قرار اعتقال الرئيس البشير.. الخلفيات الدولية والتداعيات

سيتسبب قرار توقيف الرئيس عمر البشير بخلق أوضاع خطيرة في السودان تتعدى الداخل السوداني إلى الإطارين الإقليمي والدولي، إضافة إلى القانوني، ونقل القرار سياسة "ازدواجية المعايير" والكيل بمكيالين من المجال السياسي إلى المجال القانوني.
22 March 2009







 

هانئ رسلان


سيتسبب قرار توقيف الرئيس عمر البشير بخلق أوضاع خطيرة في السودان تتعدى الداخل السوداني إلى الإطارين الإقليمي والدولي، إضافة إلى القانوني حول ما يتعلق بحصانة الرؤساء وسيادة الدولة، وأي قواعد تعلو فوق الأخرى، وأيها الأولى بالتطبيق. ونقل القرار سياسة "ازدواجية المعايير" والكيل بمكيالين من المجال السياسي إلى المجال القانوني عبر تحول المحكمة إلى أداة قانونية تستخدم من قبل القوى المهيمنة على النظام الدولي لتحقيق أغراض سياسية.


وقد استندت المحكمة الجنائية الدولية في تناولها لأزمة دارفور، إلى تحويل هذا الملف إليها من مجلس الأمن الدولي عبر القرار 1593 الصادر في 31 مارس/آذار 2005، في الوقت الذي رفضت فيه حكومة السودان الاعتراف بولاية المحكمة على السودان أو انعقاد الاختصاص لها، على أساس أن السودان ليس عضوا في ميثاق روما لعام 1998، الذي أنشئت هذه المحكمة بمقتضاه.


مخاطر وتداعيات قرار التوقيف
التعامل الغربي مع أزمة المحكمة
إدارة أوباما والقرار
الموقفان العربي والأفريقي
الدعم الصيني
الدعم الروسي


مخاطر وتداعيات قرار التوقيف


بعد صدور قرار قضاة المحكمة في 4 مارس/آذار 2009 بطلب توقيف واعتقال البشير، بقي الجدل القانوني حول الأزمة محتفظا بأهميته النسبية على المستويين الإقليمي والدولي، بينما تراجعت أهميته بالنسبة للداخل السوداني، إذ أن هناك أضرارا سياسية هائلة قد لحقت بمجمل العمليات السياسية في السودان يمكن إجمال أهمها على النحو التالي:






  1. نقل القرار سياسة "ازدواجية المعايير" والكيل بمكيالين من المجال السياسي إلى المجال القانوني عبر تحول المحكمة إلى أداة قانونية تستخدم من قبل القوى المهيمنة على النظام الدولي لتحقيق أغراض سياسية
    القرار سوف يقطع الطريق على أي تسوية سياسية محتملة لأزمة دارفور.


  2. سيحدث إرباكا هائلا في داخل السودان، وسوف يحدث انقلابا في الأولويات المتعلقة بالعمليات السياسية الجارية، إذ ستكون الأولوية المطلقة التي سوف تسخر لها كل الطاقات هي تلك المتعلقة بأزمة المحكمة وكيفية تجاوزها، الأمر الذي سوف ينعكس سلبا على عملية الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة والتي كان من المتوقع إجراؤها في النصف الثاني من هذا العام (2009).

    كما قد يؤثر سلبا على تطبيقات اتفاقية "نيفاشا" وبخاصة فيما يتعلق بالانتهاء من ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب والخلاف حول عوائد البترول، بل قد تتحول هذه القضايا إلى استخدامها كأسلحة أو أوراق للضغط، خاصة بعد أن تبين عزم الحكومة السودانية على اعتماد نهج المواجهة الشاملة والمفتوحة مع التحالف الغربي.


  3. وفى ظل التفاعلات السياسية الحالية في السودان والتي تتسم بالاحتقان، حيث لا يوجد اتفاق إلا على نقطة واحدة هي عدم تسليم البشير -أما ما عدا ذلك، فإن هناك اختلافا في الدوافع والرؤى والاجتهادات حول كيفية التعامل مع الأزمة- يجب التنبيه إلى أن الاعتماد على نهج المواجهة الشاملة والمفتوحة، ومحاولة تكرار السيناريو المتعلق بأزمة القرار 1706، من خلال التشبث بالرفض المطلق والتلويح بهدم المعبد على رؤوس الجميع، كترياق للضغوط الغربية، قد يؤدي هذه المرة إذا لم يتم فتح مسارات بديلة، إلى خلق حالة من التهديد لوحدة السودان وتماسك أراضيه.

    فمن المتوقع إذا استمرت الأمور طبقا لسيناريو التصعيد الحالي، أن تكون هناك قرارات إضافية من مجلس الأمن بعقوبات دبلوماسية أو اقتصادية على السودان، سوف تؤدى بدورها إلى حدوث تشققات في حالة التعبئة الحالية، الأمر الذي قد ينتهي ضمن سيناريوهات أخرى إلى اتساع بؤر التوتر أو انفجار تمردات أخرى، أو الانزلاق إلى حالة من الفوضى، لاسيما أن هناك أزمة اقتصادية نتيجة انخفاض أسعار النفط إلى أقل من أربعين دولارا للبرميل الواحد، في الوقت الذي يعتمد السودان فيه على ما يقرب من 90% من موارده بالعملة الصعبة على مداخيله النفطية.


  4. لن تقتصر التداعيات المحتملة لهذه الأزمة في هذه الحالة على السودان فقط، بل سوف تنجم عنها مجموعة من الاختلالات قد تمثل تهديدا كبيرا لمنطقة واسعة من الحدود المصرية والليبية في الشمال، وصولا إلى منطقة البحيرات العظمى والقرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر، الأمر الذي يتشابه إلى حد كبير مع الحالة العراقية وما أفرزته من ارتباكات إقليمية ودولية.


  5. بالنظر إلى الإطار العام لأزمة السودان يمكن قول الآتي: إن السودان من المنظور الغربي في مرحلة انتقالية، وبناء على هذا التوصيف فإن كل الاتفاقات السابقة جاءت في هذا السياق، بدءا من الاعتراف بحق الجنوب في تقرير المصير عام 2002 مرورا باتفاقية نيفاشا عام 2005 التي أرست وجهة الجنوب نحو الانفصال. لكن الأخيرة فقدت بعضا من قوتها الدافعة بموت جون قرنق المفاجئ، فكان الحل بتحويل أزمة دارفور إلى أداة لتنشيط آليات اتفاقية نيفاشا، وجاءت المحكمة وقراراتها في السياق نفسه الذي اندرجت فيه هذه الاتفاقيات.


  6. وجاءت المحكمة أيضا في سياق استخدام أزمة دارفور لاستنزاف نظام الإنقاذ لإزاحته من الساحة، وأيضا لإعادة تجزئة الإقليم الشمالي، وذلك عبر التصعيد المتسارع بنقل مطالب الحركات المسلحة في الإقليم من مطالب تنموية إلى سياسية، ثم سرعان ما تم الانتقال إلى المطالبة بتوحيد ولايات دارفور الثلاث في إقليم واحد على غرار الإقليم الجنوبي، وبصلاحيات على غرار تلك التي منحتها نيفاشا للجنوبيين، مع ظهور المطالبة بحق تقرير المصير أو الاستقلال بشكل خافت ومتقطع من آن لآخر.


  7. ستضع أزمة المحكمة الجنائية- إن لم يتم تجاوزها والتغلب عليها - دارفور على مسار مشكلة جنوب السودان، حيث يطول بها الأمد حتى تشعر الأطراف بالإرهاق والاستنزاف، فيصبح الحل الطبيعي هو إنهاء الحرب بأي ثمن حتى لو كان حق تقرير المصير أو الانفصال.


  8. إن خطورة ما يحدث في دارفور، يتمثل في أن أي تسوية يتم إقرارها في هذا الإقليم المأزوم سوف تنتقل إلى إقليم كردفان المجاور لدارفور من الجنوب الشرقي، ثم إلى إقليم الشرق، وبعدها إلى أقصى شمال السودان.

    وبمعنى آخر سيتحول السودان إلى التجزئة من الداخل، عبر التحول إلى مجموعة من الكانتونات المتجاورة والتي تربطها علاقات تنافس أو صراع، كما أن هذه الكانتونات ستكون مأزومة من داخلها، وقد ينتهي الأمر بحالات انفصال أو حالات مزمنة من عدم الاستقرار.

التعامل الغربي مع أزمة المحكمة 





السودان في المنظار الغربي والإسرائيلي أكبر مما يجب أن يبقى كدولة موحدة، وهناك سعي لتجزئته أو تقسيمه إلى دويلات، مع ضمان الهيمنة الغربية على ثرواته وإخراج القوى الأخرى مثل الصين وغيرها من الدول الشرق آسيوية منه.
يعتمد النهج الغربي في التعامل مع السودان على إبقائه تحت ضغوط مستمرة تقود إلى سلسلة متصلة من التنازلات، التي تؤدي في النهاية إلى الهيمنة الغربية على مقدرات السودان وثرواته، فالسودان في المنظار الغربي والإسرائيلي أكبر مما يجب أن يبقى كدولة موحدة - وقد أشار إلى ذلك صراحة تقرير صادر عن " آفى ديختر" وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الحالي – وهناك سعي لتجزئته أو تقسيمه إلى دويلات، مع ضمان الهيمنة الغربية على ثرواته وإخراج القوى الأخرى مثل الصين وغيرها من الدول الشرق آسيوية منه.

ولذلك فإن أزمة المحكمة تستخدم كواحدة من حلقات الضغط، فمجلس الأمن يمكنه إصدار قرار جديد بتجميد قرارات المحكمة لعام قابل للتجديد، أي أن المحكمة تمثل أداة مثالية لفرض الضغوط والتهديدات أو رفعها، وذلك حسب الطلب أو الحاجة ويمكن توقع الآتي:



  1. الموافقة على قرار التجميد بعد الحصول على تنازلات جديدة من الحكومة السودانية عبر تفاهمات مسبقة، ويتم تجديد القرار عاما بعام، لتجبر الحكومة السودانية على القبول بتسوية سياسية تقضي:

    "بجعل ولايات دارفور الثلاث إقليما واحدا بحكومة إقليمية على غرار جنوب السودان، وأن تعطي صلاحيات هائلة لهذه الحكومة تغل يد الحكومة القومية في الخرطوم وتضع مقدرات الإقليم في يد العناصر التي يتم تحضيرها الآن، والتي أصبح بعضها أداة علنية في يد إسرائيل وأجهزة الاستخبارات الغربية".

    الأمر الذي يعني أن المستهدف هو سيناريو التجزئة من الداخل لكل السودان كمرحلة انتقالية، قد يعقبها الفصل الكامل لإقليم دارفور فيما بعد، مع إمكانية تكرار السيناريو في أقاليم أخرى.


  2. وهناك احتمال ثان ينصرف إلى رفض الدول الغربية الثلاث صاحبة الفيتو، لمسألة التجميد هذه، ومن ثم محاولة فرض منطقة حظر جوي على منطقة دارفور، على غرار الحظر الجوي على المنطقة الكردية في العراق، أو فرض عقوبات دبلوماسية واقتصادية على السودان، عبر قرارات جديدة من مجلس الأمن، الأمر الذي يعني المزيد من التعقيد لأزمة دارفور وللأوضاع الداخلية الأخرى، والذي يعني من الناحية العملية أن هناك تغيرا في منهج التعامل مع السودان باتجاه تسريع عمليات عدم الاستقرار وصولا إلى التجزئة.


  3. أو أنه يمثل دعوة صريحة لسيناريو ثالث يعمل على تنحية الرئيس البشير فيما ينظر إليه باعتباره استجابة لتحديات الوضع القانوني الذي يفرزه قرار المحكمة، ولكنه سيكون مقرونا بإحداث تحولات كاملة في توجهات النظام وسياساته.

    إلا أن هذا الأمر نفسه محفوف بمخاطر جمة في التطبيق، ويبدو أيضا محدود الفائدة، فمن الممكن تكرار نفس الاتهامات لمعظم القادة الحاليين للنظام استنادا إلى المبرر نفسه وهو المسئولية عن الانتهاكات في دارفور على أساس تسلسل القيادة.

إدارة أوباما والقرار 





واشنطن حريصة على عدم الدفع بالأمور في السودان إلى حالة الانهيار أو الفوضى، لأنها تدرك عواقب المسار العراقي وتداعياته غير المحسوبة
ومن الواضح أن إدارة أوباما الجديدة لم تعقد العزم حتى الآن على إجراءات تصعيد سريعة، حيث لم يتطرق أوباما إلى الأزمة إلا في تصريحات محدودة حول طرد السودان لبعض منظمات الإغاثة الغربية، بينما ترك لكل من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومندوبته في مجلس الأمن سوزان رايس التلويح بمنطقة الحظر الجوي فيما يبدو تحذيرا للحكومة السودانية، بحيث يكون قابلا للتطبيق دون الذهاب في المواجهة إلى حدها الأقصى.

ومن المتصور حتى الآن أن السيناريو الأكثر احتمالا هو التحول إلى تجميد قرار المحكمة إذا كانت هناك مرونة ما من الحكومة السودانية، فواشنطن حريصة على عدم الدفع بالأمور في السودان إلى حالة الانهيار أو الفوضى، لأنها تدرك عواقب المسار العراقي وتداعياته غير المحسوبة، ولذا فإنها تفضل على ما يبدو الاحتفاظ بالإيقاع التدرجي البطيء، الذي وإن استغرق زمنا أطول، إلا أنه أكثر جدوى في الوصول إلى الأهداف المبتغاة مع تقليل الخسائر المحتملة.


الموقفان العربي والأفريقي 


رفضت الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي القرار وقامت بالتنسيق فيما بينهما باعتبارهما المنظمتين الإقليميتين المعنيتين بما يحدث في السودان، إلا أنه من الواضح أن تحركاتهما ستكون غير كافية وغير مجدية حتى الآن باعتبار أن الساحة الرئيسية للتفاعلات في المرحلة القادمة ستكون في مجلس الأمن، الأمر الذي يتطلب تنسيقا واضحا ومشاورات لصيقة مع كل من الصين وروسيا، وهما الدولتان صاحبتا الفيتو في مجلس الأمن للحيلولة دون صدور أي قرار جديد ضد السودان في مجلس الأمن.


الدعم الصيني 


والصين وإن كانت تؤيد السودان بحكم مصالحها الاقتصادية هناك، إلا أنه من الواضح أنها غير راغبة في الاصطدام بواشنطن من أجل النفط السوداني، فبكين لها حسابات تتعلق بخططها للمستقبل والتي تعتمد على التركيز على التنمية والبناء الاقتصادي وتفادي دخول أي مواجهات مع واشنطن، والدليل على ذلك أن الصين لم تستخدم الفيتو على الإطلاق للحيلولة دون صدور أي قرار حتى الآن ضد السودان، ولذا فإن الموقف الصيني يحتاج إلى حاضنة أفريقية عربية، تمثل له ثقلا مصلحيا لإقناعه باتخاذ موقف أكثر حزما في مجلس الأمن.


الدعم الروسي 


أما الموقف الروسي فهو أقل ارتباطا بالسودان وما يحدث فيه من تفاعلات أو تطورات، ومؤازرة روسيا للسودان تأتي في إطار محاولاتها لاستعادة دورها المفقود في النظام الدولي، وغني عن القول أنه يمكن لموسكو أن تتنازل عن ممانعتها بشأن قضية المحكمة إذا تمت مقايضتها على ذلك من قبل واشنطن في الكثير من الملفات المتداخلة بينهما.
_______________
رئيس برنامج دراسات السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية