الأمة المستغني عنها: السياسة الخارجية الأمريكية في تراجع

يُرجع كتاب "الأمة المستغنى عنها" إخفاقات السياسة الخارجية لإدارة أوباما إلى الفريق الرئاسي المحيط به لأنهم من صغار السن ولا يملكون الخبرة الكافية في صنع القرار الأميركي الخارجي، وإلى تنامي دور المؤسسة العسكرية والاستخبارات في عملية صنع القرار على حساب وزارة الخارجية.
20131124115420971734_20.jpg
المصدر (الجزيرة)

تولى الرئيس الأمريكي باراك أوباما قيادة الولايات المتحدة الأمريكية بعد ثماني سنوات من تدهور مكانة الولايات المتحدة نتيجة السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (2000 - 2008) التي أعطت أولوية للخيار العسكري على نظيره الدبلوماسي في التعامل مع القضايا الخارجية، ما "عسكر" السياسة الخارجية الأمريكية بصورة أسهمت في تآكل الصورة الأخلاقية للولايات المتحدة، ومن ثم سعى الرئيس  أوباما منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض على تبني نهجا مختلفا في السياسة الخارجية الأمريكية، فكانت أولى مهامه التي أعلن عنها مع بداية فترته الرئاسية الأولى (2008 - 2012) إنهاء حربي العراق وأفغانستان والتواصل مع العالم الإسلامي، ولكن مع انتهائها تجلت إخفاقات إدارته على صعيد السياسة الخارجية؛ حيث اصطدمت خطاباته وطموحاته المفعمة باللغة الخطابية والطموح والآمال بواقعية السياسة الخارجية، ليتبنى مقاربات على الصعيد الخارجي لا تختلف كثيرا عن تلك التي تبناها الرئيس الأسبق "جورج دبليو بوش".

يأتي كتاب والي نصر -الذي صدر مع بداية الفترة الرئاسية الثانية للرئيس أوباما-  المعنون بـ "الأمة المستغني عنها: السياسة الخارجية الأمريكية في تراجع"، ضمن مجموعة كبيرة من الكتب الأمريكية التي تقيم أسباب إخفاقات السياسة الخارجية لإدارة "بارك أوباما" في فترتها الأولى، ويركز على موقف الإدارة الأميركية من الملف الأفغاني وأزمة البرنامج النووي الإيراني وعلى موقفها من دول الربيع العربي لاسيما مصر، باعتبارها جميعا مؤشر على إخفاقات السياسة الخارجية لإدارة أوباما.

تنبع أهمية الكتاب من أن كاتبه من المتخصصين في قضايا منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، كما أن الفترة التي يقيمها "والي نصر"، كان هو نفسه مستشارا خلالها للمبعوث الأمريكي الخاص لأفغانستان وباكستان "ريتشارد هولبروك"، ما يضفي على الكتاب أهمية خاصة لقرب كاتبه من دوائر صنع القرار الأمريكي الخارجي خلال نفس الفترة التي يغطيها الكتاب بالبحث والتحليل. و"نصر" هو عميد كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، وباحث غير مقيم بمؤسسة بروكينغز، وكتابه يساعد في استشراف السياسة الخارجية الأمريكية خلال السنوات الأربع القادمة لإدارة أوباما في البيت الأبيض، لأن سياسات أوباما في فترته الثانية لن تختلف كثيرا عن الأولى.

يصف الكاتب الولايات المتحدة في عهدة أوباما الأولى بـ "الأمة المستغني عنها"  نظرا لإخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية والمتمثلة في قيادتها التحالف ضد العقيد معمر القذافي –الذي ارتكب مجازر ضد المدنيين- من الخلف تحت قيادة حلفائها الأوروبيين، وفي عقم الخيارات الأمريكية في أفغانستان حتى أنها وضعت هذا البلد أمام مستقبل غير موثوق، وكذلك في امتناعها أي واشنطن عن لعب دور قيادي في إنهاء المجازر الإنسانية في سوريا، فضلا عن انسحابها من منطقة الشرق باتجاه أسيا. وبهذا يرد الكاتب على ما ذهب إليه الرئيس الأمريكي الأسبق "بيل كلينتون" حين وصف بلاده بأنها "الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها"؛ وذلك بعد خروجها منتصرة من الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي وتربع الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي كقطب أوحد بلا منافس، وقدرتها على حل الصراعات الدولية وتقديم الدعم إلى الدول المأزومة. فالكتاب يقول بدءا من عنوانه بكل بساطة أن أميركا أضحت "أمة مستغنى عنها" بسبب "تراجع السياسة الخارجية الأمريكية".

ويرجع الكاتب إخفاقات السياسة الخارجية لإدارة "أوباما" تحديدا إلى الفريق الرئاسي المحيط به، ويقول إنهم من صغار السن وغير خبراء في صنع القرار الأمريكي الخارجي، وأنهم من المنشغلين بالصراع الداخلي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومهووسين بعناوين وسائل الإعلام لتكون في صالح الرئيس. ويرجعها كذلك إلى تنامي دور المؤسسة العسكرية والاستخبارات في عملية صنع القرار على حساب وزارة الخارجية المتمثلة بوزيرة الخارجية "هيلاري كلينتون" و"هولبروك"، وكان هم العسكريين وهدفهم أن لا يظهر الرئيس ذاك الرجل الضعيف الذي يفضل الحلول السياسية في حل الصراعات والمشكلات.

صراع بين السياسي والعسكري في أفغانستان

أفرد الكاتب مساحة للملف الأفغاني وتجربة "هولبروك" في حل الصراع الأفغاني؛ للتدليل على المشاكل التي تعانيها عملية صنع القرار الأمريكي، وإلى إخفاقات مخرجات عملية صنع القرار الأمريكي. ويقول "نصر" أن رؤية "هولبروك" لتسوية الأوضاع في أفغانستان ترتكز على الخيارات السياسية، والدخول في محادثات مع حركة طالبان بمنأى عن المسار العسكري، إلا أن هذا التوجه لم يلق ترحيبا من جانب الرئيس ومستشاريه بالبيت الأبيض والمؤسسة العسكرية التي كانت تفضل استمرار الوجود العسكري في أفغانستان، وبالفعل انصاع الرئيس "أوباما" لرأي مستشاريه والقادة العسكريين بتعزيز الوجود العسكري في أفغانستان وزيادته بإرسال 30 ألف جندي إضافي لمواجهة نفوذ حركة طالبان في المناطق التي تؤيدها وتدعمها. وقد رفض أوباما الخيارات والتسويات السياسية التي كان يطرحها "هولبروك" ويعمل على إنجاحها مع حلفاء الولايات المتحدة، وذلك نتيجة للدور الذي لعبه الجنرال ديفيد بترايوس في الملف الأفغاني على حساب "هولبروك"، فلم يحظ هذا الأخير بمجرد لقاء منفرد مع "أوباما" حتى رحيله، فضلا عن استبعاده عن العديد من اللقاءات والمناقشات التي تخص الملف الأفغاني. ولكن هذا لم يحدث مع وزيرة الخارجية الأمريكية لمحاولتها الدؤوبة والمستمرة للاتصال بالرئيس الأمريكي، ولو لم تكن "هيلاري" مثابرة ومبادرة  لفشلت الكثير من خططها على الصعيد الخارجي.

ينتقد "نصر" استراتيجية الرئيس الأمريكي في أفغانستان بزيادة القوات انصياعا لنصيحة المسئولين العسكريين رغم نجاحها في العراق؛ لأنها لن تقضي على الجماعات الإرهابية؛ لقدرة هذه الأخيرة على التخفي وتنظيم صفوفها وعودتها أكثر قوة عما كانت في الماضي. أما التسوية السياسية التي كان يدعمها "هولبروك" - حسب "فالي" - القائمة على التوافق السياسي الأفغاني ستمكن من تأسيس مؤسسات الدولة الأفغانية؛ بما يسهم في دفع عجلة الاقتصاد الأفغاني خاصة في القطاع الزراعي الذي كان سيوفر ملايين فرص العمل، لاسيما أن الزراعة هي الاقتصاد الأساسي في أفغانستان. وينقل عن "هولبروك" أنه كان يريد إنهاء الحرب الأمريكية في أفغانستان، وبناء مؤسسات قوية تكون قادرة على إدارة الدولة لأن إنهاء الحرب الأمريكية في أفغانستان سيعني إنهاء الحروب بالمنطقة، ولكنها إذا استمرت فإن ذلك يعني استمرار الحروب بالمنطقة لأمد غير معلوم.

وبالفعل لم تنجح الإستراتيجية العسكرية الأمريكية في أفغانستان حيث لم تنجح الولايات المتحدة في القضاء على "المنظمات الإرهابية" الناشطة في أفغانستان، وحتى إذا نجحت فلن يكون إلا لفترة زمنية قصيرة لتعود تلك الجماعات أكثر قوة عما مضي بل تكون في أحيان كثيرة أكثر قوة وتأثيرا من حكومة "حميد كرازي" التي لا تملك ما تقدمه للمواطن الأفغاني لتحول دون انضمامه للمنظمات "الإرهابية". ولما أيقن أوباما بإخفاق إستراتيجيته لزيادة القوات الأمريكية في أفغانستان، أعلن عام 2011 عن قراره بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 2014، وهو الأمر الذي يستند إليه "نصر" كمؤشر لتخبط السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يقول في هذا الشأن أنه إذا كانت زيادة القوات الأمريكية في أفغانستان هدفا أمريكيا فإن أوباما لم يلتزم به بل تراجع عنه بصورة أسرع مما كان يتوقع.

إن قراءة الجزء الخاص بأفغانستان في الكتاب، يظهر دفاعا قويا لوالي نصر عن هولبروك ورؤيته لحل الأوضاع المتردية في أفغانستان، ولعل هذا راجع لعمل نصر كمستشار لـهولبروك واقتناعه وإيمانه الشديد برؤيته لإنهاء الحرب الأمريكية في أفغانستان، بدون تكليف الولايات المتحدة مزيد من مليارات الدولارات في وقت تواجه فيه أميركا أزمة اقتصادية عاصفة أو خسارة مزيد من الأرواح الأمريكية التي تكبدتها خلال حربيها في أفغانستان والعراق.

إخفاق شرق أوسطي

يرى نصر أن الولايات المتحدة أخفقت في تعاملها مع موجة الربيع العربي وفي سياستها تجاه المنطقة، وأن الموقف الأميركي من المنطقة والثورات العربية كان خطابا بلاغيا مفعم بالآمال والطموحات التي لم تجد لها سبيلا للتطبيق على أرض الواقع، ويتحدث عن تأرجح الموقف الأمريكي من تطورات الربيع العربي بين دعم الأنظمة السياسية تارة ودعم الشعوب الثائرة تارة أخرى ولم يعرف ماذا يفعل بعد ذلك، كما كان شأنه في مصر مع بداية ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، وكذلك في امتناعه عن إنهاء المجازر الإنسانية في سوريا. ويرجع نصر إخفاقات السياسة الخارجية تجاه المنطقة وقضاياها إلى عجز الخارجية الأميركية عن قراءة تطورات الشرق الأوسط والانسحاب من المنطقة والاحتفاظ بوجود محدود في مقابل نقل الثقل الأمريكي للقارة الأسيوية لمواجهة النفوذ الصيني.

كما يرجع التحول في الموقف الأمريكي من التطورات المصرية في الأيام الأولى لثورة يناير 2011 والتحول من دعم الحليف الأمريكي "حسني مبارك" إلى دعم الثوار إلى أن "أوباما" كان مدفوعا بحماس اللحظة وتشجيع أعضاء فريقه الرئاسي من الشباب. ويقول أن أوباما تعامل مع خطابات الرئيس السابق "مبارك" كأنها حملة انتخابية تفرض عليه الرد بسرعة على كل تصريح من الحملة الأخرى، حتى يتقدم العناوين الأساسية في الصحافة والإعلام، ولعل هذا راجع لسيطرة مستشاريه أثناء حملته الانتخابية الرئاسية على صنع القرار الأمريكي الخارجي، وهم قليلو الخبرة في العمل السياسي الخارجي، وتتركز خبرتهم بالحملات الانتخابية ذات الطبيعة المتسارعة. وفي حقيقة الأمر لم تقدم الولايات المتحدة شيئا مما كانت تعج به خطابات "أوباما" البلاغية والمفعمة بالآمال والطموح والحديث عن الدعم الأمريكي لمصر الثورة اقتصاديا ومساعدتها على التحول الديمقراطي وبناء مؤسسات تعلي من حكم القانون والحريات وحقوق الإنسان.

وكانت الفجوة بين المعلن في خطابات وتصريحات إدارة "أوباما" وسياساتها الفعلية على أرض الواقع  جلية في موقفها من الأزمة السورية حيث أعلن "أوباما" من قبل أن الولايات المتحدة لن تسمح بأن يتخطي الرئيس السوري "بشار الأسد" الخطوط الحمراء باستخدامه السلاح الكيميائي، لكن الأسد استخدمه في تحد للولايات المتحدة بدون تحرك جدي من الإدارة الأمريكية يردع "الأسد" وكانت المبادرة الروسية للتخلص من السلاح الكيميائي السوري. وكان أوباما قد التزم أكثر من مرة بدعم المعارضة السورية لتقوية موقفها وتحويل زخم الصراع لصالحها بما يؤدي إلى نهاية تفاوضية للصراع ورحيل الأسد عن السلطة، لكن الواقع يشير لتنامي قوة "بشار الأسد" واستمرار تمسكه بالسلطة ليخرج "الأسد" فائزا في كل مواجهة مع الولايات المتحدة.

وعن سياساته تجاه إيران يؤكد والي نصر أن سياسة "أوباما" تجاه البرنامج النووي الإيراني لم تختلف عن سياسات سلفه "بوش" الابن وأن الخيارات الأمريكية انحصرت في التهديد بالقوة العسكرية وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية للتضييق على إيران بدعم من الحلفاء الغربيين، بدلا من تقديم الحوافز للنظام الإيراني لإثنائه عن مساعيه لامتلاك برنامج نووي غير سلمي. ويشير "نصر" إلى أن خيارات "أوباما" عجزت عن وقف تقدم إيران في برنامجها النووي، وأن أقصى ما تفعله هو تأجيل امتلاك طهران للسلاح النووي، وليس منع إيران من امتلاك برنامج نووي غير سلمي.

إن الولايات المتحدة لم تقدم الدعم الكافي لدول الربيع العربي حيث كان يتعين عليها - حسبما يرى نصر - تقديم حزمة من المساعدات الاقتصادية لدوله على غرار مشروع "مارشال" لتوطيد علاقاتها مع النظم الحاكمة الجديدة في المنطقة، ومساعدة دول الربيع العربي على النهوض من أزماتها المتتالية التي تعرقل خطوات التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط. ولكن تلك النصيحة من الصعب أن تتبناها الإدارة الأمريكية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها منذ منتصف عام 2008، والتي تجلت بداية أكتوبر من العام الجاري 2013 في الإخفاق بالتوصل إلى تسوية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول الميزانية لعام 2014، ورفع سقف الدين الأمريكي، والتي أدت لإغلاق الحكومة حتى السابع عشر من أكتوبر/تشرين أول الماضي. ومع إعلان الإدارة المستمر عن خطط اقتصادية لدعم دول الربيع العربي إلا أن عدم حسم أزمة الموازنة الأمريكية يجعل الالتزام بتلك الخطط أمرا مستحيلا.

يلخص نصر إخفاقات إدارة الرئيس الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط في أن الإدارة الأمريكية خلال سنواتها الأربع الأولي في البيت الأبيض لم تستغل الفرص السانحة لبناء مؤسسات إقليمية وسياسية وعسكرية واقتصادية تساعد المنطقة على حل قضاياها وإدارة أزماتها بدون أن يتطلب ذلك التضحية بمزيد من أرواح الأمريكيين ومليارات الدولارات الأمريكية، وتقليل تنامي نفوذ تنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية بالمنطقة، ودعم ونشر الديمقراطية، وإثناء إيران عن برنامجها النووي، وتقليل النفوذ الصيني المتنامي في الشرق الأوسط.

هل ما زال الشرق الأوسط مهما أميركيا؟

لم تعد المنطقة مستقرة للمصالح الأمريكية؛ فقد اندلعت ثورات الربيع العربي التي أفضت لتحولات في التوازنات المستقرة بالمنطقة بصورة أزعجت الإدارة الأمريكية وأفقدتها حلفائها في المنطقة، كما أن وتيرة التطورات والأحداث في المنطقة سريعة وتتجاوز ردة الفعل الأمريكي الذي اتسم بقدر كبير من البطء والانتقائية وتراجع الدور والفعالية لصالح تنامي الدور الصيني الذي أضحى يشكل تهديدا للمصالح الأمريكية، فالتنافس الجيوبولوتيكى مع الصين لن يقتصر على النفوذ في أسيا، بل سيمتد لمنطقة الشرق الأوسط بصورة حتمية.

إلا أن هذا لا يمثل من وجهة نظره إدارة "أوباما" تراجعا في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط وقضاياها في ظل رؤيته بأن المنطقة نفسها تراجعت أهميتها أميركيا ولم تعد بذات الأهمية التي هي عليها لدى الكثير من الخبراء والمحللين، وأن الانسحاب الأمريكي من قضاياها لن يسبب أضرارا البتة. وهذه الرؤية يؤكدها تصريح لمستشارة الرئيس للأمن القومي "سوزان رايس" التي تقول إن هدف الرئيس هو تجنب هيمنة الأحداث التي تطرأ على الشرق الأوسط على أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة كما حدث مع الرؤساء الأمريكيين السابقين، مشيرة إلى أنه حان الوقت لتتراجع الولايات المتحدة وتعيد تقييم تصوراتها لمنطقة الشرق الأوسط.(1)

عبر عن هذه الرؤية كثير من الباحثين الأمريكيين مثل "آرون ديفيد ميلر"(2) الذي يطرح أسباب تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط في السياسة الخارجية الأمريكية والتي يجملها في أربعة أسباب رئيسية هي: 

  1. تضاءل احتمال نشوب حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية ومنافسيها -روسيا والصين- يكون الشرق الأوسط  ساحتها.
  2. انتهاء الحرب الأمريكية على الإرهاب واعتماد الولايات المتحدة على الطائرات بدون طيار لاستهداف عناصر الجماعات الإرهابية بالمنطقة.
  3. أن الولايات المتحدة لم تعد في حاجة إلى نفط المنطقة بعد ثورة النفط والغاز الصخري التي تمتلكها الولايات المتحدة التي تغنيها عن نفط الشرق الأوسط.
  4. انهيار حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة والتفوق النوعي الإسرائيلي على جيرانها العرب.

وتعبيرا عن تراجع أهمية المنطقة وقضاياها على أجندة الرئيس الخارجية، أنه خلال زيارته الأخيرة للمنطقة بداية هذا العام وبعد فوزه بفترة رئاسية ثانية لم يزر الرئيس أوباما أيا من دول الربيع العربي التي تعيد تشكيل المنطقة، ولم تبلور إدارته سياسة واضحة تجاه الأزمة السورية التي تزداد تدهورا يوما بعد يو، الأمر الذي دفع حلفاء واشنطن في المنطقة لاسيما من الخليج العربي إلى التشكيك بحكمة دبلوماسية الإدارة الأمريكية في المنطقة، أضف إلى ذلك تدهور علاقة الولايات المتحدة بحلفائها في المنطقة بشكل سريع على حساب الأمن القومي الأمريكي، والمثال الأكثر وضوحاً على هذا التدهور هو قرار المملكة العربية السعودية الأخير برفض مقعد مجلس الأمن الذي وصفه رئيس الاستخبارات السعودية الأمير بندر بن سلطان بأنه رسالة موجهة إلى الولايات المتحدة وليس الأمم المتحدة.

لكن هناك باحثين وخبراء من ضمنهم والي نصر وعدد كبير من المسئولين الأمريكيين يرون أن منطقة الشرق الأوسط مازالت تمثل أهمية للولايات المتحدة الأمريكية، وينتقدون إخفاقات السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي "بارك أوباما" في المنطقة، وهو ما ترجمه عنوان مقالة السيناتورين الجمهوريين بمجلس الشيوخ الأمريكي "جون ماكين" و"ليندسي غراهام" بصحيفة الواشنطن بوست، الذي كان: "أوباما خذل الشرق الأوسط والمصالح الأمريكية هناك".(3)

وعلى عكس ما تتوقعه الإدارة الأمريكية فإن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة وعدم إيلاءها والتطورات التي تشهدها الاهتمام الكافي سيلحق الضرر بالصورة والمكانة الأمريكية عالميا؛ بما يظهرها عاجزة عن حل القضايا والأزمات في منطقة كانت حكرا عليها لعقود، وستتركها لقوى صاعدة وأخرى منافسة لواشنطن في المنطقة، وهي قوى تسعى للاستفادة من السوق العربية لتوسيع اقتصادها والتمتع بنفوذ قوي في المنطقة بما يؤهلها من لعب دور عالمي بدت ملامحه في تنامي الدور الروسي والصيني في الأزمتين السورية والإيرانية. وهذا لا يصب في مصلحة الحفاظ على القوة الأمريكية واستعادة ريادتها عالميا بعد تدهورها وتراجعها خلال سنوات حكم "بوش" الابن الثماني.

إن السعي الأمريكي لترك منطقة الشرق الأوسط والتوجه لمحاصرة ومنافسة الصين في عقر دارها - القارة الأسيوية - لم يعد بالنفع على الولايات المتحدة؛ لخسارتها النفوذ في أسيا والشرق الأوسط، في حين تبدو الصين المستفيد الأكبر من هذا التوجه الأمريكي نحو آسيا الذي عجز عن محاصرة نفوذ بكين المتنامي والمؤثر في القارة الأسيوية، أضف إليه جهود الصين الدائبة لتعظيم مكانتها وتوطيد علاقاتها مع دول المنطقة بعد الانسحاب الأميركي ولعب دور مؤثر في حل قضايا الشرق الأوسط ونزاعاته وصراعاته مع ما سيكون لذلك من تداعيات وتأثيرات على مكانة ومصالح الولايات المتحدة في هذه البقعة من العالم.

معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: الأمة المستغني عنها: السياسة الخارجية الأمريكية في تراجع - The Dispensable Nation: American Foreign Policy in Retreat
المؤلف:  والي نصر Vali Nasr
عرض:  عمرو عبد العاطي - باحث متخصص في الشئون الأمريكية، وباحث مشارك بالمركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية ومدير تحرير الموقع الالكتروني للمركز.
الناشر:  راندوم هاوس Random House
تاريخ النشر:  2013
عدد الصفحات:  320
__________________________
عمرو عبد العاطي - باحث متخصص في الشؤون الأمريكية، وباحث مشارك بالمركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية.

المصادر
(1)Mark Landler, Rice Offers a More Modest Strategy for Mideast, New York Times,  October 26, 2013, at :
http://www.nytimes.com/2013/10/27/world/middleeast/rice-offers-a-more-modest-strategy-for-mideast.html?_r=0
(2) Aaron David Miller, The Shrinking: Why the Middle East is less and less important for the United States, Foreign Policy Magazine's web site, October 17, 2013, at:
http://www.foreignpolicy.com/articles/2013/10/17/the_shrinking_does_the_middle_east_matter?wp_login_redirect=0
(3)John McCain and Lindsey Graham, Obama is failing the Middle East, and U.S. interests there, Washington Post, October 26, 2013, at:
http://www.washingtonpost.com/opinions/mccain-and-graham-obama-is-failing-the-middle-east-and-us-interests-there/2013/10/26/47e8f016-3d83-11e3-a94f-b58017bfee6c_story.html

ABOUT THE AUTHOR