الملامح الجيوسياسية للصراع في القرن الأفريقي

يمثل إقليم القرن الأفريقي من الناحية الجيوسياسية مركبا صراعيا وأمنيا خاصا، فثمة ارتباطات وتأثيرات متبادلة بين الصراعات وبؤر التوتر التي يشهدها الإقليم، ويلاحظ أن تلك الصراعات تنشأ في الغالب الأعم نتيجة التنافس على الموارد الطبيعية أو محاولات تحقيق الهيمنة والنفوذ.







 

 حمدي عبد الرحمن

يمثل إقليم القرن الأفريقي من الناحية الجيوسياسية مركبا صراعيا وأمنيا خاصا، فثمة ارتباطات وتأثيرات متبادلة بين الصراعات وبؤر التوتر التي يشهدها الإقليم، ويلاحظ أن تلك الصراعات تنشأ في الغالب الأعم نتيجة التنافس على الموارد الطبيعية أو محاولات تحقيق الهيمنة والنفوذ.





التنافس الدولي على الثروة والنفوذ في القرن الأفريقي قد أسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في إضفاء مزيد من التعقيد والتشابك على مجمل الصراعات التي تشهدها المنطقة.
ومع ذلك فإن أزمة الدولة الوطنية ما بعد الاستعمار تمثل هي الأخرى أساساً لفهم قضايا الأمن والسلام في القرن الأفريقي، فقضايا الحكم والتنمية الاقتصادية والسيطرة الاجتماعية واللجوء لاستخدام العنف من جانب أطراف العملية السياسية تمثل أبرز ملامح المشهد السياسي للقرن الأفريقي.

ويبدو أن تاريخ الحرب الباردة، حينما وقع القرن الأفريقي ضحية المواجهة بين القوتين الأعظم، يعيد نفسه وإن كان هذه المرة تحت شعار محاربة الإرهاب وليس محاربة الشيوعية. فقد أضحى الهم الأكبر للولايات المتحدة هو المحافظة على أمنها القومي بأي ثمن، ويؤكد ذلك إنشاءها قاعدة عسكرية في جيبوتي، بل وتأسيسها قيادة مركزية خاصة بأفريقيا (أفريكوم).


بيد أن ساحة القرن الأفريقي اجتذبت إليها قوى دولية أخرى على رأسها الصين والهند إضافة إلى قوى أوروبية ذات مصالح تقليدية. يعني ذلك أن التنافس الدولي على الثروة والنفوذ في القرن الأفريقي قد أسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في إضفاء مزيد من التعقيد والتشابك على مجمل الصراعات التي تشهدها المنطقة. ولعل إشكالية القرصنة البحرية التي تشهدها سواحل المنطقة تعكس حقيقة هذه الطبيعة المعقدة لمنظومة صراعات القرن الأفريقي.


إشكالية الجغرافي والسياسي في الإقليم
أنماط الصراع في الإقليم
بيئة الصراع، محاولة للفهم
ظواهر مؤججة للصراع في الإقليم
آفاق المستقبل


إشكالية الجغرافي والسياسي في الإقليم 


من المعلوم أن القرن الإفريقي لا يشكل مفهوما أصيلا نابعا من التطور التاريخي والحضاري لسكان المنطقة‏,‏ وإنما هو مدرك جغرافي يرتبط بالموقع على الخريطة‏.‏ فقد ارتبط هذا المفهوم في بداياته الأولي بالقضية الصومالية وعلاقاتها المعقدة مع أثيوبيا وما ارتبط بها لاحقا من تداعيات ومشكلات‏,‏ بيد أن المفهوم سرعان ما اتسع استخدامه ليشمل السودان‏.‏


فطبيعة التفاعلات الداخلية والخارجية المرتبطة بالتطور الجيوإستراتيجي للمنطقة قد أسهمت في إعادة صياغتها وتركيبها أكثر من مرة واحدة‏:‏ فالحروب الأهلية‏,‏ والصراعات العنيفة على السلطة‏,‏ وانهيار مشروع الدولة الوطنية والكوارث الطبيعية والتنافس الدولي على الثروة والنفوذ الذي لم ينقطع يوما واحدا كلها عوامل أسهمت في التوسع في استخدام مفهوم القرن الإفريقي‏.‏


وبعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها‏,‏ أعيدت صياغة منطقة القرن الإفريقي من الناحية الجيواسترإتيجية مرة أخري لتعكس حقيقة سياسات الهيمنة والنفوذ للقوى الأجنبية الفاعلة في المنطقة‏.‏ وقد تم في هذا السياق صك مفهوم القرن الإفريقي الكبير ليعبر عن المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية والإستراتيجية للدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في شمال شرق إفريقيا‏,‏ بالإضافة إلى منطقة البحيرات العظمي. وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول دفعت الاعتبارات الأمنية ببعض أدبيات التفكير الإستراتيجي الغربية إلى التوسع في استخدام مفهوم القرن الإفريقي ليشمل اليمن وربما بعض بلدان الخليج العربية‏.


أنماط الصراع في الإقليم 


على الرغم من أن معظم صراعات منطقة القرن الأفريقي تعزى إلى واقع التخلف الاقتصادي والتسلطية السياسية والتنافس على الموارد المحدودة والتدخلات الخارجية فإنها تختلف من حيث أنماطها وديناميات تفاعلاتها العامة وذلك على النحو التالي:






  1. أدى تفكك الدولة وغياب السلطة المركزية في الصومال إلى حالة من الاقتتال الداخلي التي هي أقرب إلى وضعية "حرب الكل ضد الكل"
    الحروب الدولية:
    فقد شهد القرن الأفريقي حروباً بين الدول مثل حرب الأوجادين بين الصومال وأثيوبيا عام 1977- 1978 بسبب مطالبة الصومال بضم إقليم الصومال الغربي (الأوجادين) إليها. على أن أحدث الحروب الدولية التي شهدتها المنطقة هي الحرب بين أرتريا وأثيوبيا حول الحدود والتي بدأت عام 1998 وانتهت بتوقيع اتفاق الجزائر في 12 ديسمبر/كانون ثاني 2000.


  2. الحروب الأهلية: والتي عادة ما تتجاوز حدودها الإقليمية لتخلق شبكة من التفاعلات الصراعية على المستوى الإقليمي وهو ما يزيد الأمور تعقيداً، يؤكد ذلك وجود العديد من حركات المعارضة التي توجد أجنحتها العسكرية في دول أخرى مثل أرتريا والسودان وأثيوبيا.


  3. حالة الدولة الفاشلة Failed State: وتقدم الصومال منذ عام 1991 نموذجا مثاليا لهذه الحالة. فقد أدى تفكك الدولة وغياب السلطة المركزية إلى حالة من الاقتتال الداخلي التي هي أقرب إلى وضعية "حرب الكل ضد الكل" التي تحدث عنها المفكر الانجليزي توماس هوبز في القرن السابع عشر. ويدرك المراقبون أن تلك الوضعية تمثل تهديداً خطيراً لأمن واستقرار دول المنطقة ككل.


  4. الصراع حول الموارد الطبيعية: إذ لا يمكن إنكار أهمية التنافس على الموارد باعتباره أحد مصادر الصراع الكبرى في القرن الأفريقي، ففي الصومال يشكل السعي للسيطرة على مصادر المياه والكلأ أبرز ملامح مشهد الصراع بين القبائل الرعوية من جهة والمجتمعات الزراعية المستقرة من جهة أخرى. كما أن مياه النيل التي تسهم أثيوبيا وحدها بأكثر من 85% منها تشكل مصدراً لتهديد أمن واستقرار المنطقة حيث تغيب الرؤية المتفق عليها حول الاستغلال العادل لمياه النهر بين دول حوضه العشرة.


  5. عمليات قطاع الطرق وسرقات الماشية: تشهد المنطقة تاريخا حافلا من جرائم سرقة قطعان الماشية وجرائم السرقة والسطو المسلح. وقد تسببت هذه العمليات في قيام العديد من العشائر والجماعات بحملات تسليح ضخمة من خلال الاستفادة من فائض الأسلحة الناجم عن حركات التمرد والحروب الأهلية التي تعاني منها دول المنطقة.

وعلى أية حال نستطيع أن نميز بين ثلاثة مستويات للصراع في منطقة القرن الأفريقي هي المستوى الوطني والمستوى الإقليمي والمستوى الدولي. ورغم أهمية هذا التقسيم من الناحية التحليلية فإن ثمة نوع من الترابط الوثيق بين تلك المستويات الثلاثة من الناحية الواقعية حيث أن المنطقة تشهد شبكة معقدة من التفاعلات "التعاونية والصراعية". وترجع حدة الصراع إلى إستراتيجية أطرافه الفاعلة ومدى حيوية وأهمية المصالح التي يتم الدفاع عنها.


وبعبارة أخرى يمكن القول بأنه كلما زادت أهمية المصالح وقيمة العوائد المتوقعة كلما ازدادت حدة الصراع وإمكانيات تجاوزه لسياقه المحلي ليشمل نطاقاً إقليميا ودولياً أوسع.


بيئة الصراع، محاولة للفهم 


يلاحظ المتابع لصراعات القرن الأفريقي أن عدداً من العوامل الهامة تسهم بدرجة كبيرة في زعزعة منظومة الأمن الإقليمي للمنطقة وتفضي إلى حالة من الصراعات والنزاعات المستمرة ومن ذلك:






  1. تعاني دول المنطقة من ظاهرة انتشار الميليشيات المسلحة والعصابات التي تحصل على الأسلحة لتنفيذ أنشطة إجرامية، وكذلك تعاني من ظاهرة انخراط المدنيين في عمليات الحصول على الأسلحة بشكل غير شرعي.
    الموقع الجغرافي وأثره علي التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمنطقة‏:‏
    إذ لا يخفي أن القرن الإفريقي يمثل ممرا وبوابة للبحر الأحمر وخليج عدن،‏ بالإضافة إلى الخليج العربي والمحيط الهندي‏,‏ وهو الأمر الذي جعله لقرون طويلة ولا يزال محط اهتمام القوي الدولية المسيطرة‏.‏ وعلى هذا فإن التدخلات الدولية من أجل السيطرة والنفوذ هي التي حددت بشكل كبير تطور الأحداث ومآلاتها في المنطقة‏,‏ بيد أن درجة ومستوى هذه التدخلات تباينت من فترة زمنية إلى أخرى‏,‏ ولا أدل علي ذلك من أن القرن الإفريقي ارتبط ارتباطا وثيقا بالصراع العربي الإسرائيلي حتى إن بعض المحللين اعتبره جزء من منظومة الإقليم الإفريقي الشرق أوسطي‏..‏


  2. قرب القرن الأفريقي من مصادر النفط في الخليج العربي: وهو ما دفع بالولايات المتحدة والدول الغربية إلى محاولة الدفاع عن هذه المصادر وتأمين الوصول إليها. ولعل من أبرز الأدوات التي استخدمت في ذلك إقامة القواعد العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتيه مع دول المنطقة. ويمكن أن نشير هنا إلى القواعد التي أقيمت في جزر دهلك وحالب وكاجينو الأرترية.


  3. الأهمية الاقتصادية للقرن الأفريقي: حيث أن اكتشاف النفط والذهب والغاز الطبيعي في المنطقة قد أضاف بعدا جديدا للتنافس الدولي‏، بحيث جاءت إلى جانب القوى الاستعمارية السابقة قوى أخرى جديدة فاعلة مثل الولايات المتحدة والصين والهند وحتى البرازيل. ولا يخفى أن دول القرن تمتلك احيتاطيات كبيرة من المعادن التي تستخدم في الصناعات الثقيلة والنووية مثل الكوبالت واليورانيوم، كما أنها تمتلك ثروة مائية هائلة تكفي لسد حاجات الدول الأفريقية من المياه.


  4. انتشار المجاعة والكوارث الطبيعية: ويبدو أن الصور الذهنية التي تروج لها وسائل الإعلام الغربية والدولية أضحت تقارب بين الإقليم والمجاعة‏,‏ حتى أنه بات يعرف باسم قرن المجاعة. ولعل أخطر موجة ضربت الإقليم كانت عامي‏1984‏ و‏1985‏. وقد أفضت هذه الكوارث إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي الذي أسهم بدوره مع الحروب الأهلية في زيادة مأساة ومعاناة المواطنين‏,‏ ويبدو أن الدول الغربية والقوي المانحة التي تهرع لتقديم العون والمساعدة للإقليم ما فتئت تستخدم هذا الغطاء الإنساني لتخفي وراءه أجندة التنافس من أجل السيطرة والنفوذ‏,‏ وهو ما يشكل أحد أبرز أبعاد الصياغة الجيوإستراتيجية للمنطقة‏.‏


  5. التهميش السياسي والاقتصادي لبعض المناطق الإقليمية والجماعات العرقية والثقافية: وهو ما يعني وجود حالة من الحرمان والظلم يعاني منها بعض شرائح المجتمع. والمثير للدهشة أن حكومات المنطقة تحاول تصحيح هذه الأوضاع من خلال استخدام أدوات العنف والقوة المملوكة لديها. عندئذ لا يكون أمام هؤلاء المحرومين من بد سوى الاستجابة لمطالب حركات التمرد والمعارضة من خلال حمل السلاح بهدف إحداث تغير سياسي واجتماعي. وعليه فإن مسألة الحكم السيئ والفساد السياسي وسوء توزيع الموارد الأساسية تفضي لا محالة إلى حدوث حروب أهلية وأعمال عنف مسلح في العديد من بلدان القرن الأفريقي. أي أن حالة التهميش والإقصاء لبعض الجماعات في الدولة تمثل العامل الأول لتهديد منظومة الأمن في المنطقة.


  6. التركيبة العرقية والإثنية لدول القرن الأفريقي: إذ لا يمكن تجاهل دور المتغير القبلي والإثني في التفاعلات الصراعية التي تشهدها دول المنطقة. فالحدود المصطنعة التي ورثتها المنطقة عن العهد الاستعماري قد مزقت أواصر العلاقات الإثنية، فعلى سبيل المثال توجد جماعات "البجا" في كل من أرتيريا والسودان، كما أن جماعتي النوير والأنواك تعيشان على جانبي الحدود السودانية الأثيوبية. وقد قسمت الحدود جماعات الأتشولي والكاكوا بين كل من أوغندة والسودان.


    ولا يخفى أن تورط هذه الجماعات في الصراع المسلح في إحدى الدول يدفع إلى تعاطف وتأييد الدولة الأخرى، وهو ما يعكس طبيعة الارتباطات الداخلية والخارجية في المنطقة.

ظواهر مؤججة للصراع في الإقليم 


تعاني دول المنطقة من ظاهرة انتشار الميليشيات المسلحة والعصابات التي تحصل على الأسلحة لتنفيذ أنشطة إجرامية، وكذلك تعاني من ظاهرة انخراط المدنيين في عمليات الحصول على الأسلحة بشكل غير شرعي وهذا كله يهدد أمن الدول والجماعات في الإقليم:


الميليشيات المسلحة



تحاول بعض الدول أن تحافظ على أمنها واستقرارها من خلال العمل على زعزعة استقرار وأمن الدول الأخرى، وعليه فإن دول المنطقة تشهد حالة تتسم بالعمل على تقويض أمن بعضها البعض.
حيث تلجأ الحكومات وحركات التمرد على السواء إلى هذا الإجراء من خلال القيام بتسليح المدنيين للدفاع عن أنفسهم والحفاظ على الأمن في المناطق التي يسيطرون عليها.

وعلى سبيل المثال فإن الحكومة السودانية قد سمحت بإنشاء ميليشيات الجنجويد للحفاظ على الأمن في دارفور، كما أن الحرب في جنوب السودان قد دفعت إلى ظهور الميليشيات القبلية مثل الدينكا والمسيرية والمانداري والتوبوسا وغيرهم. وهي ميليشيات ذات أهداف ودوافع سياسية،  ولعل هذا الإجراء يمثل خطورة كبيرة في مرحلة ما بعد تسوية الصراعات، حيث تطرح قضية نزع سلاح هذه الميليشيات وإعادة استيعابها في المجتمع تحدياً كبيراً.


والدليل على ما نقول هو حالة جنوب السودان بعد توقيع اتفاق السلام الشامل عام 2005. إذ لا تزال هناك العديد من التنظيمات والميليشيات المسلحة التي ترفض نزع سلاحها.


التجنيد القسري للمدنيين
تلجأ بعض حركات التمرد المسلحة إلى تجنيد المدنيين قسراً، وفي حالات معينة يمكن تهديد هؤلاء الذين يرفضون التجنيد الإجباري بما يضطرهم في نهاية المطاف إلى الانضمام إلى هذه الحركات خوفاً على حياتهم.


ويعطى مثال جيش الرب للمقاومة في أوغندة بقيادة جورج كوني أحد الأمثلة البارزة، إذ يقوم الجيش باختطاف النساء والأطفال بهدف استخدامهم كمقاتلين أو لتأدية بعض المهام اللوجستية والخدمية للجماعة. ومما يزيد الطين بلة في هذه الحالات أن حكومات دول المنطقة في سعيها لمواجهة هذه الظاهرة تقوم هي الأخرى باستخدام المدنيين في تشكيلات غير نظامية تحظى بدعم حكومي.


ولا يخفى أن ذلك الإقحام القسري للمدنيين في آتون الصراعات المسلحة يترك أثاراً بعيدة المدى على أمن واستقرار المنطقة ككل.


التنظيمات العسكرية
فالعسكريون السابقون -المسرحون من الخدمة بعد التشكيك في ولائهم أو غير المرغوب فيهم- عادة ما يقومون بتأسيس تنظيمات مسلحة تسعى إلى استقطاب المدنيين والميليشيات المسلحة التي تنتشر بكثافة في دول المنطقة.


فظهور ثورة الإنقاذ في السودان عام 1989 أدى إلى إحداث تغيرات كبيرة في بنية المؤسسة العسكرية السودانية، وهو ما أدى إلى ظهور الجناح المسلح للتحالف الوطني الديمقراطي في شمال السودان، كما أن سقوط نظام مانغستو عام 1991 أدى إلى وقوع أسلحة ومعدات قواته المهزومة في أيدي كثير من جماعات التمرد في كل من الصومال والسودان وكينيا.


انقسام وتفكك جماعات التمرد
تشهد كثير من جماعات التمرد انقسامات عديدة وهو ما يؤدي إلى تفككها وعدم انضباطها. وربما يدفع ذلك بالجماعات المنشقة إلى البحث عن محاربين جدد وهو ما يؤدي إلى توسيع دائرة العنف في المجتمع.


فقد شهدت الصومال بعد عام 1991 انقسامات متعددة بين الميليشيات القبلية وجماعات أمراء الحرب، وبعد الإطاحة بنظام المحاكم الإسلامية في أواخر عام 2006 ظهرت ميليشيات شباب المجاهدين في مواجهة جناح المحاكم الإسلامية بزعامة شريف شيخ أحمد. ولعل الصورة الأوضح تقدمها جماعات التمرد الرئيسية في إقليم دارفور إذ عانى الفصيلان الرئيسان (حركة تحرير دارفور) و(حركة العدل والمساواة ) من انشقاقات عديدة حتى أن بعض الباحثين يحصي اليوم نحو ثلاثين جماعة مسلحة في الإقليم.


التواطؤ الإقليمي
إذ تحاول بعض الدول أن تحافظ على أمنها واستقرارها من خلال العمل على زعزعة استقرار وأمن الدول الأخرى، وعليه فإن دول المنطقة تشهد حالة تتسم بالعمل على تقويض أمن بعضها البعض.


فأرتريا تستضيف وتدعم قادة المعارضة الإسلامية المناوئة للحكومة الصومالية الانتقالية في حين تدعم أثيوبيا ودول الجوار الأخرى حكومة شيخ شريف أحمد. وهذا يعني أن ذلك أن تورط الحكومات في أنشطة ومؤامرات بهدف تشجيع التمرد في الدول الأخرى يمثل أحد أبرز العوامل المهددة للأمن في المنطقة.


ولعل المثال الأبرز يتمثل في قرار أثيوبيا بالتدخل عسكرياً أواخر عام 2006 للإطاحة بنظام المحاكم الإسلامية في مقديشيو. وبصفة عامة فإن انتشار عمليات تجارة الأسلحة غير المشروعة على نطاق كبير في منطقة القرن الأفريقي يهدد من أركان الأمن الإقليمي ويعطي الصراعات في المنطقة صفة الديمومة والانتشار.


وتعطى الخبرة الكينية الدليل على ما نقول إذ تفيد التقارير بأن كمية الأسلحة التي توجد بحوزة عصابات سرقة الماشية وقطاع الطرق هي أكبر بكثير مما تمتلكه الشرطة الوطنية.


آفاق المستقبل 





استمرار الأوضاع الفوضوية على حالها في القرن الأفريقي، وإن ازدادت سوء، هو الأقرب إلى التصديق على الأمد المنظور.
على أي حال فإن استشراف معالم المستقبل والحديث عن مستقبل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة يعتمد على جملة من العوامل المؤثرة في بيئة الصراعات التي يموج بها القرن الأفريقي نذكر منها إلى جانب المتغيرات الداخلية والإقليمية السابقة أمرين: أولهما يرتبط بديناميات التدخل الدولي في المنطقة، أما الثاني فيرتبط بانعكاسات ظهور النفط في كثير من دول المنطقة، وهو ما يعني إضافة بعد جديد لطبيعة التوترات القائمة.

فإذا كان النفط يؤدي إلى إعادة حسابات أطراف الصراع الداخلية فانه يجذب أطرافا خارجية طامحة لكسب السيطرة والحصول على هذه الثروة، ويمكن أن نشير إلى أن أحد أهداف "الافريكوم" كما حددتها الإدارة الأمريكية تتمثل في محاربة النفوذ الصيني المتنامي في المنطقة، وتأمين الوصول إلى حقول النفط.


ولاشك أن التفاعل بين هذه المتغيرات الداخلية والخارجية  سوف يؤدي إلى إعادة رسم خريطة القرن الأفريقي الكبير فكا وتركيبا و ذلك من خلال السيناريوهات الثلاثة الآتية:



  1. السيناريو الأول: وهو يشير إلى "بقاء الأحوال على ما هي عليه". إذ يبدو أن مظاهر عسكرة المجتمع المدني وظهور اقتصادات الحرب التي ترتبط بالجريمة ومافيات السلب والنهب بالإضافة إلى ضعف الدولة وتنامي التيارات المتشددة سوف تشكل ملامح المشهد السياسي للمنطقة في المستقبل المنظور. ويلاحظ أن الحملة التي قادتها الولايات المتحدة تحت شعار " الحرب على الإرهاب" قد أثرت سلبا على الجهود الدولية والإقليمية لمواجهة مشكلات الأمن والتنمية في مناطق التوتر والحروب الأهلية في القرن الأفريقي.


  2. السيناريو الثاني: "سيناريو التفكيك" حيث يمكن للسودان أن تفرز أكثر من كيان إقليمي مستقل وهو ما يعني أن استفتاء عام 2011 قد يفضل فيه الجنوبيون خيار الانفصال. وقد يتم تعزيز ذلك السيناريو من خلال إضفاء المشروعية الواقعية على الكيانات الصومالية المستقلة من جانب واحد ونعني  جمهورية أرض الصومال وإقليم بونت. وإذا لم تحسن القيادة الأثيوبية قراءة مخاطر تعاملها مع الملف الصومالي فإن وحدة أثيوبيا نفسها قد تصبح على المحك.


  3. السيناريو الثالث: "سيناريو التركيب"، وهو قد يعني إعادة رسم الخريطة الإستراتيجية للقرن الأفريقي في حالة اشتعال كافة مراكز بؤر التوتر التي تشهدها المنطقة. يعني ذلك إمكانية انفصال الأوجادين وانضمامه للصومال، وتوجه الجنوب السوداني صوب أوغندة أو كينيا.

ربما يتوقف الأمر في السيناريو الثاني والثالث على إمكانية حدوث صراع مفتوح بين الجارتين أثيوبيا وارتريا وإن كان أمرا غير محتمل الوقوع. وعليه فإن استمرار الأوضاع الفوضوية على حالها في القرن الأفريقي، وإن ازدادت سوء، هو الأقرب إلى التصديق على الأمد المنظور.


ملامح رؤية لتسوية الصراعات
إن اقتراح رؤية لحل الصراعات في الإقليم أو محاولة رسم لملامح تسوية مستقبلية تتطلب تكاتف الجهود من أجل الوصول إلى حل عادل ومرضية لجميع الأطراف، وتعطي خبرة سلام جنوب السودان نموذجا يمكن الاحتذاء به في باقي صراعات المنطقة.


وهذا يعني ضرورة أن يتخلى الجميع عن المعادلة الصفرية التي تقول بأن يحصل أحد الأطراف على كل شيء في حين يخسر الطرف الثاني كل شيء، وبالمقابل على أطراف الصراع جميعا أن تتبنى رؤية جديدة تعلي من أساليب الحوار والمصالحة.


وأحسب أن عملية الوصول إلى تلك التسوية السلمية للصراعات بين الدول أو الصراعات الأهلية هي مسؤولية الدول نفسها، إذ ينبغي عليها أن تصلح من مؤسساتها الوطنية وتسعى إلى تحقيق التنمية الشاملة بحيث يستفيد منها الجميع.


كما أن على المجتمع الدولي أن يتحمل هو الآخر قسطا من المسؤولية من خلال الضغط على أطراف الصراع والمساعدة في توفير الدعم اللازم من أجل تحقيق بناء الثقة وفتح قنوات الحوار بين الحكومات وحركات التمرد في المنطقة.


ويمكن للإقليم على المدى الطويل أن يستفيد من تجمع الهيئة الحكومية للتنمية (الايغاد) والتي تستطيع أن تبحث في أنسب الطرق لتحقيق السلام وإقامة نظام أمني إقليمي نابع من القوى الذاتية للإقليم، بعيداً عن أي تدخل خارجي. ولعل الهدف الأسمى في هذه الحالة يتمثل في ضرورة خلق بيئة إقليمية مواتية للتعاون في إطار برامج التنمية المشتركة وآليات تسوية الصراع.
_______________
أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وزايد