المنافسة الأميركية الفرنسية الروسية بشمال أفريقيا

تحاول هذه الورقة إلقاء الضوء على جولة رايس المغاربية والاهتمام الأميركي المتزايد بمنطقة المغرب العربي في ظل تزايد المنافسة الدولية على النفوذ في المنطقة.







 


 


 







رشيد خشانة (الجزيرة نت-أرشيف)
تهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إلى منطقة المغرب العربي، وكذا طبيعة الأهداف والخلفيات التي تقف خلف هذه الزيارة، سواء ما تعلق منها بموضوع النفط أو التنسيق الأمني والعسكري، أو منافسة الحضور الفرنسي التقليدي في المنطقة والنفوذ الروسي الآخذ في التنامي خلال السنوات الأخيرة.


كما تخلص الورقة إلى تقييم الآفاق المحتملة للعلاقات المغاربية الأميركية خاصة في ظل الأولوية الأميركية المتمركزة حول النفط والطاقة ومواجهة المجموعات المسلحة في منطقة المغرب العربي ودول الصحراء الأفريقية.



قامت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بجولة مغاربية شملت كلا من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب بين الرابع والسابع من سبتمبر/أيلول 2008. ورايس هي أرفع مسؤول أميركي يزور المنطقة منذ الجولة المغاربية لسلفها كولن باول في سنة 2003 والتي لم تشمل ليبيا وقتها، ومنذ جولة وزير الدفاع السابق دونالد رمسفيلد في 2006.



وأجرت رايس أثناء توقفها في العواصم الأربع -الذي لم يتجاوز بضع ساعات في كل محطة- محادثات هامة مع رؤساء الدول تم التطرق خلالها إلى مسائل إستراتيجية تخص مستقبل العلاقات الثنائية ومسار التكامل المغاربي والتزام دول شمال أفريقيا بأهداف "الحرب الدولية على الإرهاب"، إضافة إلى قضايا الإصلاح والديمقراطية.



ويمكن اعتبار الجولة ردا على اهتمام باريس المتزايد بالمنطقة في الفترة الأخيرة، وبخاصة جولات الرئيس نيكولا ساركوزي لإحياء الدور الفرنسي في معقله "التاريخي"، وبخاصة لمواجهة التمدد الأميركي الآسيوي في المغرب العربي. لذا ستتطرق هذه الورقة إلى أربعة محاور هي: السياق الذي تنزلت فيه الجولة، ومضامين المسائل التي تطرقت لها والتي تعكس أولويات السياسة الأميركية في المنطقة، وأبعاد المنافسة الأوروبية الأميركية الروسية على المغرب العربي، وآفاق العلاقات المغاربية الأميركية.



 





"
ليبيا كانت أهم محطة في الجولة فرايس بدأت جولتها من طرابلس حيث أن الإدارة الأميركية وجهت رسالة من هناك إلى الدول التي مازالت تعتبرها راعية للإرهاب


"

لم تكن هناك جولة مغاربية مبرمجة من قبل وإنما كان مُقررا أن تزور الوزيرة الأميركية ليبيا فقط احتفاء بالمصالحة بين البلدين.



وفي هذا الإطار أعلن مساعدها ديفد وولش في سبتمبر/أيلول 2005 أنها ستزور ليبيا قبل نهاية العام، وأكد تلك المعلومة فيما بعد نجل العقيد القذافي سيف الإسلام رئيس "مؤسسة القذافي العالمية".



إلا أن الزيارة تأجلت مرات عدة بسبب ربطها بتوصل الحكومتين إلى اتفاق على حجم التعويضات التي يتوجب دفعها لضحايا تفجير ملهى "لابيل" في برلين عام 1986 والذي اتُهمت ليبيا بالوقوف وراءه، وكذلك ضحايا حادث تفجير طائرة شركة "بان أميركان" فوق قرية "لوكربي" في أسكوتلاندا عام 1988. وما أن توصل الجانبان إلى اتفاق في هذا الشأن في الرابع عشر من أغسطس/آب 2008 حتى باتت الزيارة مطروحة للإنجاز.



وتضمن الاتفاق الذي وقع عليه في طرابلس كل من وولش ومساعد وزير الخارجية الليبي أحمد الفيتوري إقرار ليبيا بالمسؤولية عن ثلاثة اعتداءات استهدفت رعايا أميركيين في ثمانينيات القرن الماضي والالتزام بدفع تعويضات ضخمة لأسرهم.



ودلت كثافة المفاوضات التي سبقت التوقيع على الاتفاق على أن إدارة الرئيس جورج والكر بوش حريصة على إنهاء هذا الملف بسرعة وتسجيل نجاح دبلوماسي في سجلها الهزيل، كي لا تقطف الإدارة المقبلة التفاحة التي باتت يانعة، وخاصة إذا أتى الرئيس من الحزب الديمقراطي. ومن الجانب الآخر أهدى القذافي هذا الإنجاز لبوش وهو في ربع الساعة الأخير من عهده، ولم يحتفظ به لخلفه عند تدشين العهد الجديد.



وتلقف الأميركيون الهدية التي أتى فحواها لصالحهم فسارع الكونغرس الأميركي إلى التصديق على قانون خاص قضى بإنشاء صندوق يتولى منح تعويضات لضحايا "لوكربي" وكذلك لليبيين ضحايا الغارات الأميركية على طرابلس وبنغازي سنة 1986.



ووقع بوش على القانون في مطلع أغسطس/آب، ووجه رسالة في هذا المعنى إلى القذافي سلمها إليه وولش عند اجتماعه معه في طرابلس قبل زيارة رايس بأسبوعين.



من هذه الزاوية تكون زيارة ليبيا مُستحقة لتتويج مسار معاودة إدماجها في المنظومتين الإقليمية والدولية بعد أكثر من ثلاثة عقود من الإقصاء. وكانت رايس أول وزير خارجية أميركي يزور ليبيا منذ زيارة فوستر دالس في سنة 1953.



وسبق هذه الخطوة معاودة فتح السفارتين الليبية في واشنطن والأميركية في ليبيا، إلا أن الكونغرس اعترض على مباشرة السفير الذي سماه بوش مهامه في ليبيا طالما لم تُحل مسألة التعويضات. كما أنها أتت بعد أربع سنوات من إصدار بوش مرسوما تنفيذيا في العشرين من سبتمبر/أيلول 2004 أنهى بموجبه العقوبات التي كانت تحظر التجارة مع ليبيا أو تبادل الرحلات الجوية والبحرية معها، ورفع الحجز عن أرصدة قيمتها 1.3 مليار دولار كانت جُمَدت بموجب برنامج العقوبات على ليبيا، وهي على ملك أشخاص أو مؤسسات ليبية وغير ليبية.



ومن المفيد التذكير بأن المرسوم أكد أن "المخاوف من أسلحة الدمار الشامل لم تعد تشكل عائقا في وجه تطبيع العلاقات الأميركية الليبية"، مشيرا إلى أن "في وسع ليبيا استعادة مكانتها الآمنة والمحترمة بين الأمم وإقامة علاقات أفضل مع الولايات المتحدة مع مرور الزمن".



بهذا المعنى فإن ليبيا كانت أهم محطة في الجولة، وهو ما يفسر أن رايس بدأت جولتها من طرابلس، إذ إن الإدارة الأميركية وجهت رسالة من هناك إلى الدول التي مازالت تعتبرها "راعية للإرهاب"، وفي مقدمتها إيران وكوريا الشمالية.



ومفاد الرسالة أن ليبيا أنموذج ينبغي احتذاؤه للعودة إلى حظيرة المجتمع الدولي، وهو نوع من التلويح بالجزرة بعد العصا (العقوبات الدولية المُقررة في حق الإيرانيين والكوريين الشماليين). وليس من باب الصدف أن زيارة ليبيا تزامنت مع معاودة كوريا الشمالية تجميع مفاعلها النووي.



وثمة رسالة ثانية كانت تُوجهها الإدارة الأميركية لكن إلى موسكو هذه المرة من خلال زيارة رايس لليبيا وجولتها المغاربية عموما، إذ لا يمكن فصل الجولة عن العلاقات المتوترة مع الاتحاد الروسي على خلفية تفاعلات الأزمة الجورجية.



فمن الواضح أن واشنطن حرصت على الاطمئنان إلى حلفائها المغاربيين بعد عودة روسيا إلى ملعب الحرب الباردة من خلال بوابة القوقاز، لا بل والتأكد من حلفائها المتوسطيين أيضا بعد موافقة سوريا على السماح لقطع الأسطول الروسي بالعودة إلى موانئها، واستطرادا إلى مياه المتوسط.






"
وسَعت رايس زيارتها لليبيا إلى جولة مغاربية ليس لاعتبارات بروتوكولية تتعلق بتوديع الأصدقاء في المنطقة، مثلما ذهب بعض المحللين، وإنما بدافع احتواء الاندفاع الفرنسي والأوروبي عموما نحو شمال أفريقيا في الفترة الأخيرة

"


وسَعت رايس الزيارة المُقررة لليبيا إلى جولة مغاربية ليس لاعتبارات بروتوكولية تتعلق بتوديع الأصدقاء في المنطقة، مثلما ذهب بعض المحللين، وإنما بدافع احتواء الاندفاع الفرنسي والأوروبي عموما نحو شمال أفريقيا في الفترة الأخيرة. فهناك تطوران مُهمان سبقا الجولة ولا بد أنهما لعبا دورا في دفع الإدارة الأميركية إلى اتخاذ قرار بضبط الأمور مغاربيا.



-أ / جاءت الجولة بعد ستة أسابيع فقط من القمة التأسيسية لـ"الاتحاد من أجل المتوسط" في باريس، وقبل شهرين من اجتماع وزراء خارجية البلدان الأعضاء في الاتحاد المقرر لمطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2008 لتنشيط مؤسساته والموافقة على المشاريع المنوي إنجازها في إطاره.



وطبعا توجد العلاقات الفرنسية المغاربية في قلب هذه الرؤية لأن ساركوزي يعكف على تحسين مركز فرنسا الإقليمي والدولي على السواء، في إطار قوس يمتد من ضفاف البوسفور في تركيا إلى ضفاف الأطلسي في موريتانيا. وفي هذا السياق قام ساركوزي بجولتين مغاربيتين شملتا ثلاثة بلدان تربطها علاقات "تاريخية" مع فرنسا هي المغرب والجزائر وتونس، بالإضافة لزيارة خاصة إلى ليبيا.



واللافت أن رايس استثنت موريتانيا من جولتها المغاربية مثلما استبعدها ساركوزي من زياراته للمنطقة، لكن لأسباب مختلفة، فحجة رايس أن الحكم الموريتاني الذي أتى بعد انقلاب عسكري أطاح بحكومة شرعية منتخبة، يخضع لعقوبات أميركية لا ينبغي كسرها من خلال إضافة البلد إلى برنامج الجولة.



- ب/ إلى جانب فرنسا التي هي الغريم الرئيسي للولايات المتحدة في شمال أفريقيا، اكتست جولة رايس طابع المُناكفة مع روسيا التي تمدد نفوذها نحو المنطقة في عهد الرئيس السابق فلاديمير بوتين بشكل غير مألوف منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.



فمع بوتين تخلت السياسة الروسية في شمال أفريقيا عن المنطلقات الأيديولوجية وأخذت في الاعتبار المصالح الاقتصادية في الدرجة الأولى، طاوية نهائيا صفحة المحاور التي كانت تُقسم المنطقة إلى "تقدميين" و"رجعيين".



وعلى هذا الأساس أبصرت العلاقات الروسية المغاربية انعطافا لافتا في الفترة الأخيرة أعاد موسكو إلى شطرنج المنافسة الإقليمية بعد غياب طويل، بل جعل منها لاعبا رئيسيا تخشاه أميركا أكثر من ذي قبل. وجديد العودة الروسية إلى المنطقة أنها لم تعد تقتصر على علاقات جيدة مع الجزائر، وإنما باتت تشمل أيضا إقامة تعاون وثيق مع المغرب، منذ زيارة بوتين إلى كل من الرباط والجزائر في2007.



كذلك أصبح الروس لا يتعاطون في صفقات التسليح فقط وإنما يهتمون بالتنسيق في مجال الغاز وتزويد بلدان المنطقة بالتكنولوجيا النووية وتعزيز التعاون الأمني في مكافحة الإرهاب وتكثيف المبادلات التجارية.



وكانت زيارة بوتين للجزائر مناسبة لمقايضة الديون الجزائرية تجاه موسكو والمُقدَرة بـ4.7 مليارات دولار بصفقة دبابات وطائرات متطورة، إذ قبل الروس شطب الديون المتخلدة بذمة الجزائر مقابل إبرام صفقة الأسلحة. وهذا النوع من العلاقة انتفى مع ليبيا مثلا التي صارت مرتبطة أكثر بالدول الغربية منذ رفع العقوبات الدولية عنها، ناهيك أنها صارت ترسل طياريها المدنيين لإجراء التدريبات في ولاية سياتل الأميركية وترغب في تجديد أسطولها الحربي المؤلف من طائرات فرنسية الصنع.



وفيما تصدر ملف التسليح المحادثات التي أجراها بوتين في الجزائر في مارس/آذار 2007، طغت ملفات التعاون الاقتصادي على محادثاته في المغرب، الذي زاره في سبتمبر/أيلول من السنة الماضية.



ويمكن القول إن بوتين منح روسيا منفذا ثمينا للمغرب الأقصى الذي يشكل إحدى دولتين رئيسيتين في المنطقة، ربما للتعويض عن "خسارة" ليبيا بعد الصفقة التي عقدها العقيد معمر القذافي مع واشنطن لتطبيع العلاقات الثنائية، والتي أضعفت مركز الشركات الروسية في لعبة تقاسم الكعكة النفطية خلال مرحلة ما بعد إنهاء العقوبات الدولية.



ولاشك في أن الإدارة الأميركية تابعت بقلق زيارة أول رئيس روسي لحليفها المغرب والتي شُفعت بالتوقيع على سلسلة من الاتفاقات الثنائية شملت تجديد السماح لاثنتي عشرة سفينة صيد روسية بالصيد في السواحل المغربية لمدة ثلاث سنوات أخرى، وتسليم المطلوبين للقضاء وتنشيط إرسال السياح الروس إلى المغرب، وتبادل إعطاء المنح الدراسية للطلاب وتكثيف التعاون العلمي والثقافي والرياضي.



وكانت هذه التطورات في خلفية جولة رايس المغاربية، وخاصة لدى تناولها موضوع العلاقات بين الجزائر والمغرب في زيارتيها للعاصمتين، لأن سباق التسلح الإقليمي مرتبط ارتباطا وثيقا باستمرار النزاع بين البلدين على الصحراء.



 

شملت المحادثات التي أجرتها رايس مع قيادات البلدان الأربعة التي زارتها قضايا مشتركة تتصل بالإستراتيجية الأميركية العامة إقليميا ودوليا، وملفات أخرى ذات طابع ثنائي.

ونلاحظ أن الوزيرة الأميركية ركزت على مسائل في بعض المحطات لم تُعرها نفس الأهمية في محطات أخرى من جولتها.

فقضية الصحراء مثلا برزت في الرباط لكنها غابت في طرابلس، ومسألة الإصلاح السياسي والحريات طفت على السطح في المحادثات التي أجرتها في كل من تونس وليبيا وتوارت في المحطتين الأخريين.

التنسيق الأمني والتعاون العسكري






"
العمود الفقري لسياسة واشنطن المغاربية هو ضرورة التزام عواصم المنطقة بالمشاركة الفعالة في الحرب على الإرهاب، وما يفرضه ذاك الالتزام من تنسيق أمني وتعاون عسكري، وضمان الاستقرار الإقليمي

"
لكن الثابت أن المسألتين اللتين تشكلان العمود الفقري لسياسة واشنطن المغاربية هما ضرورة التزام عواصم المنطقة بالمشاركة الفعالة في "الحرب على الإرهاب"، ثم ما يفرضه ذاك الالتزام من تنسيق أمني وتعاون عسكري، وضمان الاستقرار الإقليمي بما يؤثر "إيجابا" في حلحلة الصراع العربي الإسرائيلي ويساهم في محاصرة إيران.


ومن المهم الإشارة إلى أن جولة رايس سبقتها جولة لقائد القيادة الأميركية الخاصة بأفريقيا (أفريكوم) الجنرال وليم واردwilliam ward في مايو/أيار الماضي شملت المغرب وتونس. وحضر وارد في قاعدة بنزرت شمال تونس مناورات بين القوات التونسية والأميركية في إطار تعزيز التنسيق في مكافحة الإرهاب، خصوصا في المناطق المتاخمة للصحراء الكبرى، حيث اختطفت عناصر من تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" سائحين نمساويين بعد وصولهما للجنوب التونسي مطلع العام الجاري، ونقلتهما إلى مالي عبر التراب الجزائري.



وأكد وارد خلال تلك الجولة أن خطر "القاعدة" حقيقي في شمال أفريقيا وأنه سيتعاون مع بلدان المنطقة عسكريا لمجابهته. وشدد على أهمية "إقامة تعاون طويل الأمد" مع الدول الأفريقية لضمان المزيد من الاستقرار في القارة.



وتشمل دائرة تدخل "أفريكوم" المؤلفة من ألف عنصر فقط موزعين على ثلاث قيادات فرعية، كامل القارة الأفريقية (عدا مصر التي تتبع للقيادة المركزية في ميامي).



وتتولى "أفريكوم" متابعة تنفيذ البرامج المتعلقة بالأمن والاستقرار في القارة الأفريقية التي كانت تتولى وزارة الخارجية الإشراف على تنفيذها. وسبق أن عرضت واشنطن على موريتانيا استضافة مقر القيادة الخاصة بأفريقيا إلا أن العرض تسبب بتجاذب قوي بين الحكومة ومعارضيها الذين حذروا من الموافقة عليه وهددوا بتسيير مظاهرات في الشوارع لحملها على رفضه.



كما أن رئيس "مكتب التحقيقات الفدرالي" (إف بي آي) روبرت موللر Robert S. Mueller زار المغرب في يوليو/تموز 2007 مُعلنا عن تنسيق أمني في ملاحقة عناصر "أنصار الإسلام في الصحراء".



وتبحث الولايات المتحدة منذ أكثر من عام عن بلد أفريقي يقبل استضافة مقر قيادة قواتها في القارة الأفريقية الذي مازال موجودا في شتوتغارت (ألمانيا)، لكن لم يُرحب أي من العواصم المعنية باستضافة المقر. ولم يُعرف ما إذا كانت رايس فاتحت زعماء الدول التي زارتها في الموضوع، غير أن الأرجح أن المواقف لم تتغير من هذه المسألة.



وما يؤكد ذلك أن الجنرال وارد أكد قبل ثلاثة أشهر من جولة رايس أن واشنطن لم تطلب منحها قواعد أو تسهيلات دائمة في ميناءي بنزرت في تونس والقنيطرة في المغرب.



ويتفق المراقبون على أن إعلان انضمام "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" الجزائرية إلى شبكة "القاعدة" شكل علامة فارقة حسمت انضمام الدول المطلة على الصحراء الكبرى إلى الإستراتيجية الأميركية، وهو ما جسدته المناورات السنوية المشتركة التي تجري بالتناوب في أحد بلدان المنطقة في إطار "الشراكة العابرة للصحراء لمكافحة الإرهاب" (Trans-Sahara Counter Terrorism Partnership/ TSCTP) والتي عقدت دورتها الثالثة في دكار يوم 7 فبراير/شباط 2007 بمشاركة رؤساء أركان كل من المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا (ليبيا غير مشاركة) والنيجر ومالي وتشاد والسنغال ونيجيريا، بإشراف الجنرال وارد الذي كان ما يزال آنذاك مساعدا لقائد القوات الأميركية في أوروبا.



ولم يبخل الأميركيون من جهتهم على البلدان التي خطبت ودهم فخصصوا لـ"الشراكة العابرة للصحراء" عند انطلاقها موازنة راوحت بين ثمانين وتسعين مليون دولار. ولا بد من التذكير هنا أيضا بأن ثلاثا من الدول التي زارتها رايس أعضاء في "الحوار المتوسطي" الذي أقامه الحلف الأطلسي بتشجيع من الولايات المتحدة.



وعلى هذا الأساس تُباشر ستة بلدان عربية هي مصر والأردن وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، بالإضافة إلى إسرائيل، تعاونا متعدد الأبعاد مع الحلف اعتبارا من سنة 1994 أفضى إلى تنظيم مناورات دورية مشتركة وتكثيف زيارات قطع من الحلف لموانئ البلدان الصديقة، وبخاصة بعد إطلاق الولايات المتحدة حربها العالمية على الإرهاب.



والجدير بالذكر ههنا أن جولة رايس جاءت بعدما استكمل الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ياب دي هوب شيفر زيارات إلى البلدان الثلاثة المشاركة في "الحوار المتوسطي" خلال السنوات الأخيرة، وكذلك بعد اجتماعات مشتركة بين وزراء الجانبين عُقدت في بروكسيل لدرس الدور الذي يمكن أن يلعبه الحلف في مجال تحديث جيوش البلدان المتوسطية وبخاصة مخابراتها العسكرية.



وعرض الحلف خلال تلك الاجتماعات على بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط عشرين مجالا للتعاون من ضمنها تأهيل القوات المسلحة وإصلاح المنظومات الدفاعية ومعاودة هيكلة أجهزة المخابرات العسكرية والقيام بمناورات مشتركة ومكافحة الكوارث الطبيعية.



والمُلاحظ أن لجانا مؤلفة من خبراء أمنيين في الحلف والبلدان المتوسطية باشرت إثر ذلك اجتماعات للبحث في آليات تعزيز التنسيق في مكافحة الإرهاب".



من هذه الزاوية يستوقف المراقب تغييب موريتانيا من الجولة لأكثر من سبب، فواشنطن تعتبرها حلقة مهمة في معركتها مع "القاعدة" وقد أرسلت في يونيو/حزيران الماضي مائتي جندي من المارينز إلى مدينة أطار الموريتانية للقيام بمهمة وُصفت بكونها "إنسانية" وترمي لدعم الجيش الموريتاني في أعمال الإغاثة والأنشطة الإنسانية وعلاج المرضى.



وأفاد ماكس بلومانفلد -وهو أحد المسؤولين في مركز "القيادة الأفريقية" في شتوتغارت التي أتى منها المارينز- بأن عناصر أخرى ستصل إلى أطار، كما زارها السفير الأميركي في نواكشوط مارك بلوار ثلاث مرات في أقل من ثلاثة أشهر.

الديمقراطية وحقوق الإنسان

يبدو أن رايس أرادت من خلال استثناء البلد الذي يقوده عسكر انقلبوا على رئيس شرعي منتخب (موريتانيا) أن توجه رسالة إلى النخب المغاربية مفادها أن واشنطن ما زالت تدافع عن المشروع الديمقراطي في المنطقة وتتصدى للقوى المناهضة للتحديث، حتى لو كانت في المؤسسة العسكرية المتحالفة معها.



من هذه الزاوية أيضا يمكن فهم دفاع الخارجية الأميركية خلال زيارة رايس إلى ليبيا عن ضرورة إخلاء سبيل المعارض المعتقل فتحي الجهمي (66 عاما)، وهو ما حمل وزير الخارجية الليبي على الرد على أسئلة الصحفيين في هذا الشأن بالإشارة إلى أن الجهمي يلقى الرعاية الصحية اللازمة في المستشفى وأن ليبيا لا تقبل دروسا من أحد في حقوق الإنسان.



وكانت أهم محطة أثارت فيها رايس هذه المسائل هي المحطة التونسية، لكن لم يرشح شيء من مناقشاتها في وسائل الإعلام، ويعود الفضل إلى الصحفيين الذين رافقوا الوزيرة على متن طائرتها الخاصة في معرفة ما دار في الجلسات المغلقة، إذ كشفت رايس أنها طلبت من القيادة التونسية تسريع وتيرة الإصلاح السياسي وضمان تعددية الإعلام المحلي وإفساح المجال أمام المعارضة لاستخدام التلفزيون المحلي في أفق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة لسنة 2009.



وحتى عندما طرحت مع حُكام البلدان التي زارتها مسائل ذات طابع أمني مثل أوضاع المعتقلين المغاربيين في غوانتانامو فإنها ألبست الموضوع كساء ديمقراطيا، فعبرت مثلا عن الاستعداد لتسليم هؤلاء المعتقلين إلى بلدانهم، لكن بعد التأكد من عدم تعريضهم للتعذيب.



ولدى مناقشتها هذه المسألة مع الرئيس التونسي مثلا عبرت عن القلق على مصير معتقلين تونسيين سابقين في غوانتانامو تم تسليمهما لسلطات بلدهما في يوليو/تموز لكن لا يُعرف مصيرهما، واشترطت الحصول على ضمانات باحترام حقوق هؤلاء المشتبه فيهم والامتناع عن إساءة معاملتهم قبل الإفراج عنهم وتسليمهم وكأنهم يتمتعون بكامل حقوقهم الإنسانية في معتقل غوانتانامو.



وترمي هذه "التخريجة" الإعلامية إلى التهوين من الممارسات الحاطة من الكرامة في السجون الأميركية سواء في العراق أم في غوانتانامو أم في سواهما، والتخفيف من غلواء الانتقادات التي تُرددها النخب المغاربية، أسوة بسائر النخب العربية والعالمية، لسياسة العصا الغليظة التي تنتهجها واشنطن في العراق وأفغانستان وغيرهما.

آفاق العلاقات المغاربية الأميركية






"
أثبتت جولة رايس أن مكانة المغرب العربي في الإستراتيجية الأميركية لم تتغير فهي دون أهمية الشرق الأوسط بكثير، لكن واشنطن بدأت تًُعيرها اهتماما خاصا بدافع التنافس مع الأوروبيين، وبدرجة أقل بكثير مع الروس والصينيين، على مناطق النفوذ

"

أثبتت جولة رايس أن مكانة المغرب العربي في الإستراتيجية الأميركية لم تتغير فهي دون أهمية الشرق الأوسط بكثير، لكن واشنطن بدأت تًُعيرها اهتماما خاصا بدافع التنافس مع الأوروبيين، وبدرجة أقل بكثير مع الروس والصينيين، على مناطق النفوذ.



ويعزو الأوروبيون هذا الاهتمام المُستجد باستقرار المغرب العربي والقارة الأفريقية عموما إلى المصالح الاقتصادية المتنامية للولايات المتحدة فيهما، وخاصة حماية إمداداتها النفطية الآتية من أفريقيا. والجدير بالذكر في هذا السياق أن 25% من مصادر الطاقة ستأتيها من القارة الأفريقية في غضون الإثني عشرة سنة المقبلة، أي ضعف النسبة الحالية، بالإضافة للإمكانات التي ستُفتح في وجه منتوجاتها للوصول إلى الأسواق الأفريقية التي ظلت تقليديا حكرا على الأوروبيين والصينيين.



ويذكر الخبراء الأوروبيون أن نيجيريا تضم احتياطات نفطية وغازية تُقدر بـ31 مليار برميل وليبيا احتياطات بـ40 مليار برميل والجزائر بـ12 مليار برميل وتشاد مليار برميل والسنغال سبعمائة مليون والسودان 563 مليون برميل والنيجر وتونس وموريتانيا بثلاثمائة مليون برميل لكل منها.



ومن المهم الإشارة إلى أن 87% من المبادلات التجارية الأميركية الأفريقية متكونة من النفط ومشتقاته، مع الإشارة إلى أن الواجهة الأطلسية لأفريقيا تجعل نقل النفط والغاز منها أقل كلفة وأبعد خطرا عن النزاعات التي تهز الشرق الأوسط.



وتأكيدا لذلك صرح رئيس مؤسسة النفط الليبية شكري غانم (وهو رئيس وزراء سابق) عندما كانت رايس في طرابلس بأن النفط "سيكون في قلب المحادثات الأميركية الليبية"، ووعد بزيادة شحنات النفط الليبية إلى الولايات المتحدة تزامنا مع زيادة طاقة الإنتاج الليبية.



وهذا الكلام يكشف بيت القصيد في زيارة رايس لليبيا وجولتها المغاربية عموما. وتأسيسا على هذه الأهداف يمكن فهم تطرق الوزيرة الأميركية لنزاع الصحراء في المحادثات التي أجرتها في الجزائر والرباط، ساعية لتجسير الفجوة بين البلدين وتشجيعهما على الإسراع بتسوية النزاع سلميا، انطلاقا من إدراكها أن قضية الصحراء هي حجر العثرة الذي يعطل انطلاق الاتحاد المغاربي (يضم الجزائر وليبيا والمغرب وتونس وموريتانيا) ويُعرقل التكامل الاقتصادي الإقليمي.



وكانت واشنطن تسعى في ظل الرئاسات المتعاقبة إلى تشكيل تجمع إقليمي في شمال أفريقيا يؤدي إلى بروز سوق موحدة قوامها أكثر من ثمانين مليون مستهلك، مما يسهل على الشركات الأميركية العملاقة تكثيف حضورها الاستثماري والتجاري في المنطقة.



ومن هذا المنطلق عرضت على كل من الجزائر والمغرب وتونس في سنة 1998 مشروعا لإقامة اتحاد جمركي يكون نواة لسوق اقتصادية مغاربية، وحمل المشروع اسم المسؤول الأميركي الذي صاغه وجال به على رؤساء الدول في البلدان الثلاثة لإقناعهم بجدواه، وهو أيزنستات. لكن المشروع أخفق لأن الخلافات أكبر من تطويقها وتذويبها في مشروع إقليمي.



في المُحصلة لم تُجانب رايس الحقيقة حين قالت قبل مغادرة ليبيا إن الولايات المتحدة "ليس لها أعداء دائمون وأنها مُستعدة للتجاوب مع أي بلد يقبل إدخال تغييرات إستراتيجية في توجهاته"، فجولتها أتت لطي أربعة عقود من الصراع مع ليبيا بناء على مبادرة قيادتها بخلع عباءتها الثورية والعروبية اتعاظا بالدرس العراقي، واستطرادا لتكريس صفحة جديدة من الشراكة السياسية والاقتصادية (وربما العسكرية غدا) معها.



وهي جولة رمت في الوقت نفسه للاطمئنان على استمرار التزام الشركاء المغاربيين الآخرين بأهداف الحملة الأميركية على الإرهاب والمحافظة على التحالف العسكري معهم بصفتهم أعضاء متعاونين مع الحلف الأطلسي من دون الحصول على عضويته الكاملة. وهذا يعني أميركيا ضبط التراجع المحتمل أمام توسع النفوذ الفرنسي وتزايد التمدد الروسي والصيني في المنطقة.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات سبتمبر/أيلول 2008

ABOUT THE AUTHOR