تميز أول خطاب للرئيس الأميركي باراك أوباما وجّهَه للعالم الإسلامي من العاصمة المصرية القاهرة، بتطرقه للتحديات الأساسية التي تواجه الولايات المتحدة في العالم الإسلامي، وذلك بالرغم من كونه لا يعدو أن يكون إعلاناً للنوايا. فأوباما اليوم يقترح نموذجاً جديداً في التعامل بين الحضارتين الغربية والإسلامية ويطالب بفتح صفحة جديدة في إدارة العلاقات بين العالمين.
أوباما اليوم يقترح نموذجاً جديداً في التعامل بين الحضارتين الغربية والإسلامية ويطالب بفتح صفحة جديدة في إدارة العلاقات بين العالمين |
وقد افتقر خطاب أوباما للدقة في تحديد سياسات إدارته، ولكن هدفه كان أبعد من ذلك، فقد أراد أوباما لخطابه أن يكون ذا دلالات وأبعاد قوية، غنيا بالوعود والفرص التاريخية التي تلوح في الأفق والتي يمكن اقتناصها لتغيير المعالم القاتمة للعلاقات بين الإسلام والغرب اليوم.
وربما كان أوباما أيضاً يحاول من خلال هذا الخطاب إعادة صياغة مفهوم جديد للعلاقة بين الغرب والإسلام باتجاه التعاون والشراكة.
لذلك، نراه ركز على أهمية تذكير الحاضرين بأن العلاقات بين الإسلام والغرب المسيحي دامت لقرون تميزت في كثير من مراحلها بالتعايش السلمي والتعاون المشترك، ولم تغلب عليها دائماً لغة الصراع والحروب المقدسة.
ولكن أهم النقاط التي تميز بها خطابه كانت حديثه عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والعلاقة بين الإسلام وأميركا، ثم الوضع في العراق.
فلسطين والفلسطينيون
الإسلام وأميركا
هل هي نهاية حقبة الحرب على الإرهاب؟
مواصلة الدعم الخفيف لحكام العالم الإسلامي
توصيات لنهج سياسة خارجية صائبة
إن الرئيس أوباما هو أول رئيس أميركي يتحدث خلال فترة ولايته، بوضوح وصراحة، عن معاناة الشعب الفلسطيني، مسلمين ومسيحيين، وسعيهم المرير لبناء دولتهم المستقلة، قائلا "لقد عانوا لأكثر من ستين سنة من التهجير، حيث بقي العديد منهم ينتظر في مخيمات اللاجئين بالضفة الغربية وفي غزة والأراضي المجاورة، يحلمون بحياة يسودها السلام والأمان لم يذوقوا طعمها أبداً، ويذوقون مرارة الذل يومياً بشتى أنواعه على يد الاحتلال. لذلك، علينا أن نقول صراحة بأن وضعية الشعب الفلسطيني لم تعد تُحتَمل. ولذلك أيضاً، لن تدير أميركا ظهرها في وجه تطلعات الفلسطينيين الشرعية للعيش في كرامة داخل وطن خاص بهم".
ويبدو أيضاً أن الرئيس أوباما كان أول رئيس أميركي أثناء فترة ولايته يربط أهمية بناء دولة فلسطينية بمصالح أميركا الاستراتيجية، حيث قال "إن هذا يخدم مصلحة إسرائيل، كما يخدم مصالح فلسطين وأميركا والعالم بأسره. لهذا السبب، عقدت العزم على أن أتابع شخصياً هذه الملف وأن أتحلى بكل الصبر والعزيمة التي تتطلبها مهمة مثل هذه".
إن لهذه الكلمات بلا شك، دلالاتها إيجابية نطق بها رئيس أعظم دولة في العالم تقف إلى جانب إسرائيل وتدافع عن وجودها، إنه بداية منعطف تاريخي في السياسة الخارجية وستكون له أبعاد وتداعيات هامة خلال السنوات القادمة.
ولعل ما لفت الانتباه أكثر بعد انتهاء أوباما من توجيه خطابه إلى العالم الإسلامي، هو أن معظم المحللين السياسيين في أميركا والعالم العربي ركزوا انتباههم على نقطة واحدة: هل سيصدق المسلمون خطاباً منمقاً آخر من رئيس أميركي مفوه؟ فالبعض يرى أن أوباما، ومع كل ما تميز به خطابه غير التقليدي، لم يحدد الخطوات العريضة لتصوره الخاص بحل الدولتين وإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وذلك بالرغم من أنه أعلن صراحة بأن الولايات المتحدة لا تتقبل شرعية مواصلة أعمال الاستيطان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية.
كما أنه قال بالحرف إن على "الإسرائيليين الاعتراف بأن لفلسطين الحق في الوجود كما لإسرائيل نفس الحق". وهو ما يعتبر تحولاً شجاعاً بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية، حيث يجعل من أوباما الرئيس الأميركي المعاصر الوحيد الذي استخدم الاسم التاريخي "فلسطين" في خطابه أكثر من مرة.
الرئيس أوباما كان أول رئيس أميركي أثناء فترة ولايته يربط أهمية بناء دولة فلسطينية بمصالح أميركا الاستراتيجية، |
فمعظم الغربيين، خصوصاً منهم الأميركيين، ينظرون بسلبية خطيرة إلى الفلسطينيين، حيث عكفت إسرائيل وحلفاؤها لفترة طويلة على رسم صورة نمطية خاطئة وسلبية عن الفلسطينيين، تصورهم على أنهم شعب ميال للعنف ومعادي لأميركا يسوده التطرف والتسلط، في مقابل دولة إسرائيلية محبة للسلام والديمقراطية.
لذلك، سيكون لهذا الخطاب صدى مغاير ربما سيجلب معه تغييرات جوهرية في الطريقة التي يتصور بها الرأي العام الغربي الفلسطينيين وقضيتهم، إنها بالتأكيد أول خطوة إيجابية نحو نزع صورة الغول عن هذا الشعب وإلباسه حلة إنسانية تصور معاناته الحقيقية وتطلعاته المشروعة والغبن التاريخي الذي لحق به.
فمما لا شك فيه أن الشعب الأميركي يحمل على محمل الجد كلام رؤسائه. وإذا ما قرر أوباما أن يوضح الصورة الحقيقية لأزمة الشرق الأوسط في أعين مواطنيه، فإنه بالتأكيد سيحدث تغييراً جذرياً في الرأي العام الأميركي، خصوصاً وأنه بدأ بمعالجة الموضوع من زاوية معاناة الشعب الفلسطيني وما يقاسيه تحت ظروف الاحتلال الصعبة.
وربما يتناسى البعض المفارقات الصارخة في مواقف أوباما من القضية الفلسطينية، قبل وبعد انتخابه. فخلال المراحل الأولى من حملته الانتخابية، أعلن ولمرة واحدة، أن ما من شعب قد عانى مثل ما عاناه الفلسطينيون، ولكنه سرعان ما غير من أسلوب كلامه بعد الانتقادات اللاذعة التي انهالت عليه من خصومه أصدقاء إسرائيل، فإذا به يلقي باللائمة على القادة الفلسطينيين ويحملهم وزر مأساة شعبهم ويبرئ ساحة إسرائيل من دمهم المهدور.
ولكن يبدو أن زمن المجاملات قد ولى، فهاهو اليوم يقف بثبات أما العالم الإسلامي، ويقول "علينا أن نتحدث بصراحة ونعبر عما تختلج به صدورنا وما كنا لا ننطق به إلا خلف الأبواب المغلقة". بل إنه حتى استشهد بالقرآن الكريم في وقفته البطولية لقول الحق: "اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً" (الأحزاب/70).
فقول الحق حين يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي له ثمنه داخل أميركا. ولا أحد يظن بأن أوباما غافل عن الضغوط الرهيبة التي سيتعرض لها سواء من قبل الكونغرس بأعضائه الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، أو من اللوبي الإسرائيلي القوي الذي لن يتوانى عن تسخير كل نفوذه لتثبيط أوباما عن أفكاره "غير التقليدية" إذا ما تخطى الحدود المسموح بها في محاولة الضغط على حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة.
وقد بدأنا نسمع بالفعل بعض الأصوات الموالية لحزب الليكود الإسرائيلي داخل أميركا التي ترى في خطاب أوباما "نهاية للتحالف الإستراتيجي بين أميركا وإسرائيل". مثل هذه الاتهامات نراها واضحة في أعمدة الصحف الأميركية، مثل "واشنطن بوست" التي نشرت مقالاً لأحد مؤيدي حزب الليكود المتفانين، تشارلز كروتامر، وصف فيه استراتيجية أوباما على أنها "أكثر من مخزية، بل تنم عن فشل منهجي وشيك".
ومن الواضح أن إدارة أوباما قد قررت خلال هذه المرحلة التركيز على ثني إسرائيل عن مواصلة بناء المزيد من المستوطنات، وهي تبقى استراتيجية مقبولة داخلياً لأن هناك تخوفات أصلاً داخل الكونغرس الأميركي من التوسع الاستيطاني اليهودي في القدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية. كما أن هناك انقساماً داخلياً وسط الرأي العام الإسرائيلي من مسألة بناء مستوطنات جديدة.
ويبقى خطاب القاهرة وما سبقه من تصريحات للمسؤولين الأميركيين، بمثابة تأسيس القاعدة الإستراتيجية لسياسة أوباما الخاصة بتحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي يمكن تلخيصها في النقاط الخمس التالية:
- أولاً، مشاركة فعلية من الرئيس الأميركي لتحقيق "تقدم جاد" خلال سنة إلى سنتين من الآن.
- ثانياً، مواصلة الضغط الأخلاقي والسياسي على الحكومة الإسرائيلية لوقف جميع أعمال الاستيطان الجديدة.
- ثالثاً، حث كلا الطرفين، خصوصاً الدول العربية على تعزيز أجواء بناء الثقة.
- رابعاً، إشراك المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول الإسلامية، للسعي نحو تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل.
- خامساً، التركيز على النتيجة المثلى: دولتان متجاورتان، فلسطين وإسرائيل تعيشان جنباً إلى جنب في سلام ووئام.
ورغم الوعود التي قطعها أوباما على نفسه بالمساعدة "شخصياً" في التوصل إلى اتفاق سلام، فإنه من المستبعد أن يتمكن أوباما من اتخاذ إجراءات ملموسة لإرغام نتنياهو على وقف عمليات الاستيطان، وإن كان خطابه المليء بالموعظة الحسنة سيساعد على استقطاب الرأي العام الداخلي في إسرائيل على حساب الحكومة اليمينية المتطرفة التي تحكم البلاد حالياً. وحتى الآن، لم تُظهر استطلاعات الرأي التي أُجريت داخل الدولة العبرية ما يفيد بنجاح هذا التوجه وإذا ما كان أوباما سيحظى بتأييد الإسرائيليين.
أوباما هو الرئيس الأميركي الوحيد، من بين كل من سبقه الذي نادى بحق، بضرورة اعتراف إسرائيل بحق فلسطين في الوجود. |
أما أوباما، فقد قال بوضوح أن الولايات المتحدة "لن تقبل بشرعية مواصلة الاستيطان". كما أنه الرئيس الأميركي الوحيد، من بين كل من سبقه الذي نادى بحق، بضرورة اعتراف إسرائيل بحق فلسطين في الوجود.
إنها بالتأكيد بداية جديدة، وإن كانت فرص تحقيق نجاح ملموس في هذه المسألة تبقى غير واعدة، فالطريق إلى بناء الدولة الفلسطينية محفوف بالألغام والأسلاك الشائكة. وحتى قبل أن يرجع أوباما إلى بلده، انهال عليه اليمين بالانتقادات والاتهامات، حيث أصبح الآن في نظرهم "مدافعاً عن أعداء أميركا"، وإن كنا لا نعرف بالضبط من هم هؤلاء الأعداء بالتحديد.
كما أن أوباما، حسب أقوال هؤلاء، يساعد بسياسته هذه على زعزعة قوة أميركا الردعية -وتلميذتها النجيبة إسرائيل- في وجه خصوم الديمقراطية والعالم المتحضر. إنه فك الكماشة الذي لا مفر منه الآن، فكلما زادت الإدارة الأميركية من ضغطها على إدارة نتنياهو لوقف الاستيطان، كلما انهالت الضربات على أوباما وأسلوبه الجديد وغير المألوف في البيت الأبيض.
كان المحور الأساسي في خطاب أوباما يدور حول العلاقات بين أميركا والعالم الإسلامي. وحتى يحصل على التأثير المنشود في نفوس مستمعيه في العالم الإسلامي، لجأ إلى التذكير بتجربته الشخصية وعن أصوله العرقية، حتى يثبت أن هذه المرة سوف تكون مختلفة عن سابقاتها من العلاقات المضطربة بين الإدارات الأميركية وشعوب العالم الإسلامي.
لذلك، نجده يُذّكر بأصل والده المسلم، قائلاً "أنا مسيحي، ولكن والدي ينحدر من عائلة كينية عاشت فيها أجيال من المسلمين. لقد عشت جزءاً من طفولتي في إندونيسيا حيث كنت أسمع يومياً آذان الصلاة عند الفجر ومغيب الشمس. وحتى حين كبرت، اشتغلت في المؤسسات الاجتماعية في شيكاغو وكنت أرى العديد من الناس يعيشون في سلام وعزة نفس نابعين من إيمانهم بالدين الإسلامي".
وحسب كلامه، فإنه يعرف دين الإسلام خير المعرفة وبأن تجربته الشخصية والمباشرة علمته أن علاقة الشراكة بين أميركا والعالم الإسلامي يجب أن تكون مبنية على الإسلام كما يجب أن يكون، وليس كما يُصوره الآخرون. بل إنه وعد بنية صادقة أنه سيعمل على تعريف الأميركيين بالإسلام الحقيقي في مقابل كل الأفكار النمطية السلبية عنه التي استشرت في بلاده منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول2001.
وحتى يكون مفعول "الترياق" الشافي للنفوس مضموناً على كلا الجانبين، لم يغفل أوباما عن تلميع صورة أميركا أيضاً أمام العالم الإسلامي، مذكراً بأن هذا الدين السماوي كان دائماً حاضراً في تاريخ المجتمع الأميركي، وبأن السبعة ملايين مسلم الذين يعيشون بحرية قد ساهموا بدورهم في تطور المجتمع الأميركي.
هل هي نهاية حقبة الحرب على الإرهاب؟
على عكس خلفه المهووس بالإرهاب والحرب على الإرهاب، لم يهمس أوباما ولا مرة واحدة بهاتين العبارتين اللتين تحتلان تصنيفاً عالياً في لائحة أبغض العبارات الممقوتة في العالم الإسلامي. فيبدو أن الإدارة الأميركية الحالية سوف تكف عن استخدام عبارة "الحرب العالمية على الإرهاب" التي أبدعتها الإدارة السابقة، وهذا ما نستشفه من خطاب أوباما في القاهرة الذي استخدم فيه عبارات أكثر تلطيفاً وقابلية للاستساغة لدى الذوق العام من قبيل "التطرف".
لذلك، نجد أوباما قد تطرق في خطابه إلى مسببات هذا التطرف والدوافع التي تغذي وجوده وتذكيه. كما أنه تحدث عن "الشراكة" بين الغرب والإسلام، عوض الخوض في متاهات الحروب المقدسة ضد عدو وهمي أسموه "الإسلام الفاشي".
وربما أعرض أوباما عن تقديم اعتذار صريح عن أخطاء أميركا، ولكنه حاول أن يظهر المسببات والمسوغات للأعمال التي قامت بها بلاده، سواء منها الإيجابية أو السلبية. فغزو أفغانستان كان ضرورياً بعد أن قتل تنظيم القاعدة، الذي تؤويه حركة طالبان، ثلاثة آلاف شخص في هجمات 11 سبتمبر/أيلول.
أقر أوباما ضمنياً، ومن دون ذكرها بالاسم، بأن إدارة بوش عمدت بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول إلى التصرف بطريقة "منافية لمبادئنا"، من خلال لجوئها إلى أساليب التعذيب وسوء المعاملة |
كما أقر أوباما ضمنياً، ومن دون ذكرها بالاسم، بأن إدارة بوش عمدت بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول إلى التصرف بطريقة "منافية لمبادئنا"، من خلال لجوئها إلى أساليب التعذيب وسوء المعاملة، حيث قال "لقد أصدرت أوامري القاطعة بحظر استخدام الولايات المتحدة لطرق التعذيب، كما أمرت بإغلاق معتقل غوانتنامو مع بداية السنة القادمة". إضافة إلى ذلك، تعهد بالسعي إلى توفير الحماية والأمن لمواطنيه من دون المساس بسيادة الشعوب الأخرى أو الخروج عن سلطة القانون، وفي إطار "الشراكة" مع دول العالم الإسلامي.
وربما يمكن اعتبار هذا الكلام في مقام الاعتذار الرسمي أو أقرب إليه، ولكنه بالتأكيد يبرز البعد الأخلاقي لباراك أوباما الذي، وعلى خلاف ما جرت عليه العادة مع سلفه من الرؤساء الأميركيين، لا يتوانى عن قول الحقيقة كما هي أثناء الحديث عن الجوانب الرئيسية في سياسة أميركا الخارجية أمام جمهور أجنبي خارج وطنه (وهو ما يعتبر فعلاً سابقة بالنسبة لأي رئيس أميركي معاصر)، وهو يعلم مسبقاً بأن خصومه السياسيين سوف يستغلون الحدث لجلده حياً.. بل إن الجمهوريين قد بدأوا في إخراج سياطهم بالفعل.
ولا شك أن هناك مجالات خلاف كثيرة في وجهات نظرنا كمجتمع إسلامي مع ما قدمه أوباما في خطابه، ولكنه يبقى مع ذلك أفضل سفير نوايا حسنة استطاعت أميركا تقديمه حتى الآن. فهو يتحدث عن القوة والتفوق دون أن يتجاوز حدود اللياقة والتواضع، بل إنه لم ينطق ولو مرة واحدة بعبارة صريحة أو ضمنية تلمح في طياتها إلى التهديد أو العجرفة أو تقديم المواعظ المجانية.
مواصلة الدعم الخفيف لحكام العالم الإسلامي
أظهر أوباما في خطابه مرونة في المواقف المتضاربة بين مواصلة دعم الحكام العرب "السلطويين" المدعومين من الغرب، مثل الرئيس المصري حسني مبارك، وبين الالتزام بضرورة نشر مبادئ حقوق الإنسان وسلطة القانون في مجتمعاتهم.
ويبدو أن مستشاري أوباما كانوا واعين بأن ترحيب وسائل الإعلام المصرية التي تتحكم فيها الدولة بقرار أوباما إلقاء خطابه من القاهرة، كان يخفي وراءه تخوفاً من قوى المعارضة في مصر من أن هذا القرار سوف يعتبر اعترفاً صريحاً من قبل إدارة أوباما بشرعية أفعال نظام حسني مبارك وضوءاً أخضر لمواصلة قمع معارضيه.
لذلك، لم يكن من المستغرب أن تتعالى أصوات الناشطين الحقوقيين، سواء من القوميين أم الإسلاميين، داخل مصر لمطالبة أوباما بإرسال رسالة قوية إلى الرأي العام في العالم الإسلامي يؤكد فيها عزمه الصادق على جعل جهود تشجيع سلطة القانون وحقوق الإنسان أولى أولويات السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
ولكن يبدو أن أوباما قد أتقن اللعبة وخرج من الورطة سالماً من دون أن يُغضِب مضيفه الرئيس المصري ويتسبب في تشويه سمعة نظامه الحاكم الحالي أو أن يُحرج باقي الحكام العرب بالتنديد بانتهاك أنظمتهم لحقوق الإنسان وسلطة القانون. فكان الخيط الرفيع الذي أمسكت به إدارة أوباما للخروج من هذه الورطة هو لجوؤها إلى دعوة بعض نواب حركة الإخوان المسلمين ورموز المعارضة في مصر، أمثال أيمن نور، لحضور حفل إلقاء الخطاب.
ويمكن وصف منهج أوباما في الدعوة إلى نشر الديمقراطية بأنه أسلوب توفيقي تدريجي يبتعد عن الأضواء، على عكس أسلوب سلفه بوش الهجومي، وكان أوباما واضحاً في هذه النقطة بقوله "لا يجب أبداً على أي كان فرض نظام حكم معين على شعب آخر".
فبينما صرح أوباما برغبته في رؤية حكومات منفتحة على تطلعات شعوبها وتعكس إرادتها، وهو انتقاد ضمني واضح للرئيس المصري حسني ومبارك وباقي الحكام العرب، إلا أنه لم يتطرق إلى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تمارسها العديد من حكومات الدولة الإسلامية ضد مواطنيها.
أظهر أوباما في خطابه مرونة في المواقف المتضاربة بين مواصلة دعم الحكام العرب "السلطويين" المدعومين من الغرب، وبين الالتزام بضرورة نشر مبادئ حقوق الإنسان وسلطة القانون في مجتمعاتهم |
ولا شك لدى مستشاري أوباما في أن الوضع السياسي في مصر ليس استثناء في العالم العربي، بل هو المتعارف عليه. فمعروف لديهم أن الأنظمة الحاكمة العربية تقمع كل أوجه المعارضة السياسية المشروعة وتخنق بوادر الإبداع والابتكار في نفوس مواطنيها، ولم يقدموا لشعوبهم المسحوقة سوى المزيد من الفقر والفساد وزرع بوادر التطرف لدى شرائح عريضة من الناس.
والمتعارف عليه لدى دوائر صناعة القرار الأميركية أيضاً هو أنه لا توجد بدائل حقيقية يمكن التعويل عليها لخلافة الأنظمة الحاكمة العربية. ولا يتبقى في الجانب الآخر من الإشكالية سوى الجماعات والحركات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين وحماس وحزب الله، وهي كلها لا تفي بالغرض من وجهة نظر الأميركيين الذين يرون فيها خطراً داهماً يتربص بمصالح بلادهم الخارجية.
لذلك، يبقى أخف الضررين بالنسبة لأية إدارة أميركية هو الاعتماد على الأنظمة الحاكمة العربية الحالية، ففيها ما يكفي ويسد الحاجة: ولاء كامل للغرب، قابلية كبيرة للتطويع، استدامة قل نظيرها في عالم السياسة المعاصرة، وإحجام رهيب عن الإتيان بكل ما هو غير متوقع أو مألوف.
وبالنسبة لأولويات السياسة الخارجية الأميركية، تنصب أجندة أميركا حالياً على خمسة محاور رئيسية:
- إعادة الاستقرار إلى أفغانستان وباكستان، وتفكيك تنظيم القاعدة وإضعاف نفوذ حركة طالبان ومحاولة إغرائها بتغيير سياساتها.
- الدخول في حوار مع إيران ومحاولة إقناعها بالعدول عن تطوير برنامجها النووي.
- الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية من العراق بهدف إنهائه بحلول سنة 2012.
- تعزيز الوسائل الدبلوماسية في إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي ونشر السلام في المنطقة.
- تثبيت أسعار النفط في الأسواق العالمية لمنع أي صعود جنوني آخر قد يتسبب في إفشال تعافي الاقتصاد العالمي من أزمته الحالية.
فلا عجب إذن أن تلجأ إدارة أوباما إلى اتباع العرف التقليدي في اكتناف الأنظمة الإسلامية الحاكمة، لما لها من دور كبير في مساعدة أميركا على مواجهة جملة من التحديات الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط الكبير.
وربما ستلجأ في المقابل إلى مناقشة مسألة انتهاك حقوق الإنسان وسلطة القانون مع هذه الأنظمة خلف الأبواب المغلقة ومن خلال الدبلوماسية الهادئة. فمن منظور الإدارة الأميركية الحالية، إن المأزق الإستراتيجي للولايات المتحدة حالياً في العالم الإسلامي يفوق في أهميته أية أولويات أخرى.
توصيات لنهج سياسة خارجية صائبة
يعلم أوباما جيداً أن خطابه الأخير من القاهرة لا يعدو أن يكون جزءاً من سلسلة جهود جادة لمحو ما خلفته سبع سنوات عجاف عاثت فيها إدارة بوش دماراً وتخريباً، وورطت نفسها في أوحال يصعب التخلص منها.
فهل سينجح أوباما في ترجمة أقواله الموزونة إلى سياسات ناجحة؟ فعلينا أن نقر في نهاية المطاف بأن أي رئيس، أوباما أو سواه، لديه هامش تحرك سياسي محدود يستطيع استثماره في العلاقات الدولية.
فهل سيعمد إلى استثمار هذا الهامش الضئيل في السعي إلى التوصل لاتفاق سلام بين العرب واليهود، أم أنه سيوجه كل جهوده نحو أفغانستان وباكستان؟ هل سيسحب جنود بلاده من كافة البلاد الإسلامية؟ هل ستفشل مساعيه لخلق حوار دبلوماسي مع إيران ويجد نفسه مقحماً في مأزق جديد مثل العراق؟
فمع خطاب القاهرة، ألزم أوباما نفسه بوعود كبيرة ورفع الآمال مجدداً في نفوس سقيمة، ويتابع كل العالم الآن عن كثب كل صغيرة وكبيرة في تحركات هذا الرئيس الأمريكي غير التقليدي، والكل متحمس لمعرفة الخطوات التي سيتخذها ليجعل من وعده بالسعي لتحقيق حلم تأسيس دولة فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع عزة، عاصمتها القدس، حقيقة واقعية.
فلا شك أن عليه أن يمارس ضغوطاً جبارة -وليس فقط الاكتفاء بتقديم المواعظ والخطابات المنمقة- على الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل لإرغامها على قبول العهود والمواثيق الدولية وتجميد أعمال توسيع المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وتهويد القدس الشرقية، بالإضافة إلى عرقلة كل مساعي تحريك عجلة مسلسل السلام.
فالمغزى من كل هذا هو أن على أمريكا أن تتحرك أخيراً وتفرض رأيها بقوة على هذا الحليف الصغير والمشاكس الكبير، الذي صال وجال حتى الآن كما يحلو له في الساحة الدولية وفرض أمره الواقع على المنطقة.
كما يجب على أوباما أن لا يكتفي بأناشيد الخطابات الرسمية، بل يعززها بإجراءات فعلية لإيصال الرسالة واضحة غير مشفرة إلى نتنياهو وحكومته، بما في ذلك التهديد بتجميد استخدام الفيتو الأميركي داخل مجلس الأمن الدولي لصالح إسرائيل، كما جرت العادة على ذلك لعقود حتى الآن.
هذا بالإضافة إلى وقف القروض والمساعدات المادية والعسكرية التي تقدر بالمليارات التي تستفيد إسرائيل منها لوحدها دون بقية حلفاء أمريكا الاستراتيجيين.
وسيكون على أوباما كذلك أن يتعهد باحترام المسارات الديمقراطية وتقبل اختيارات الشعوب الإسلامية لممثليها في الانتخابات. فالديمقراطية خيار محفوف بالمخاطر، ويجب تحمل تبعاته، وليس تحويره كما يناسب المصالح الأجنبية لبلدان أخرى نصّبت نفسها وصية على هذه الشعوب.
هل سينجح أوباما في ترجمة أقواله الموزونة إلى سياسات ناجحة؟ وهل سيسحب جنود بلاده من كافة البلاد الإسلامية؟ وهل ستفشل مساعيه لخلق حوار دبلوماسي مع إيران ويجد نفسه مقحماً في مأزق جديد مثل العراق؟ |
إنها الوصفة التي لم يحاول الغرب بعد تجريبها مع العالم الإسلامي. فهذه الجماعات والحركات الإسلامية قد اندمجت في الحقل السياسي بشكل جيد وبدأت تعرف تدريجياً نوعاً من النضوج السياسي خلال العشرين سنة الماضية يؤهلها لتحمل أشكال مختلفة من المسؤولية.
لذلك، يُعول الكثيرون على أن يتصرف أوباما بحكمة مع هذا التحدي الجديد وأن لا ينهج طريق سلفه المتهور بوش. فهذه المنظمات، مثل الإخوان المسلمين وحماس وحزب الله، تحظى بتأييد كبير لدى شرائح عريضة من مجتمعاتها، وهي تشكل خياراً إستراتيجياً موفقاً بالنسبة للإدارة الأمريكية في مواجهة التنظيمات "الجهادية التوجه" مثل القاعدة.
ويكمن التحدي الآخر في ضرورة ممارسة الضغوط على حلفاء أمريكا من الحكام العرب وحثهم على احترام إرادات شعوبهم والكف عن انتهاك حقوقهم الشرعية والإنسانية.
فعلى الرغم من نصائح "التعقل والواقعية" التي يمكن أن يجود عليه بها بعض مستشاريه، يجب على أوباما أن لا يخجل من الجهر بقول الحق: القمع السياسي هو مظهر من مظاهر انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، وهو مصدر دائم لانعدام الاستقرار والركود الاقتصادي والفكري، وهو أكبر حاضن لشتى أنواع التطرف والتشدد في صفوف الشباب الإسلامي.
وأخيراً، يجب العمل بجدية على تحقيق التزام إدارة بوش بسحب القوات الأميركية من البلدان الإسلامية لضمان نزع فتيل العداء من العلاقة بين أميركا وباقي دول العالم الإسلامي. ورغم أن أوباما قد تعهد بفعل ذلك بطريقة سلسة وتدريجية في العراق ستنتهي بحلول سنة 2012، فإنه في الغالب سيجد نفسه متورطاً في صراع مكلف وطويل الأمد داخل أفغانستان وباكستان.
وربما ستكلف هذه المنطقة بالذات الولايات المتحدة خسائر فادحة في الأموال والأرواح أكبر بكثير مما تكبدته في العراق. امتحان آخر صعب سيكون على هذا الرئيس الشاب أن يجتازه بحكمة وذكاء بينما فشل فيه الآخرون. فلا بد أن هناك سبباً وجيهاً جعل المؤرخين يطلقون على تلك المنطقة لقب "مقبرة الإمبراطوريات".
_______________
أستاذ كرسي في السياسات الخارجية الأميركية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة سارة لورنس بنيويورك.
هامش
أعد الكاتب النص لمركز الجزيرة للدراسات باللغة الإنجليزية، وترجمه منير البغدادي، وللاطلاع على الأصل بشكل PDF، إضغط هنا.