مستقبل الأوضاع في غزة بعد الأحداث الأخيرة

طرحت الأحداث التي جرت بقطاع غزة بين حركتي فتح وحماس وضعا مفتوحا على جميع الاحتمالات ويحاول هذا التحليل أن يرصد طبيعة الحالة الغزية وتعامل أطراف الأزمة مع هذا الواقع الجديد فضلا عن مواقف الأطراف الخارجية








شارك في الإعداد/ د. محمد عبد السلام


أ. أنيس النقاش


النتائج والتوصيات
تقدير المواقف المختلفة
القنبلة الموقوتة
تقدير موقف حول الأوضاع في غزة



النتائج والتوصيات









  • تشكل المرحلة التي تلت أحداث غزة الأخيرة مرحلة انتقالية مفتوحة على جميع الاحتمالات، والراجح أن الفترة القادمة ستعرف حالة من عدم اليقين إزاء ما سيحدث، وأن كافة الأطراف ستتعامل مع هذا الواقع الجديد بطريقة تجريبية.



  • لا يتوقع أن تلوح في الأفق حلول سياسية بين فتح وحماس، وهذا ما قد يكون مطلبًا أميركيًّا إسرائيليًّا.



  • يحذّر بعض المراقبين من أن شرارة الأزمة الأولى التي تتجه نحوها المنطقة ستنطلق من غزة أو لبنان, وليس من الضروري أن تكون المبادرة بيد الطرف الأميركي وحليفه الإسرائيلي لتحديد وجهتها واتساع رقعتها.



  • هناك أطراف عديدة بدأت تتعامل مع هذه الأزمة بوصفها فرصة سانحة مهمة لإعادة ترتيب أوضاع الشرق الأوسط المعلقة منذ فترة طويلة، وبالتالي فإن الطرفين اللذين بدآ المعركة لن يتمكنا لوحدهما من إنهائها، حتى لو أرادا ذلك.



  • السلوك المحتمل لأطراف الأزمة

تقدير المواقف المختلفة





"
من أساسيات موقف السلطة الفلسطينية خنق حماس في غزة، ورفع الغطاء الوطني عنها، واتهامها بأنها حركة أصولية ذات ارتباطات مع قوى إقليمية
"
واضح أن معظم أطراف الأزمة قد قيّموها على أنها تمثل تهديدا لمصالحهم الحيوية الرئيسية المتعلقة بالأمن القومي، كالدفاع أو الاستقرار أو التنمية أو المكانة، وبالتالي بدؤوا يُحددون توجهات ثابتة، شبه معلنة، تحكم تحركاتهم المحتملة، مع استعداد للمرونة في أساليب التطبيق، وإعادة تقدير مواقفهم كل فترة وفقا لتطورات الموقف، ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى ما يلي:

تقدير موقف حركة حماس
أمام حركة حماس عدة سيناريوهات ستجربها تباعا على الأرجح، وأولها خيار الاستمرار في إقامة كيان خاص يفرض نفسه على أرض الواقع، من توحيد السلاح والقرار الأمني، وتحرير المخطوفين، ووقف انطلاق الصواريخ، وإقامة جهاز اتصال مع إسرائيل (ربما من ضباط فتح المنشقين)، وفتح اتصالات مع كل الأطراف لعقد صفقات لتحسين الوضع، وبدء تطبيق سياسة الخدمات الداخلية، وهى أمور لن يتم تجاهلها ببساطة، حتى من جانب إسرائيل. لكنها في الفترة التالية – في حالة فشل هذا الخيار – قد تجرب ما يلي:



أ - سياسة المغامرة المحسوبة، وبدء سياسة "المجسات" الخشنة، خاصة تجاه إسرائيل (السماح بانطلاق بعض الصواريخ مثلاً، وبعض أعمال المقاومة المحسوبة)، مع تحرك وسطاء قريبين من الحركة لطرح فكرة احتواء الموقف.


ب – سياسة المواجهة الحادة، وبدء خوض حرب محدودة ضد الأطراف المحيطة في حالة فشل السيناريو السابق، ويأس الحركة من تفاهم الأطراف الأخرى معها، ووصول سياسات خنقها وإفقادها مصداقيتها لدرجة تهددها تنظيميا.


تقدير موقف السلطة الوطنية الفلسطينية
السلطة الفلسطينية بدأت بالفعل في محاولة ترتيب بعض أوضاع فتح الداخلية، ليس فقط لاحتواء الغضب على أدائها، لكن لوجود اقتناع بأنه إذا لم تحل مشكلة فتح فلن تحل مشكلة حماس، وتسير الترتيبات في اتجاه دعم قوة الرئيس محمود عباس، بالتخلص من بعض المناوئين، وقد يظهر "مروان البرغوثي" في الصورة ليدعم هذا الاتجاه.


وبالتوازي مع ذلك قد تبدأ السلطة في التقدم باتجاه الورقة الأهم، وهى التسوية السلمية للمشكلات الفلسطينية الإسرائيلية، في ظل أطر كثيرة أصبحت كلها مطروحة مرة واحدة، بداية من حل الدولتين، مرورا بالتدويل، ووصولا إلى الدولة المؤقتة التي تتسع فيما بعد، وقد يكون من الممكن أن تحقق الحركة بعض النتائج إن هي سارت في هذا الاتجاه.


بالنسبة لغزة، ستكون الخطوط الفاصلة رفيعة، فالهدف النهائي هو استعادة غزة في فترة قصيرة نسبيا، قبل أن تحتد المشاكل القانونية بالنسبة لحكومة الطوارئ (وإن لم يكن ذلك محددا حاسما)، وما يبدو معقولا حاليا هو فرض نوع من العقوبات الذكية التي تمس حماس دون أن تمس المواطنين في القطاع، وهناك إستراتيجيات مختلفة كالعصيان المدني الزاحف (بتقديم الرواتب لموظفي السلطة وعناصر الأمن الرسميين، مع عدم عملهم، وإلغاء وثائق سفر غزة كما حدث بالفعل) لإفقاد حماس سلطتها، مع الاعتماد في مرحلة تالية على جمهور فتح في غزة، وحصار حماس ماليا بوسائل قد تربك قياداتها، فالفكرة هي خنق حماس في غزة، ورفع الغطاء الوطني عنها، واتهامها بأنها حركة أصولية ذات ارتباطات مع قوى إقليمية (سوريا وإيران)، والاستمرار في مهاجمة الحركة بوصفها تنفذ سياسة هذه القوى.


موقف الفصائل الفلسطينية الأخرى
الفصائل الأخرى -باستثناء الجهاد- يبدو موقفها خجولاً وغير فعال، رغم أنها قد تكون أقرب من الناحية السياسية لحماس، إلا أنها لأسباب أيديولوجية تخشى من انتصار حماس في أية معركة سياسية أو عسكرية، وتجلى ذلك في اصطفاف هذه القوى خلف فتح وفي عدم دخول حكومة وحدة وطنية مع حماس من دون مشاركة فتح بداية.


هذه المواقف الخجولة التي عبرت عنها بقية الفصائل الفلسطينية لا تلتفت إلى أن أصل المشكلة الفعلي الكامن في الخطة الأميركية التي يشرف عليها الجنرال دايتون لتقسيم الفلسطينيين وإيقاع الفرقة بينهم، عوض حماس على غزة.


تقدير الموقف المصري



"
سوف تبني مصر إستراتيجية تستند إلى إدراك محدد لخطورة ما تقوم به حركة حماس وتعمل على تطبيقها بأساليب مرنة لا تؤدي إلى اختناق حركة حماس أو انفجار قطاع غزة
"
إن لدى مصر أهدافا ثابتة، فهي تعتبر أن ما حدث في غزة يمثل تهديدا لأمنها القومي، وتتمثل أهدافها ضمن الوضع الراهن في منع إقامة "دويلة إسلامية" على حدودها، ومنع انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وكذلك منع تحول غزة إلى "منطقة فاشلة" تتحول إلى بيئة حاضنة "للإرهاب" أو مصدرة للمشاكل.

وبالتالي يُرجّح أن مصر سوف تتبنى إستراتيجية تستند إلى إدراك محدد لخطورة ما تقوم به حركة حماس، وتعمل على تطبيقها بأساليب مرنة لا تؤدي إلى اختناق حركة حماس، أو انفجار قطاع غزة، وذلك من خلال دعم السلطة الفلسطينية علنا، والاستمرار في إجراء اتصالات مع حماس، مع عدم قبول ما تطرحه، والتمييز في التعامل مع القطاع بين ما هو سياسي وما هو إنساني، والتنسيق مع الأطراف المحيطة لضبط وتيرة الضغط على حماس، وتجنب الحركات العنيفة أو العشوائية، ورفض فكرة التدويل بالمعنى الذي طرح في بداية الأزمة.


تقدير الموقف الأردني
يواجه الأردن خيارات صعبة إزاء احتمالات انفصال الضفة الغربية وقطاع غزة عمليا؛ فعبء انفصال غزة أو انفجارها، سيصب في مصر بحكم ثقل الجوار والنفوذ المصري هناك، كما أن مشاريع "البينولوكس" الإسرائيلي الفلسطيني الأردني عادت للظهور مجددًا، استنادًا إلى مشاريع اقتصادية كبرى هذه المرة.


الأردن لديه سيطرة معقولة على شؤون الضفة. فهو سوف ينشط في كل اتجاه، لكن حركته ستظل محلية غالبا أو في إطار محلي دون تأثير واسع النطاق، فهو لن يتمكن –مثل الأطراف الأخرى- من حسم المشكلة، كما لن يضيره دعم السلطة الفلسطينية، أو الاستناد إلى التوافق الإقليمي، فقد يفضل خيار الانتظار وترقب ما سيسفر عنه هذا الوضع.


تقدير الموقف السعودي
ستحاول السعودية الظهور بمظهر "الطرف الرئيسي" في إدارة الأزمة، للحفاظ على الأفكار السائدة بشأن دورها الإقليمي، وقد تعود في ظل الأجواء الحالية إلى التفاهمات غير المعلنة؛ لكنها ربما لا تتجاوز عمليا سياسة طرح أفكار تتعلق بالحوار، أو تبني استضافته (بوصفها طرفا بعيدا يحافظ على موقف شبه محايد)، إضافة إلى تمويل بعض الحلول المقترحة. وتتمثل قوة الموقف السعودي في أن الأطراف الإقليمية الأخرى ابتعدت عن الحياد بحكم مصالحها، كما أن الفلسطينيين لا يمكنهم عادة التوصل إلى اتفاق دون تدخل طرف ثالث يمتلك بعض الأوراق المؤثرة، لكن ستظل عقدة اتفاق مكة تؤثر على الفعالية السعودية.


تقدير الموقف السوري
لم يكن الموقف السوري واضحا بما يكفي لتحديد اتجاه سيره، إذ لم يُعلَن منه سوى الدعوة إلى الوحدة والحوار بما يسمح لسوريا بممارسة دور الوسيط، وربما يعود هذا الغموض في الموقف السوري إلى الرغبة في تجنب مزيد من الضغوط الدولية أو الوقوع في شبهة دعم حماس للانقلاب على الأوضاع في غزة.


تقدير الموقف على الجبهة اللبنانية
قد يؤدي الموقف المتفجر على الجبهة اللبنانية إلى انتفاضة من قبل المعارضة ضد حكومة السنيورة وجماعة 14 آذار، شبيهة بما حصل في غزة. ولو حدث مثل هذا الأمر فإن إشعال الحرب سيصبح حتمًا على إسرائيل، التي لن تحتمل وجودها بين جبهتين معاديتين: واحدة في غزة والأخرى في لبنان.


ويبقى هذا الاحتمال واردًا في لبنان حتى وإن لم تقم المعارضة بأي تحرك، حيث إن فشل قوى الأكثرية في حسم وتنفيذ ما تبقى من القرارات الدولية سيدفع إسرائيل إلى تنفيذ هذه القرارات بالقوة.


من هنا يمكن ربط الموقف في غزة بالموقف في لبنان واعتبار أحداث غزة مقدمة لترتيب الجبهة القادمة التي يجب أن تتصدى للحرب الإسرائيلية التي بدأت تلوح في الأفق أكثر من أي وقت مضى.


تقدير موقف جامعة الدول العربية
جامعة الدول العربية في هذه المرة، قد يكون لديها فرصة ما لممارسة دور نشط؛ فعلى الرغم من أن الرد الأول على محاولتها التدخل في الأزمة كان حادا من جانب السلطة الفلسطينية، فإن وجود اقتناع عام بأن الحل يكمن في عودة الأطراف الفلسطينية إلى الحوار في النهاية، قد يجعل الجامعة هي الراعي المحتمل لهذا الحوار.


تقدير الموقف الإسرائيلي



"
بدأت إسرائيل تمارس الضغط على حماس حتى حدود ما قبل "الاختناق"، لعزلها وسوف يتم العمل على الرد بشكل مباشر في حالة تهديد حماس لإسرائيل

"
إسرائيل هي الرقم الصعب في المعادلة، فعلى الرغم من أن كل التقديرات العربية تميل إلى تصور أن الأزمة الحالية عربية -عربية أو فلسطينية داخلية، فإن إسرائيل هي التي تملك القدرة المباشرة على تغيير كثير من قواعد اللعبة، سواء من خلال التحكم في مصادر الوقود والمياه والكهرباء، أو التدخل العسكري المباشر في النهاية (رغم أن التدخل العسكري المباشر غير مطروح على المستوى السياسي في إسرائيل، وإن كانت تدور نقاشات واستعدادات على المستوى العسكري في إسرائيل للقيام بعملية عسكرية واسعة)، لكن أفكارها الخاصة بفصل الضفة عن القطاع، ومنع العوائد المالية عن غزة، فضلاً عن حساباتها مع واشنطن، أدت إلى تبنيها توجهات أصبحت معلنة تقريبا، وهى إستراتيجية تقوم على ثنائية "العزل/الردع".

إن إسرائيل بدأت تمارس الضغط على حماس حتى حدود ما قبل "الاختناق"، لعزلها وليس خنق القطاع، وسوف يتم العمل على الرد بشكل مباشر في حالة تهديد حماس لإسرائيل (مع أن حماس لن تفعل ذلك إلا في حالات استثنائية وبأساليب غير مباشرة، كما أن توجهاتها الحالية تشير إلى العكس)، وسوف تقدم إسرائيل على ابتزاز حماس للحصول على مقابلٍ لكل تعاون تبديه تجاهها، مع الدفع في اتجاه تدعيم سلطة أبي مازن، ولعل المشكلة تكمن في إيقاع اللعبة الداخلية الإسرائيلية المؤثر جدا.


تقدير الموقف الأميركي
الموقف الأميركي واضح وصريح يتمثل في مقاطعة حماس ورفض أي مصالحة فلسطينية تؤدي إلى ضم حماس في أي تشكيلة حكومية جديدة، أي أن سياسة تقسيم الفلسطينيين وتمزيق صفهم التي تنهجها الإدارة الأميركية لن يتم التراجع عنها، بل سيجري العمل على تعميقها تحت عنوان دعم صف الاعتدال ضد المتطرفين.


بشكل عام يمكن القول إن الموقف الأميركي الإسرائيلي قد وضع غزة والساحة الفلسطينية عمومًا ضمن معادلة التصدي لمحور إيران وسوريا وحزب الله وحماس, وقد تعهد بإفشال هذه القوى واتخاذ كل السبل الموصلة لهذا الغرض، وهذا الإفشال قد يكون بصيغة تجديد الحرب على لبنان مقدمة لإسقاط حلقة من حلقات هذا التحالف في الساحة اللبنانية، ومنه التحرك لاحقا لإسقاط الحلقة التالية في غزة.


تقدير الموقف الأوروبي
الموقف الأوروبي غالبا ما سيظل مصطفا كعادته خلف الموقف الأميركي باستثناء اتخاذ مواقف مختلفة فيما يخص الأوضاع الإنسانية، إضافة إلى احتمال رفض الأوروبيين لحصار شامل على غزة.


تقدير الموقف الإيراني
الموقف الإيراني واضح في دعمه لحماس وفي دعوته في نفس الوقت إلى الحوار بين مختلف الفصائل الفلسطينية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية.



التحليل: قنبلة غزة الموقوتة



إعداد/ د. محمد عبد السلام





"
كانت الانتخابات التشريعية (يناير/كانون الثاني 2006) بداية أحداث قادت إلى مواجهة مسلحة فحركة فتح تدهورت إلى أدنى مستوياتها، بسبب سوء أداء قياداتها وانقساماتها الداخلية ومحاولات حماس المستمرة لتقويضها
"
كان التصور الإسرائيلي الشائع لقطاع غزة هو أنه يشبه "قنبلة"، وكان إسحاق رابين يأمل في "أن يغرق في البحر"، حتى لا ينفجر في إسرائيل، لكن أوضاع غزة خلال العامين الماضيين كانت تشير بوضوح إلى أنها سوف تنفجر في وجه الفلسطينيين، فمساحتها لا تزيد عن 365 كلم2، ويسكنها حوالي 1.5مليون نسمة، تعانى نسبة كبيرة منهم من مشكلات بطالة وصحة وسكن، إضافة إلى نمط حياة يتسم بالعزلة من كل جانب عن العالم الخارجي، مما حول قطاع غزة –وفق التعبير المعروف– إلى سجن كبير.

لم يكن تعبير "سجن غزة" مجرد جملة مجازية، فإثر رحيل القوات الإسرائيلية عن القطاع في سبتمبر/أيلول 2005، ظهرت أول إشارة خطرة، بعد قيام ما يزيد عن 150 ألف من سكان القطاع بتحطيم أسوار الحدود مع مصر، مندفعين في اتجاه مدينة العريش في سيناء. كما تزايدت إلى حد غير مسبوق أعمال حفر الأنفاق عبر الحدود لاستخدامها في أغراض مختلفة. وتشير التحليلات التي جرت لـ"هوجة الحدود" واستخدامات الأنفاق وحركة المعابر، إلى أن أوضاع القطاع أسوأ مما كان متصورا.


لم يؤد رحيل القوات الإسرائيلية إلى تحسن أوضاع القطاع، فبعد شهرين فقط من ذلك التاريخ تبددت بسرعة كل أجواء التفاؤل التي أحاطت بما بدا أنه "خطوة تاريخية"، وأشارت نتائج عدة ندوات عقدت في غزة وقتها إلى أن اقتصاد القطاع لن يتطور ببساطة، بسبب مشكلات عدم الاستقرار، وافتقاد الضمانات، واستشراء الفساد في أجزاء كثيرة من السلطة، وترتيبات المعابر، وبروتوكول باريس، ومخاوف رجال الأعمال. وتحولت الأراضي التي أزيلت منها المستوطنات (ثلث مساحة غزة) إلى موضوع لتقاسم الثروة بين فتح وحماس، فلم يؤد خروج الاحتلال من الداخل إلى نزع فتيل القنبلة، وساهم الحصار الذي تعرضت له حكومة حماس فيما بعد في تسريع العد التنازلي، فانفجرت القنبلة، لكن في اتجاه غير متوقع.


في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أسباب ما حدث في قطاع غزة، وما آلت إليه أوضاعه حاليا، وما يمكن أن يحدث في الفترة القادمة، في عدة نقاط:


أولا: أنه مجرد صراع سلطة تقليدي.
غالبا ما تكون التفسيرات البسيطة هي التفسيرات الصحيحة؛ فما حدث في قطاع غزة خلال يونيو/حزيران 2007، لم يكن أكثر من مجرد صراع تقليدي على السلطة بين القوتين الرئيستين في الساحة الفلسطينية، وقد تم حسمه وفقا لموازين القوى المسلحة القائمة بينهما في قطاع غزة. لكن الوجه الآخر لِما حدث هو أن سلطة فتح قد سيطرت أيضا على الضفة الغربية التي تبلغ مساحتها 5690 كلم2، ليثير ذلك احتمالات معقدة تتجاوز فكرة أن هناك صراع سلطة انتصرت فيه حماس.


لقد كانت الانتخابات التشريعية (يناير/كانون الثاني 2006) هي بداية سلسلة الأحداث التي قادت إلى المواجهة المسلحة؛ حيث كانت قوة حركة فتح قد تدهورت إلى أدنى مستوياتها، بسبب سوء أداء قياداتها وانقساماتها الداخلية ومحاولات حماس المستمرة لتقويضها، وعدم تسهيل إسرائيل "الأمور" بالنسبة لها. وكان من السهل إدراك أن حماس قد سيطرت على مجتمع غزة، وأن السيطرة على السلطة تمثل مسألة وقت بالنسبة لها، ومع ذلك فوجئ الطرفان بنتائج الانتخابات.


كان قطاع غزة يشهد في تلك الفترة ظاهرتين ملفتتين، تشيران إلى أن القضية التي أصبحت تسيطر على اهتمامات الطرفين هي "السلطة" في الدرجة الأولى، وليس الاحتلال الذي كان يحيط بالقطاع ويوجد بالضفة:




  • الأولى: هي الاستعراضات المتواصلة للقوة المسلحة بين أتباع الفصيلين، وكذلك الاحتكاكات العنيفة، وصولا إلى كل ما عرف فيما بعد بالانفلات الأمني.



  • الثانية: سيطرة المشكلات الداخلية على اهتمام الأطراف الفلسطينية. فهناك طرف يريد الاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن، وطرف آخر يعتقد أنه اقترب منها بدرجة غير مسبوقة، وأنها قد تكون الفرصة الأخيرة.

ثمة نظرية مفادها أنه لا توجد معارضة تنجح، وإنما حكومات تفشل في الانتخابات، وهذا ما حدث في غزة. فقد توفرت لفتح كل أسباب الهزيمة، سواء أتعلق الأمر بالانقسامات الداخلية التي انكشفت في الانتخابات الأولية، أم بيأس المواطنين من إصلاحها. وقد حاولت بعض قياداتها تعطيل إجراء الانتخابات، لكن الرئيس محمود عباس أصر على إجرائها. وبالمقابل لم تكن قيادات حماس تتوقع أن تحصل على ثلثي السلطة الفلسطينية (الحكومة، والمجلس التشريعي)، وكانت تطمح فقط إلى أن تكون معارضة قوية أو شريكا مشاكسا في السلطة.


حسمت الأصوات الاحتجاجية الموقف؛ فرغم قوة حماس في غزة، فإن نتيجة الانتخابات النهائية حُسِمت عبر تصويت عقابي ضد فتح من جانب فئات ليس لديها ما تراهن عليه لدى حماس، كالطبقة الوسطى، والعلمانيين، والمسيحيين، و25% من أصوات قوى الأمن ذاتها. لذلك لم تستطع فتح أن تستوعب أن حماس قد فازت.


وبدأ قانون "ساي" يعمل داخل حماس (العرض يخلق طلبه) التي وجدت نفسها في السلطة، وقررت أن تحتفظ بها، وأن تمارسها بشروطها. فوجد الطرفان أنفسهما أمام مشكلة تتمثل في أن حركة فتح لم تتمكن من التحول من حزب حاكم إلى حزب محكوم، وأن حركة حماس لم تتمكن أيضا من التحول من قوة معارضة إلى سلطة دولة، قبل أن يقرر تيار داخلها –فيما يبدو مغامرة– أن يستولي على السلطة كاملة بالقوة، بعد أن واجه متاعب عدم تخلي فتح عنها طوعا.


ثانيا: وضع السلطة أفضل من وضع حماس



"
تبدو حماس رغم انتصارها في وضع غير جيّد تمامًا. فإذا كانت فتح تواجه مشكلة فإن حماس تواجه معضلة
"
إن ما حدث ليس سوى البداية، فقوة حماس السياسية أقل بكثير من قوتها العسكرية، وقوة فتح السياسية أكبر بكثير من قوتها العسكرية في غزة على الأقل؛ لذا لا تبدو فتح –رغم هزيمتها– في وضع سيئ للغاية، بحيث تسيطر تقريبا على الضفة الغربية التي هي في الواقع "قلب" الدولة الفلسطينية، كما تتمتع بدعم واضح من جانب بعض التشكيلات الاجتماعية في الضفة، فضلا عن النقاط التالية:


  1. بعد أن تمكن الرئيس محمود عباس من مواجهة بعض أجنحة فتح الجانحة -التي أجبرتها الهزيمة على قبول فكرة تشكيل حكومة مستقلة لم تبتلعها من قبل- تمكن لأول مرة من مواجهة ضغوط تنظيم فتح الذي لم يتوقف عن إثارة المتاعب له، مما دفعه في لحظة ما في نهاية عام 2005 إلى الميل للتفكير في أن معادلة عباس + حماس، قد تكون أفضل بكثير من استمرار الاعتماد على فتح في إدارة الدولة.


  2. أن هناك اعترافا دوليا غير مسبوق بشرعية السلطة الفلسطينية سياسيا، خاصة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكذلك أهليتها لكونها شريكا في التفاوض مع إسرائيل، مع استعداد لدعمها ماليا وسياسيا، وهذه أمور لم تتمكن السلطة من الحصول عليها عندما كانت تسيطر على أركان الحكم الثلاثة، وقد أدت اللعبة الخشنة التي مارستها حماس في غزة إلى انحياز مصر (ذات التأثير في غزة) بشكل غير معتاد إلى جانب عباس.

لكن هذا لا يعنى أن خيارات السلطة الفلسطينية سهلة أو مفتوحة، حيث أن لديها مشكلة دستورية تتمثل في مدى شرعية حكومة الطوارئ، بالإضافة إلى قصر عمرها الذي لا يتجاوز شهرا؛ كل هذا يستدعي التفكير في طريقة أخرى لإدارة الأمور، ولو أن المشكلة ستظل مشكلة نظرية إذا ما قارناها بمشكلة وجود قطاع في الأراضي الفلسطينية خارج عن سيطرتها. وعلى الرغم من قيامها بخطة "ملفتة" عبر عدم الاندفاع في التفكير في إستراتيجيات حادة في مواجهة حالة غزة، فإنها ستواجه دائما مشكلة كيفية تنفيذ سياساتها في القطاع بعقاب حماس دون عقاب السكان.


على الجانب الآخر لا تبدو حماس، رغم انتصارها، في وضع جيد تماما. فإذا كانت فتح تواجه مشكلة فإن حماس تواجه معضلة، وليس من الواضح حتى الآن من الذي اتخذ قرار استخدام القوة على نطاق واسع للسيطرة بتلك الصورة على قطاع غزة.


والتفسير السائد حتى الآن بعيدا عن التقارير التي تتحدث عن أطراف خارجية، هو أن قادة الجناح العسكري الخمسة الرئيسيين هم الذين اندفعوا في هذا الاتجاه في ظل توجيهات عامة من قيادات مّا، ربما ليس معظمهم من قيادات الداخل، رغم أنهم هم الذين يقفون في الواجهة.


إن عنصر القوة الرئيسي لدى معسكر حماس في ظل الأوضاع الراهنة هو أنهم يسيطرون على قطاع غزة بالفعل، وأنهم قاموا بكسر شوكة فتح في القطاع تماما، وتمكنوا من إفقاد كثير من قادتها مصداقيته العسكرية والسياسية، ولديهم في الفترة القادمة أوراقا إعلامية لا نهاية لها، استنادا إلى الوثائق التي حصلوا عليها، كما يمكنهم تبعا لذلك أن يقوموا بفرض الكثير من شروطهم في الفترة القادمة، لكنهم سيواجهون أيضا مشكلات كبيرة، أهمها:




  1. أنه سيكون عليهم طوال الوقت أن يستمروا في البحث عن أسباب معلنة إضافية لما قاموا به، إذ ليس من السهل تفهم استخدام القوة بتلك الصورة.


  2. أنهم سوف يستهدفون من طرف آلة سياسية وأمنية ومالية عاتية، وأنهم معرضون بشدة لأن تتم تجربة كل أساليب الحصار والعقوبات في مواجهتهم.

يظل التحدي الرئيسي هو: ما الذي سيفعلونه بقطاع غزة؟ فالأسئلة التي تثار بهذا الشأن شديدة التعقيد، وتتعلق بقضايا حساسة، كإقامة دولة منفصلة، وهو الأمر الذي ليس أمامهم سوى نفيه. يبدو أن قيادات حماس لم تقدِّم حتى الآن، بعد الاستيلاء على غزة، تصوراتها الأولية لما ستواجهه من مشاكل وعقبات، وكيفية تصرفها تجاهها.


ثالثا: تحركات تجريبية في ظل خيارات متعارضة



"
كل الخيارات ستواجه مشكلات من جانب حركة فتح والمجلس التشريعي، ولن يكون هناك حل سهل بعد أن أريقت الدماء، واتضح مدى تعمق الأحقاد الفلسطينية/ الفلسطينية

"
يظل الارتباك وعدم اليقين هو الأساس الذي ينبني عليه تصور ما يمكن أن يحدث في الفترة القادمة، وغالبا ما ستتعامل كل الأطراف مع ما يدور حولها بطريقة تجريبية تماما، فلم يكن أحد مستعدا تماما للتعامل مع الموقف الذي وجد نفسه فيه حاليا، لكن المرجح أن السلطة الفلسطينية قد تبدو في الفترة القادمة أكثر ثباتا في خطواتها من حماس. فهي تعمل في ساحة مفتوحة نسبيا، وليست مهددة في المدى القصير، ولديها هدف مفهوم سياسيا، يتمثل في عقاب حماس واستعادة غزة ولو أن حماس ليست هدفا سهلا، فغزة أفلتت من فتح بالفعل، كما سيكون على السلطة أن تسيطر أيضا على سلوك حلفائها الخارجيين حتى لا تسقط في فخاخ سياسية وإعلامية مربكة، إذ إن حماس في النهاية قوة سياسية اجتماعية عسكرية لا يمكن إقصاؤها بدون دفع ثمن كبير.

لقد سارعت السلطة إلى بلورة بعض الخطوط العامة لسياساتها المقبلة، فقد بدأت تعتمد على عناصر مستقلة ذات مصداقية دولية، كما بدأت تفصل بين ما هو سياسي وما هو سكاني فيما يتعلق بقطاع غزة، وقد تحقق تقدما إذا تمكنت من التعامل مع مشكلة الأمن بإيجاد صيغة لتشكيل قوة أمن مستقلة بالفعل.


أمام فتح كل الخيارات الخاصة باستئناف الحوار أو الحكومة الائتلافية أو إجراء الانتخابات، لكن كل الخيارات ستواجه أيضا مشكلات من جانب حركة فتح ذاتها والمجلس التشريعي، ولن يكون هناك حل سهل بعد أن أريقت الدماء، واتضح مدى تعمق الأحقاد الفلسطينية/الفلسطينية.


- حركة حماس سوف تبدأ الاعتماد على أفكارها السابقة نفسها في إدارة أوضاع ما بعد الاستيلاء على غزة، فتحاول طرح أسلوب نموذجي لإدارة القطاع استنادا على تجارب قياداتها في البلديات، ثم الحصول على أكبر قدر من الأموال، كما قد تعمل على طمأنة إسرائيل بإرسال إشارات مضمونها أن الحركة لن تشكل تهديدا جادا، ثم أخيرا التعبير عن استعدادها للتعاون مع الدول الأوروبية بالعمل على إطلاق المراسل البريطاني المحتجز لدى جيش الإسلام مثلاً.


لكن هذا الطريق لن يكون سهلا على الإطلاق، فحماس سيكون عليها أن تعمل على اتجاهين متناقضين طوال الوقت، فهي بين مهاجمة السلطة والاعتراف بشرعيتها، وبين إدارة القطاع وتأمين نفسها، وبين تقديم إشارات الاستعداد للتعاون والاحتفاظ بمصداقيتها الأيديولوجية، وبين عدم استفزاز إسرائيل وعدم الاعتراف بها، وبين الاعتماد على القوة التنفيذية ومحاولة كبح جماحها، وبين إظهار الاستقلالية عن المحاور الإقليمية وحاجتها إلى تلك المحاور، كما سيكون عليها أن تفكر في كابوس الأطراف العديدة الذي أصبحت تعتقد أن الحركة حاصرت نفسها في مصيدة، وأنها أصبحت هدفا سهلا، وقد يكون لديها مشكلة مربكة مع مصر على حدود غزة الجنوبية.


في النهاية، إن هذه الأزمة، مع ما تحمله من مخاطر، قد جعلت أطرافا عديدة تتعامل معها بوصفها الفرصة السانحة الأخيرة لإعادة ترتيب أوضاع الشرق الأوسط العالقة، وبالتالي فإن الطرفين اللذين بدآ المعركة لن يتمكنا لوحدهما من إنهائها، حتى لو أرادا ذلك.



تقدير موقف حول الأوضاع في غزة


أ. أنيس النقاش




في خلفية الأحداث






أنيس النقاش
اتضح منذ فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية بأكثرية تسمح لها بتشكيل الحكومة, أن قوى عربية ودولية إضافة للطرف الفلسطيني المتضرر مباشرة من هذا الفوز, فوجئت بهذا الفوز واعتبرته ضربا لكل جهودها السياسية للذهاب بالقضية الفلسطينية باتجاه منحى تسوية, تكون للولايات المتحدة وإسرائيل الكلمة الأولى في تحديد خطوطها العريضة, خارج الشرعية الدولية وخارج الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

وضعت إسرائيل والولايات المتحدة منذ البداية خطوطا حُمْرًا تمنع التعاون مع أية حكومة توجد فيها حماس. توقف التعاون وتوقفت الاتصالات مع حكومة حماس حتى على الصعُد الإنسانية. كذلك استمرت الحال حتى بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وبعد اتفاق مكة وكان واضحا أن الولايات المتحدة غير راضية لا عن تكليف حماس بتشكيل الحكومة لوحدها ولا عن حكومة الوحدة الوطنية.





"
مواقف أميركا وأوروبا مفهومة فهي منحازة لإسرائيل، لكن موقف أكثر الدول العربية والموقف الغريب لفتح وإدارة أبي مازن، هما اللذان كانا الركيزة الأولى لما آلت إليه الأمور في إسقاط غزة وسيطرة حماس الكاملة

"
الموقف الأوروبي لم يكن بعيدا عن المواقف الإسرائيلية والأميركية. فقط من ناحية الشكل لم تعلن الدول الأوروبية المقاطعة بشكل مطلق بل ربطتها بقبول حكومة حماس شروط الرباعية. وهو ما كانت تعلم أن حماس لا يمكن أن تقبل به. حتى بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية ومحاولة تقسيم الوزراء بين من يقبل التعامل معه ومن لا يمكن التعامل معه, بقيت هذه المحاولة خجولة ولم يتم فك الحصار المالي والسياسي بشكل كامل أو حتى جزئي عن حكومة الوحدة الوطنية.

وإذا كانت مواقف الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل مفهومة من حيث انحيازها للموقف الإسرائيلي فإن الموقف العام لأكثر الدول العربية, والموقف الغريب لفتح وإدارة أبي مازن، كانا الركيزة الأولى لما آلت إليه الأمور في إسقاط غزة وسيطرة حماس الكاملة عليها كما سنشرح فيما يلي.


الدول العربية بما فيها مصر فوجئت بفوز حماس الكاسح، وهو ما يفسر الإرباك الكبير الذي كانت تواجهه الإدارة المصرية حينها نتيجة هذا الفوز في الانتخابات، ولعل تذكر ذلك ضروري لفهم ملابسات الموقف المصري في هذه المرحلة بالذات.


تطور الأمور ومراحلها
تطور الموقف الأميركي الإسرائيلي الأوروبي، بل حتى العربي من حكومة حماس الأولى من مقاطع، إلى ضاغط بشكل سلبي، وذلك من خلال وقف المساعدات، فضلا عن منع وصول أية معونات للشعب الفلسطيني, أي من الخطة "ألف" إلى الخطة "باء" الهادفة إلى إسقاط حماس بالقوة.


الخطة الأولى كانت تتوقع من خلال المقاطعة السياسية والمحاصرة الاقتصادية أن تنهار حكومة حماس وينفك التأييد الشعبي لها. ساهمت القوى الفلسطينية المتضررة من فوز حماس في إنفاذ هذه الخطة، من خلال رفض فتح المشاركة في حكومة وحدة وطنية، كانت حماس قد دعت إلى تشكيلها منذ البداية. كما يمكن القول إن قوى سياسية فلسطينية أخرى تجاوبت مع هذه المقاطعة بشكل أو بآخر، وتجلى ذلك في مقاطعة فصائل فلسطينية أخرى غير فتح لفكرة حكومة الوحدة الفلسطينية.


ولكن حينما فشل رهان الخطة "ألف"، ولم تسقط حكومة حماس ولم ينقطع عنها الدعم الشعبي، كان لابد من الانتقال إلى الخطة "باء".


الخطة "باء" والدفع باتجاه الاقتتال



"
الموقف السعودي جاء على خلفية رأيين كانا يتفاعلان داخل مؤسسات القرار السعودي وهما إنقاذ الوضع الفلسطيني من التفجر والتنسيق مع الولايات المتحدة

"
مع فشل المقاطعة السياسية والاقتصادية المفروضة على الحكومة التي شكلتها حركة حماس، كان لابد من الانتقال إلى الخطة "باء" التي كانت تقضي بتعميم الفوضى الأمنية وزيادة التوتر الأمني والصدامات بين فتح وحماس تمهيدا لقلب المناخ الشعبي بحجة الانفلات الأمني من أجل الانقضاض على حركة حماس وليس على الحكومة فقط.

وهذه الخطة التي لم تكن سرية بشكل كامل، بل أضحت شبه علنية، وهذا يطرح بدوره علامة استفهام كبرى عن السبب في هذه العلنية. فقد بدأت الإدارة الأميركية علنا تهيئة الأجواء ووضع الاستعدادات اللازمة للصدام الكبير وذلك عبر طلبها من الكونغرس تخصيص ميزانيات لدعم الأجهزة الأمنية الفلسطينية المرتبطة بعباس، وتوفير كميات من السلاح والمعدات لهذه الأجهزة.


وعلى الجهة الأخرى تكفلت بعض الدول العربية بعملية تدريب وتأطير قوى إضافية لهذه القوى لكي تكون قادرة على حسم الصدام والمعركة مع حماس. وبذلك أصبح من الواضح الانتقال بالأهداف من هدف إفشال حماس وحكومتها سياسيا واقتصاديا إلى مرحلة محاولة التصفية الجسدية لحماس من خلال هذا البرنامج.


كان لابد لهذه الخطة من تحضير لمسرح العمليات من خلال تسخين الاشتباك المسلح تدريجيا بين الفرقاء لإضفاء نوع من أجواء عدم الاستقرار وما يسمى الانفلات الأمني تمهيدا لتدخل القوة التي تعد للهجوم على حماس تحت شعار ضبط الأمن وإنقاذ الشعب الفلسطيني، بيد أن تصاعد الاشتباكات التمهيدية بين الطرفين، وعدم تراجع حماس أمام الابتزاز الأمني، ثم تشكيلها للقوة التنفيذية أدى إلى إسراع المملكة السعودية في عقد مؤتمر مكة للمصالحة من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية. الموقف السعودي جاء على خلفية رأيين كانا يتفاعلان داخل مؤسسات القرار السعودي، نلخصهما فيما يلي:


موقف يقول بضرورة إنقاذ الوضع الفلسطيني من التفجر من أجل قطع الطريق أمام قوى إقليمية كان يمكنها أن تستفيد من التناقضات الفلسطينية-الفلسطينية لتوثق علاقتا بحماس أكثر وتضمن ولاءها، ومن ثم إضعاف النفوذ العربي في القضية الفلسطينية. ومن المعلوم هنا أن المعني بهذه القوى كان إيران وسوريا على وجه الدقة. وهكذا جاءت الخطوة السعودية بناء على هذه النظرة، أي محاولة لاستعادة الدور العربي، وإبعاد إيران وسوريا عن الملف الفلسطيني الملتهب.


أما النظرة الثانية والمنسقة مع الولايات المتحدة فقد كانت تسعى لكسب الوقت من أجل استكمال عملية الاستعداد لشن معركة واسعة ضد حماس وتفكيك وجودها، وهذه الخطة كان يشرف عليها الجنرال الأميركي دايتن، ولكن يبدو أن تطورات الأحداث في غزة قد فاجأتها قبل أن تكتمل.


أسباب تفجر المعركة اليوم
هناك عدة أسباب وراء تفجر المعركة وحسمها من قبل حماس في هذا التوقيت:


السبب الأول شعور حماس بأن الخطة "باء" قد وصلت تقريبا إلى نهايتها من حيث الاستعداد، وأنها ستكون قادرة على التدخل قريبا لصنع معطيات جديدة على الأرض، باتجاه حسم الصراع لصالح الشروط الأميركية الإسرائيلية، وحتى بعض الشروط العربية والفلسطينية.


شعور حماس بأن كل المحاولات التي جرت من قبلها من أجل إنجاح حكومة الوحدة الوطنية قد باءت بالفشل وأن هناك إصرارًا من قبل الطرف الآخر على التصعيد الأمني وإفشال الحكومة.


عدم تغيير مواقف الدول الأوروبية وحتى العربية التي كانت المباحثات من أجل إقامة حكومة الوحدة الوطنية تعول عليها في حال قيام هذه الحكومة. فكانت النتيجة أن هذه الوعود لم يتحقق منها شيء، بل استمر موقف المقاطعة والضغط على الأوضاع الحياتية والأمنية للشعب الفلسطيني، بل الأخطر من ذلك أن عملية الضغط هذه كانت تشارك فيها أطراف فلسطينية, مما أفرغ حكومة الوحدة الوطنية من أي مضمون إيجابي.


الموقف المصري الذي فاجأ حماس مؤخرا والذي انتقل علنا من موقف المتظاهر بالحياد ومحاولة التقريب بين الفرقاء الفلسطينيين, إلى موقف ناقد علنا لحكومة الوحدة الوطنية ولمواقف حماس، مع العلم بأن مصر كانت هي الداعم الأساسي لعملية الإعداد والتدريب للقوى الأمنية الفلسطينية، وهي فضلا عن ذلك الشريك الأساسي في الخطة "باء".


لكل هذه الأسباب التي ذكرناها أعلاه تحركت حماس بسرعة لحسم الأمور قبل تفاقمها ولقطع الطريق أمام عملية اكتمال الخطة "باء".


ما ستؤول إليه الأمور
الخطوات التي أقدمت عليها سلطة الرئيس محمود عباس يمكن تفهمها نسبيا، بحكم أنها تدخل ضمن خانة الردّ الأولي الناتج عن الهزيمة التي لحقت بأجهزته الأمنية في قطاع غزة. وإذ نرجح هنا أن تتم عملية اقتراب جدي -ولو غير معلن- بحماس، فإن الأيام القليلة القادمة وحدها كفيلة بتقديم صورة دقيقة عن مجريات الأمور على الأرض، وما إذا كانت فتح ستتخذ قرارا نهائيا بمقاطعة حماس أم لا.



نحن نعتقد أن موقف مقاطعة حماس ليس من الواقعية في شيء، وهو فضلا عن ذلك لا يعبر عن توجهات عباس الحقيقية، خاصة مع فشل الأجهزة الأمنية هذا الفشل الذريع، إلا أن الموقف المصري السلبي من ملف حماس، هو الذي يفسر هذا التشدد في موقف عباس، ومن ذلك رفضه الوساطة العربية، ولجنة تقصي الحقائق التي طالبت بها الجامعة العربية نفسها.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات
نشر النص بتصرف من المركز