مخارج الملف النووي وعلاقتها بأزمة إيران السياسية

تقوم تقديرات القيادة الإيرانية على استبعاد فرضية تعرض إيران لضربة عسكرية بسبب ملفها النووي، وترجح بعض المؤسسات في إيران أن البلاد ستواجه تهديدا خارجيا سيؤجج النزعة القومية ويوحد الصف الداخلي ويبرر ما تتخذه السلطة من إجراءات للحفاظ على الاستقرار.
8 January 2010







 

ما شاء الله شمس الواعظين


أعلنت إيران عن عدم رغبتها بعملية تبادل مخزونها الوطني من اليورانيوم منخفض التخصيب بيورانيوم عالي التخصيب مع دول 5+1 كنتيجة لجولتين من المفاوضات التي جرت في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في فيينا وكذلك في الأسبوع الثالث منه ما بين الوفدين الإيراني الأوروبي في جنيف.


وكانت المفاوضات قد أدت حسب رواية الطرفين، إلى توقيع مسودة تفاهم تقوم بموجبها روسيا بتحويل اليورانيوم الإيراني وتخصيبه لدرجة 19%، ومن ثم تحويله إلى فرنسا كي تقوم بعملية تبديلها بقضبان وقود وتسليمها لإيران لاستخدامها في المنشأة العلمية في طهران.


ومبررات إيران لهذا الرفض:


1- عدم ثقة طهران بفرنسا بسبب "تاريخها السيئ في تعاونها النووي مع طهران"، حيث أقدمت فرنسا في ثمانينات القرن المنصرم وبأمر من الرئيس الراحل فرانسوا ميتران بإيقاف تزويد المنشاة النووية في العاصمة طهران للأغراض الطبية بقضبان نووية، وذلك على الرغم من أن إيران كانت لديها حصة لا تقل عن 10% من أسهم الشركة حسب الاتفاقية الموقعة بين الطرفين في عهد الشاه.


2- وجود أجواء عدم ثقة بين طهران وموسكو بسبب عدم التزام الأخيرة بتشغيل محطة بوشهر النووية في الوقت المحدد والمتفق عليه بين البلدين.


توصيف الأزمة ومسارها






هذه المواقف الإيرانية جاءت وسط حراك داخلي بين البرلمان والرئاسة وصل إلى مستوى غير مسبوق حيث وجهت انتقادات لاذعة لكيفية إدارة الملف النووي؛ ودخل رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني رئيس البرلمان على الخط بقوله إن دول 5+1 تقوم بعملية ابتزازية ضد إيران عبر مقترحات قد تكون لها تداعيات خطيرة، مثل حرمان إيران من مخزونها الوطني من اليورانيوم.


وقد تطور الموقف الإيراني في الزيارة التي قام بها الرئيس محمود أحمدي نجاد لتركيا والمفاوضات التي أجراها مع القيادة التركية حيث أعلن الرئيس نجاد بحضور رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان عن استعداد إيران القبول بأن تلعب تركيا دور الوسيط قي عملية تبادل اليورانيوم الإيراني. وأعلن الجانب التركي استعداد بلاده للقيام بمثل هذه الوساطة للخروج من المأزق الذي وصلت إليه المفاوضات الإيرانية-الغربية.


لكن القرار الذي صدر عن مجلس الحكام في الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذي أدان إيران بشكل واضح "لعدم التزامها بسياسة الشفافية حول برنامجها النووي" -تحديدا فيما يتعلق بعدم إبلاغ الوكالة نية طهران بناء محطة جديدة لتخصيب اليورانيوم قرب مدينة قم- غيّر المسار برمته ودفع إيران إلى الإعلان عن دراسة خفض مستوى تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومطالبة حكومة الرئيس أحمدي نجاد بتقديم مشروع إلى البرلمان لدراسة الخطوات المقبلة الواجب اتخاذها ضد الدول التي صادقت على القرار المذكور.


وفي خضمّ هذه الأزمة، وفي خطوة تصعيديه لافتة، أعلن الرئيس نجاد عن نية حكومته بناء عشر محطات لإنتاج الوقود النووي في المستقبل، منها خمس تم تصميمها وتحديد أماكن توزيعها في إرجاء البلاد. وأكد نجاد في إحدى الكلمات له: أن إيران أرادت أن تختبر الدول الكبرى بالإعلان عن رغبتها في التعاون النووي لكن القرار الأخير الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية جاء مخيبا للآمال، وسيكون لإيران خطوات إضافية أبسطها تخصيب اليورانيوم لدرجة تلبي احتياجات إيران من الوقود النووي.


وفي السياق ذاته قامت إيران بإجراء مناورات عسكرية في دائرة تفوق مساحتها 600 ألف كيلو متر مربع هي الأوسع منذ عشرات السنيين لاختبار مدى استعداد القوات المسلحة الإيرانية للدفاع عن المنشآت النووية ضد أي هجوم عسكري أجنبي. وقد أعلنت القيادات العسكرية الإيرانية وخاصة قيادات الحرس الثوري عن نجاح هذه المناورات وبأنها قد حققت أهدافها للمدى المنظور.


من جهة أخرى قامت الدول الكبرى، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، بتكثيف جهودها وضغطها على إيران لقبول مسودة جنيف وتحذيرها بان العقوبات الإضافية على إيران سيكون البديل المتبقي أمام دول 5+1 إذا ما استمرت طهران على نهجها الراهن برفض العروض الدولية.


وفي الإطار ذاته أعربت كل من روسيا والصين الحليفتان الرئيسيتان عن رغبتيهما في أن تتواصل الجهود الدبلوماسية، وأن تقبل إيران العرض المقدم إليها مع إعطائها ضمانات إذا ما تخوفت من عدم تنفيذ الالتزامات المطلوبة لإتمام عملية التبادل النووي.


كما كرّر الرئيس أوباما تحذيراته لإيران من أن الفرصة الممنوحة لها لن تكون إلى ما لا نهاية، وأن الإدارة الأمريكية قد حددت مهلة زمنية تنتهي بانتهاء العام الحالي كأقصى حد لإجابة إيران على العرض الأميركي المتمثل بإجراء مفاوضات مباشرة حول ملفها النووي والملفات الأخرى، إذا ما حصل تقدم ملموس في المجال النووي. هذه صورة شبه دقيقة لتطورات الأزمة النووية في الأشهر الأخيرة.



خطوات المرحلة المقبلة






إذن من حق أي مراقب أن يتساءل حول الخطوة المقبلة لكل من الطرفين في المرحلة القادمة.


لم يترك الطرفان الإيراني ودول المجموعة 5+1 أية فرصة لتوجيه اتهامات للطرف الآخر بأنه هو المعرقل لمسار المفاوضات، وكانت دول المجموعة قد حذرت قبل الإعلان عن فشل المفاوضات، أن طهران ستواجه في حال فشل المسار التفاوضي الحالي مزيدا من العقوبات ضدها وربما سيتم التوجه نحو الخيار العسكري فيما لو فشلت العقوبات في تحقيق أهدافها المعلنة.


لكن الجهة الرئيسية في الأزمة لا زالت تصر على ضرورة إحياء المفاوضات والبحث عن بدائل لمسودة جنيف، إلا أن الانطباع السائد هو أن القيادة الإيرانية لا زالت تعاني من أزمة اتخاذ القرار الذي سيكون الأصعب منذ قبول وقف إطلاق النار في نهاية الحرب العراقية-الإيرانية، فيما لو اتسم القرار بمفردات تنازلية قد تكون لها هزات وارتدادات سياسية على الصعيد الداخلي، إضافة إلى المطالبة الدولية بالمزيد من التنازلات الإيرانية على الصعيد الإقليمي والخارجي.


إذن هذه الورقة تحاول البحث عن تصورات تدور في عقول صانعي القرار في إيران ومن الممكن أن تتحول إلى سياسات واضحة في المستقبل القريب، ولتلمس ذلك ستطرح عدة فرضيات تعكس في قسم منها جانبا من المخاوف الإيرانية حيال تداعيات أي قرار نهائي قد تتخذها مقابل العرض الدولي، وفي قسم آخر توضح الجانب الأخطر من الخيارات الإيرانية إذا ما ارتبطت بشكل لا يمكن فصله عن الأزمة السياسية الداخلية.


1 – الموقف الإيراني وتقديراته
يشكل التطور المفاجئ في الموقف الإيراني حيال مسودة اتفاق جنيف منعطفا هاما في تاريخ الدبلوماسية الإيرانية تجاه الملف النووي، لدرجة أنه غيّر انطباعا كان سائدا حتى الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فهو يقوم على أساس أن القيادة الإيرانية تدير الأزمة النووية بذكاء تحسد عليه مقارنة بالنموذج الليبي والكوري الشمالي.


ما الذي حصل فعلا؟


هناك فرضية مبنية على بعض المعلومات الواردة من أروقة المفاوضات في فيينا وجنيف تقول: إن بعضا من مندوبي دول 5+1 وفي مسار المفاوضات طرحوا تساؤلات حول الموقف السياسي الداخلي في إيران والأزمة الراهنة وكيفية مواجهتها وإلى أين ستتجه الأمور؟ وماذا عن موقف المعارضة الإيرانية التي توجه انتقادات صريحة للنظام حيال كيفية إدارته الملف النووي؟ والأهم في كل هذا توجيه بعض اللوم للقيادة الإيرانية فيما يتعلق بالخروقات التي حصلت في السجون الإيرانية على خلفية الأزمة السياسية وملف حقوق الإنسان و...إلخ.


وقد جاءت المفاوضات النووية التي جرت في كل من فيينا وجنيف بعد الأزمة السياسية الإيرانية وعلى خلفية "تعاطف غربي مع الحركة الاحتجاجية" التي أعقبت الانتخابات الرئاسية في إيران، وسط اتهامات إيرانية صريحة إلى كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بالوقوف وراء ما أسمته "مخطط الثورة المخملية ودعم الحركة الاحتجاجية واستخدام أسطولهما الإعلامي لتحريض الشارع الإيراني".


وقد استنتجت القيادة الإيرانية من هذا، أن بعض الدول الأعضاء في مجموعة 5+1 لا تستطيع بالضرورة إلحاق الأذى بإيران بصورة تزعزع الاستقرار الأمني فيها، ولكنها تريد ابتزاز إيران في مرحلتها الحالية عبر استخدام الأزمة السياسية الداخلية كورقة ضغط لفرض مزيد من التنازلات عليها في المفاوضات النووية.


وقد شاعت حينها مقولة إن القيادة الإيرانية وعبر القبول بمبدأ التبادل النووي قد اتجهت فعلا نحو تبني إستراتيجية الانفراج الخارجي للملمة الجراح أو الأزمة السياسية الداخلية، وهذا ما قد يشجع الدول الكبرى وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية على المطالبة بالمزيد من التنازلات، لأن القيادة الإيرانية في موقف حرج في الداخل ومن ثم ستكون مستعدة لتقديم تنازلات لم تكن واردة أبدا في السلوك الإيراني المعمول به.


وجاء خطاب الرئيس أحمدي نجاد في مدينة خراسان بعد يومين من الإعلان عن مسودة اتفاق جنيف والذي اعتبر فيه أن المسودة انتصار للشعب الإيراني وأنها نتيجة لصمود إيران أمام الضغوطات السابقة؛ ليعزز الموقف الغربي القائل بضرورة الاستمرار في سياسة قطف ثمار الأزمة الإيرانية وتحويلها إلى انتصار لمنهجية الرئيس أوباما في التعامل مع دول كإيران.


صمدت القيادة الإيرانية في وجه موجة من الانتقادات غير المسبوقة من قبل المعارضة وشخصيات رئيسية في إدارة الرئيس السابق محمد خاتمي على حد سواء، اعتبرت فيه بأن مسودة جنيف تعد انتكاسة في سياسة إيران النووية وتراجعا ملحوظا مقارنة بالعرض الغربي الذي قدمته الدول الكبرى قبل خمسة أعوام على شكل رزمة حوافز مكونة من 36 بندا، من بينها ما وصف بأنه انجاز عظيم للشعب الإيراني من قبل الرئيس أحمدي نجاد.


وأكثر من ذلك فقد سارعت بعض الشخصيات في المعسكر المحافظ وتحديدا علي لاريجاني رئيس البرلمان إلى اتخاذ موقف سلبي من مسودة الاتفاق متهما دولا غربية بممارسة لعبة الصيد في الماء العكر في إشارة لافتة للأزمة السياسية في إيران. واستمرت موجة الانتقادات هذه لمدة أسبوعين لم تعلن فيها إيران عن موقفها النهائي من مسودة الاتفاق.


ومرة أخرى شاء القدر أن يثبت للغربيين صحة مقولة: أن عملية انتزاع تنازلات من دول تحظى أو تعاني من حراك ديمقراطي أو أزمة سياسية طبيعتها حراك ديمقراطي كما هو شأن إيران في المرحلة الراهنة هي عملية صعبة للغاية. ووصل الأمر ببعض الدول الغربية إلى حد اعتبار الاتجاه الذي يمثله الرئيس أحمدي نجاد في هذه المرحلة هو الاتجاه الذي يمكن التعويل عليه لإضعاف إيران وعزلها، ولم تتم المراهنة على الحركة الاحتجاجية الإصلاحية إلا بقدر تأثيرها ودورها على دفع السلطة الإيرانية نحو المزيد من المرونة النووية وليس أكثر من ذلك.


على ضوء هذه التطورات انكفأت القيادة الإيرانية على الداخل وتأرجحت مواقفها حيال مسودة جنيف بين رفض الخضوع أمام الضغوط الغربية واعتبار مبدأ تبادل اليورانيوم مع إدخال بعض التعديلات على مسودة جنيف خاصة فيما يتعلق بالوسطاء الروس والفرنسيين والبحث عن وسيط آخر لا زال قيد الدرس.


2. فرضية توجيه ضربات عسكرية
أي  ضد المنشاة النووية الإيرانية، تبدو هذه الفرضية غير واردة من وجهة نظر إيرانية رسمية لأسباب موضوعية باتت معروفة للجميع، حيث تعتقد القيادة الإيرانية بأنه لا توجد دولة تستطيع ضرب المنشأة النووية الإيرانية.


وقد أشار المرشد أية الله علي خامنئي في خطاب له قبل أسابيع، إلى التصريح الذي أدلى به الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي قبل شهور، والذي جاء في معرض رفضه،أي البرادعي، لفرضية الهجوم العسكري ضد المنشآت النووية الإيرانية: "لأنه لا يمكن قصف المعرفة، والإيرانيون قد حصلوا على المعرفة في التقنية النووية".


كما يمكن الأخذ بالاعتبار الآتي:


أولا:
إن المنشآت النووية الإيرانية موزعة في عدة مدن ومنها ما هو موجود تحت الأرض -منشأة نتنز مثلا- يصعب الوصول إليه بسهولة.


ثانيا:
إن توجيه أية ضربة عسكرية ضد المنشأة النووية سيعزز مقولة: إن إيران مهددة والحل هو الاتجاه نحو تطوير قدرات نووية رادعة، ومن ثم تكون إيران في حل من أية التزامات دولية في مجال حظر الانتشار النووي، وستذهب إلى أبعد ما يمكن أن تصل إليه عبر تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.


ثالثا:
إيران من الناحية الجيوإستراتيجية تمثل المجال الحيوي لمنطقة غير مستقرة، ودول الجوار تعاني من أزمات مستعصية يصعب على حلف الشمال الأطلسي الناتو-تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية- إدارتها مثل أفغانستان وباكستان والعراق. فكيف سيكون حالها إذا ما تزعزع الاستقرار الأمني في إيران بفعل شن حرب جديدة في منطقة مستعرة أساسا؟ وماذا عن التواصل الجغرافي بين بؤر التوتر والاستقرار إن دخلت إيران هذه الدائرة، حيث تشكل هذه الدول إضافة لإيران مساحة تتجاوز القارة الأوروبية بضعفين؟ فكيف يمكن تصور مشهد يعكس مساحات واسعة ومشتعلة ومتواصلة جغرافيا؟


رابعا:
لا يستطيع أحد التكهن حول مدى وكيفية الرد الإيراني على هجوم عسكري ضد المنشأة النووية. فالانتشار الأمريكي الواسع في المناطق المجاورة لإيران يشكل أهدافا مريحة للرد الإيراني إذا ما قررت واشنطن الدخول في مواجهة مفتوحة مع طهران.


لكن القيادة الإيرانية لا تستبعد لجوء دول 5+1 إلى فرض عقوبات جديدة ضد إيران عبر مجلس الأمن. في هذه الحالة أيضا تعتقد القيادة الإيرانية بأن العقوبات المتوقع فرضها على إيران لن تشمل المجالات المعيشية للشعب الإيراني؛ إذ أن الدول الغربية اتخذت موقفا متعاطفا من الحركة الاحتجاجية التي أعقبت الانتخابات الرئاسية في إيران، وبالتالي فإنه يمكن أن تتجاوز مرحلة العقوبات، خاصة إن اقتصرت على القطاعات ذات الصلة بالمصالح الحكومية المباشرة.


لكن في الحالة الثانية أي فرض عقوبات شديدة بحيث تمس حياة الناس مثل: المحروقات، فهذا أمر مطلوب ومرغوب فيه من وجهة نظر حكومية؛ حيث تستطيع القيادة الإيرانية، وفي محاولة لإعادة التضامن والتماسك الداخلي، أن توضح للشعب الإيراني أن المنظومة الغربية لا تفرق بين إصلاحي ومحافظ وأن الشعب الإيراني هو المستهدف، وهذا ما سيفند الادعاءات الأمريكية حول قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية.


في هذا الإطار بالذات، تحاول القيادة الإيرانية -عن قصد- الاستفادة من حالة طارئة، وهي أن تستخدم الحركة الاحتجاجية كغطاء تلجم من خلاله أنصار ومؤيدي العقوبات الشديدة على إيران في الدول الكبرى. وهذا ما يفسر الطريقة التي تستخدمها السلطة حيال الحركة الاحتجاجية وزعمائها من الإصلاحيين والتي تتسم بنوع من المرونة غير المعتادة.


في الواقع إن السلطة تقوم باستخدام مزدوج للحركة الاحتجاجية فهي من ناحية تتهم أعداءها -وعلى رأسهم واشنطن- بإثارة الفتن في الداخل الإيراني لانتزاع تنازل إيراني في المجال النووي؛ ومن جهة أخرى تستخدمها كورقة اجتماعية مؤيدة للغرب للحيلولة دون استغلال العلاقة المتأزمة بين النخب الاجتماعية والسلطة السياسية في إيران، والذهاب نحو فرض عقوبات شديدة تكون نتيجتها إضعاف هيمنة الدولة في كل الأحوال.


في السياسة، وفي تقييم مستوى إدارة الأزمات السياسية، فإن السلطات الإيرانية تتعاطي بحذر مع الحركة الاحتجاجية والأزمة السياسية في إيران؛ حيث لم تقم بما قد يتوقعه البعض: حسم النزاع السياسي الداخلي بسرعة متناهية قبل أن تتحول الأزمة إلى حالة اجتماعية يصعب ضبطها واحتواؤها.


لكنْ، ودون أي تردد، يجب أن لا نركن للسذاجة في تقييمنا لما هو أعقد وأعمق من رؤية الأمر وكأنه ساحة اختبار ومعاينة مدى ذكاء وحنكة السلطة في مواجهة أزمة سياسية تبدو أعمق من الاستخدامات المرحلية لحل قضايا لها حلول أخرى.


فلا شيء يمنع أن تتدحرج "فرضية الاستخدام المزدوج للأزمة السياسية الداخلية" بحيث تصل إلى نقطة اللارجعة، وعليه لا يمكن استبعاد احتمال أن تندفع الدول الكبرى نحو إجراء سيناريو مضاد، يقوم على "سيناريو عدم تعريض المجتمع الإيراني للأذى من ناحية، وعدم زعزعة الاستقرار الأمني في إيران لدرجة تندلع فيها أزمة متشابهة للازمات القائمة في كل من العراق وأفغانستان وباكستان من ناحية أخرى، وذلك بتوجيه ضربات مركزة على بعض المنشآت الإيرانية النووية، تسبقها ضربات حاسمة ضد القطاعات الإيرانية التي من واجبها القيام بعملية الرد العنيف للحيلولة دون اتساع دائرة المعركة؟.


3- فرضية تغير نمط إدارة الحكم
وتقوم على أن إيران مقبلة على تطورات قد تغيّر بعض الأنماط السائدة فيها. والاصطفافات الحادة الداخلية تشير إلى حصول هذه التطورات، والسلطة السياسية لم تتخذ بعد قرارها بإجراء تفاوض مع المعارضة وزعماء الحركة الاحتجاجية، لذلك فإن الأمور مرشحة للمزيد من التدهور في الأشهر المقبلة.


فالبداية كانت الأزمة، أزمة ثقة نجمت عن الإعلان عن فوز الرئيس نجاد لولاية ثانية سرعان ما تحولت إلى أزمة نظام، لكن وكما أسلفنا فإن السلطة راهنت ولا تزال تراهن على قدرتها بحسم النزاع أمنيا، لذلك تدحرجت الأزمة وبسرعة مذهلة لتصل إلى ما نحن فيها وهي خطيرة للغاية، إذ رفعت الحركة الاحتجاجية سقف مطالبها بشكل غير مسبوق، وانخرطت مؤسسة كانت حتى وقت قريب من المؤسسات السيادية المحترمة كطرف في الأزمة، وأدى ذلك إلى انقسام واضح بين ما تعتبره السلطة الطبقة الحاملة لمشروع الحكم الديني (الحرس الثوري) وشرائح مؤثرة وفاعلة ومنتجة (الطبقة الوسطى) في المجتمع الإيراني، وهذا الانقسام سرعان ما انتقل إلى المؤسسة السياسية ومن ثم تدحرج ليصل إلى المؤسسة الدينية.


يأتي كل هذا وسط أزمات تتمثل بالأزمة النووية والأزمة الاقتصادية. لكن الأزمة النووية في الواجهة فهل من مخرج لهذه الأزمات؟.


ما المخرج من الأزمة النووية






لا يمكن لأحد أن يتكهن بما سيحدث في نهاية المطاف لكن هناك بعض المؤسسات المؤثرة في إيران ترجح أن تواجه إيران تهديدا خارجيا ملموسا يؤجج النزعة القومية الإيرانية ويوحد الصف الداخلي ويبرر ما تتخذه السلطة من إجراءات ضرورية للحفاظ على الأمن والاستقرار.


هذا هو السيناريو الخطير الذي يواجه إيران حاليا فلا شك أن هناك جهات لديها رغبة في تحويل هذا التحدي إلى واقع ملموس عبر خطوات تصعيديه. تتقاطع هذه الجهات الداخلية مع أولئك الذين يرجحون كفة الخيار العسكري ضد إيران كل من منطلقه، منطلق الجهات الداخلية المتطرفة هو أنه لا سبيل لعودة الاستقرار السياسي إلى البلاد إلا عن طريق تأزيم الخارج، ومنطلق الجهات الخارجية المتصلبة هو أنه لا سبيل للتعاون مع إيران كعضو مسئول في الأسرة الدولية إلا عن طريق إضعافها وضرب قوتها.


يجب أن نتذكر أنه وبإسقاط العراق دولة وشعبا عام 2003 انتهت عملية احتواء العراق في إطار إستراتيجية أمريكية مورست خلال العقدين الماضيين والتي عرفت بإستراتيجية الاحتواء المزدوج.


بقيت إيران في الواجهة، فهل نحن على أعتاب سيناريو احتواء إيران وسط تقاطع ملحوظ بين من يرمي بذلك في الداخل، وإن كان عن غير عمد، ومن يطالب به وبل يحرض عليه في الخارج بدوافع مختلفة طبعا؟.
_______________
* باحث إيراني