بصمات واشنطن واضحة على الفوضى التي تعصف بالفلسطينيين. وآخر شيء يحتاج إليه الفلسطينيون الآن هو مبعوث اسمه توني بلير.
جوناثان ستيل |
هل قفزوا بمحض إرادتهم أم دُفعوا من الخلف؟ هل كان استيلاء حماس على مقرات الأمن التابعة لحركة فتح فعلا لا دافع وراءه، أم كان عبارة عن ضربة استباقية لإحباط انقلاب مدبّر من فتح؟ بعد أحداث الأسبوع الماضي الهوجاء الصاخبة، بات من المهم الكشف عن أصل المشكلة.
لا يخفى على أحد السبب الرئيسي في ما يجري. إن إسرائيل، مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية، لم تكن على استعداد لتقبل فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية التي جرت السنة الماضية. اتخذت الحكومتان (الإسرائيلية والأميركية)، مدعومتان من المجموعة الأوروبية الخانعة، قرار مقاطعة الشريك الفلسطيني الجديد سياسيا ومعاقبة الناخبين الفلسطينيين بإيقاف المعونات الاقتصادية. وكان لهذه السياسة نتائج وخيمة، حيث ساهمت في تحويل قطاع غزة إلى سجن مفتوح أكبر مما هو عليه، وفي تفاقم الوضع الإنساني إلى درجات لا تطاق. وقد كان الهدف من وراء كل ذلك هو تأليب الناخبين ضد حماس، لكن الواقع أثبت أن هذه الإستراتيجية كانت قمة في الغباء والسخرية، فالضغط الخارجي عادة ما يقوي المناعة والمقاومة عوض أن يولد الاستسلام.
خالد حاجي |
إن هذه السياسة المتبعة صدمت حتى المعتدلين من الرسميين الغربيين أمثال رئيس البنك الدولي السابق "جيمس ولفونسون" (James Wolfensohn)، الذي عينه الأميركيون لإنعاش الاقتصاد في غزة قبل فوز حماس في الانتخابات. يقول السيد ولفونسون في معرض حديثه عن أسباب تقديم استقالته واختلافه مع الإستراتيجية الأميركية والإسرائيلية ما يلي: "لم نتمكن في النتيجة من تحقيق المزيد من النشاط الاقتصادي، بل، على العكس من ذلك، أقمنا مزيدا من المتاريس".
ولا يخفى كذلك أن حماس فوجئت، كما فوجئ الجميع، بما أحرزته من فوز في الانتخابات، ومعلوم أنها عرضت على فتح، منافِستها، فرصة التكتل داخل حكومة وحدة وطنية، وهو العرض الذي واجهته فتح بالرفض. قد يعزى رفض فتح لعرض حماس في أول الأمر إلى الاعتداد بالنفس والإحساس بجرح النرجسية، إلا أن توالي الرفض لجميع أشكال الانفتاح التي أظهرتها حماس بشكل متواصل أصبح يتخذ شيئا فشيئا صورة موقف يندرج في إطار إستراتيجية المقاطعة المتفق بخصوصها مع واشنطن.
" " |
لقد تحدثت التقارير منذ شهور عن جوانب المقاطعة غير الإنسانية والشريرة. تفصح هذه التقارير عن أن أميركا تبنت منذ السنة الماضية مخططا لتسليح حرس محمود عباس الرئاسي وتدريبهم كجزء من الجهود المبذولة لمواجهة حماس عسكريا وإلحاق الهزيمة بها. وقد سارعت إسرائيل من قبل إلى اعتقال أعداد من أعضاء المجلس التشريعي ورؤساء البلديات المنتمين للحركة في الضفة الغربية. كما تمنت إسرائيل أن يحصل الشيء نفسه في غزة، أي أن يُسجن أعضاء المجلس التشريعي ورؤساء البلديات ويُقمعون، لكن شريطة أن يتم ذلك على أيدي فلسطينيين هذه المرة.
ليس تسليح المتمردين ضد الحكومات المنتخبة بالأمر الجديد على الولايات المتحدة، بل إن للولايات المتحدة باعا طويلا في هذا المضمار، وليس من الصدفة في شيء أن يكون مدبر العصيان والتمرد ضد حماس هو إليوت أبرامز بالذات، أحد أهم العناصر التي شاركت في إمداد حركة "كونتراس" المتمردة على حكومة نيكاراغوا المنتخبة في العام 1980، أيام حكومة الرئيس السابق رونالد ريغن.
إن التقارير المتداولة في الشرق الأوسط تدعي أنها تملك الدليل على وجود إستراتيجية "أبرامز" لبلوغ انقلاب عنيف ضد حركة حماس، ويوجد ضمن نصوص هذه القرارات نص يتحدث عن أهداف واشنطن كما رشَحَت خلال حديث الرسميين الأميركيين مع إحدى الحكومات العربية. ومن بين هذه الأهداف:
- الحفاظ على الرئيس عباس وفتح في مركز القوة داخل الساحة الفلسطينية.
- تجنب المزيد من ضياع الوقت في محاولة التعايش مع شروط حماس الأيديولوجية.
- تقويض وضع حماس السياسي باللجوء إلى تغطية حاجيات الشعب الفلسطيني الاقتصادية.
- وأخيرا تقوية رئيس السلطة الفلسطينية كي يتمكن من الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة في خريف 2007 والإشراف عليها.
يعود تاريخ هذه الوثيقة إلى الثاني من شهر مارس/آذار الماضي، أي إلى أقل من شهر بعد مرور اتفاق مكة الذي قبل بموجبه عباس تشكيل حكومة وحدة وطنية. لقد أقلق هذا الاتفاق كلا من الإسرائيليين والأميركيين نظرا لأنه أبقى على إسماعيل هنية وزيرا أول. وتشير الوثيقة إلى وجود ما يؤكد عزم أميركا على تقويض هذا الاتفاق. وطبقا لمسؤولين في حركة حماس، ممن أطلعهم عباس لاحقا على محادثاته، فإن الرئيس الفلسطيني أُعطِيَ أوامر واضحة بضرب اتفاق مكة بعرض الحائط أثناء لقاءاته اللاحقة مع كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت وسكرتيرة الدولة في الخارجية كوندوليزا رايس وأبرامز.
" رفض دحلان التعامل مع وزير داخلية حكومة هنية ودفع بمجموعاته المسلحة إلى الشارع فلم يبق أمام حماس إلا السيطرة على الأمن بعيدا عن القوى التي كانت في حقيقة الأمر تصنع الفوضى أكثر مما تحرس على الأمن " |
ولعل أخطر ما في الأمر هو ما تتضمنه الوثيقة الخاصة بالأهداف الأميركية من تفاصيل، حيث تشير إلى مساعدة قدرها 1.27 بليون دولار تندرج في إطار برنامج يسعى إلى إضافة سبع كتائب خاصة مكونة من 4700 رجل إلى الحرس الرئاسي وقوات الأمن الأخرى التابعة لعباس والتي يبلغ عدد رجالها 15 ألفا، كما تشير الوثيقة إلى أن هذه الكتائب ستتلقى السلاح والتدريب فضلا عن المال. وتقول الوثيقة: "إن النتيجة المرجوة هي إحداث تغيير في بنية قوات الأمن الفلسطينية وتمكين رئيس السلطة الفلسطينية من السهر على تطبيق القرارات المتخذة، مثل قرار إلغاء مجلس الوزراء وتشكيل مجلس طوارئ".
يشير أليستر كروك المستشار السابق لخافيير سولانا رئيس خارجية المجموعة الأوروبية في شؤون الشرق الأوسط، ورئيس مركز بحث في بيروت حاليا، إلى أن إسرائيل أوقفت بعض عمليات إمداد الأسلحة خوفا من أن تضيع هذه الأسلحة من يد فتح، وهو الشيء الذي حصل بالفعل. وهكذا لم يطبق المخطط إلا جزئيا. (قامت بريطانيا بدور صغير في مساعدة قوات الأمن التابعة لعباس، حيث لم تساهم إلا بـ 350 ألف جنيه إسترليني عبارة عن معدات غير قاتلة تساعد في حماية معبر منطار (كارني) بين غزة وإسرائيل).
لكن كروك يقول بأن حماس قلقت جراء تقويض اتفاق مكة، خصوصا بعد رفض رجل غزة القوي ورئيس الأمن الوقائي محمد دحلان، قبول الامتثال لسلطة وزير الداخلية غير المنتمي المعين من طرف حكومة الوحدة الوطنية. يضيف كروك قائلا: "لقد رفض دحلان التعامل معه، ودفع بمجموعاته المسلحة إلى الشارع في تحدٍّ لوزير الداخلية. وهكذا لم يبق أمام حماس إلا السيطرة على الأمن بعيدا عن القوى التي كانت في حقيقة الأمر تصنع الفوضى أكثر مما تحرس على الأمن".
يؤكد أحمد يوسف أحد الناطقين باسم حركة حماس، أن الحركة شعرت بضرورة الإسراع في أخذ تدابير إزاء الوضع. إن أحداث الأسبوع الماضي، حسب تصريحات أحمد يوسف، تسارعت وتيرتها بسبب السياسة الأميركية والإسرائيلية القاضية بتسليح عناصر من فتح (المعارضة) الراغبين في مهاجمة حماس وإخراجهم من مكاتبهم.
بعد أن نجحت حماس في إيقاف المخطط الأميركي الفتحوي المتعلق بغزة، يحاول عباس تطبيق هذا المخطط في الضفة الغربية بدءا بتشكيل حكومة طوارئ. ولعل هذه السياسة غير مجدية بما أن الدستور ينص على أن مثل هذه الحكومة لا يمكنها أن تدوم أكثر من ثلاثين يوما، وعلى البرلمان أن يجددها بموافقة أغلبية تتشكل من الثلثين، والبرلمان مشكل من أغلبية من حماس كما لا يخفى. يبدو أن المخرج السياسي المعقول الوحيد بالنسبة لعباس يكمن في الكف عن تهميش حماس، ثم العودة إلى اتفاق مكة وتقديم الدعم لحكومة وحدة وطنية. فحماس لا تزال إلى حد الساعة تبدي استعدادا لتقبل مثل هذا الخيار.
إزاء هذا الوضع، نتساءل عن مآل فكرة البيت الأبيض الداعية إلى ضرورة إشراك توني بلير في العملية كمبعوث إلى الشرق الأوسط. إن هذه الفكرة ستحدث "تحالفا جديدا من أناس لا مصداقية لهم" -بوش وأولمرت وبلير- فضلا عن كونها فكرة أقرب إلى السخرية والهزل منها إلى الجد والمعقول، نظرا لقلة المصداقية التي يتمتع بها بلير لدى حماس أو باقي الفلسطينيين. وقد يكون من الأفضل ترك أمر إحياء اتفاق مكة إلى السعودية، أو الانتظار ريثما يستيقظ عباس من غفوته ليدرك أنه وقع في فخ، فلا مبادئ الديمقراطية، ولا الحس المشترك، ولا عنصر الزمن، يقف في صف فتح.
_______________
كبير مراسلي جريدة غارديان البريطانية
باحث في مركز الجزيرة للدراسات
أعد النص بتاريخ الجمعة 22 يونيو/حزيران 2007.