الحرب العالمية الأولى وأثرها في فلسطين: إرث مئة عام

يُبيِّن الكتاب أن الحرب العظمى، كما عُرفت، لم تكن أكثر الحروب تقتيلًا في التاريخ فحسب، بل أيضًا أكثرها تبديلًا للأحوال؛ فقد تمثَّل أثرها في تغيرات سياسية وثورات في كل بقاع العالم، وتمخضت عنها حدود جديدة وقررت مصير ممالك.
25 June 2018
81b702221ea14eeca4d1cf93541174c0_18.jpg
(الجزيرة)

في سياق الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى التي درات بين 28 يناير/كانون الثاني 1914 و11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، وتأثيراتها في موازين القوى الدولية والجغرافيا السياسية للمنطقة العربية وخصوصًا مستقبل الدولة الفلسطينية، أصدر مركز الجزيرة للدراسات كتابًا بعنوان "الحرب العالمية الأولى وأثرها في فلسطين: إرث مئة عام"، يبرز الانعكاسات السلبية لهذه لحرب ودبلوماسية السلام التي تلتها على مصير الشعوب العربية بالشرق الأوسط؛ إذ لم يتبيَّن إلا حديثًا أن كثيرًا من الاضطرابات في الشرق الأوسط مردُّها السياسة الاستعمارية التي ظلت مهيمنة خلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها. 

ويُبيِّن الكتاب، وهو جهد بحثي مشترك بين مركز الجزيرة للدراسات ومركز العودة الفلسطيني -جمع بين أربعة عشر من أبرز المؤرِّخين وخبراء القانون والأكاديميين والمسؤولين لدراسة الأحداث التي سبقت الحرب العالمية الأولى والأحداث التي واكبتها والتي تلتها، لكي تتكوَّن لدى القارئ رؤية مدروسة للأزمة الفلسطينية- أن الحرب العظمى، كما عُرفت، لم تكن أكثر الحروب تقتيلًا في التاريخ فحسب، بل أيضًا أكثرها تبديلًا للأحوال؛ فقد تمثَّل أثرها في تغيرات سياسية وثورات في كل بقاع العالم، وتمخضت عنها حدود جديدة وقررت مصير ممالك. وليس ثمة من هو أخبر بذلك من شعب فلسطين، الذي تأثَّر مستقبله بفعل تنامي الدعم والتأييد للهجرة اليهودية إبان الحرب. ويتضح هذا التغيير السكاني والسياسي في فلسطين اليوم اتضاحًا شديدًا؛ حيث يجد الفلسطينيون أنفسهم في نزاع طويل الأمد مع إسرائيل، ويعيشون مشردين وبلا دولة يحملون جنسيتها. وينطوي هذا الخليط من الظلم والمقاومة والكارثة الإنسانية على تبعات جيوسياسية بالغة تستحق تحليلًا تاريخيًّا وقانونيًّا ثاقبًا.

ويرصد الكتاب جذور الأزمة الفلسطينية، حيث يمثِّل وعد بلفور، وهو الرسالة التي وُجِّهت إلى اللورد روثتشايلد، في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، والتي تعهدت الحكومة البريطانية فيها علنًا بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، مرحلة مهمة في سلسلة الأحداث المتعلقة بفلسطين الحديثة والنزاع العربي-الإسرائيلي. ونظرًا إلى أنه ارتبط ولا ريب بالمجهود الحربي، فقد اقترن بمسائل ما زالت تطيل أمد النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهي: المصالح الإمبريالية أو الاستعمار الجديد في فلسطين، واللعبة الجيوستراتيجية للمسألة الشرقية، والسياسة المتعلقة بجغرافية الشرق الأوسط، ومفاهيم الدور الذي يرتبط بصوت الشتات اليهودي. وبعد قرن من اندلاع الحرب العالمية الأولى، ما زالت دوافع إصدار وعد بلفور موضوعًا للنقاش بين الباحثين. ويرى أحد الباحثين أن الكيفية التي تحوَّلت بها فلسطين فأصبحت إسرائيل تُعَدُّ "قصة مخادَعَة وخيانة لا حدَّ لهما". فعند انتهاء الحرب العالمية الأولى، لم يكن بمقدور الفلسطينيين بتاتًا أن يتصدوا لتحديات حكم استعماري بريطاني جديد عليهم بدأ عام 1917؛ حيث كانوا مزارعين بسطاء لم يكادوا يتخلصون من هيمنة تركية عليهم دامت 400 سنة، وحيث اقترن الحكم البريطاني بحركة سياسية متقدمة هي الصهيونية، التي كانت كل غاياتها وبالًا عليهم. "لقد خُدعوا وضُلِّلوا وأُخضعوا طيلة الوقت بدءًا بما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى قيام إسرائيل عام 1948. كانت بذور هذه الخيانة العظمى قد زُرعت في وعد بلفور عام 1917 ثم اعتُمدت في مؤتمر السلام في سان ريمو، وتعززت بُعيد ذلك بانتداب بريطانيا على فلسطين عام 1922". 

وأشار المؤَلَّف إلى أن الانتداب البريطاني على فلسطين كان إطارًا قانونيًّا ودستوريًّا معقدًا أدارت بريطانيا من خلاله احتلالها لفلسطين. لقد شكَّل نوعًا من القفص الحديدي للفلسطينيين، لم يتمكنوا أبدًا من الفكاك منه، سواء خلال الانتداب أو بعده. لقد قصد الساسة البريطانيون بالانتداب تحديدًا حرمان الأغلبية العربية من حقها في تقرير مصيرها بنفسها. هذا، بينما كانوا يهيئون ذلك للأقلية اليهودية. وأوضح أن الحكومات البريطانية على تعاقبها لم تكن مستعدة للتشجيع على إحراز أي تقدم في سبيل حصول الفلسطينيين على حقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم، أو في سبيل تحقيق المبدأ المتعلق بذلك وهو إنشاء حكومة تمثل مختلف الفئات، بحيث يتسنى للأغلبية العربية الساحقة في البلاد التصدي بفعالية للمشروع الصهيوني. ويرى السير مارتن غلبرت، المؤرخ البارز للحركة الصهيونية، أن "لُبَّ سياسة الانتداب البريطاني كان الحيلولة دون قيام مؤسسات تمثيلية طالما كانت هناك في فلسطين أغلبية عربية". ولا يمكن للمرء أن ينفي أنه كان ثمة بُعد عنصري للسياسة البريطانية.

من جانب آخر، يتناول الكتاب نضال اللاجئين الفلسطينيين للحصول على حماية قانونية وعلى حق العودة والتعويض وهو أمر يتعلق بنضال سياسي شامل من أجل الحصول على اعتراف فردي وجماعي باعتبارهم مدنيين ذوي مصلحة رئيسية في إطار سعي الشعب الفلسطيني ككل للحصول على حق تقرير مصيره بنفسه. ويُلخص الكتاب التاريخ المضطرب الذي نجم عن استعصاء سياسي وعن أكبر فئة من المشردين في العالم. ويقوِّم أيضًا ما نجم عن ذلك من "فجوة حماية" لهؤلاء اللاجئين، ويتطرق إلى أحدث التطورات في القانون الدولي الخاص باللاجئين والنقاشات المتعلقة بالتشريد وبتوفير إمكانات جديدة للحماية القانونية. ويخلص إلى أن وضع الالتزامات المترتبة على القانون الدولي موضع التنفيذ في إطار نقاشات سياسية وشعبية وإشراك اللاجئين الفلسطينيين فيها باعتبارهم أصحاب المصلحة الأولى كمدنيين كان لهما دور رئيسي في توفير الحماية القانونية لهم وتهيئة فرص أكبر للخروج من المأزق الذي وصلت إليه مساعي الحل السلمي. 

ويناقش الكتاب أيضًا السؤال عن الكيفية التي أكسبت بها الحربان العالميتان، الأولى والثانية، إسرائيلَ حصانةً. ويستند هذا السؤال إلى فرضية أن إسرائيل تتمتع بحصانة وأن هذه الحصانة أمر مسلَّم به. وحصانة إسرائيل هي إعفاؤها من أية مسؤولية يفرضها عليها القانون الدولي وتمتعها بوضع خاص جدًّا تمنحها إياه الدول الغربية. وقد مُنحت إسرائيل -بحكم الواقع- رخصة للقتل والاحتلال، لم تُمنَحْ إلى أية دولة أخرى غير الولايات المتحدة الأميركية.

ويبرز المؤَلَّف استراتيجيات المشروع الاستعماري في الإجهاز على فلسطين وإنشاء إسرائيل على أنقاضها فيما يعتبره تجربة فريدة في تاريخ العالم. فهذا المشروع الاستعماري غير المعتاد يتجاوز حدود أي مشروع استعماري ومناهجَه وأمدَه. لقد جمع بين عدد من العوامل يندر جدًّا أن تجتمع في مشروع غيره. من بين تلك العوامل أن المشروع استخدم المعتقدات الدينية لأقلية من سكان العالم كمبرر لاجتثاث أغلبية في البلد المستعمَر. ولتحقيق ذلك الغرض، اعتمد المشروع على افتراضين يتعلقان بمخاوف دينية وَسْواسِيَّةٍ وكُره ديني مخالف للعادة:

الأول: معاداة اليهود كساميين تُعَدُّ وباءً في أوروبا ولا يمكن أن يُقبل اليهود فيها أبدًا. والحل لابد أن يكون في مكان بعيد يمكن أن تكون لليهود علاقة به. وقد ارتأت الصهيونية أن السبب الأول لاستعمار فلسطين هو النجاة من الاضطهاد في أوروبا بيد الأوروبيين ولا علاقة لذلك بالفلسطينيين. 

الثاني: أن مقاومة الفلسطينيين للاستعمار تعزى إلى بُغضٍ لليهود لاعتبارات دينية تفرضها تعاليم الإسلام. لذا، أثارت الصهيونية خوفًا من الإسلام وطلبت النصرة من المسيحيين الذين لم يتخلَّوا عن روح الحملات الصليبية فترجموها في هذه الأيام إلى رهاب من الإسلام. ومن الشواهد على ذلك ربط إسرائيل بين المقاومة الإسلامية وبين تنظيم القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية" وبوكو حرام.

معلومات الكتاب

العنوان: الحرب العالمية الأولى وأثرها في فلسطين: إرث مئة عام

تأليف: مجموعة من الباحثين 

الناشر: مركز الجزيرة للدراسات- مركز العودة الفلسطيني- الدار العربية للعلوم ناشرون

التاريخ: 2018