الارتباك الأميركي والتعويض عن الفشل بخطاب الصور

يحاول هذا التحليل أن يخترق كثافة المشهد السياسي الأميركي في ظل سياسة بوش ويقرأ ما يتقاطع فيه ويتزاحم من معطيات تتعلق بالشرق الأوسط.
21 November 2008









 

إعداد/ د.منذر سيلمان


تقديم
كثافة المشهد الأميركي ودلالاته
الارتباك عنوان المرحلة
الضحية الكبرى لتقرير الاستخبارات

تعدد التفسيرات
احتمال إبرام صفقة مع إيران
خطاب الصورة ونصف خطوات التفاهم



تقديم








منذر سليمان
لن يفيدنا كثيراً التوغل في غابة البحث عن الدوافع الكامنة وراء صدور تقرير الاستخبارات الأخير وتوقيته، فالحرج والضرر الذين ولدهما هذا التقرير بسمعة الإدارة وموقفها قد تحققا فعلا ولن يستطيع الرئيس بوش ردع البيروقراطية الأميركية التي تمثل عنصر الديمومة للمؤسسات الأميركية، من ممارسة أشكال مختلفة من التمرد على الإدارة، أو صون المواقع الثابتة في الجسم البيروقراطي (غير التنفيذي).


فالإدارات تأتي وترحل والجسم البيروقراطي يظل قائما ومستمرا، وغالباً ما يكون هو العجلة المحركة لكل الإدارات رغم التعيينات السياسية التي يتم إدخالها في رأس الجسم والتي يقوم بها الرؤساء. ومن المعلوم هنا أن صدور هذا التقرير يساعد هذه البيروقراطية على استعادة قدر من التوازن بين السلطات بعد سبع سنوات من حكم بوش ونائبه تشيني، مارسا فيها نوعاً من الحكم الإمبراطوري المطلق تحت مظلة الحاجة إلى الرد على هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ومنع تكرارها.


في تقديري لا يحتاج المرء لجهد كبير لقراءة ألغاز هذه الإدارة، فلم نكن بحاجة إلى صدور تقرير الاستخبارات الأخير لنستنتج استبعاد احتمال اللجوء للخيار العسكري الأميركي ضد إيران، وهو الأمر الذي رجحناه في تقديرنا السابق للموقف الذي وزعه مركز الجزيرة للدراسات. بيد أننا ندعو هنا إلى التمهل والتروي في الوصول إلى استنتاجات متسرعة حول استعداد هذه الإدارة، أو قدرتها على الدخول في ترتيبات أو صفقات شاملة مع إيران.


هذه الإدارة استنفدت كل رصيدها من توظيف فائض القوة العسكرية لتنفيذ مشروعها الإمبراطوري بالهيمنة، وهي أعجز من أن تحرز نجاحات ميدانية يعتد بها عن طريق استخدام القوة العسكرية. هاهي اليوم مثلا تسوّق لما يسمى "بصحوة" الأنبار في العراق على أنها نجاح متميز لإستراتيجيتها العسكرية الجديدة بزيادة القوات مؤخراً، أو ما اصطلح على تسميته بالوثبة (Surge) بينما يعرف القاصي والداني أن الوضع الأمني لا يزال خارج السيطرة في العراق، والمقاومة لا تزال تلحق الخسائر وتقوم بعمليات يومية ضد قوات الاحتلال والمتعاونين معها.


فليست هذه الصحوة المزعومة في حقيقة الأمر إلا غفلة من جهة المحتل للحصول على المخصصات المالية أو الرشوة، التي توزعها القوات الأميركية لشراء الولاء ولو كان مؤقتا، كي يكون هناك من هو جاهز لالتقاط الصور الباسمة التذكارية مع رموز الاحتلال وأعوانه، إنها "صحوة" عابرة وملتبسة، إذا لا يصحو ضمير المرء من أثقال ذنوب اقترفها بالتلكؤ في الدفاع عن الشعب والوطن، ليقع في أثقال ذنوب أشد على الضمير الحي عندما يغفو في حضن المحتل ويتلقى رشوة للتعامل معه.



كثافة المشهد الأميركي ودلالاته






"
توفر مساحة واسعة من الخيارات لدى الحزبين الديمقراطي والجمهوري على صعيد المرشحين سيجعل من الرئيس بوش مجرد "بطة عرجاء" في الشهور الأخيرة المتبقية من عهده وقد يتحول إلى "بطة كسيحة" ورهينة لحسابات الحزب الجمهوري الانتخابية الضاغطة
"
يستمر المشهد الأميركي في إضفاء الإثارة وإطلاق موجة من الاجتهادات والتفسيرات المتضاربة، حول الوجهة المحتملة لسياسة إدارة الرئيس بوش الابن نحو المنطقة فيما تبقى من عهده الثاني والأخير في البيت الأبيض.

لقد دأبت وسائل الإعلام على اختصار المسار الأميركي بمتابعة التركيز على الكيفية التي سيعالج بها الملف النووي الإيراني.


وتجري اليوم عمليات البحث والتنقيب في ما يصدر عن الإدارة وكبار المسؤولين من مواقف وإشارات وتصريحات، علّها تساعد على الفهم والتحليل والتفسير، رغم كثافة المشهد السياسي الأميركي الراهن حيث تتقاطع فيه، بل تتزاحم، معطيات غنية ومتضاربة.


يبقى أننا نجد أنفسنا أمام خيارين فيما يخص مسألة التفسير والتأويل، بين خيار أول حيث يُعتقد أن الرئيس بوش سيلجأ عاجلاً أم آجلاً للخيار العسكري ضد طهران، فيما يُطلِق عليه البعضُ خيارَ الألف غارة جوية وصاروخية، تستهدف أهدافا إيرانية حيوية ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بالمشروع النووي، بغية إجهاض أو تأجيل البرنامج النووي العسكري الإيراني الذي لا بد أنها تخفيه.


وخيار ثان يجزم باستبعاد لجوء الإدارة للخيار العسكري لأنها عاجزة وغير قادرة على تحمل التكلفة الباهظة التي ستنجم عنه، وتلحق الأضرار الجسيمة بها وبحلفائها في المنطقة.


يمكن تلخيص معطيات المشهد الأميركي الناظمة لحركة الإدارة أو المؤثرة في توجهاتها وخياراتها على النحو التالي:




  • رئيس مكابر ومعاند يعتقد بـ"كونية القيم الأميركية" وبأنه مفوّض من الله ومنتدب من التاريخ لتعزيز هذه القيم وتعميم النموذج الأميركي في المعمورة طوعاً أو كرهاً. والأرجح أنه سيبقى يتصرف حتى آخر لحظة من حكمه وكأنه في حالة تأهب دائمة لتنفيذ هذه "المهمة الرسولية" لا يأبه بالكوابح والضوابط التي باشرت السلطة التشريعية التي انتقلت مؤخراً للحزب الديمقراطي، بممارستها عليه، وذلك خلافا للسنوات الست المنصرمة من عهده، التي اعتاد فيها غياب المساءلة والمحاسبة.



  • حزب ديمقراطي له أغلبية بسيطة في الكونغرس، لكنها لا تكفي لفرض إرادته على الرئيس بوش، أو الاستجابة لمطالب الجناح الشعبي الفاعل في قاعدته الانتخابية من القوى المناهضة للحرب، لتحقيق الانسحاب الفوري من العراق. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أغلبية الحزب الديمقراطي كافية لإزعاج الإدارة وممارسة الرقابة والمحاسبة عليها، ولكنها ليست غالبة لأهوائها أو راجحة بما يكفي، لتجبرها على التراجع وإحداث تعديل جوهري في توجهاتها. ويلاحظ اليوم أن أبرز مرشحي الحزب الديمقراطي للرئاسة يناورون بين الاستجابة الفاترة لمبدأ الانسحاب الأميركي من العراق على مراحل دون تحديد جدول زمني، وبين من يدعو لانسحاب كبير قبل نهاية عام 2008 وتغيير مهمة الجيش الأميركي وقصرها على التدريب والمساندة.



  • لأول مرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية نشهد بداية مبكرة جداً للحملة الانتخابية، مقرونة بتوفر مساحة واسعة من الخيارات لدى الحزبين الديمقراطي والجمهوري على صعيد المرشحين، بما يترك باب التوقعات عريضاً، ومفتوحا على المفاجآت بمن سيفوز بالسباق الداخلي لدى الحزبين في الانتخابات التمهيدية.

    هذا الأمر من شأنه أن يضفي على الحملة الانتخابية الرئاسية بعداً مثيراً وجاذباً لاحتلال مساحة أوسع من المألوف في التغطية والتركيز الإعلاميين، كما أنه سيجعل من الرئيس بوش مجرد "بطة عرجاء" في الشهور التسعة الأخيرة المتبقية من عهده، بل من المرجح أن يتحول إلى "بطة كسيحة" ورهينة لحسابات الحزب الجمهوري الانتخابية الضاغطة، لتجنب اتخاذ مواقف أو إجراءات قد تهدد فرص مرشح الحزب الجمهوري العتيد في الفوز.

    ومع اشتداد الحملة الانتخابية في الربع الأول من عام 2008، وبداية مرحلة التصفية الداخلية بين المرشحين من الحزبين، قد يتحول موقع الرئاسة تدريجياً إلى ما يشبه وضع رئيس حكومة مستقيلة، تقوم بتصريف الأعمال في انتظار قدوم رئيس جديد. وعليه سيجبر الرئيس بوش على الدخول في منافسة غير متكافئة في الإعلام الأميركي لجذب الأنظار إلى موقعه ومواقفه مما سيعزز الانطباع بعجزه ومراوحته في المكان نفسه.


الارتباك عنوان المرحلة





"
عاد سراب الدولة الفلسطينية للظهور بفعل مراوغات الاتحاد الأوروبي عبر توني بلير الذي أمن منصبا للسياحة المجانية يبقيه في دائرة الضوء الذي اعتاد على بريقه
"
لم يكد يجف حبر بيان التفاهم الفلسطيني-الإسرائيلي الذي انتزعه الرئيس بوش بشق الأنفس وفي آخر لحظة قبيل افتتاحه لمهرجان أنابوليس، حتى افتضح أمر ارتباك الإدارة، وحدود قدرتها على استثمار المشهد الاحتفالي المتقن، لتبرير استدعاء 16 دولة عربية مع جامعتهم -التي لا تتذكر الإدارة وجودها إلا عند الحاجة لتوظفيها في تسويق أجندتها عربياً- لتقديم فروض الولاء والطاعة والاستعداد الجدي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، مقابل وعود معسولة بإطلاق عملية تفاوضية على المسار الفلسطيني حول هدف دولة فلسطينية افتراضية أو مؤقتة، لا تتوفر على أي شي من مقومات الوجود والاستمرار على الأرض.

فلقد سحبت إدارة بوش مشروع بيان رئاسي قدمته عبر مندوبها في الأمم المتحدة، لإضفاء مسحة دولية على مهرجان أنابوليس بإضافة ختم صوري للأمم المتحدة على أنابوليس، كما كشفت عن جوهر ما يمكن أن تفعله ميدانياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة فيما تبقى لها من الوقت الضائع، حيث عينت جنرالاً، كان مسرح عملياته في أوروبا وأفغانستان، بدلاً من منسق "خبير" في شؤون المنطقة.


وهذا الأمر يعني العودة للمقاربة الأمنية، واعتبار بوابة "محاربة الإرهاب الفلسطيني" مدخلاً وشرطاً واختباراً للإفراج عن خارطة طريق، غطاها غبار التجاهل ولونتها دماء ودموع الضحايا الفلسطينيين، وتقديمها على مذبح التفاوض المزعوم تسفكها الآلة الحربية الصهيونية دون ضابط أو رادع.


وهكذا عاد سراب الدولة الفلسطينية إلى الظهور مجددا بفعل مراوغات الاتحاد الأوروبي عبر توني بلير، الذي وجد ضالته بمنصب يؤمن له السياحة المجانية، ويبقيه في دائرة الضوء الذي اعتاد على بريقه، حين كان يخدم بجدارة كوزير خارجية احتياطي متنقل ورديف لإدارة بوش عندما كان رئيساً للوزراء في بريطانيا، ويساعده الجنرال الأميركي دايتون المراقب لمهمة جنرال ميداني أميركي آخر، يسهر على بناء الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية.


يعود إذا التفاوض الفلسطيني-الإسرائيلي إلى مربع الاختبارات الأمنية للجانب الفلسطيني، مضافاً إليه هذه المرة امتحان السلطة الفلسطينية في مدى استعدادها على الإيغال في مهمة قذرة لإشعال فتنة فلسطينية داخلية، أو تواطؤ أمني مساعد في تصفية ناشطي ما تبقى من الجسم الفلسطيني المقاوم.


لم تكتف حكومة أولمرت بممارسة الضغط لسحب ختم الأمم المتحدة عن أنابوليس، بل نسفت أية أوهام أو آمال قد علقت بأذهان السذج حول إنجاح عملية إطلاق التفاوض الاحتفالية، حين أصّرت على توسيع المستوطنات المحيطة بالقدس.


وفي الوقت الذي كانت فيه إدارة بوش تفصح عن تلعثم فاضح في خطابها، لتبرير عجزها عن تجميد اندفاعات أولمرت الساعي لصيانة مركزه المهتز بالفضائح الداخلية -وذلك عشية موعد منتظر للفضيحة الكبرى بالكشف عن تقرير "التقصير الأخطر" الجديد للجنة فينوغراد بشأن الفشل الذريع في حرب لبنان العدوانية في يوليو/تموز 2006- صدر التقدير القومي للاستخبارات القومية الأميركية حول "نوايا إيران وقدراتها النووية" مثيراً زوبعة إعلامية وسياسية أميركية وإقليمية وعالمية، لم تهدأ آثارها بعد.


إن ما أحرج الرئيس بوش ونائبه وفريق الحرب في إدارته -مما دفع هذه الإدارة إلى عقد مؤتمر صحفي على عجل في محاولة شبه يائسة لحصر الأضرار التي لحقت بها جراء تكذيب التقرير لمزاعمها في السنوات الأربع الماضية حول الملف النووي الإيراني- هو ذهاب هذا التقرير في نقطته الأولى إلى الاستنتاج بأن المخابرات الأميركية "تقدر بدرجة عالية من الثقة أن طهران قد أوقفت في خريف عام 2003 برنامجها السري للأسلحة النووية".



الضحية الكبرى لتقرير الاستخبارات: حلف المعتدلين





"
ليست مصادفة دعوة أحمدي نجاد ضيفا في دورة مجلس التعاون الخليجي الأخيرة في قطر كما تمت دعوة الرئيس الإيراني لتأدية مناسك الحج هذا العام من طرف الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز
"
لقد بدَّد تقرير الاستخبارات في لحظات ما بنته الإدارة في سنوات، من تعبئة مشحونة ونبرة التهديد والتلويح بالخيار العسكري ضد طهران، بذريعة أنها تخفي برنامجاً سرياً لتطوير السلاح النووي.

فجأة لم تعد حتى إجراءات التفاهم بالضغوط وترتيبات وقرارات العزل السياسي والدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية على طهران، محل تقدير واعتبار وتقبل من قبل العديد من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وفي مقدمتهم الصين وروسيا.


لقد منحت الاستخبارات الأميركية ذخيرة إضافية لقوى كانت تتحفظ على نهج واشنطن المتشدد حيال طهران، وهي بكل تأكيد ستساعدها على عرقلة أي توجهات إضافية لتشديد العقوبات الاقتصادية ضد إيران، بله الحديث هنا عن استخدام القوة العسكرية.


لقد جعل تقرير الاستخبارات وكالة الطاقة الذرية ورئيسها محمد البرادعي في مأمن ولو مؤقت على الأقل من الحقد الجارف عليه، بسبب مواقفه المهنية حيال الملف النووي الإيراني، كما منحه فسحة للتصرف بمسؤولية دون ضغوط وتهديدات وحملات إعلامية موجهة ومركزة ضده على خلفية إخضاعه بالكامل لرغبات إدارة بوش وتعليماتها.


أما على صعيد آخر فقد برأ تقرير الاستخبارات ولو مرحلياً ساحة الرئيس الإيراني، وعزز موقفه داخلياً، تجاه المحاولات المتكررة لوضعه في قفص الدفاع عن ركوب مركب المغامرة والتهور في معالجة الملف النووي.


ولكن الأمر الأكثر إيذاء لنهج الإدارة ومخططاتها في المنطقة هو تصدع وانفراط التحالف الذي سعت لنسجه عربياً، تحت مسمى حلف المعتدلين لتحقيق ما يمكن تسميته بإجماع إستراتيجي جديد ضد طهران، تكون فيه الدول العربية منخرطة في تحالف غير معلن مع الكيان الصهيوني، وتفاهم ضمني مع تركيا، برعاية أميركية على المستوى الإقليمي، في محاولة لتقليص التمدد أو النفوذ الإيراني الفعلي أو المزعوم، وتهيئة المناخ الملائم لتقبل اللجوء للخيار العسكري وتبعاته.


لم تكن مصادفة أن نجد أحمدي نجاد في مقعد الضيف الرئيسي الوحيد، ولأول مرة كرئيس لإيران في دورة مجلس التعاون الخليجي الأخيرة في قطر. وليس مصادفة أيضاً أن تتم دعوة الرئيس الإيراني لتأدية مناسك الحج هذا العام من طرف الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز.


بالطبع إدارة بوش لا تزال تكابر وتعاند وتتجاهل الحقائق وتتصرف وكأن سياستها في المنطقة وتجاه إيران تحظى بالتأييد والإعجاب والاستعداد للانخراط في أي مغامرة عسكرية جديدة قد ترغب في ركوبها.


وكان لافتا استمرار الإدارة عبر وزير الدفاع غيتس (غير المحسوب على المحافظين الجدد) في ترويج الحاجة إلى مظلة دفاع صاروخي لدول مجلس التعاون أثناء مشاركته في مؤتمر البحرين الأخير حول الأمن، لدرء ما يعتبره الخطر الإيراني المحدق.


بالطبع قد يكون الأمر مجرد استمرار في سياسة التخويف "بالفزاعة" الإيرانية لتبرير المزيد من المشتريات والصفقات العسكرية الأميركية لدول الخليج العربية. ولكنه مع ذلك يظل ركناً من الأركان التي تستند إليها الإدارة الأميركية في إبقاء خيار التهديد بالضربة العسكرية قائماً.



تعدد التفسيرات


تعددت التفسيرات لصدور تقرير الاستخبارات الأميركية في هذا الوقت بالذات، ولكن النتيجة تبقى هنا، وبغض النظر عن الأسباب هي إبعاد شبح الحرب.


حاول البعض تقديم تفسيرات متنوعة لصدور تقرير الاستخبارات وتوقيته. فالبعض يرى في صدوره تعبيرا عن صراع خفي ولكنه مزمن في صلب مؤسسات القرار الأميركية، قد ظهر هذه المرة للعلن على شاكلة صراع بين السلطة التنفيذية المدنية والمؤسسة العسكرية التي تخضع عادة لإمرة الأولى.


ويعزوه البعض الآخر إلى استقواء الاستخبارات بغلبة الحزب الديمقراطي في السلطة التشريعية، لممارسة رقابة على السلطة التنفيذية، واستغلال هذه الرقابة والمحاسبة لتبرئة ساحتها، مما علق بها من اتهامات طالت مصداقيتها ودورها في تقديم تقارير استخباراتية مفبركة حول أسلحة الدمار الشامل المزعومة للعراق لتبرير شن الحرب العدوانية الأميركية عام 2003.


وبغض النظر عن هذه التفسيرات المختلفة فإن الثابت من كل ذلك هو شبه إجماع لدى المعلقين على أن التقرير يهدئ من المخاوف حيال احتمالات حرب أميركية وشيكة على إيران ويضع عقبات إضافية أمام الخيار العسكري الأميركي إن لم يلغه كلياً.



 احتمال إبرام صفقة مع إيران


لقد نظر البعض للتقرير بعين الشك والريبة باعتباره خدعة بارعة مدبرة بتواطؤ بين أجهزة الاستخبارات والإدارة، لتوفير غطاء لتراجعها المرتقب عن اعتماد الخيار العسكري ضد طهران تمهيداً لفتح الباب أمام إبرام صفقة إقليمية واسعة تؤدي إلى التفاهم الأميركي-الإيراني على كل نقاط الخلاف والتجاذب بينهما، من لبنان إلى فلسطين إلى العراق، إضافة إلى معالجة هادئة للملف النووي وتجميد العقوبات الاقتصادية على طريق إلغائها.


كما تمت الإشارة إلى أن التقرير يدخل في باب "الحرب النفسية المتقنة لتقديم معلومات مضللة" يمكن تفسيرها في مختلف الاتجاهات، خاصة وأن التقرير يشير في نقاطه الأخرى إلى "ترجيح تمكن إيران من امتلاك التقنية لإنتاج اليورانيوم العالي التخصيب والضروري لإنتاج السلاح النووي في الفترة ما بين 2010-2015.


ولكن قد تتمكن من ذلك بدرجة مرجحة في أواخر عام 2009... ولا تستطيع الاستخبارات الحكم بثقة كافية إذا كانت طهران ستستمر في وقف برنامجها النووي التسليحي السري إلى ما لانهاية... أي أنها قد تحتفظ بخيارات تدفعها إلى الإسراع في تجديد برنامجها عندما ترى الوقت مناسباً".


الممر الإجباري: خطاب الصورة ونصف خطوات التفاهم





"
العم سام قادم إلى المنطقة وبمجرد انتهاء زيارته لن يبقى لحلفائه سوى الصور التذكارية وأقصى ما يستطيع إنجازه هو بيانات نصف تفاهم على نصف تهدئة على نصف حل ونصف انسحاب
"
إن هذه الإدارة مغرمة ومهووسة بإتقان تغطية عجزها وفشلها، وتوظيف موقع السلطة والرئاسة ووزنهما وإمكانياتهما في تزيين وتجميل الصورة التي تحل غالبا مكان الخطاب القاصر والوقائع المريرة والعنيدة. لنتذكر كيف خاطر بوش وقطع آلاف الأميال ليهبط بطائرته تحت جناح الظلام متسللا إلى قاعدة صحراوية عراقية معزولة، ولينتزع الصورة مع زعيم الصحوة الذي لم يهنأ طويلاً باستثمار المصافحة الودودة مع الرئيس بوش، حتى لاحقته لعنة اللقاء هذه وأودت بحياته. ولنتذكر المشهد الاحتفالي المتقن في مهرجان أنابوليس، وما أحيط به من صخب ودعاية إعلامية.

هذه الإدارة لا تعترف بأن مشروعها للعالم والمنطقة والمتمثل في تحويل القرن الواحد والعشرين أو نصفه، إلى قرن أميركي جديد يتيح لها مطلق الهيمنة على مصير العالم، يعاني من حالة تراجع وانكفاء إستراتيجي بعد انكشافه وهزيمته في ميادين التَّماس الساخنة. يجهد الرئيس بوش وكبار معاونيه أنفسهم في إظهار قتالهم التراجعي لتخفيف وطأة الاندحار وتأجيل السقوط إلى الهاوية، وكأنه هجمات تكتيكية ناجحة تبشر بالنصر الأكيد.


يبدو بالفعل أن الرئيس بوش ومن يؤيد سياسته في غفوة أو غفلة من أمره، قد حجبت عنهم رؤية الواقع على حقيقته، وهو اليوم يستعد للقيام بجولة تفقدية على مستعمراته الفعلية والافتراضية في الوطن العربي في رحلة وداعية ستكون مشحونة بخطاب الصورة الذي ينشده.


يخشى الرئيس بوش أن يلحقه التاريخ الذي لا يرحم ويحاكمه بقسوة وبشاعة عما اقترفت يداه، رغم أوهامه حول إمكانية إنصاف لاحق قد يمنحه إياه بعض كتاب التاريخ والمذكرات، لذلك فهو يراهن على ضمان مكان له في المستقبل من الآن، عبر بناء صورة طاغية من الحاضر. وفعلا سيتحلق حوله كل من انخرط في مشروعه المهزوم، من لبنان إلى العراق مروراً بفلسطين وأفغانستان والصومال والسودان، ببدلاتهم الأنيقة وابتساماتهم العريضة أمام الكاميرا، بيد أنهم لن يستطيعوا تغيير شيء من حقيقة كون المشروع الأميركي في تراجع.


فالعم سام قادم إلى المنطقة، ولكن بمجرد انتهاء زيارته ومغادرة طائرته لن يبقى لحلفائه سوى الصور التذكارية وليس أكثر من ذلك، فأقصى ما يستطيع إنجازه هو بيانات نصف تفاهم على نصف تهدئة على نصف حل ونصف انسحاب.
_______________
باحث ومحلل في شؤون الأمن القومي/واشنطن
وقد أعد التقرير في 9 يناير/كانون الثاني 2008