبدأ بدل الثماني عشرة الواردة في الكتاب، لأن بعض المواضيع المدرجة ( مثل المصالحة أصل في الدين، ولماذا المصالحة، وآثار الحرب وتداعيات هجمات الحلف الأطلسي ) يمكنها الانتقال إلى حيز آخر من الكتاب وليس من ضرورة للإبقاء عليها ضمن المبادئ العامة للمصالحة الوطنية.
كما يلاحظ أيضا أن المؤلف وضع أوصافا أو حدد مواقف أخلاقية من بعض تلك المبادئ مثل القول " مبدأ احترام كرامة الانسان "، لكنه أبقى مواقف أخرى خلوا من أي موقف، لماذا؟
كالقول:" مبدأ تعذيب الانسان " فلماذا لا يكون مثلا " مبدأ رفض أو إدانة تعذيب الإنسان".
وفي نفس السياق، ليس هناك تحديد عملي أو ميداني حول فكرة " التنابز بالألقاب في الحالة الليبية " فماهي هذه الالقاب التي يُتَنابزُ بها من كل الأطراف، وفي إطار مبدا " التعصب القبلي والميز العنصري" لم يقدم المؤلف أمثلة حية على ذلك، واكتفى بالجانب الوعظي الإرشادي المدين للتعصب وللميز العنصري البغيض، فهل يتحدث الكتاب عن ظاهرة متحققة فعلا وأين ذلك، أم يحذر من ظاهرة للحيلولة دون وقوعها..؟!
-
إن التجارب العربية في المصالحة ( لبنان، الجزائر، المغرب ) هي تجارب دالة فعلا وتصلح للإفادة منها وأخذ العبر والدروس سواء في الحالة الليبية أو في غيرها، غير أن تجربة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا هي أيضا تجربة رائعة وغير مسبوقة، إذ لم يكن يتصور أن يقبل السود ( وهم الأغلبية الساحقة ) الصفح والعفو عن البيض، وهم الأقلية الحاكمة المستعمرة سابقا لمدة عقود ثمانية، وقد ساموهم سوء العذاب وأوغلوا في امتهانهم وإذلالهم، ومع ذلك عفوا وصفحوا وتجاوزوا في سبيل بناء مستقبل آمن ومتصالح ومشترك، وقد كان متوقعا أن يفرد لهذه التجربة حيزا معتبرا، خصوصا وأن أرشيف التجربة منشور ومتاح ويمكن التأسيس عليه.
-
مع أن المؤلف كتب بلغة عربية جزلة وقوية وأقرب إلى النخبوية، إلا أن في ثنايا الكتاب بعض الأساليب والتراكيب الغريبة من الناحية اللغوية كقوله " من ليس معك ليس بالضرورة هو ضدك"!
معلومات عن الكتاب
اسم الكتاب: مسار المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي
المؤلف: عبد السلام جمعه زاقود
عرض الكتاب: د. أحمد ولد نافع - باحث وأستاذ جامعي موريتاني
عدد الصفحات: 288
الناشر: دار الزهران للنشر – عمان – الأردن
سنة النشر: 2012.