تصدر في فرنسا في هذه الآونة عدة كتب حول قطر، ويبدو أن معظمها ينتقد أو على الأقل يتساءل عن الحضور القطري المتنامي في فرنسا بشيء من التهويل. ويأتي كتاب الباحث نبيل الناصري في خضم هذا الاهتمام المحلي باستثمارات قطر في فرنسا، ليطرح رؤية متزنة عمومًا، لا تهويل فيها ولا مجاملة.
يقول الكاتب: إنه لفهم الإستراتيجية القطرية يجب العودة إلى شخص أميرها حمد بن خليفة آل ثاني الذي وصل إلى السلطة في 1995. فهو من غيّر تمامًا سياسة بلاده معتمدًا على نخبة مكونة في كبريات الجامعات الغربية وعلى عائدات مصادر الطاقة الضخمة ليقود مشروعه الهادف إلى إخراج قطر من دائرة غير المعروفين إلى دائرة المعروفين وجعلها نموذجًا لدول الخليج ودولة محورية في العالم العربي. وتحولت قطر في ظرف 15 سنة من إمارة نفطية مهملة الثقل وغير معروفة إلى فاعل نافذ دوليًا. وكانت سنة 2011 استثنائية بكل المقاييس: مركزية قطر في "الربيع العربي"؛ تزعمها للجامعة العربية؛ دور الجزيرة في "الربيع العربي"؛ النفوذ القوي في عالم الرياضة عالميًا (بعد كسب تنظيم كأس العالم في عام 2022 اشترت أندية أوروبية) مستخدمة بذلك الرياضة كأداة سياسية. هذا إلى جانب الاستثمارات المالية والعقارية وحتى الفلاحية تحضيرًا لحقبة ما بعد النفط. هكذا أضحت قطر في سنوات معدودة فاعلاً دوليًا نافذًا معتمدة على القوة الناعمة (طاقة، سياسة، رياضة، إعلام...). بيد أن لهذا الصعود الدولي لقطر وجهه الخفي وغير المشرق، والمتمثل في الظروف الصعبة (تمييز وظروف عمل صعبة، فضلاً عن قوانين مقيدة للغاية ولا تحمي حقوق العامل) التي تعيش فيها العمالة الأجنبية الوافدة (التي تشكّل 80% من السكان) في الإمارة؛ التلوث (قطر من أكبر البلدان تلوثًا)...
وتقوم إستراتيجية قطر على محورين أساسيين: السعي لبناء شبكة تحالفات إستراتيجية من جهة وتبنّي دبلوماسية عامة لخلق ترابط بين "علامة" قطر ومسؤولية (قطر) الدولية. بمعنى تعويض نقائص البلاد من حيث القوة الصلبة بالرهان على مختلف موارد القوة الناعمة بالاستناد إلى دعامتين: الاتفاقات الدفاعية والأمنية مع القوى الغربية وتحديدًا أميركا لحماية أمن قطر وجعلها أكبر محتضن للوجود العسكري الأميركي في الخليج، تسويق صورة جديدة لقطر بالاعتماد على أدوات عدة: الإعلام من خلال شبكة الجزيرة والرياضة بتنظيم التظاهرات العالمية الكبرى وشراء أندية أوروبية، الفن والآثار باقتناء تحف فنية وقطع أثرية لجعل قطر رائدة في هذا المجال... هذا إلى جانب الأداتين التقليديتين: الاقتصاد (الطاقة) والسياسة من خلال النفوذ المتنامي، الوساطة، العلاقات العامة (تنظيم المؤتمرات الإقليمية والدولية...).
يحلل الكاتب إستراتيجية قطر الدولة القائمة على التميز الذاتي لولوج الساحة الدولة كفاعل ونافذ، قائلاً: إن سياستها بدأت تتغير مع حرب الخليج 1991 ومشاركتها في الائتلاف الدولي ضد العراق ولجوئها إلى محكمة العدل الدولة للبتّ في الخلاف الحدودي مع البحرين، ثم إعادة العلاقات مع العراق في 1992 (مثيرة حفيظة دول الخليج الأخرى). ومنذ تلك الفترة سعت قطر لبناء وجود وصورة لها دوليًا بتنظيمها لتظاهرات رياضية دولية. وعمل أميرها حمد بن خليفة آل ثاني على تدعيم هذه السياسة دوليًا؛ حيث اتضح أن إستراتيجيته تقوم على: إخراج قطر من العزلة التي فرضها عليها وضع دولة سائرة في فلك السعودية، تغيير صورة قطر وموقعها إقليميًا ودوليًا لتصبح فاعلاً اقتصاديًا (بالاعتماد على الطاقة) وسياسيًا ببناء شبكة تحالفات ومصالح تجعل منها دولة نافذة. وتداخلت في هذه العملية حسابات سياسية داخلية مع أخرى خارجية، وتكمن الحسابات الداخلية في توظيف الإستراتيجية الخارجية لتدعيم وشرعنة النظام القطري. وعليه فبناء الصورة دوليًا يهدف بالأساس لشرعنة وجود قطر ونظام حمد بن خليفة آل ثاني، خاصة وأن العائلة المالكة بحاجة إلى موارد رمزية لتبرير سلطتها. وتتدرج عملية بناء هوية قطرية، في قطيعة مع إمارات الخليج الأخرى ضمن هذه العملية التي يتداخل فيها الداخلي والخارجي والمروجة لمكانة قطر الدولية وتمييزها عن جيرانها.
وفي إطار "تسويق عالمي للتموقع" القطري، تُوظف موارد رمزية لخدمة أجندة سياسية: حضور قوي ومتواصل في المناسبات والمحافل الدولية سياسيًا، وإعلاميًا، وثقافيًا لربط اسم قطر بكل مستجد إقليميًا ودوليًا، وبجعل الدوحة عاصمة عالمية يجتمع فيها الكبار وتصدر منها قرارات دولية (قمم عربية ودولية، مؤتمرات وندوات)، ونفس الشيء يقال عن الإعلام (عبر شبكة الجزيرة) والرياضة (تنظيم تظاهرات إقليمية ودولية...). بل إن قطر أصبحت متخصصة في "صناعة التظاهرات"؛ وهي صناعة تعود عليها بفوائد سياسية لأنها تخدم صورتها عالميًا وتجعل منها فاعلاً نافذًا على الساحة الدولية.
اعتماد السلطة لسياسة تلبية كل حاجيات المجتمع بتوزيع جزء من الثروة للحدّ من الاحتجاج ببناء دولة الرخاء سمح بعدم التمييز في نهاية المطاف بين سلطة الأمير والدولة مما يخدم طبعًا النظام الحاكم. ورغم غياب الديمقراطية فإن قطر استبقت الضغوطات الغربية بتمييز نظامها عن الأنظمة الخليجية. وقد شرعت في بعض الإصلاحات السياسية بتنظيم أول انتخابات محلية في 1999 والسماح للمرأة بالتصويت والترشح. واندرجت هذه العملية في إطار تسويق صورة جديدة لقطر: صورة بلد منفتح وتحديثي خليجيًا وعربيًا. ثم تبنت دستورًا عبر استفتاء شعبي في 2003 تم بموجبه إنشاء مجلس للشورى. كما تم تعيين امرأة كوزيرة، في سابقة من نوعها في الخليج... كان هدف الأمير من هذه العملية عمومًا تدعيم سلطته، ذلك أن الإصلاحات الليبرالية وتوسيع المشاركة السياسية تدعم في نفس الوقت احتكار العائلة المالكة للسلطة. وعليه لم تأتِ هذه الإصلاحات بجديد من حيث الحريات الممنوحة للتشكيلات السياسية وللنقابات...
تهدف الإستراتيجية الاستثمارية الشاملة لقطر إلى تحقيق هدفين: تلبية حاجيات القطريين بتوزيع جزء من عائدات الثروة النفطية لتجنب أية نزعة احتجاجية أو معارضة للسلطة، وتكوين إطارات للمضي قدمًا بمشروع التحديث (فكان التركيز على الاستثمارات في قطاع التربية والتعليم لتكوين الإطارات). ولتنفيذ هذه الإستراتيجية تبنت السلطة "خارطة طريق" تتمثل في "رؤية قطر الوطنية 2030" لرفع خمسة تحديات: إيجاد الانسجام بين الأصالة والمعاصرة، وضمان تسيير جيد للموارد وفق التنمية المستدامة، والتحكم في التطور الاقتصادي، وتحديد الحاجيات في مجال العمالة الأجنبية، ومراعاة ضرورات النمو من جهة والإكراهات الاجتماعية والبيئية من جهة ثانية. وتستند هذه الرؤية إلى أربع ركائز تنموية (اقتصادية، اجتماعية، بشرية، بيئية). وهي ركائز إستراتيجية بعيدة المدى تقوم على تصور ليبرالي وعلى المراهنة على الغاز والبحث عن بدائل طاقوية تحضيرًا لحقبة ما بعد مصادر الطاقة.
يعد الغاز (احتياطيات لحوالي قرن ونصف من الزمن) عماد الإستراتيجية القطرية؛ فعائداته هي مصدر التمويل الأساسي لنفقات تنفيذ "الرؤية الوطنية القطرية 2030"؛ لذا تبنت قطر سياسة غازية لتطوير القطاع بالشراكة مع كبريات الشركات الغربية، ولتطوير الصناعات الغازية لاسيما إنتاج الغاز المسال. وبحكم تطويرها للقطاع فإن إمكاناتها الاستغلالية أضخم من إمكانات جارتها المنافسة إيران كون حقل الشمال (أكبر احتياطي في العالم) الموجود في عرض مياه الخليج يتقاسمه البلدان. إن قطر ضعيفة الثقل في الأوبك (لأنها بلد غازي بالأساس عكس جيرانها) نشطة في منتدى الدول المصدرة للغاز (يمثل 70% من الإنتاج العالمي للغاز) الذي لعبت دورًا في إنشائه في عام 2001. وتقوم إستراتيجية قطر الطاقوية أيضًا على استثمار سياستها اقتصاديًا مثل تموقعها الغازي في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي. كما تستخدم العائدات المالية في إستراتيجية اقتصادية مستقبلية لضمان الأمن الغذائي بشراء أراضٍ في دول مثل: كينيا، والأرجنتين، وجنوب إفريقيا، وإندونيسيا. كما تراهن قطر على القطاع البنكي بزيادة استثماراتها المالية وباقتحام مجال البنوك الإسلامية، الذي ظل حكرًا على بعض دول الخليج الأخرى... وبهذا ارتفعت ودائع قطر في البنوك. وتريد استنساخ النموذج الكويتي في مجال الاستثمارات المالية الذي سمح للكويت بتحقيق عائدات تفوق عائداتها من النفط. ويبدو أن هذه هي المهمة التي أوكلتها "رؤية قطر الوطنية" إلى جهاز قطر للاستثمارات.
تهدف قطر إلى الانعتاق من الوصاية السعودية ومنافستها، ويشكّل التحالف مع أميركا الذراع العسكرية لانعتاقها الإستراتيجي ولنفوذها؛ فتحولها إلى أكبر محتضن للقوات الأميركية في المنطقة جعلها تحقق عدة أهداف: ضمان أمنها بالمظلة الأميركية لتتفرغ لإستراتيجيتها السياسية، التخلص من الوصاية السعودية وتحييد محاولتها تهديد النظام القطري، فك الارتباط الإستراتيجي بين أميركا والسعودية، خاصة مع توتر العلاقة بينهما عقب عمليات 11 سبتمبر/أيلول 2001، تحييد التهديدات الإيرانية. وقد أثبتت قطر أهميتها بالنسبة للإستراتيجية الأميركية إبان غزو العراق باحتضانها أكبر قاعدة أميركية في المنطقة. بيد أن الحضور العسكري الأميركي يجعل من قطر دولة ذات سيادة محدودة... بعد وضع أمن البلاد تحت الحماية الأميركية، بدأت قطر في معاكسة ومناكفة المصالح والإستراتيجية السعودية في المنطقة خلال مرحلةٍ ما انتهت في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بعد تطبيع العلاقات بشكل كامل بين البلدين إثر التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود بينهما (سواء تعلق الأمر بالعلاقة مع إيران، عراق صدام حسين، إسرائيل، حماس...). كما وظفت الجزيرة في صراعها على النفوذ مع السعودية. وقد سجلت نقاطًا في حربها الباردة معها؛ حيث أصبحت فاعلاً في لبنان وفي العلاقة السورية-الإيرانية وفي الساحة الفلسطينية، كما همّش التقارب القطري من المحور السوري-الإيراني محور الرياض-القاهرة.
تعد الوساطة الدبلوماسية المدعومة بالأموال (وساطة في عدة ملفات-أزمات: الفصائل الفلسطينية، لبنان، دارفور، جيبوتي، اليمن...) إحدى أدوات النفوذ المتنامي لقطر؛ فالوساطة هي أحد منافذ ولوجها الساحة الدولية. ونجحت قطر في فرض نفوذها ودبلوماسيتها المالية (سياسة الجزرة لحث الأطراف على الاتفاق) في منطقة كانت حتى وقت قريب حكرًا على الوساطة-التحكيم "السعودي-المصري". ويخدم صرف الأموال لإنجاح الوساطة الدبلوماسية صورة قطر كوسيط دولي ومصالحها الاقتصادية أيضًا (الحصول على أسواق في عمليات إعادة الإعمار).
توجد الأداة الإعلامية المتمثلة في شبكة الجزيرة في قلب إستراتيجية قطر؛ فهي توظفها لبناء صورتها عالميًا وفي مشاريعها السياسية في المنطقة وصراعها مع منافسيها، ولدعم حلفائها. فبفضل الجزيرة نجحت قطر في كسر الاحتكار الإعلامي السعودي. وحتى وإن كانت الجزيرة لا تسير حتمًا وعلى الدوام وفق سياسة قطر، فإن وجودها، وأداءها والثورة الإعلامية التي أحدثتها في المشهد العربي كلها عوامل تخدم سياسة قطر. وقد أظهرت تغطيتها الإعلامية لأحداث "الربيع العربي"، أنه لا يمكن فصل هذه القناة عن إستراتيجية قطر.
الأداة الدينية-الأيديولوجية مهمة أيضًا في خدمة السياسة، خاصة باعتمادها على الجزيرة التي تخصص مساحة إعلامية للشيخ القرضاوي "الذراع الدينية والأيديولوجية لسياسة قطر"؛ فهو يعبّر عن خصوصية الإسلام القطري ويدافع دينيًا عن مواقف تتناغم والإستراتيجية القطرية. ولعب دورًا أساسيًا في الحرب الباردة السياسية والدينية بين قطر والسعودية، وبحكم مكانته، يمنح القرضاوي لقطر ثقلاً دينيًا في المنطقة يواجه الاحتكار الديني والمذهبي (الوهابي) السعودي. وهنا يكمن ثالث مجال للتنافس القطري-السعودي (السياسة، والإعلام، والدين). جدلية المواجهة-الشرعنة في السجل الديني هذه موجودة أيضًا في الداخل القطري، أقطابها دعاة التحديث من جهة والمحافظون من جهة ثانية. وعمومًا يوظف القرضاوي (وقطر) الدين لخدمة بعض الهجمات الدبلوماسية القطرية. وقد بلغ هذا التوظيف ذروته في أزمتي ليبيا وسوريا، بل أصبحت تصريحات القرضاوي شرعنة دينية لما تقوم به قطر أو لما تنوي القيام به.
تحركت قطر إزاء الربيع العربي على أربع جبهات متكاملة: دعم "الربيع العربي" سياسيًا وإعلاميًا، التسليح كما حدث في ليبيا، شرعنة التدخل في ليبيا وحاليًا في سوريا، الاستفادة من الحالة الانتقالية في مصر وتراجع النفوذ السعودي للسعي للزعامة العربية. هكذا أصبحت فاعلاً أساسيًا في "الربيع العربي". وبما أن البعد الأيديولوجي في سياستها في غاية من الأهمية بالنظر إلى صراعها مع السعودية، فهي تتقرب وتدعم التيارات الإسلامية الإخوانية تحديدًا في تونس، ومصر، وفلسطين... وهي تيارات تعاديها دول مثل: الإمارات والسعودية... بيد أن دعم المطلب الديمقراطي له حدود؛ فقطر المنخرطة بقوة في ليبيا والآن في سوريا سلكت سلوكًا مخالفًا تمامًا حيال البحرين. وهنا حدث تقارب-تحالف بين قطر والسعودية لمواجهة ما تعتبرانه خطرًا شيعيًا في البحرين وفي دول الخليج؛ حيث عملت قطر إلى جانب السعودية لنصرة نظام البحرين، لرؤيتها المشتركة مع جارتها السعودية بتلون الانتفاضة البحرينية بصبغة مذهبية. من هذا المنظور أعاد "الربيع العربي" صياغة سياسة قطر وشبكة تحالفاتها الإقليمية لتشكّل محورًا سنيًا مع السعودية في مواجهة المحور الشيعي. وتعد سوريا اليوم ساحة للصراع بين المحورين. وقد بدأت بوادر هذا التقارب ثم التحالف القطري-السعودي مع تردي العلاقات القطرية-السورية.
علاقات قطر بفرنسا متينة وتحالفية؛ فقطر تقتني أسلحة فرنسية منذ سنوات وحكامها تربطهم علاقات بالحكومات الفرنسية المتعاقبة. وقد تدعمت هذه العلاقة في عهد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بداية مع التعاون بينهما للإفراج عن الممرضات البلغاريات في ليبيا، وهي الصفقة التي ضمنت فيها قطر دفع مبلغ 450 مليون دولار كتعويض لعائلات الضحايا. كما توسطت قطر للتقارب بين فرنسا وسوريا؛ حيث كان ساركوزي يسعى إلى إنجاح مشروعه للاتحاد من أجل المتوسط. وبفضل الوساطة القطرية شارك بشار الأسد في قمة الاتحاد في باريس في 2008. وآتت مراهنة ساركوزي على قطر أُكُلَها مع الأزمة الليبية ولعبت قطر الدور الرئيس في التدخل العسكري. لكن توجّب ولوج قطر السوق الفرنسية من بواباتها: العقارية، الرياضية، الإعلامية الصناعية، فالاجتماعية لتصير قطر قضية جدلية ولينقسم الإعلام الفرنسي بين مرحب وبين ناقد ومعارض لحضورها. فبالنسبة للبوابة العقارية والتجارية قامت قطر، عبر مختلف مؤسساتها، بشراء عقارات (فنادق فخمة، مبان...) في فرنسا، مستفيدة من تفضيلات جبائية بموجب اتفاق ثنائي. لكن هذه البوابة بقيت مهمشة في المعالجة الإعلامية التي اهتمت أساسًا بشراء قطر لنادي باريس سان جيرمان لكرة القدم، وبإطلاقها قناة رياضية (تابعة لشبكة الجزيرة) بالفرنسية اسمها: "بي إن سبور"، وبشرائها حقوق البث لعدة بطولات أوروبية. فيما تكمن البوابة الصناعية في شراء أسهم في بعض كبريات المجموعات الصناعية الاقتصادية الفرنسية. ويندد البعض بـ"الحمى الشرائية" القطرية قائلين بأن "فرنسا ليست للبيع". أما البوابة الاجتماعية فتكمن في اهتمام قطر، عبر سفارتها بباريس، بالأحياء المهمشة خارج المدن الكبرى والتي يقطنها فرنسيون من أصول مغاربية؛ حيث أعدت برنامجًا ماليًا لمساعدتها بالتعاون مع جمعيات ومنتخبين محليين من أصول مغاربية، لكن انقضاض اليمين المتطرف على الموضوع وتوظيفه في الحملة الانتخابية الرئاسية جعلها تلغي البرنامج.
إن بنية النظام القطري وسياسة النفوذ التي يتبعها تتسببان في تحديات عديدة: أولها: الاختلاف داخل العائلة المالكة حول بعض الخيارات الدبلوماسية؛ مما يجبر الأمير على إيجاد صيغة توافقية بين الاتجاهين: التحديثي والمحافظ. وعملية إرضاء الطرفين هذه قلقة. وتعد التجاذبات بين الاتجاهين: التحديثي والمحافظ، على مستوى المجتمع والسلطة، من أهم تحديات النظام القطري الذي تسيطر فيه العائلة الحاكمة على مؤسسات الدولة. ثانيها: التركيبة السكانية لقطر (80% هم أجانب) تعد مشكلة بالنسبة للهوية الوطنية والانسجام الاجتماعي. ثالثها: الازدواجية التي خلقتها الإستراتيجية التحديثية، فمثلاً مؤسسة قطر تنافس المجلس الأعلى للتعليم في مجالات تخصصه، بل تهمشه. رابعها: أنه من غير المؤكد أن تبقى قطر ومنطقة الخليج في منأى عن "الربيع العربي" كما يدل على ذلك المثال البحريني... أما التحديات الخارجية فتتمثل أساسًا في ردود فعل الدول الأخرى إزاء سياسة النفوذ القطرية التي تتصادم مع مصالح دول أخرى. هناك تحد آخر يتقاطع مع التحديات المحلية والخارجية والمتمثل في التجاذبات المحلية بشأن تموقعات وتحالفات متناقضة، فقطر تدعم حماس، وكانت لمدة طويلة شريكًا لإيران، بيد أنها حليف أساسي لأميركا، كما أنها تقيم علاقات –ولو باردة– مع إسرائيل (لغاية 2009). إن هذه الإستراتيجية القائمة على جعل قطر "بلدًا ليس له إلا أصدقاء" تجاوزت مصمميها وأصبحت "تثير المزيد من الاستقطابات والانتقادات لسياسة الأمير". وصارت مصدر صراعات داخل مراكز السلطة. وإذا كان هناك إجماع على التحالف مع أميركا، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للتحديث المفروض من أعلى، والذي يثير مخاوف تمييع القيم التقليدية للمجتمع القطري، بل وحتى الحفاظ على هذا المجتمع في ظل الإقامة الكثيفة للأجانب في البلاد... وكلها مخاوف تتسبب في استياء الفئات والاتجاهات المحافظة في المجتمع. وقد زاد مشروع تحديث البلاد وتدعيم مواقفها دوليًا من حدة التعارض بين التحديثيين والمحافظين في المجتمع وحتى في السلطة، وقد يهدد هذا الانقسام استقرار قطر مستقبلاً.
وُفّق الكاتب في تغطية مختلف جوانب الموضوع وفي فك "لغز قطر" موضحًا إستراتيجياتها الدولية، أهدافها وأدواتها وكذلك تحدياتها. والكتاب متوازن عمومًا. لكن هناك بعض النقائص. أولها: غياب الإطار النظري، فرغم إشارة الكاتب السريعة إلى مفهوم القوة الناعمة لجوزيف ناي، إلا أنه لم يوظفه نظريًا كإطار لدراسته مع إدخال بعض التعديلات حتى ينسجم والحالة القطرية، لأن القوة الناعمة القطرية تستند إلى القوة الصلبة الأميركية. ثانيها: غلبة السرد على النص جعل البعد التحليلي يغرق في كم هائل من المعلومات (وإن كانت مهمة). وتسبب كل هذا في مشكلة أخرى وهي الطابع الوصفي للنص، لأن السرد يهمش التحليل. وعليه فرغم تحليل جيد للإستراتيجية القطرية، فإن العناصر التحليلية جاءت قليلة ومشتتة ومكررة في بعض الأحيان. ثالثها: عدم إعطاء الانتقادات والحساسيات التي تثيرها إستراتيجية قطر حقها، فالكاتب أشار إليها أكثر من مرة لكن لم يتوقف عندها بالتحليل لتوضيح كيفية تعامل قطر معها وكيفية تأثيرها على إستراتيجية هذه الأخيرة في الراهن والمستقبل.
معلومات الكتاب
اسم الكتاب: لغز قطر - , L’énigme du Qatar
المؤلف: نبيل الناصري
سنة الصدور: مارس 2013
لغة الكتاب: الفرنسية
عرض: عبد النور بن عنتر - كاتب وباحث مختص في الشأن الفرنسي
عدد الصفحات: 196