تطورات الأحداث في غزة

سيطرة الجناح العسكري لحماس على مؤسسات السلطة وأجهزتها الأمنية بغزة فاجأت الدوائر الاستخبارية والسياسية الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية، ويرصد هذا التقرير الرؤى الغربية حول ما دار في غزة.
1_698873_1_34.jpg








إعداد/ د. رفيق عبد السلام


نتائج التقرير
التحليل
الرؤية الغربية لما جرى بغزة
الخيارات الغربية والتوقعات الممكنة


نتائج التقرير








رفيق عبد السلام
أولا: فاجأت سيطرة الجناح العسكري لحماس على مؤسسات السلطة وأجهزتها الأمنية في قطاع غزة، الدوائر الاستخبارية والسياسية الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية، حيث لم يتوقع أحد حسم الأمور على ذلك النحو، وبتلك السرعة التي شهدناها أواسط شهر حزيران/يونيو 2007.


ثانيا: ساهمت مجموعة من العوامل في تفاقم حدة الصراع على الساحة الفلسطينية، ومن أهم هذه العوامل:





  • تصميم الولايات المتحدة وإسرائيل على إفشال حكومة الوحدة الوطنية.


  • تشديد الحصار المالي على الفلسطينيين.


  • التردد العربي في رفع الحصار الاقتصادي والسياسي.


  • إصرار بعض الأطراف الدولية والعربية على إفشال اتفاق مكة.

ثالثا: من العوامل التي تتحكم في الرؤية الأمريكية–الإسرائيلية لأحداث غزة الأخيرة:




  • تأثير هذه الأحداث على توازنات القوى في الشرق الأوسط.


  • تأثير هذه الأحداث على حالة الاستعداد السياسي والعسكري لشن حرب ضد إيران على خلفية ملفها النووي.


  • خطورة وجود "حكم" تسيطر عليه حماس على الحدود الجنوبية الغربية لإسرائيل.


  • فقدان أداة أساسية في ضبط الوضع الفلسطيني ولجم المقاومة بانهيار الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية في غزة.


  • الخشية من أن يمتد تأثير ما حدث في غزة إلى الضفة الغربية.




"
يلاحظ خروج السلطة الفلسطينية تدريجيا من تحت المظلة العربية والتصاقها بالمطالب الأمريكية والأوروبية وهو ما قد يؤدي إلى اهتزاز علاقاتها ببعض الدول العربية ويساهم في إضعاف شرعيتها في الساحة الفلسطينية
"
رابعا: استمرار الولايات المتحدة وإسرائيل في سياستهما القائمة على تعميق الانقسام الداخلي الفلسطيني، وترسيخ الانقسام الجغرافي والسياسي بين غزة والضفة الغربية.


خامسا: الضغط على الدول العربية لثنيها عن أي محاولة للملمة الصف الفلسطيني من جديد، سعياً إلى استكمال المخطط الإسرائيلي في الاستيلاء على بقية الأراضي الفلسطينية.


سادسا: عودة الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل إلى التركيز مجدداً على أولوية الأمني على السياسي، وستعود إلى ممارسة الانتقائية في تطبيق خارطة الطريق التي جوهرها ترتيبات أمنية إسرائيلية.


سابعا: الموقف الأمريكي والإسرائيلي والأوروبي بات أكثر صعوبة بعد التطور الذي شهده الموقف الرسمي المصري إزاء الأحداث الأخيرة في غزة، خاصة رفض مصر لدخول قوات دولية إلى غزة، وكذلك إزاء الموقف السعودي المتوازن من الأحداث.


ثامنا: من العوامل التي ساهمت في تغيير الموقف المصري:




  • شعور مصر بخطورة انهيار الوضع على حدودها الشمالية، بوصف غزة امتدادا للأمن القومي المصري.


  • اقتناع الأجهزة الأمنية المصرية بتورط عدد من قيادات الأجهزة الأمنية الفلسطينية في التجسس على مصر لصالح إسرائيل.


  • الخشية المصرية من تسلل مجموعات من القاعدة إلى القطاع ومنه إلى سيناء، وما يتبع ذلك من هز الاستقرار الداخلي.

تاسعا: يسجل بعض المراقبين تطورا واضحا لدى رئاسة السلطة الفلسطينية بخروجها التدريجي من تحت المظلة العربية والتصاقها بالمطالب الأمريكية والأوروبية، وهو ما قد يؤدي إلى اهتزاز علاقاتها ببعض الدول العربية، خاصة مصر والسعودية، ويساهم في إضعاف شرعيتها داخل الساحة الفلسطينية.



التحليل





"
صممت أمريكا وإسرائيل على إفشال مشروع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ثم تشديد الحصار السياسي والمالي على الفلسطينيين
"
أخذت عملية استيلاء حركة حماس على غزة، الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، كما أخذت إسرائيل على حين غرة، بما لم يكن يدخل في دائرة الحسبان أو التوقع أصلا.

فقد فاجأت سيطرة الجناح العسكري لحماس على مؤسسات السلطة وأجهزتها الأمنية في قطاع غزة رجالات السلطة الفلسطينية، بذات القدر الذي فاجأت الدوائر الاستخبارية والسياسية الأمريكية والإسرائيلية.


صحيح أن المواجهات التي جرت في شوارع غزة وفي بقية مدن الضفة بين الفصيلين الفلسطينيين كانت توحي بتفاقم الأوضاع واتساع الشرخ الفلسطيني بما يصعب السيطرة عليه، ولكن لا أحد كان يتوقع حسم الأمور على ذلك النحو، وبتلك السرعة التي شهدناها أواسط شهر حزيران/يونيو 2007.


شهدت الأحداث انعطافة فجائية قلبت المعطيات رأسا على عقب، رغم أن الكل كان يعرف، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية قبل غيرهما، حالة الترهل التي أصابت الأجهزة الأمنية الفلسطينية، نتيجة الضربات الموجعة التي وجهها إليها الجيش الإسرائيلي منذ انطلاق الانتفاضة الثانية، وخصوصا في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الراحل ياسر عرفات، ولكن لا أحد كان يتوقع انهيارها بتلك السرعة والفجائية.



صممت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها إسرائيل على إفشال مشروع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ثم تشديد الحصار السياسي والمالي على الفلسطينيين، وأصرت بعد ذلك على إفشال اتفاق مكة بين فتح وحماس، وذلك على خلفية تعميق الصراع الداخلي الفلسطيني ودفعه دفعا نحو أتون الحرب الأهلية.


كما أن التردد الذي اتسم به الموقف العربي في رفع الحصار السياسي والمالي، رغم قرار القمة العربية التي انعقدت في الرياض برفع هذا الحصار، قد ساهم في تأجيج الصراع الفلسطيني الداخلي، وانعطاف الأمور نحو الحسم بقوة السلاح. وقد زاد في تعقيد الموقف أكثر تضايق مصر من الدور السعودي في الساحة الفلسطينية، ومحاولتها نقض اتفاق مكة وإحلال اتفاق آخر محله يكون لها الدور الأكبر فيه.


من المعلوم هنا أن تجدد الاضطرابات والاغتيالات في شوارع غزة ومدن الضفة بعد إبرام اتفاق مكة وبمدة وجيزة فقط، كان جزءا من المخطط الأمريكي الإسرائيلي الهادف إلى دفع الأمور تصاعديا باتجاه الفوضى والاقتتال الداخلي المدمر، ومن ثم إلغاء نتائج انتخابات 2006، وإعادة رسم خارطة الصراع والتحالفات في الساحة الفلسطينية على نحو جديد.


الرؤية الأمريكية والغربية لما جرى في غزة





"
تحركت إدارة بوش باتجاه تشكيل محور الاعتدال الذي يضم مصر والأردن  ودولا خليجية مضافة إليه إسرائيل، مع المراهنة في نفس الوقت على وضع هذا "المحور" في مواجهة "المحور" الإيراني السوري

"
تنظر الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها إسرائيل إلى ما جرى في غزة أواسط شهر حزيران/يونيو 2007 بخليط مركب من التشاؤم والتفاؤل، وتحكم هذه الرؤية جملة من العناصر الأساسية من بينها:


  • تأثير هذه الأحداث على توازنات القوى في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا من زاوية صراعها مع ما تعتبره محور التطرف الذي تقوده إيران وسوريا على حد قولها، فالإدارة الأمريكية لا ترى حماس سوى حلقة متقدمة من حلقات النفوذ الإيراني السوري المتعاظم في المنطقة.

    فهذه الحركة الفلسطينية، من وجهة النظر الأمريكية الإسرائيلية، هي مجموعة إرهابية تشتغل تحت رعاية وتمويل إيراني سوري، شأنها في ذلك شأن حزب الله في لبنان، وبهذا المعنى فإن ما جرى في غزة، بحسب القراءة الأمريكية الإسرائيلية، يعد بمثابة انتزاع موطئ قدم جديد لصالح "الراديكالية" الإسلامية بقيادة إيران على حساب معسكر "الاعتدال" العربي.



  • تأثير هذه الأحداث على حالة الاستعداد السياسي والعسكري لشن حرب ضد إيران على خلفية ملفها النووي، فقد عملت الإدارة الأمريكية جنبا إلى جنب مع حكومة أولمرت، وبعد حربهما على لبنان في شهر تموز/يوليو 2006، على إرباك الساحة اللبنانية وإدخالها في حالة من الصراع المنهك بين حكومة السنيورة وجماعة 14 آذار من جهة، والمعارضة اللبنانية من جهة أخرى.

    أما الهدف من كل ذلك، فهو عزل حزب الله ودفعه دفعا نحو إلقاء السلاح، ومن ثم تقليم أظافر النفوذ الإيراني السوري هناك. وبموازاة ذلك عملت إدارة بوش وبتنسيق كامل مع أولمرت على عزل حماس والحيلولة دون بلوغ أي حل وفاقي بينها وبين فتح، بما من شأنه أن يستنزف الفلسطينيين في دوامة صراعاتهم الداخلية، ويبعد النفوذ الإيراني السوري من الساحة الفلسطينية على حد قراءتها.

    وضمن السياق نفسه، أي سياق تهيئة الأجواء لهذه الحرب، تحركت إدارة بوش باتجاه تشكيل ما أسمته بمحور الاعتدال الشرق أوسطي الذي يضم مصر والأردن ودولا خليجية مضافة إليه إسرائيل، مع المراهنة في نفس الوقت على وضع هذا "المحور" في مواجهة "المحور" الإيراني السوري.

    بيد أنه يتوجب التنبيه هنا إلى أنه من الخطأ قراءة الحالة السياسية في المنطقة من خلال المخططات أو الرغبات الأمريكية، من دون رؤية الصورة في حجمها الأكبر.

    من التبسيط هنا تصوير ما سمي بمحور الاعتدال العربي وكأنه كتلة متجانسة وموحدة تلتف حول أمريكا وإسرائيل في مواجهة إيران. فإذا كان من المسلم به أن إدارة بوش، ومعها إسرائيل، تريد فعلا تكوين مثل هذه الجبهة غير المتجانسة أصلا، مثلما هي تراهن على وضعها في مواجهة إيران وحتى سوريا، فإن مجريات الأمور وتوازنات التحالفات السياسية على الأرض تجري على نحو مغاير.

    صحيح أن الكثير من الدول العربية، وعلى رأسها الدول الخليجية، تتملكها مخاوف حقيقية من امتداد النفوذ الإيراني في الساحة العراقية والخليجية، كما أنها متضايقة جدا من صعود المطامح النووية الإيرانية، إلا أنها مع ذلك لا ترغب في الاندفاع نحو حرب أمريكية تمتد تداعياتها وشظاياها إلى عموم المنطقة.

    وكذلك فإن هذه الدول العربية الموصوفة بأنها حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، لا تستطيع التنصل بالكامل من مقتضيات الصراع العربي الإسرائيلي، لتأثير ذلك على شرعيتها السياسية وأمنها الداخلي قبل أي شيء آخر.




  • أما على الجهة الأخرى فإن أمريكا، شأنها في ذلك شأن إسرائيل، ترى في وجود "حكم" تسيطر عليه حماس متاخم للحدود الجنوبية الغربية لإسرائيل، تهديدا خطيرا ومباشرا لأمنها العام.

    كما أن ثمة خشية حقيقية تنتاب الأوساط الأمريكية الإسرائيلية من أن تتحول غزة إلى مركز جاذب لمجموعة القاعدة وأمثالها من الجماعات القتالية الأخرى، وما يلحق ذلك من فتح جبهة واسعة النطاق ضد إسرائيل. ورغم ما يطبع هذا التحليل من هشاشة، فإنه مع ذلك يظل عنصرا مؤثرا في مجريات القرار السياسي الأمريكي.



  • ما يزعج إسرائيل أكثر، ومعها القوة الأمريكية وحتى الدول الأوروبية، هو حالة الانهيار التي حلت بالأجهزة الأمنية الفلسطينية في غزة وعلى رأسها جهازَا الأمن الوقائي والأمن الرئاسي، مع ما يعنيه ذلك من فقدان أداة أساسية في ضبط الوضع الفلسطيني ولجم المقاومة.

    لكن ما هو مقلق أكثر بالنسبة لأمريكا وحليفها الإسرائيلي، هو حجم المعلومات والأسرار الاستخبارية التي وقعت بحوزة حماس، بما يمس نجاعة الأداء الأمني والاستخباري الإسرائيلي في الساحة الفلسطينية، ويتعداهما إلى الجوار الإقليمي.



  • ثمة خشية حقيقية تنتاب الأوساط الأمريكية الإسرائيلية من أن تمتد ظاهرة غزة إلى الضفة الغربية، ولذلك سارعت الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي إلى جانب إسرائيل في إسناد حكومة الطوارئ بقيادة سلام فياض، ومدها بالدعم المالي والسياسي اللازمين لبقائها، وذلك للحيلولة دون انهيار الأجهزة الفلسطينية، أو تكرار سيناريو غزة في الضفة.

    فالدولة الفلسطينية بما هي أجهزة ضبط للسكان المحليين تظل حاجة إسرائيلية أمريكية أكثر مما هي حاجة فلسطينية أو عربية، ولهذا السبب ثمة ما يشبه الإجماع في مختلف دوائر القرار الدولي بضرورة وجود هذه الدولة وحمايتها، مع اختلاف حول مقدار السيادة والحدود الجغرافية الممنوحة لهذه الدولة.



  • بيد أنه على الجهة الأخرى، فإن أمريكا وإسرائيل تريان بعضا من المكاسب تحققت في غزة لابد من التقاطها والبناء عليها. فحالة الانقسام الداخلي قد أضعفت الفلسطينيين، مما قد يخلق لديهم قابلية للاستجابة للمطالب الأمريكية الإسرائيلية أكثر من ذي قبل.

    وهذا ما يفسر المسارعة بعقد قمة شرم الشيخ في مصر بعدما كان أولمرت يمتنع عن مقابلة عباس ويتذرع باستمرار غياب الشريك الفعلي على الجهة الفلسطينية. فقد راهنت إدارة بوش وحليفها الإسرائيلي على جلب الفلسطينيين، ومعهم ما يسمى بدول الاعتدال العربي، وضمهم جميعا في مواجهة ما يسمى بالخطر الأصولي الذي تمثله حماس، وإعطاء مطلق الأولوية لهذا الخطر المزعوم على قضية الاحتلال والاستيطان وحق العودة وتفكيك الجدار العازل.

    ثمة قراءة أمريكية إسرائيلية مفادها أن حل الدولتين في طريقه إلى التحول إلى حل "الثلاث دول"، أي دولة إسرائيل التي تسيطر على كل شيء في الأرض والجو، مقابل "كنتونات" الضفة الغربية التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، ومحتشد غزة الذي تسيطر عليه حماس. لقد شبه السفير الأمريكي الأسبق مارتن إنديك المعروف بعلاقته القوية بإسرائيل، الحالة الفلسطينية بعد استيلاء حماس على غزة، بمن يرتدي سروالا بمقاس قصير لرجله اليمنى وآخر طويل لرجله اليسرى، بما يجعله عاجزا عن الحركة السليمة، وبهذا المعنى، يقول إنديك، إن على إسرائيل أن تلتقط هذه الفرصة التاريخية على ما فيها من مخاطر وسلبيات تمس أمنها.

الخيارات الأمريكية والغربية والتوقعات الممكنة







  • "
    انتخاب ساركوزي القريب من أميركا رئيسا لفرنسا، ووجود حكومة ميركل اليمينية بألمانيا، فضلا عن السياسة البريطانية المنحازة تقليديا للدولة العبرية، كل ذلك يجعل من الصعوبة أن يأخذ الأوروبيون مسافة حقيقية من الموقف الأمريكي الإسرائيلي
    "
    الواضح أن إدارة بوش ومن خلفها الحليف الإسرائيلي ستستمر في سياستها القائمة على تعميق الانقسام الداخلي الفلسطيني. وعلى الجهة الأخرى ستستمر في الضغط على الدول العربية المجاورة لثنيها على إعادة لملمة الصف الفلسطيني المنقسم.

    إن ما يعني إدارة بوش والحليف الإسرائيلي في المرحلة الراهنة، هو إغراق الصف الفلسطيني بعوامل الانقسامات والصراعات الداخلية، بما يساعد على الاستمرار في سياسة تهويد الأرض وتمديد الاستيطان واستكمال الجدار العازل أكثر من أي شيء آخر.

    أما الموقف الأوروبي فلن يخرج عن الخط العام للسياسة الأمريكية الإسرائيلية، اللهم إلا من جهة اللغة السياسية التي ستكون، كما هو معهود عند الأوروبيين، هادئة ودبلوماسية لا أكثر.

    فصعود نيكولا ساركوزي إلى سدة الرئاسة في فرنسا، المعروف باقترابه من السياسة الأمريكية، إلى جانب وجود حكومة يمينية بقيادة ميركل في ألمانيا، فضلا عن السياسة البريطانية المنحازة تقليديا للدولة العبرية، كل ذلك يجعل من الصعوبة بمكان أن يأخذ الأوروبيون مسافة حقيقية من الموقف الأمريكي الإسرائيلي.



  • المرجح أن تتعمق حالة الاستقطاب والصراعات داخل حركة فتح والسلطة نفسها، بين من يعتبر الصراع مع حماس أم المعارك، ولا يرى حرجا في مزيد من الارتماء في الحضن الأمريكي الإسرائيلي على قاعدة أولوية هذه الجبهة، وبين من يشدد على أولوية مواجهة الاحتلال والمشروع الأمريكي لفلسطين والمنطقة عموما.
    وما شهدناه في الأيام الأخيرة من هجومات لاذعة على رموز فتحاوية مرموقة، ثم عزلها من مهامها لاحقا مثلما حصل مع هاني الحسن، ليس إلا مؤشرا عن الخط العام للسياسة التي تزمع السلطة انتهاجها في الآماد المنظورة.

    لقد استطاع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وبحكم ما كان يتمتع به من كاريزما، التحكم في إيقاع الصراعات داخل فتح والسلطة، بيد أن غيابه عن الساحة قد ترك فراغا كبيرا وفسح المجال أمام قوى جديدة تعزز مواقعها داخل السلطة والحركة على السواء.



  • من التبسيط هنا تصوير الصراع الذي تدور رحاه في الساحة الفلسطينية، على أنه صراع بين قطبين متقابلين لا يجمع بينهما شيء يذكر، هما حماس وفتح، من دون النظر إلى ما يجري داخل الأجسام السياسية الفلسطينية نفسها من تجاذب واستقطاب.

    ومن المعلوم هنا أن ثمة قطاعا واسعا من الفتحاويين أنفسهم يشعر بالضيق الشديد من تعاظم نفوذ مجموعة دحلان ورجالات الأجهزة الأمنية، كما أن الكثير منهم يتذكر المعركة التي فجرتها هذه المجموعة ضد الرئيس الراحل عرفات وهو محاصر بين خرائب رام الله.



  • من الواضح أن الموقف الأمريكي الإسرائيلي وحتى الأوروبي، صار أكثر صعوبة بعد التطور الأخير الذي شهده الموقف المصري، فضلا عن وجود موقف سعودي أكثر توازنا وحرصا على رأب الصدع بين فتح وحماس.

    لقد راهنت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها إسرائيل على إعادة بناء التحالفات الإقليمية في المنطقة على أساس ثنائية معسكري الاعتدال والتطرف، أي معسكر اعتدال يضم إسرائيل ومعها مصر والأردن ودول الخليج، مع سحب بقية الدول العربية نحو هذا المربع، مقابل قوس التطرف الذي يمتد من طهران إلى دمشق ويصل إلى غزة على حد رأيها، إلا أن تعديل الموقف المصري عشية انعقاد قمة شرم الشيخ قد أفرغ هذه القمة من محتواها، كما غير من مواقع الصراع بشكل غير متوقع.

    لقد تضافرت جملة من العوامل في تعديل الموقف المصري في قمة شرم الشيخ بما فاجأ الوفدين الأمريكي والإسرائيلي، بل أكثر من ذلك أحبط ملك الأردن عبد الله والرئيس الفلسطيني محمود عباس. ولعل مبعث تغيير الموقف المصري يعود إلى جملة من العوامل، من بينها:



أولا، الإحساس بجسامة الذهاب بعيدا في المخطط الأمريكي الإسرائيلي الرامي إلى تعميق الصراع الفلسطيني الداخلي، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة تمس الأمن القومي المصري في الصميم، فقضية غزة تظل بالنسبة لمصر بمثابة امتداد جغرافي وسياسي طبيعي للأرض المصرية وللأمن المصري.


ثانيا، اقتناع الأجهزة المصرية بما وصل إلى يديها من أدلة وقرائن تثبت تورط قادة في جهاز الأمن الوقائي والأمن الرئاسي والاستخبارات الفلسطينية في ممارسة الجاسوسية على مصر، وفي كون هذه المجموعة كانت على صلة بإسرائيل أكثر مما هي مرتبطة بالأجندة المصرية.

ورغم أن دحلان ورشيد أبو شباك وغيرهما لم يقطعا صلاتهما بالقاهرة، فإنه قد تبين أن علاقاتهما الإسرائيلية والأمريكية كانت أقوى وأوسع من صلاتهما بمصر.


ثالثا، الخشية التي انتابت أوساط الحكم المصري من تسلل مجموعات القاعدة إلى القطاع ومنه إلى سيناء وما يتبع ذلك من هز الاستقرار الداخلي وإضرار بالسياحة المصرية التي أصبحت مصدرا مهما للدخل المصري، كما كانت هنالك خشية من انفجار غضب حماس وجهازها العسكري القسام في وجه مصر، ولا يستبعد هنا أن تكون الأجهزة المصرية وعلى رأسها الاستخبارات العسكرية قد دفعت بشكل أو بآخر باتجاه تصحيح الموقف المصري والحيلولة دون ذهابه بعيدا في المخطط الأمريكي الإسرائيلي.




  • إزاء التطورات التي عرفها الموقف المصري باتجاه التشديد على الحوار بين فتح وحماس، مع وجود موقف سعودي متوازن من أصله، سنشهد نوعا من التجاذب داخل السلطة وحركة فتح نفسيهما، بين ما يمكن تسميته بالخيار العربي في معالجة المشكل الفلسطيني، وبين الخيار الأمريكي الإسرائيلي.
    كل المؤشرات تبين اليوم أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والمجموعة المحيطة به ينحوان تدريجيا نحو التخفف من الضغوط العربية عبر الاندفاع أكثر نحو المظلة الأمريكية الإسرائيلية. فاللغة الهجومية القاطعة التي تحدث بها رئيس السلطة ضد حماس، من قبيل وصفها بالجماعة الانقلابية والإرهابية، وتشبيهها بالقاعدة وطالبان، إلى جانب إلغاء المقابلة التي كان مزمعا عقدها بينه وبين الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز (بغض النظر عمن اتخذ قرار الإلغاء)، ثم دعوته إلى إحلال قوات دولية في القطاع والضفة، كلها توحي بأن السلطة ستستند إلى الخارج في معرض معركتها الداخلية مع حماس.



  • نحن اليوم إزاء التطور الأخطر في وضع السلطة الفلسطينية، وهو خروجها التدريجي من تحت المظلة العربية، مقابل مزيد الالتصاق بالمطالب الأمريكية الأوروبية (ومن خلفها الإسرائيلية طبعا)، وهذا يعني فيما يعنيه، أن الرئيس محمود عباس أصبح يعول على الإسناد الغربي في حماية نفسه وتثبيت أركان حكمه أكثر مما يعول على الدعم العربي.

    لا شك أن مثل هذه السياسة تضعه في احتكاك مباشر مع توجهات الدول العربية المؤثرة في الملف الفلسطيني وعلى رأسها مصر والمملكة العربية السعودية، كما أن مثل هذه السياسة تساهم في إضعاف شرعيته الداخلية المهتزة من أصلها، فمطلب استقدام قوات دولية إلى غزة مثلا، الذي أعلنه خلال حضوره مؤتمر الاشتراكية الدولية المنعقد بجنيف يوم الجمعة 29 حزيران/يونيو 2007، يضعه في صدام مباشر مع مصر التي ترى في جلب مثل هذه القوات محرما سياسيا لا يمكن الاقتراب منه.

    نقول هنا إن هذا الأمر يمثل التطور الأخطر في وضع السلطة الفلسطينية، لأنه مهما قيل عن أخطاء الرئيس الراحل عرفات، فقد ظل طيلة فترة حكمه ومنذ توقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993، وحتى في أصعب الظروف التي مر بها، حريصا على الاحتماء بالغطاء العربي، وحينما رفض الانزلاق نحو ممارسة دور "أنطوان لحد" بجنوب لبنان على نحو ما كان مطلوبا منه، انتهى محاصرا بمبنى المقاطعة في رام الله.

    أما اليوم فإننا نشهد ميلا متزايدا نحو الارتباط بالأجندة الأمريكية والأوروبية على حساب الأجندة العربية. وإلا فما معنى أن يستمر محمود عباس في عناده، وألا يستجيب لمطلب الحوار الداخلي الذي نادت به مصر والسعودية؟

    وما معنى أن يطالب باستجلاب القوات الدولية إلى غزة في الوقت الذي يعرف رفض مصر وحتى بقية الدول العربية لمثل هذا المطلب؟ وما معنى أن يصل الأمر حد إلغاء مقابلة كانت مبرمجة مع الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز؟



  • ستعمل إدارة بوش على مزيد من عزل الضفة عن القطاع بما يرسخ واقع الانقسام الجغرافي والسياسي بين هذين الكيانين، وستعيد هذه الإدارة تكرار تجربة ألمانيا الشرقية والغربية في حقبة الحرب الباردة على الساحة الفلسطينية المصغرة هذه المرة. فالأمور تسير باتجاه واقع احتلال "مرفه" بعض الشيء في الضفة الغربية، مقابل وجه آخر من الاحتلال المغلظ في القطاع، يقوم على تشديد الحصار وسياسة العزل وتكرار الاجتياحات والإغلاق.

    إنها حالة تذكر ببرلين شرقية "بائسة"، كانت تقع تحت المظلة الشيوعية في حقبة الحرب الباردة، مقابل برلين غربية مرفهة وشاهدة على نجاح النموذج الليبرالي الديمقراطي. من الواضح هنا أن إسرائيل بصدد استخدام الجزرة في الضفة الغربية مقابل العصا الغليظة في غزة، وليست الاجتياحات الأخيرة لغزة إلا جزءا من المخطط الإسرائيلي الساعي إلى إرباك القطاع وإدخاله في دوامة عدم الاستقرار الدائم، ومن المؤكد هنا أن تتلوها اجتياحات وتدخلات لاحقة لا حصر لها.



  • ستعيد إسرائيل وأمريكا ومعهما الأوروبيون أيضا، التركيز مجددا على أولوية الأمني على السياسي، كما هو معهود دوما، أي العودة الانتقائية لخارطة الطريق، التي هي في جوهرها ترتيبات أمنية إسرائيلية.

    فالمطلب الرئيس سيظل تفكيك ما يسمى بالبنى التحتية للإرهاب وإعادة بناء الأجهزة الأمنية بما يسمح بقيام الفلسطينيين بالتزاماتهم الأمنية على الوجه الأكمل، على أمل أن يتم التفكير لاحقا في إقامة الدولة الفلسطينية بحدودها "المؤقتة" في الضفة الغربية.

    يكاد يتركز الرهان الأمريكي الغربي في الوضع الراهن، على تجميد الجبهة الفلسطينية بعض الشيء من أجل التفرغ لمعارك أخرى ذات أولوية، خصوصا في الساحتين الإيرانية والعراقية. لقد جاء تدخل إدارة بوش لإعادة تثبيت حكومة أولمرت المتهاوية، والضغط باتجاه إغلاق ملف الصراعات الإسرائيلية الداخلية، بهدف رصّ الجبهة الداخلية الإسرائيلية استعدادا لمواجهة جبهات أخرى وخوض معارك قادمة بالغة الأولوية والحيوية من المنظار الأمريكي الإسرائيلي.



  • إن تعيين رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير مبعوثا للرباعية في الشرق الأوسط، سيعيد إخراج الحلول الأمريكية الإسرائيلية مجددا وتسويقها هذه المرة في لبوس دولي وغلاف الوساطة النزيهة والمحايدة، ولعل هذا ما يفسر الحفاوة التي قوبل بها هذا التعيين من طرف القادة الإسرائيليين. إن أولوية توني بلير تتمثل من جهة في إعادة بناء "الدولة" الفلسطينية، بما هي هياكل وأجهزة قبل أي شيء آخر، ما دام جوهر المشكل من منظار بلير والأمريكيين، يتمثل أساسا في عدم تحمل الطرف الفلسطيني مسؤوليته الكاملة في لجم "الإرهاب"، ومن جهة أخرى في طمأنة الإسرائيليين بما يكفي على أمنهم واستقرارهم.

    إن تصور توني بلير لحل القضية الفلسطينية لا يخرج في حقيقة الأمر عن حدود الرؤية الأمريكية الإسرائيلية. إن تعيين ابن الملياردير اليهودي دنيال ليفي مستشارا لبلير في مهمته الجديدة خلفا لوالده دايفد ليفي، الذي كان يقوم بمهمة مبعوث بلير الخاص للشرق الأوسط حينما كان يتولى مقاليد رئاسة الوزراء، ليس إلا مؤشرا على نوعية السياسة التي سينتهجها.



  • الأرجح هنا أن يعود مشروع إرسال قوات دولية إلى القطاع والضفة إلى السطح مجددا، وهو المشروع الذي كان مطروحا بقوة منذ سنة 2003، إلا أن ورطة الاحتلال الأمريكي للعراق قضى بتجميده بعض الوقت، ذلك أن تعيين توني بلير الذي هو من أصله مقتنع بهذه المهمة، فضلا عن ارتفاع أصوات من داخل السلطة نفسها تطالب، ولأول مرة، باستقدام مثل هذه القوات الدولية، من شأنه أن يعيد هذا الملف مجددا إلى رأس الأولويات.



  • القراءة التي تحكم رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير ومبعوث الرباعية اليوم، هي أن القضية الفلسطينية قد أضحت تمثل ذريعة للجماعات "الإرهابية" في عموم الشرق الأوسط وما بعده، ومن ثم لابد من نزع هذا السلاح من أيدي هذه الجماعات عبر فرض "حل" أمريكي إسرائيلي على الفلسطينيين. يقوم هذا "الحل" على منح الفلسطينيين ما تبقيه آلة الاستيطان والتوسع الإسرائيليين، شريطة أن يثبت الفلسطينيون جدارتهم بهذا الاستحقاق، عبر تفكيك الشبكات "الإرهابية" وتحسين نجاعة الأجهزة الأمنية.

    كل المؤشرات تبين أننا إزاء هجمة سياسية ودبلوماسية أمريكية إسرائيلية جديدة على المنطقة ستكون الساحة الفلسطينية إحدى ميادينها الأساسية. فقد عودتنا خبرة السنوات الماضية أنه كلما تم الاستعداد لحرب في موقع من مواقع المنطقة، تم تحريك الآلة السياسية والدبلوماسية على الجبهة الفلسطينية. نحن هنا إزاء عملية تهدئة قسرية للملف الفلسطيني عبر طرح حلول مغشوشة، للتفرغ لاحقا لملفات صراع أخرى باتت تحظى بمطلق الأولوية على رأسها الملفان الإيراني والعراقي، أكثر مما نحن إزاء معالجة جادة ومنصفة لهذا الملف البالغ التعقيد.

_______________
باحث في مركز الجزيرة للدراسات