أولمرت بين المسارين.. السقوط أم احتمالات الاستمرار

ترصد هذه الورقة ما تطرحه مفاوضات السلام العربية الإسرائيلية على المسارين السوري والفلسطيني من ظلال على وضعية رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت السياسية والمعادلة الصعبة التي تواجهه في ظل ظروف سياسية بالغة التعقيد.









 

أ. منير شفيق


وساطة تحمل أكثر من رسالة
أولمرت والمسار الفلسطيني

سقف المفاوضات
ملف الرشى
الاحتمالات








منير شفيق
منذ أخذت العلاقات التركية-السورية تتعزز, قامت تركيا بعدة محاولات للتوسط بين سوريا وحكومة الكيان الصهيوني، وكان ذلك في قضايا أدنى من فتح باب للتفاوض, مثل تخفيف التوترات، لاسيما تلك التي نشأت عن قصف الموقع السوري في دير الزور، وكانت تركيا فعلا معنية بهذه العملية، لأن الطائرات مرت قرب من حدودها، هذا إن لم تخترق مجالها الجوي أصلا.


ولكن انتقال الوساطة التركية إلى المستوى الذي وصلته حين أعلن, فجأة, وبصورة خارجة عن سياق الأحداث في المنطقة, أن ثمة وساطة تركية بين الطرفين تناولت موضوع الجولان, وقيل إن هذه المبادرة التركية عرضت على لسوريا بناء على موافقة من أولمرت على الانسحاب الكامل من الجولان.



وساطة تحمل أكثر من رسالة






"
 سبب توقيت الإعلان عن المفاوضات يرتبط بزيارة محمود عباس لواشنطن أي الضغط علي بوش من قبل أولمرت كي لا يعطى أي وعد لمحمود عباس يتضمن طلبا من إسرائيل لا تقبل به لإنجاح اتفاق التسوية
"
صدر الإعلان عن هذه الوساطة من دمشق, وفي اليوم الذي كان الرئيس الفلسطيني يقوم بزيارة حاسمة إلى واشنطن ذات صلة بمسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، كما جاءت في ظروف اشتدت فيها الحملات الأميركية على سوريا، وصلت حد التهديد باستصدار عقوبات ضدها من مجلس الأمن, أو من جانب أميركا وحلفائها. وفي الوقت الذي لم تكن العلاقات السورية-الفرنسية أحسن حالا، فضلا عن العلاقات السورية بكل من مصر والسعودية التي شهدت تدهورا ملحوظا في السنوات الأخيرة.


لم يكن من الممكن أن يعلن عن هذه الوساطة التركية دون موافقة مسبقة من تركيا، وكذلك لم يكن من الممكن أن تعطي تركيا موافقتها ما لم تستشر أولمرت نفسه وتأخذ موافقته، لأن الإعلان ودون رغبة ثلاثية, وإن كان لكل طرف من هذه الأطراف قصد خاص به من وراء هذا الإعلان, ما كان ليخرج من طور السر إلى العلن.



إذا كان هناك من سبب لتوقيت الإعلان, كما مضمونه فيجب أن يربط بزيارة محمود عباس لواشنطن، أي الضغط علي بوش من قبل أولمرت كي لا يعطى أي وعد لمحمود عباس يتضمن طلبا من إسرائيل لا تقبل به لإنجاح اتفاق التسوية.



ففتح أولمرت للمسار التفاوضي مع سوريا, ومن خلال الوساطة التركية, كما توقيته، في الوقت الذي يفترض فيه أن المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية قد قطعت شوطا متقدما لا تفسير له غير الضغط على بوش حتى لا يقدم أي تنازل للطرف الفلسطيني، وذلك بصورة متوازية مع اشتداد الضغوط العربية والأميركية والفرنسية واللبنانية على سوريا.



والدليل على ذلك أن إدارة بوش تلقت الرسالة وفهمتها جيدا، ولذلك جاء الرد من خلال إعلان الناطق الرسمي للبيت الأبيض في اليوم التالي بأن الموقع السوري الذي سبق أن تعرض للقصف الإسرائيلي قبل عدة أشهر كان موقعا يعد لأغراض أبحاث نووية، معززا هذا الادعاء بالصور التي أغضب نشرها دائرة الموساد الإسرائيلية، خشية ما يترتب عن ذلك من كشف عملاء لها داخل سوريا كانوا التقطوا لها الصور. فهذا الرد ما كان له أن يحصل لولا أن فتح ملف المفاوضات الإسرائيلية-السورية والإعلان عنها استهدف لقاء محمود عباس بالرئيس الأميركي بوش.



أولمرت والمسار الفلسطيني






"
جزء من القدس الشرقية القديمة هو العقدة المستعصية على الحل التي يطالب بها محمود عباس حتى يمرر اتفاقا وفقا لشروط أولمرت بتبادل الأراضي ووفقا لاقتراح بوش بالتعويض على اللاجئين فضلا عن الإقرار بيهودية الدولة
"
وبالفعل تلقى بوش الرسالة رغم غضبه منها, فلم يعط لمحمود عباس ما كان يطلبه من وعود للضغط على أولمرت من أجل إمكان التوصل إلى "الاتفاق المنشود"، فبهت وهج الزيارة التي عدها الكثيرون حاسمة في مسار التسوية التي كان بوش شخصيا حريصا أشد الحرص على إيصالها إلى نتيجة.


قبل زيارة محمود عباس, آنفة الذكر, حدث تبدل في الموقفين المصري والسعودي لصالح محمود عباس من المفاوضات السرية التي انطلقت برعاية أميركية حثيثة قبيل عقد مؤتمر أنابوليس، هذا ما يفسر كون المفاوضات قد مضت بقوة ومثابرة, وبأعلى درجات "النجاعة" بعد ذلك، وفعلا استغرقت اللقاءات والمفاوضات السرية عشرات الساعات, سواء تلك التي كانت تتم بين ليفني وقريع, أو تلك التي كانت تجري بين لجان فرعية بحثت في التفاصيل, أو بين أولمرت ومحمود عباس مباشرة.



هذا التبدل في الموقفين المصري والسعودي حدث بعد الأحداث التي أدت إلى اقتحام معبر رفح، أما قبل ذلك فكانت علاقات كل من مصر والسعودية سلبية بمحمود عباس وحكومة سلام فياض، وكان عنوان ذلك الضغط عليه دعوته للدخول في حوار غير مشروط مع حماس، ولكن السبب الحقيقي لهذا التغير يعود إلى إدارة ظهر محمود عباس للموقفين المصري والسعودي بعد الانقسام الذي حصل مع قطاع غزة, وقراره بالسير قدما في طريق المفاوضات السرية بالتفاهم مع أميركا، وقد اعتمد عليها بأن تمارس أشد الضغوط على مصر والسعودية حتى لا تقدما أو تشجعا على أي خطوة ضده.



فبعد أحداث معبر رفح استقبل العاهل السعودي سلام فياض لأول مرة بعد تسعة أشهر من تشكيل حكومته, وأصبحت زيارات محمود عباس متلاحقة لكل من مصر والسعودية، وأعلن رسميا أن الطرفين يدعمانه في المفاوضات، وصدر موقف شبيه بذلك عن الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى.



وفعلا مجمل هذه المعطيات أخافت إيهود أولمرت من زيارة عباس لواشنطن, ومعه كل هذا الدعم العربي, خاصة بعد أن قطعت المفاوضات الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية مسافة كبيرة فيما يتعلق بتبادل الأراضي وحل قضية اللاجئين وفقا لاقتراح بوش بتشكيل آلية دولية للتعويض للاجئين، إلى جانب اقتراح أولمرت بإعادة خمسين ألفا منهم على مدى عشر سنوات لأغراض إنسانية (جمع شمل العائلات الفلسطينية).



أغلب الظن أن العقدة التي بقيت مستعصية على الحل كانت تتعلق بذلك الجزء من القدس الشرقية (من القدس القديمة) الذي يطالب به محمود عباس حتى يمكنه تمرير اتفاق وفقا لشروط أولمرت بتبادل الأراضي، ووفقا لاقتراح بوش بالتعويض على اللاجئين، فضلا عن الإقرار بيهودية الدولة (دولة لليهود فقط).



صحيح أن المفاوضات كانت سرية للغاية، ولم يتسرب منها ما يشير إلى أي تقدم فيها. بل كان عباس والمفاوضون الفلسطينيون يصرون على التصريح بأنه لم يحصل أي تقدم يذكر على صعيد المفاوضات, وكان أولمرت من جهته متشبثا بمواصلة الاستيطان وعلى الاغتيالات والاعتقالات في الضفة الغربية, كما على تشديد الخناق والاعتداءات على قطاع غزة. أما محمود عباس فقد راح يستنكر ذلك كله، ولكن دون فعل شيء يذكر حتى من الناحية الشكلية، فقد أصر الطرفان على مواصلة مفاوضاتهما السرية كأن شيئا لم يحدث ليعطلها.



هذه المعادلة الصعبة وهذا التناقض بين ما يعلنه الطرفان وما يمارسانه من مفاوضات لا تفسير له غير توفر "الجدية" في المفاوضات للوصول إلى اتفاق ما، وإذا لم يكن اتفاقا نهائيا، فاتفاق إطار على الأقل، بما يسمح بالقول إن تقدما ملموسا قد حصل.



وإذا صح هذا فإن ما يعلن عنه من عدم حدوث أي تقدم أو ما يجري من استمرار للاستيطان يراد منه طمأنة حكومة أولمرت من جهة أولى, ثم من يمكن أن يعترض فلسطينيا وعربيا على مثل هذه المفاوضات.


سقف المفاوضات





"
أي اقتراب من موضوع القدس يعني تفجيرا لحكومة أولمرت ولهذا يجب أن تبقى المفاوضات سرية حتى على أغلب أعضاء حكومته
"
لا شك أن ثمة خطوطا حمراء على المفاوضات أن تتجاوزها على الصعيد الفلسطيني العربي، وعلى الصعيد الإسرائيلي على السواء. فمن الجهة الفلسطينية والعربية لا بد من الهبوط دون السقف المحدد من جانب قيادتي فتح والمنظمة، ولا بد من الهبوط عن سقف المبادرة العربية، وذلك من خلال ما سبق أن أعلنه محمود عباس من مبادئ ستة تحكم المفاوضات، واضعا علي رأسها الإقرار بتبادل الأراضي، والإقرار بأن تكون القدس الغربية عاصمة لإسرائيل والقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.

بيد أن السؤال المطروح هنا ما معنى أن يسعى إلى اتفاق وقد سبق لبوش أن فسر رؤيته لحل الدولتين والاعتراف بما حدث من وقائع جديدة علي الأرض (الاستيطان مثلا)، والإقرار بيهودية الدولة (أي أن تكون إسرائيل وطنا لليهود فقط)، وتشكيل آلية دولية للتعويض عن اللاجئين، وهذه النقاط كلها تعد تجاوزا للخطوط الحمراء الفلسطينية والعربية المفترضة.



كل ما سبق ذكره يبين فعلا أن ما يجري في المفاوضات يمضي تحت هذا السقف، ومن ثم كان لا بد من إجرائه سريا وبتكتم شديد حتى على أقرب المقربين، ومن ثم لا يعلن الاتفاق إلا ناجزا فيوضع الجميع كما حدث في اتفاق أوسلو أمام الأمر الواقع، أي بين خيار القبول به كما هو، دون تعديل، ولا حتى تغيير فاصلة أو نقطة، وإما رفضه.



في المقابل إن إنجاز هذا التقدم في المفاوضات بالنسبة إلى أولمرت لا يكفي، إذا أصر محمود عباس على الجزء الذي يطالب به من القدس القديمة، لأن أي اقتراب من موضوع القدس يعني تفجيرا لحكومته. ولهذا يجب أن تبقى المفاوضات سرية حتى على أغلب أعضاء حكومته، علما بأن أحد الأطراف المكونة للائتلاف الحكومي قد سبق له أن استقال حين شك في ذلك.



أولمرت من جهة أخرى أعلن امتعاضه لضم بعض القرى المحيطة بالقدس مثل أبودبس والعيزارية إلى القدس الكبرى، بما يسمح بالاستنتاج أن هذه هي القدس التي يمكن أن "يتنازل عنها"، وبشق الأنفس وبالعودة إلى الانتخاب، لأن حكومته لا تستطيع أن تصمد حتى مع هذا المستوى من "التنازل".



من هنا يكون عباس عندما ذهب إلى بوش, وقد حمل معه دعما عربيا مغريا, يريد أن تضغط أميركا على شريكها الإسرائيلي، لإعطائه ذلك الجزء المطلوب من القدس الشرقية داخل أسوار المدينة (حتى ليس كل المدينة القديمة)، وهو ما لا يتحمله أولمرت في كل الظروف، وهذا هو السبب الذي دعاه إلى التحريك السريع والمفاجئ للمسار السوري عبر الوساطة التركية.


هذا ما يسمح بالاستنتاج من جهة أخرى بأن فتح المسار السوري من جانب أولمرت لا يستهدف الوصول إلى اتفاق إسرائيلي-سوري قبل الفلسطيني أو معه في آن واحد، كما يتصور البعض، بقدر ما يهدف إلى تحقيق مآرب أخرى. فما يجري من جانب أولمرت يدخل في باب المناورة وقد عزز ذلك عودة التحقيق معه بتلقي رشى.



بيد أنه من جهة أخرى يجب ألا يقلل من خطورة إعلانه عن هذه المفاوضات، سواء في المدى البعيد أو المتوسط، فسوريا لن تتركه يستخدم ورقتها مجانا ومن دون ثمن, ما لم يتقدم بما يشبه وديعة رابين على الأقل. كما أنها نجحت من جهة أخرى في استخدام هذه الورقة لكسر للحصار المضروب عليها، بل تشتيه كما تكرس ذلك باتفاق الدوحة اللبناني-اللبناني, وانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية.


واضح من خطاب بوش في الكنيست ثم مؤتمر دافوس الذي انتقل إلى شرم الشيخ أن اندفاع بوش لتحقيق اتفاق فلسطيني-إسرائيلي بين محمود عباس وإيهود أولمرت على خلفية استخدامه ورقة في الانتخابات الرئاسية الأميركية قد ضعف ضعفا شديدا، ولم يبق عنده ما يقدمه لحزبه الجمهوري في الانتخابات غير مزيد تملق الصهيونية بشكل بدا مبتذلا للغاية في خطبة الكنيست.



لهذا يمكن القول, كما لاحظ دينيهووس, إن أولمرت بفتحه للمفاوضات على المسار السوري وجه "صفعة قوية لبوش"، وقد سبق لدنيس روس المبعوث الخاص للشرق الأوسط في حقبة كلينتون أن لاحظ بدقة أيضا أن اتفاق الدوحة كان نكسة أيضا لبوش.


فهذا الأمر واضح جدا في الحالتين، إذا ما أخذنا في الاعتبار حملة بوش الشديدة التي دعا فيها الدول العربية لمحاربة حزب الله وحماس وسوريا وإيران. فأين محاربة سوريا من المفاوضات الثنائية غير المباشرة التي جرت في أنقرة, وقد خرج منها الطرفان راضيين لبحث إمكان تحويلها إلى مفاوضات مباشرة؟ وأين دعوة الدول العربية لمحاربة حزب الله وسوريا من اتفاق الدوحة الذي رعته قطر بالنيابة عن وزراء خارجية الدول العربية مجتمعين؟



ليس من المبالغة إذا قيل إن إدارة بوش فشلت في حملتها السياسية ضد حزب الله وسوريا مباشرة, وضد حماس وإيران بصورة غير مباشرة, وأخفقت في تحقيق اتفاق فلسطيني-إسرائيلي سعت إليه خلال الأشهر السبعة الماضية بأسنانها وأظافرها, كما يقولون، ولم يبق لديها ما تفعله غير الحرب ضد إيران، وإلا على جورج دبليو بوش أن ينهي ما بقي له من أيام في البيت الأبيض وهو محاط بالإخفاقات ومسكون بالحسرات.


أما أولمرت فهو في أضعف حالاته، علما بأنه كان من المفترض أن يستقيل مع صدور التقرير الأول للجنة فينوغراد، كما فعلت غولدامائير، حين قررت لجنة التحقيق في حرب أكتوبر 1973 أن حكومتها قصرت.



ولكن بقاء قرار الحرب ضد إيران على الأجندة, لاسيما قبل تقرير الاستخبارات الأميركية الشهير حول البرنامج النووي الإيراني هو الذي حال دون استقالته، ثم جاء الاندفاع في المفاوضات لإنجاز اتفاق فلسطيني-إسرائيلي ليسهم في تجنيبه خيار الاستقالة، وكان هذا سببا في تخفيف لهجة تقرير فينوغراد الثاني بحقه.


فأولمرت عمليا في حكم المستقيل، وإذا ما أجلت الحرب ضد إيران، وإذا ما استبعد إمكان اتفاق مع الفلسطينيين، فلن ينقذه من الاستقالة محاولته إنجاز شيء ما، أو الإيحاء بإمكان إنجاز شيء ما، على الجبهة السورية. فالمفاوض السوري صعب المراس يأخذ ولا يعطي (عدا ما أعطى في مؤتمر مدريد)، فيما المفاوض الفلسطيني يعطي دون أن يأخذ شيئا.



ملف الرشى



وعندما يضاف إلى كل ذلك وبسبب ذلك، إعادة فتح ملف الرشى التي تلقاها أولمرت، فهذا يعني، أنه ومعه القادة الآخرون، في أضعف حالاتهم، وأنهم قد فقدوا المبادرة.


هذا ما يفسر نجاح الوساطة التركية في إنجاز ما أنجزته حتى الآن، ويسمح بالقول، خاصة بعد استعصاء إخضاع قطاع غزة بالحصار أو بالاقتحام العسكري، أنه ليس أمام أولمرت غير الحرب على إيران أو إمضاء ما تبقى من أيامه في الوزارة متعلقا بالمسار السوري، وربما مواصلة المفاوضات الثنائية مع محمود عباس، بعد أن وصلت مخنقها في موضع القدس القديمة والمسجد الأقصى. ولكن هذا الوضع أشبه ما يكون بتعلق الغريق بقشتين واهيتين.


أما من جهة أخرى فعندما تتقدم قطر لالتقاط زمام المبادرة في رعاية الحوار اللبناني-اللبناني وإنجاحه، وعندما تتقدم تركيا لالتقاط زمام المبادرة في المسار السوري، فهذا وذاك لا يدلان على تدهور وضع كل من أميركا والكيان الصهيوني فحسب، وإنما أيضا على تراجع الموقفين المصري والسعودي وإفلات زمام المبادرة عربيا من أيديهما. وهو ما أتاح لهما (قطر وتركيا) أن تلعبا بذكاء دور (العامل المحرك) (The catalyst) في عملية التفاعل الناتجة عن الخلل في موازين القوى في منطقتنا في مصلحة قوى المقاومة والممانعة.



الاحتمالات





"
الوضع الراهن لا يحمل سمات الثبات, ولو لبضعة أشهر, ولا يحمل سمة الاتجاه بالمنطقة ضمن روحية ما حدث في اتفاق الدوحة أو المبادرة التركية
"
معادلة الوضع الراهن بما انتهى إليه اتفاق الدوحة لبنانيا, وانطلاق المفاوضات غير المباشرة السورية-الإسرائيلية, غير قابلة للاستمرار والتطور في الاتجاه نفسه. فالقوى الغاضبة على ما آل إليه الوضع الراهن كثيرة وفي مقدمتها الإدارة الأميركية، وإلى حد أقل أوروبا, وكذلك الحال بين القيادات الإسرائيلية التي عادت تتربص بأولمرت الدوائر وباتت تتحرك لإسقاطه.

كما أن هناك قوى عربية ومحلية لم يعجبها ما حدث أو ما هو قائم من تطورات، حتى وإن ماشته بعض الوقت وأسهمت فيه إلى حد ما.



لهذا فإن الوضع الراهن لا يحمل سمات الثبات, ولو لبضعة أشهر, ولا يحمل سمة الاتجاه بالمنطقة ضمن روحية ما حدث في اتفاق الدوحة أو المبادرة التركية, وإنما الأرجح أن يواجه بأحد احتمالين رئيسيين:



الأول: ما زالت الحرب ضد إيران مطروحة على الأجندة في الأشهر الثلاثة القادمة. فإذا تغلب قرار إطلاق هذه الحرب فإنه سيترتب عنها من النتائج ما سيغير معادلة الوضع الراهن جذريا. وذلك بغض النظر عن النتائج، وفي أي في اتجاه ستسير الأمور.



الثاني: إذا استبعد خيار الحرب على إيران, وحتى قبل استبعاده، أي تأجيله لما بعد الانتخابات الإسرائيلية, فإن القوى التي هي غير راضية عن الوضع الراهن ستعمد, وبأسرع من المتوقع، على تخريبه إذا استطاعت. ولكن حتى إذا فشلت هذه القوى فإن ذلك سيكون جزئيا ومؤقتا، فالوضع يقف على رمال متحركة لأن ما حدث من تغيير في ميزان القوى في غير مصلحة أميركا والكيان الصهيوني، وقد انعكس ذلك حتى الآن في اتفاق الدوحة والوساطة التركية.



الذي تغير اليوم هو أن الوضع العام في المنطقة قد شهد انتقالا إلى ما يسمى بشبه التوازن الإستراتيجي، وهذا الوضع محاط بطبيعته بالاحتمالات المتعاكسة والمتحركة في الوقت نفسه.


ولعل ما سيترتب عن الوضع في لبنان بعد انتخاب الرئيس ميشيل سليمان وإعادة فؤاد السنيورة لتشكيل حكومة وفقا لاتفاق الدوحة, وكذلك ما سيترتب عن مستقبل حكومة أولمرت التي أصبح رئيس وزرائها على حافة الاستقالة (وحتى أميركا لم تعد راضيه عنه بعد فتح المسار السوري), كما غدا ائتلافه بدوره على حافة الانهيار سيعطيان صورة سريعة للكيفية التي سيتجه إليها الوضع الراهن.


بعبارة أخرى سيكشف هذان الحدثان عن طبيعة الأوراق التي ستستخدمها القوى غير الراضية على ما آلت إليه الأمور، وما إذا كانت ستستمر في المساومة أم ستبدأ جولة جديدة للعودة إلى ما قبل الحدثين المذكورين أعلاه، وإن كان ذلك بأشكال جديدة وعناوين جديدة.
_______________
مفكر فلسطيني
أعدت هذه الورقة بتاريخ: 1 يونيو/ حزيران 2000
جميع الحقوق محفوظة لمركز الجزيرة للدراسات © 2008

ABOUT THE AUTHOR