تراجع الدور السياسي للجيش التركي

من بين تغيرات عديدة وتحولات شتى ألقت بظلالها على الدولة التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002، برز تراجع الدور السياسي للجيش التركي باعتباره أحد أهم تلك التغيرات والتحولات








 


بشير عبد الفتاح


من بين تغيرات عديدة وتحولات شتى ألقت بظلالها على الدولة التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002، برز تراجع الدور السياسي للجيش التركي باعتباره أحد أهم تلك التغيرات والتحولات التي أوحت لنفر من المحللين والمهتمين بالشأن التركي بأن إرهاصات لجمهورية جديدة أو حقبة مغايرة في تاريخ الأتراك قد لاحت في أفق الدولة التركية.


نفوذ مزمن
تراجع دور العسكر
الضربة القاضية
سر نجاح حكومة أردوغان


نفوذ مزمن






يمكن القول إن مكانة الجيش في المجتمع التركي قد ترسخت قبل قرون طويلة مضت وفي جميع الدول والممالك التي أسسها الأتراك عبر تاريخهم؛ والتي كان من أبرزها الدولتان السلجوقية ثم العثمانية، وهو ما يمكن أن نعزوه إلى عوامل شتى ما بين عسكرية وجيوإستراتيجية وثقافية وسياسية.


فعسكريا، كان للجيش فضل كبير في جميع الفتوحات التي حققتها كلتاهما وجعلت منهما إمبراطوريتين كبيرتين، إلى الحد الذي امتد بحدود ونفوذ الدولة العثمانية على سبيل المثال إلى ثلاث قارات، الأمر الذي سوغ للجيش الإنكشاري العثماني لعب أدوارا مهمة في تغيير الصدور العظام والسلاطين، حتى تحول بمرور الوقت إلى أحد أهم العوامل التي أفضت إلى تأخر الدولة العثمانية.


وما إن استطاع السلطان محمود الثاني تقليم الأظافر السياسية للجيش الإنكشاري والاستعاضة عنه بمؤسسة عسكرية أخرى تنأى بنفسها عن التدخل في العملية السياسية، حتى عاود الجيش بعد سنوات لم تطل تدخله في السياسة مجددا على غرار ما بدا جليا في حركة الاتحاد والترقي، التي انطلقت بالأساس من بين صفوف العسكر، للإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني في أبريل/ نيسان من عام 1909، لتعيد بذلك تسليط الأضواء على أهمية دور العسكر في الحياة السياسية للإمبراطورية العثمانية.


غير أن السقوط المدوي لتلك الإمبراطورية مطلع عشرينات القرن الماضي لم يكن ليشمل الدور السياسي للجيش، والذي نجح في أن يبقى على هذا الدور إبان حقبة العهد الجمهوري استنادا إلى تطورات إقليمية ودولية ومحلية مثيرة، تمكن جنرالاته من توظيفها من أجل الاحتفاظ بنفوذهم السياسي المتغلغل، خاصة بعد أن خاض الضابط الشاب مصطفى كمال حرب الاستقلال ضد بقايا الحكم العثماني المتهاوي وقوات الاحتلال الفرنسي والبريطاني واليوناني والإيطالي التي احتلت أرض الأناضول بعد الحرب العالمية الأولى، التي هزمت فيها ألمانيا وحليفتها تركيا، ليدخل الإنجليز إلى القسطنطينية ويجبر الحلفاء الدولة العثمانية المهزومة على توقيع معاهدة سيفر في عام 1920.


وقد اضطرت تلك الاتفاقية تركيا القبول بشروط مجحفة عديدة كان أبرزها التخلي عن سيادتها على الشعوب غير التركية والتنازل لليونان عن بعض الجزر التركية في بحر إيجة وآسيا الصغرى. وبذلك، تأسست الجمهورية التركية الأولى في كنف ثورة عسكرية قادها أتاتورك ورفاقه، رسخت بعد ذلك لمبدأ "الانقلابية" كوسيلة لبناء الجمهورية الوليدة والحفاظ عليها، وجعلته أحد المبادئ الأساسية الستة للدستور التركي.





في وسع المراقب للشأن التركي أن يلمس الجذور الثقافية لتعاظم مكانة الجيش في تركيا، حيث الثقافة التركية تحض على الاحترام الشديد للعسكر والمبالغة في تقديرهم، كما أن السمت العسكري يحتل جانبا لا بأس به من عقلية ونفسية الإنسان التركي، الذي لا يتورع عن النظر إلى رجالات الجيش بوصفهم غزاة فاتحين وصناع لسؤدد ومجد هذا البلد على مدار التاريخ 
وكان أتاتورك قد عهد بحماية الجمهورية التركية ومبادئها الستة قبيل وفاته بعام واحد، أي عام 1937، إلى الجيش التركي الذي اعتبره باني تركيا الحديثة وقائد ثورتها. ومنذ ذلك الحين اعتبر الجيش التركي نفسه حامي حمى الجمهورية التركية والأمين المؤتمن على مبادئها الستة، وكان السند القانوني والدستوري المتمثل في طريقته الخاصة في تفسير الدساتير، ذريعته في كل انقلاب عسكري قام به، وأطاح بواسطته بالحكومات المدنية المنتخبة التي رآها تسير في طريق قد يضر بمبادئ الجمهورية التركية لا سيما مبدأ العلمانية.

وبمرور الوقت تطور تقليد الانقلاب العسكري في تركيا ليصبح ثقافة أصيلة محصنة بالمواد القانونية والدستورية اللازمة؛ فقد حرص الجيش بعد كل انقلاب عسكري على ألا يترك السلطة للمدنيين إلا بعد سن دستور جديد، أو تعديل بعض مواد الدستور القائم على نحو يرسخ لنفوذ المؤسسة العسكرية داخل الحياة السياسية والمدنية، ولم ينس كذلك أن يحصن قادة الانقلاب العسكري بمواد دستورية تحول دون مساءلتهم بأثر رجعى حتى بعد تقاعدهم.


وجيوإستراتيجيا، أسهم الجيوبوليتيك المحيط بتركيا في تعزيز نفوذ جيشها في الداخل، ذلك أن وقوع تركيا في منطقة هشة من الناحية الجيو-سياسية كتلك التي تعرف بمثلث الأزمات البلقاني-القوقازي-الشرق أوسطي، قد فرض عليها ضرورة المضي بغير كلل في نهج تحديث وتطوير قواتها المسلحة لتكون قادرة على تحمل مسؤولية صيانة المصالح والتطلعات الإستراتيجية للدولة التركية إلى جانب الدفاع عن وحدة وتماسك أراضيها ومواجهة الأخطار والتهديدات الخارجية التي قد تلحق بها. الأمر الذي جعل من القوات المسلحة التركية ثاني أكبر جيش في حلف شمالي الأطلسي (ناتو) بعد الولايات المتحدة و ثامن أكبر جيش في العالم من حيث عدد الجنود الموضوعين في الخدمة متفوقا في ذلك على الجيشين الفرنسي والبريطاني مجتمعين إذ يبلغ عدده 514 ألف جندي في الخدمة و380 ألفا في الاحتياط.


كذلك، حرص الجيش التركي على الاضطلاع بدور عالمي مؤثر يعزز نفوذه الداخلي ومكانته الإقليمية، حيث شارك منذ الحرب الكورية (1950-1953) وحتى اليوم في عدد من مهام حفظ السلام العالمية سواء تحت مظلة الأمم المتحدة أو الحلف الأطلسي, وذلك من خلال المساهمة في مهمات قتالية أو أنشطة المحافظة على الأمن والسلم الدوليين.


ومنها على سبيل المثال:



  • الصومال (1994-1993 )، البوسنة (1994-1993) ثم من العام 1996 وحتى اليوم.
  • لبنان منذ نهاية العام 2006 وحتى اليوم ضمن قوات يونيفيل التابعة للأمم المتحدة.
  • ألبانيا منذ العام 1997 وحتى العام 2001، ثم كوسوفو العام 1999 وحتى اليوم.
  • أفغانستان عامي 2002 و2003, ومن2005 حتى اليوم بما يقارب 1800 جندي. هذا علاوة على القيام بمهام لوجيستية مهمة لمساعدة القوات الدولية المرابطة في أفغانستان.

علاوة على المشاركة في إرسال المساعدات وطائرات الشحن والدعم بقيادة الناتو إلى المناطق المنكوبة حول العالم جراء كوارث طبيعية، مثل كارثة كاترينا في الولايات المتحدة العام 2005, زلزال باكستان المدمر العام 2005، ثم الإسهام في عمليات غوث اللاجئين في دارفور.


وفى داخل تركيا، لا يتوان الجيش في أوقات السلم عن الاضطلاع بأعمال الإغاثة والإنقاذ خاصة إبان الكوارث الطبيعية كالزلزال الذي ضرب تركيا في العام 1999, ثم خلال الفيضانات التي تعرضت لها المناطق المحيطة بإسطنبول في شهر مارس/آذار من العام الجاري 2009، حيث أبلت القوات المسلحة بلاء حسنا فيما يتعلق بأعمال البحث والإنقاذ والإيواء واتخاذ الإجراءات المناسبة للتقليل من تداعيات تلك الكوارث.


وثقافيا، في وسع المراقب للشأن التركي أن يلمس الجذور الثقافية لتعاظم مكانة الجيش في تركيا، حيث الثقافة التركية تحض على الاحترام الشديد للعسكر والمبالغة في تقديرهم، كما أن السمت العسكري يحتل جانبا لا بأس به من عقلية ونفسية الإنسان التركي، الذي لا يتورع عن النظر إلى رجالات الجيش بوصفهم غزاة فاتحين وصناع لسؤدد ومجد هذا البلد على مدار التاريخ إلى الحد الذي يحض غالبية الآباء الأتراك على مداعبة أطفالهم متمنين لهم أن يصيروا "باشاوات" أي جنرالات في الجيش التركي العظيم.


ولعل هذا ما يفسر ضعف تأثر سمعة الجيش التركي برغم فشله وجنرالاته في القضاء نهائيا على حزب العمال الكردستاني ووقف عملياته العسكرية داخل تركيا والتي سقط على أثرها زهاء أربعين ألف قتيل من المدنيين والعسكريين الأتراك طيلة العقود الثلاثة المنقضية، إذ ما زال الجيش، وحتى أشهر قليلة مضت وحتى فضيحة "أرغينكون"، في مقدمة المؤسسات التي يثق بها الشعب التركي بأغلبية تصل إلى 80%، كما تفسر هذه النظرة التركية للجيش التأييد الشعبي شبه المطلق والدائم للانقلابات العسكرية التي هيأ الجنرالات الأجواء اللازمة لها، متذرعين بتدهور الأوضاع الأمنية، أو ضعف الحكومات الائتلافية، أو تعرض أسس ومبادئ الجمهورية العلمانية للتهديد.


وجاء الدعم الغربي، خصوصا الأمريكي، ليشكل أحد أبرز مصادر قوة ونفوذ وسياسيا، يجوز لنا الزعم بأن الأوضاع السياسية القلقة التي ألمت بالدولة التركية بجريرة تطورات دولية وإقليمية مدوية في فترات مختلفة من تاريخها كان لها دور مؤثر في تمهيد السبيل أمام تنامي نفوذ الجيش وإفساح المجال أمام تدخله في العملية السياسية. فباعتماد تركيا التعددية الحزبية وإجرائها أول انتخابات ديمقراطية في العام 1950، اكتسبت علاقاتها بالغرب أبعادا جديدة ومهمة لاسيما بعد أن صارت عضوا في حلف شمال الأطلسي وعنصرا أساسيا في الحرب الباردة ضد المعسكر الشيوعي السوفيتي، حيث أسهم ذلك في دعم دور العسكر في الحياة السياسية بعد أن نظرت واشنطن وعواصم الناتو إلى تركيا كحليف إستراتيجي، ولم تتوان في دعم جيشها حتى أصبح أكبر جيش في الناتو بعد الجيش الأمريكي.


كما حظي القادة العسكريون الأتراك، الذين أثبتوا بدورهم وفي العديد من المناسبات وفاءهم لواشنطن بمساندة ملموسة من الأمريكيين، الذين جنحوا لتأييد جميع الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا وتفننوا في التماس الأعذار لمدبريها وإبداء التفهم لمقاصدهم.


وإلى جانب ذلك الدعم الغربي، لم يعدم الجيش التركي سبل الدعم المحلى الذي كان ينهال على جنرالاته من كبار رجال الأعمال ووسائل الإعلام المؤثرة التي كانت تلعب دورا أساسيا في إعداد وتهيئة الشارع التركي للانقلابات العسكرية بأساليب ذكية ومقنعة.


ويمكن الإدعاء بأن المؤسسة العسكرية في تركيا تتمتع بوضع خاص؛ ففي جميع الدول تكون رئاسة الأركان العامة للجيش مرتبطة بوزارة الدفاع وبوزير الدفاع، وتتم جميع التعيينات والترقيات والإحالة إلى التقاعد، أو الفصل من الجيش من قبل هذه الوزارة. غير أن المؤسسة العسكرية التركية -التي يرأسها رئيس الأركان- لا ترتبط بوزارة الدفاع، بل برئيس الوزراء من الناحية الشكلية والنظرية فقط، وإلا فهي مؤسسة مستقلة قائمة بذاتها، وتقوم باتخاذ جميع القرارات المتعلقة بالجيش من تعيين أو ترقية أو طرد أو شراء أسلحة. . . إلخ دون أن يكون لوزير الدفاع أو لرئيس الوزراء أي علاقة أو تأثير على هذه القرارات، وإن كان لهما حق الموافقة الشكلية عليها.


والغريب أنه لم يكن هناك حتى سنوات قليلة مضت مرجع أو دائرة رسمية تستطيع الإشراف على مصروفات الجيش؛ وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام العديد من صور سوء الاستعمال المالي والنهب لأموال الدولة.


كما تستطيع هذه المؤسسة القيام بطرد أي ضابط أو ضابط صف من الجيش، دون تقديمه للمحكمة العسكرية أو سماع أي دفاع منه. ولا يحق لهؤلاء التقدم بأي شكوى إلى أي محكمة، سواء كانت محكمة عسكرية أم مدنية. وقد تم طرد ما يقرب من ألف ضابط وضابط صف بهذه الطريقة غير الديمقراطية. وعادة ما يكون السبب المعلن للطرد هو "عدم الانضباط العسكري". ولكن الجميع يعرفون أن السبب الحقيقي هو كون هؤلاء الضباط متدينين وزوجاتهم محجبات، وتقوم المؤسسة العسكرية بعملية "تطهير" سنوية ضد هؤلاء، علمًا بأن العديد من هؤلاء المطرودين يحملون أوسمة تقدير عسكرية لقاء خدماتهم الممتازة. كما أن المؤسسة العسكرية حاولت في السنوات الماضية وضع العراقيل أمام هؤلاء المطرودين؛ فهي لا تكتفي بطردهم، بل تتعقبهم بعد ذلك وتعمل للحيلولة دون حصولهم على عمل مدني.


وقد كان من شأن ركائز القوة تلك أن سوغت للجيش التركي التدخل بشكل مباشر في العملية السياسية من خلال أربعة انقلابات عسكرية قام بها على مدى أقل من أربعين عاما، بغرض تغيير حكومات مدنية منتخبة استنادا إلى ذرائع مختلفة تصدرها دائما مقصد إصلاح اعوجاج الحكومات المدنية وحماية النظام العلماني.


واستهل الجيش أول انقلاباته وأكثرها دموية في 27 مايو/ أيار من عام 1960 عندما أطاح بحكومة عدنان مندريس بعدما وجهت له اتهامات بتوسيع هامش الحرية للقوى الدينية والسعي للتقارب مع الاتحاد السوفيتي السابق، ورغم أن مندريس لم يكن بالأصل إسلاميا فإن مجرد محاولته تخطي شكل العلمانية الذي شرعه أتاتورك كان كفيلا بمحاكمته وإعدامه مع ثلاثة من وزرائه.


وجاء الانقلاب الثاني في مارس/ آذار 1971، لحماية المصالح الأميركية حيث كانت البلاد تشهد صراعات دموية بين القوى اليسارية التي تصدت لها القوى اليمينية، الإسلامية والقومية، بدعم من الدولة المدعومة من واشنطن التي كانت تتخوف من أن يتحول التيار اليساري إلى قوة مؤثرة في الشارع التركي، خاصة بعد أن قام اليساريون الذين تدربوا في مخيمات المنظمات الفلسطينية في لبنان بعمليات مسلحة استهدفت القواعد الأميركية والعاملين فيها وقتلوا القنصل الإسرائيلي في إسطنبول.


وفى الثالث من سبتمبر/ أيلول 1980، وقع الانقلاب الثالث وسط ظروف داخلية مماثلة، وإن اكتست هذه المرة مسحة إقليمية، حيث كانت تركيا تعانى ويلات التمرد الكردي في جنوب البلاد بالتزامن مع صعود القوى اليسارية، في وقت شهد تطورات إقليمية مثيرة كتداعيات الثورة الإسلامية الإيرانية واندلاع الحرب العراقية- الإيرانية والاحتلال السوفيتي لأفغانستان، فضلا عن أخرى دولية أكثر إثارة تجلت في الحديث عن نظرية "الحزام الأخضر" لبريجنسكي، بغية إحاطة الاتحاد السوفيتي من جهة الجنوب بطوق من الدول الإسلامية تتصدرها تركيا.


وفي 28 فبراير/ شباط 1997 وقع الانقلاب الرابع، الذي وصف بالانقلاب "ما بعد حداثي"، حيث اكتفى فيه الجيش بإخراج الدبابات إلى شوارع أنقرة ليجبر رئيس الوزراء وقتها نجم الدين أربكان على الاستقالة قبل أن يصل الجيش إلى مقر رئاسة الحكومة، بعد أن قام أربكان خلال العام الذي تولى فيه رئاسة الحكومة بإجراءات لم يخف فيها رغبته بتغيير معالم أساسية في النظام العلماني التركي الذي يؤكد الجنرالات أنهم أصحابه وحماته باسم الأمة التركية وإلى الأبد.


وقد كان لانقلاب 1980 تأثير عميق وممتد في السياسية التركية لأنه عزز من قبضة العسكر على العملية السياسية في هذا البلد بعد محاولته شرعنة تلك القبضة عبر دستور عام 1982، الذي تم وضعه تحت إشراف جنرالات الجيش.


حيث تولى قائد الانقلاب كنعان أيفرين منصب رئيس الجمهورية لمدة سبع سنوات بعد أن صاغ دستورا ما زال يلقى بظلال من الغيوم على الحياة السياسية التركية حتى يومنا هذا. ومع أن الدساتير وكذا النظام الداخلي للجيش يمنعان العسكر من التدخل في السياسة بل ويضعان عقوبات رادعة ضد المخالفين، إلا أن شيئًا من هذا لا يطبق عمليًا؛ لأن قادة الجيش يزعمون أن الدستور قد أوكل إليهم مهمة الدفاع عن الأمن الخارجي والداخلي للبلاد، ويشيرون إلى فقرة في الدستور تحمل هذا المعنى.


غير أنهم يسيئون تفسير تلك الفقرة عمدًا؛ لأن تلك الفقرة تقول بأن الجيش هو المسئول عن الدفاع عن أمن البلاد ضد الأخطار الخارجية، كما يقوم بالتصدي لأي حركة عصيان مسلحة داخلية كتلك التي قام بها حزب العمال الكردستاني. ولا تكتفي المؤسسة العسكرية بهذا التفسير، بل قامت بتوسيع معنى ومفهوم "الأمن الداخلي"، وجعلته يشمل جميع الحركات السياسية التي تحمل أفكارًا وأهدافًا تعدها خطرًا على "العلمانية" وعلى "الكمالية"؛ لأنها تعد نفسها الحارسة الأمينة على أفكار ومنجزات كمال أتاتورك. لذا، لم يكن من المستغرب أن يدلى رئيس الأركان وبعض الجنرالات بتصريحات سياسية أكثر حتى من بعض المسؤولين السياسيين أو قادة بعض أحزاب المعارضة.





وقد كان لانقلاب 1980 تأثير عميق وممتد في السياسية التركية لأنه عزز من قبضة العسكر على العملية السياسية في هذا البلد بعد محاولته شرعنة تلك القبضة عبر دستور عام 1982، الذي تم وضعه تحت إشراف جنرالات الجيش
وسواء خول دستور عام 1982 للعسكر التدخل في السياسة أو أن تفسيراتهم المغرضة لهذا الدستور هي التي سوغت لهم ذلك، فإنه يمكن الإدعاء بأن المؤسسة العسكرية قد وظفته لإضفاء مسحة دستورية على تدخلها الفج في العملية السياسية من خلال وجودها في "لجنة الأمن القومي" والسكرتارية المنبثقة عنها. وهو التدخل، الذي تجلت أبرز ملامحه على النحو التالي:

- تعيين المؤسسة العسكرية جنرالات داخل عدد كبير من مجالس إدارات مؤسسات الدولة مثل المجلس الأعلى للتعليم، واتحاد الإذاعة والتليفزيون؛ ليكونوا رقباء لها على هذه المؤسسات.


- توسيع مجال إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية بما يحقق للمؤسسة العسكرية هيمنة كاملة على الحياة السياسية، وإيجاد المبرر الدائم لأي تدخل عسكري بدعوى تحقيق الأمن والحيلولة دون قيام حركات العنف والإرهاب.


- تعديل سلطات مجلس الأمن القومي، وهو مجلس كان قد تشكل في دستور 1961، ويتألف من عسكريين ومدنيين. حيث نصت المادة (118) من دستور 1982 على زيادة عدد الأعضاء العسكريين في المجلس بإضافة قادة قوات أفرع القوات المسلحة بغية زيادة الثقل العسكري على المدني داخل المجلس. كما تم تغيير صفة قرارات المجلس من كونها توصيات يدفع بها إلى مجلس الوزراء إلى قرارات يُعلن بها مجلس الوزراء.


ونص دستور 1982 على تشكيل الأمانة العامة لمجلس الأمن الوطني. وقد أوضح القانون المنظم لهذا النص الدستوري وجوب أن يتولى أمانتها فريق أول ترشحه رئاسة الأركان العامة كما تم تحديد مهام الأمانة لتشمل شئون تركيا جميعها؛ العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية فضلاً عن مسئوليتها عن حماية المبادئ الكمالية.


كما أنها مخولة لمراقبة الجهاز التنفيذي وتوجيه فعالياته والتدخل في إدارته. وللأمانة العامة الحق الصريح في الحصول على المعلومات والوثائق السرية على كل درجاتها وبشكل مستمر عند طلبها من الوزارات والمؤسسات العامة والهيئات والأشخاص.


وبهذه الصلاحيات أصبحت الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي تشكل ذاكرة الدولة ومركز عملياتها. وأصبح مجلس الأمن القومي مرتبطا بعلاقات مباشرة بمؤسسات الدولة مثل مؤسسة الإذاعة والتليفزيون التركية، والمجلس الأعلى للتعليم، وجهاز تخطيط الدولة، والمحافظات والوزارات ويقوم بتوجيهها.


ومن أجل تنفيذ هذه المهام ضمت الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي عددًا كبيرًا من الوحدات التخصصية المعنية بكل من الشئون الاجتماعية، والاقتصادية، والتعليمية والثقافية، والعلمية والتكنولوجية، والإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني، ومتابعة شبكة المعلومات الدولية، ودراسة الحالة النفسية للمجتمع. فقد كانت تضم كادرًا واسعًا بلغ سبعمائة موظف. تتكون السكرتارية من سكرتير عام، وهو جنرال يعينه رئيس الأركان العامة، ثم مساعد السكرتير العام ومساعدين له، ثم المستشارين الرئيسيين، ثم المستشارين الاعتياديين، ثم مديري الدوائر، وأخيرًا الخبراء في مختلف الاختصاصات.


وقد بدت هذه اللجنة وكأنها تقوم بتوجيه جميع الهيئات الدستورية، وتحتكر صلاحية جمع المعلومات السياسية الرئيسية منها ومن جميع الدوائر الرسمية، ولها صلاحية تنفيذية ورقابية على جميع هذه الهيئات والدوائر، والقيام بجمع جميع المعلومات التي تهم الدولة وترتيبها وتقييمها، ومراقبة جميع الفعاليات السياسية والقوانين الصادرة، وتقوم بكل هذا باسم رئيس الوزراء.


وعلى ضوء المعلومات والاستخبارات المتجمعة لدى لجنة الأمن القومي من الهيئات والمؤسسات المختلفة تقوم هذه اللجنة بإصدار أوامرها حول كيفية قيام هذه المؤسسات والهيئات بتطبيق وتنفيذ ما يحقق للبلد أمنه الوطني حسب رأيها. لذا تقوم السكرتارية بوضع الخطط في هذا الاتجاه، وتراقب كيفية تطبيقها، وتعطي التوجيهات اللازمة في هذا الصدد.


كما تقوم بعمليات التنسيق كذلك؛ أي أنها تعطي الشكل النهائي والقالب النهائي لجميع المعلومات المتجمعة، وتعطي التوجيهات حسب اجتهادها ورأيها السياسي؛ أي حسب الأيدلوجية الكمالية العلمانية، وتفعل كل هذا باسم رئيس الوزراء.


ومن شأن هذا الأمر أن يعزز من نفوذ لجنة الأمن القومي على النحو التالي:


- إن جميع المعلومات تنصب في سكرتارية لجنة الأمن القومي، وتقيَّم فيها وتنظم. أي أنها تشكل "ذاكرة الدولة". وفي إطار جمع المعلومات تنشئ هذه السكرتارية علاقات واتصالات قوية مع جميع الوزارات، ومع جميع الولاة، ومع قنوات التليفزيون الحكومية الرسمية، ومع مؤسسة التعليم العالي التي ترتبط بها جميع الجامعات، ومع الهيئة العامة للراديو والتليفزيون، وتقوم بتوجيه هذه المؤسسات.


- تكون هذه المعلومات أساسًا للقرارات التي يتخذها المجلس الوزاري والمجلس النيابي واللجان المنبثقة عنه، وللقرارات المتخذة في مختلفة الهيئات والمؤسسات.


- لا تكتفي الوحدات المنبثقة عن لجنة الأمن القومي وعن سكرتاريتها بجمع المعلومات وتصنيفها وتقييمها ومراقبة تنفيذها من قبل الحكومة، بل تقوم أيضًا بجمع المعلومات الاقتصادية والسياسية والتعليمية للمجتمع، والنشاط الإعلامي، من ضمنها الصحافة ومحطات الإذاعة والتلفزيون، الحكومية منها والخاصة.


- تقوم هذه اللجنة بواسطة احتكار المعلومات بتوجيه المجتمع في إطار الأيديولوجية السياسية للجيش، وهي باختصار "الأيديولوجية الكمالية" وجميع كوادرها من أفراد الجيش، باستثناء الخبراء المدنيين.
ويفصح ذلك التنوع الجليّ والتخصصية الدقيقة عن مدى النفوذ والسلطات التي حازتها المؤسسة العسكرية التركية بعد انقلاب عام 1980، ما جعلها أشبه بجهاز مخابراتي يُعنى بكافة شئون المجتمع التركي وتوجهاته. وعلى الرغم من أن جميع الأحزاب السياسية في تركيا تكاد تجمع على ضرورة تغيير هذا الدستور الذي تعتبره غير ديمقراطي، إلا أن عقبات عديدة تحول دون بلوغ تلك الغاية يأتي في مقدمتها غياب الإرادة السياسية وتعذر الحصول على موافقة ثلثي نواب البرلمان على هذا التغيير.


تراجع دور العسكر






استمر تنامي الدور السياسي للجيش التركي حتى نهاية تسعينيات القرن المنصرم، حينما بدأ الحديث عن ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي في قمة هلسنكي نهاية العام 1998، إذ فتح هذا الأمر صفحة جديدة في التاريخ السياسي التركي بعيدا عن تأثير جنرالات الجيش الذين كان عليهم أن يبتعدوا عن الساحة السياسية حسب المعطيات الأميركية والأوروبية الجديدة التي لم تعد ترى في روسيا واليونان وسوريا وإيران والعراق خطرا على الحسابات الغربية التي طالما كان لتركيا دور مهم فيها بجيشها القوى ذي النفوذ السياسي المتعاظم، فلقد فرضت التحديات الجديدة النابعة من تلك المناطق على الغرب كالأصولية الإسلامية والإرهاب وغيرها أن يعيد هندسة الأوضاع داخلها بما يتواءم مع تلك المستجدات. ومن ثم برزت الحاجة إلى قيم الديمقراطية والتعددية وقبول الآخر بدلا من سطوة الجيوش وقمع الجنرالات.





نصت الإصلاحات الجديدة على قيام لجان من البرلمان النيابي أو من وزارة المالية بتدقيق نفقات الجيش؛ وهو ما لم يكن موجودًا في السابق ولا مسموحًا به، كما لا يتعارض مع بقاء فقرات ومقادير هذه النفقات سرًا من أسرار الدولة
وبالنسبة لتركيا، وبدافع الالتحاق بالنادي الأوروبي، دارت عجلة الإصلاحات التي تضمنت تعديلات دستورية وقانونية استهدفت تقليص دور الجيش في الحياة السياسية لمصلحة الحكم المدني الديمقراطي. وبدورها، تلقفت حكومة بولنت أجاويد الخيط وشرعت في تلمس الخطى على هذا الدرب العسير، فكان أن نجحت في تمرير بعض الإصلاحات السياسية بفضل مرونة قائد الجيش وقتها حلمي أوزكوك الذي كان أكثر ميلا للحرص على تلافى أي توتر أو مواجهة مع الحكومة حفاظا على المصالح الوطنية لتركيا وصيانة لاستقرارها ووحدتها.

غير أن العام 2002، شكل نقطة فاصلة في مسيرة هذا التوجه بصعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة في البلاد وهيمنته على السلطتين التنفيذية والتشريعية وغالبية البلديات. فلقد عمد الحزب إلى تصحيح مسار التجربة الديمقراطية التركية مستغلا حلم الأتراك في الانضمام للاتحاد الأوربي من أجل تمرير حزمة من الإصلاحات المتمثلة في تقليص حدة العداء للدين والأقليات العرقية وتقليص الدور السياسي للعسكر، وهى الإصلاحات التي ما كان من الممكن لحكومة العدالة والتنمية تحويلها إلى واقع لولا مساندة الأوربيين والأمريكيين لها تحت مظلة تأهيل تركيا لعضوية الاتحاد الأوربي.


فبعد استقرارها في السلطة استصدرت حكومة أردوغان بدءا من عام 2003 حزما قانونية جديدة متوافقة مع معايير كوبنهاجن بهدف إعادة هيكلة المؤسسات التركية توطئة لتأهيل البلاد سياسيا لعضوية الاتحاد الأوروبي. ومثلت سبع حزم قانونية صادق عليها البرلمان في 30 يوليو/ تموز 2003 نقطة التحول الأقوى في العلاقة بين العسكريين والمدنيين داخل مجلس الأمن القومي وأمانته العامة وهما الذراعان اللذان ظلا دوما يلعبان دورا مهما في عسكرة الحياة السياسية في تركيا.


ولقد تناولت التعديلات الخاصة بمجلس الأمن القومي وأمانته العامة محورين يفضي كلاهما إلى تقليص وضعية المؤسسة العسكرية داخل الحياة السياسية التركية؛ وهما إلغاء هيمنة المؤسسة العسكرية على بنية مجلس الأمن القومي، وتقليص سلطات المجلس التنفيذية. حيث قامت القوانين الجديدة بإلغاء الصفة التنفيذية، وبإلغاء صلاحية المراقبة والمتابعة من مجلس الأمن القومي ومن سكرتاريتها، وأعطت لها صفة استشارية فقط، كما سحبت من رئيس الأركان العامة صلاحية تعيين السكرتير العام للجنة، ونقلت هذه الصلاحية إلى رئيس الوزراء وإلى رئيس الجمهورية كذلك، صار عدد أعضاء مجلس الأمن القومي 9 مدنيين مقابل 5 من العسكر بعد أن كان عدد المدنيين 4 فقط منذ تأسيس المجلس، الذي لم تعد قراراته ملزمة للحكومات المدنية المنتخبة مثلما كانت في السابق، حيث أصبح الأمين العام للمجلس مدنيا ويتبع رئيس الوزراء بعد أن شغل الجنرالات هذا المنصب لمدة سبعين عاما وبالعلاقة المباشرة مع رئاسة الأركان التي لم تعد تملك أي صلاحيات في نشاط المجلس الذي أصبح يجتمع مرة كل شهرين بدلا من مرة في الشهر.


والشيء المهم الذي جرى هنا كان سحب صلاحية تدخل هذه اللجنة في الهيئات والمؤسسات المختلفة والوزارات، وحصر عملها ومهمتها في إطار تقديم الاستشارة إلى الحكومة التي لها مطلق الحرية في الأخذ أو عدم الأخذ بها وإهمالها، كما لم يعد هناك شرط كون السكرتير العام للجنة شخصًا عسكريًا.


وبهذا فقدت لجنة الأمن القومي هيمنتها السابقة، وأصبحت لجنة استشارية مثلها مثل اللجان الشبيهة لها والموجودة في بعض الدول الغربية، والتي تعمل كمجالس استشارية تقدم المعلومات والاستشارات للحكومة في الشئون الدفاعية والسياسية والخارجية، ولا تستطيع التدخل في الشئون السياسية الخارجية أو الداخلية، ولا التدخل في عمل الحكومة أو فرض رأيها عليها، أو تدبير الانقلابات العسكرية، أو التدخل في إسقاط الحكومة.


وفى السياق ذاته، نصت الإصلاحات الجديدة على قيام لجان من البرلمان النيابي أو من وزارة المالية بتدقيق نفقات الجيش؛ وهو ما لم يكن موجودًا في السابق ولا مسموحًا به، كما لا يتعارض مع بقاء فقرات ومقادير هذه النفقات سرًا من أسرار الدولة. علاوة على ذلك، هناك خطوات أخرى تتحرك باتجاهها حكومة أردوغان في ذات السياق مثل ربط رئاسة الأركان العامة بوزارة الدفاع، و إعطاء حق الدفاع للضباط المطرودين من الجيش لأسباب غير موضوعية كتبني قيم سلوكية شخصية معينة في حياتهم اليومية العادية أمام المحكمة العسكرية.


كما وضعت التعديلات الدستورية الأخيرة تصرفات الجيش المختلفة تحت رقابة ومحاسبة البرلمان والأجهزة الدستورية بعد أن تخلت القوى التقليدية عن موقفها الداعم للجيش وفي مقدمتها رجال الأعمال الكبار ووسائل إعلامهم الرئيسة التي أضحت تتربص الآن لأية محاولة من الجنرالات لعرقلة المسار الديمقراطي.


وفى يوم 26 يونيو/ حزيران 2009، أقر البرلمان التركي سلسلة إضافية من التعديلات التي اقترحها حزب العدالة والتنمية الحاكم والتي تحد من صلاحيات المحاكم العسكرية وهو إجراء يطلبه الاتحاد الأوربي منذ فترة طويلة، وتفسح التعديلات الجديدة المجال أمام محاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية في زمن السلم.


وقد تسنى لحكومة حزب العدالة والتنمية تحقيق ذلك من خلال:
تعديل المادة (15) من قانون مجلس الأمن القومي وأمانته العامة؛ فتم إلغاء البند الخاص بوجوب تعيين الأمين العام لمجلس الأمن القومي من بين أعضاء القوات المسلحة برتبة فريق أول/ فريق أول بحري. لتنص بعد تعديلها على إمكانية تولي شخصية مدنية لمنصب الأمين العام للمجلس. وبالفعل، بانتهاء فترة ولاية الأمين العام للمجلس تم تعيين "محمد البوجان" في 17 أغسطس/آب 2004، ليكون بذلك أول شخصية مدنية تتولى منصب الأمين العام لمجلس الأمن القومي.
وبتعديل المادة الخامسة أيضًا أصبح انعقاد المجلس الدوري مرة كل شهرين بدلاً من مرة كل شهر. كما أن التعديل الذي جرى على المادتين (4) و (13)، وكذلك إلغاء المواد أرقام( 9، 14، 19 ) من القانون ذاته قد قلص بشكل واضح من سلطات المجلس وأمينه العام.


فقد تم تعديل المادة الرابعة التي كانت تُكلف مهام المجلس وأمانته العامة بالمتابعة والتقييم الدائم لعناصر القوى الوطنية، وكذلك متابعة أوضاع الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتقنية انطلاقًا من أن المجلس هو الحامي للنظام الدستوري، والقائم على توجيه القيم الوطنية نحو المبادئ الأتاتوركية. فاقتصرت المادة الرابعة بعد تعديلها على تحديد مهمة المجلس واقتصارها على رسم وتطبيق سياسة الأمن الوطني، والقيام بإخبار مجلس الوزراء بآرائه ثم ينتظر ما يسند إليه من مهام ليقوم بتنفيذها ومتابعتها. وبهذه الكيفية يكون مجلس الأمن القومي وأمانته العامة قد تحول إلى جهاز استشاري وفقد إلى حد كبير وضعيته التنفيذية.


كما أن المادة رقم (13) التي تحدد مهام الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي قد تم تعديلها؛ على نحو جعلها تفقد دورها الرقابي ومبادرتها في إعداد قرارات مجلس الأمن القومي ووضع الخطط والمشروعات للوزارات والهيئات والمؤسسات؛ لتصبح مهمة الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي قاصرة فقط على "تنفيذ ما يكلفها به المجلس من مهام".


أما إلغاء المواد أرقام( 9، 14، 19 )فقد سحب من الأمانة العامة لمجلس الأمن القومي حقها في الحصول على المعلومات والوثائق السرية بكل درجاتها عند طلبها من الوزارات والمؤسسات العامة والهيئات ورجال القانون. كما تم إجراء تعديل على المادة رقم (30) من قانون الجهاز المحاسبي التي كانت تعفي الكوادر العسكرية من الخضوع للرقابة المالية؛ لتصبح المؤسسة العسكرية وكوادرها خاضعين لإشراف ومراقبة الجهاز المركزي للمحاسبات. كما تم إجراء تعديل دستوري بتاريخ 7 مايو/أيار 2004 على المادة 131 الخاصة بالمجلس الأعلى للتعليم حيث تم إلغاء عضوية الجنرال العسكري دخل مجلس إدارة المجلس الأعلى للتعليم. وبتعديل دستوري آخر في أغسطس/آب 2004 تم إلغاء الفقرة الخاصة بعضوية الجنرال العسكري داخل اتحاد الإذاعة والتليفزيون.


وبهذا أصبح، ولأول مرة المجلس الأعلى للتعليم، واتحاد الإذاعة والتليفزيون مؤسستين مدنيتين بالمعنى التام، دون وجود أي رقيب عسكري. وشملت التعديلات الدستورية والقانونية أيضًا السماح برفع الدعاوى القضائية لاستجواب ومقاضاة الجنرالات القدامى بشأن قضايا الفساد، وإلزام العسكريين بالإدلاء بالتصريحات الإعلامية فقط في المجالات التي تتناول الشأن العسكري والأمني، وتحت إشراف السلطة المدنية أيضًا، وكذلك تم إلغاء إمكانية محاكمة المدنيين داخل المحاكم العسكرية، وفقا للمادة( 19).


الضربة القاضية






على الرغم من أن التعديلات القانونية والدستورية التي أدخلتها حكومة العدالة والتنمية قد أعطت زخما هائلا لجهود تقليص الدور السياسي للجيش التركي، إلا أن الضربة القاضية التي أجهزت كلية على قدرات الجيش ورغباته في هذا الخصوص تمثلت في براعة حكومة العدالة والتنمية في استثمار وحسن توظيف فضيحة تورط قيادات من الجيش في مؤامرات وأنشطة هدامة للإطاحة بتلك الحكومة واغتيال بعض رموزها وإشاعة أجواء من الفوضى الأمنية في البلاد، من أجل دق المسمار الأخير في نعش تدخل العسكر في السياسة.





يبدو أن الضربات القوية التي تلقاها الجيش التركي منذ صعود حكومة العدالة والتنمية في العام 2002 إلى سدة الحكم قد نالت من نفوذ العسكر السياسي وأجبرتهم على السعي لمهادنة الحكومة والتودد إليها
فما إن بدأت خيوط تلك الفضيحة في الانكشاف تدريجيا، حتى أعلنت حكومة العدالة أنها لن تتوان عن التعاطي معها بكل حزم توخيا لأمن البلاد واستقرارها وحفاظا على مكتسباتها السياسية وإنجازاتها الاقتصادية، وبعد أن نجحت في اجتذاب التأييد الجماهيري لتلك الأهداف إثر تصويرها للمتآمرين ضد حكومة العدالة وكأنهم أعداء للشعب التركي ولوحدة تركيا واستقرارها تقدمها الاقتصادي والديمقراطي، شرعت حكومة العدالة في تلمس السبل القانونية والأمنية والإعلامية الكفيلة بتصفية ما كان يسمى بالحكومة الخفية أو "الدولة العميقة"، التي كان من أبرز أدواتها منظمة "أرغنكون" و‏تنظيم "الذئاب الرمادية".

فأمنيا، شنت حملات اعتقال متتالية استهدفت شخصيات علمية شهيرة من التيار العلماني، بينهم أساتذة في الجامعات ورؤساء جامعات حاليين ومتقاعدين وضباط جيش متقاعدين، وتم في أواخر شهر آذار مارس الماضي 2009 الفصل بين الدعوى المقامة ضد شبكة أرغنكون، وتلك الخاصة بالمحاولات الانقلابية بين العامين 2002-2004، خشية اصطدام الدعوى برمتها بإرادة قيادة الجيش التي قد لا توافق على محاكمة كبار الضباط أمام محاكم مدنية.


وقانونيا، وفى رغبة منها لتأكيد مكانتها، أصرت حكومة العدالة على وضع نهاية لمحاولات بعض رجالات الجيش تهديد استقرار البلاد، فاستصدرت تشريعا جديدا يقضي بإمكانية محاكمة العسكريين أمام القضاء المدني في القضايا التي تخص أمن الدولة. الأمر الذي وضع رئاسة الأركان التركية في مأزق شديد؛ فمن جهة ستجر التحقيقات جنرالات كبار داخل الجيش إلى المساءلة، كما أمسى الجيش من جهة أخرى في نظر الشعب مؤسسة إرهابية تعادي الديمقراطية وتهدد الاستقرار بعد أن كان مثالا للشرف والتضحية من أجل الوطن، إذ تنامت مطالبات من جهات وأحزاب مدنية بوجوب إلغاء المواد الدستورية الموضوعة في دستور 1982، والتي تكفل لقادة الانقلاب العسكري عام 1980 الحصانة الكاملة وتحول دون مساءلتهم عما اقترفوه من جرائم خلال فترة الحكم العسكري حتى بعد تقاعدهم.


وتحت وطأة تلك الضغوط والملاحقات، التي تؤشر لتوارى الدور السياسي للجيش التركي وتؤذن بأفول حقبة الجمهورية الأولى وبزوغ عهد الجمهورية الثانية، لم يجد عسكر تركيا بدا من شن حملة قوية للدفاع عن سمعتهم لم تخل من إدعاءات بتدبير تنظيمات مدنية لمؤامرات ضد المؤسسة العسكرية التركية العريقة بغية النيل من سمعتها وتقويض مكانتها.


وفي سابقة كانت هي الأولى من نوعها في تاريخ التجربة السياسية التركية، شهد شهر ديسمبر/كانون الثاني 2009 حدثا جللا، حينما قام المدعى العام التركي زكريا أوز في إحدى عطلات نهايات الأسبوع باستدعاء عدد من كبار ضباط الجيش المتقاعدين، الذين كانوا في الخدمة حتى عامي 2003 و2004، من أمثال قائد القوات البرية إيتاش يلمانن وقائد القوات الجوية إبراهيم فرطنة، وقائد القوارب البحرية أوزدان أورناك للاستماع إلى أقوالهم فيما يخص المؤامرات التي تحاك من أجل الإطاحة بحكومة العدالة والتنمية. وعلى مدى عشر ساعات تناوب المدعى العام ومعاونوه مساءلة أولئك الضباط والاستماع إلى إفاداتهم، مذكرين إياهم بأن ما يقولونه قد يحسب عليهم ويحولهم إلى متهمين أو مدانين في أية لحظة.


هذا في الوقت الذي احتشد حول المحكمة مئات من دعاة الديمقراطية وأنصار حقوق الإنسان وتحرير النظام السياسي التركي من سطوة العسكر، يطالبون بالمزيد وبتقليم الأظافر السياسية لجنرالات الجيش الذين أفسدوا السياسة وأعاقوا التحول الديمقراطي في البلاد طيلة عقود.


وإعلاميا، بدأت صورة الجيش تتعرض لهزة مدوية بعدما نشرت صحيفة "طرف" اليومية الليبرالية يوم ‏12‏ يونيو/حزيران 2009 وثيقة عرفت باسم "وثيقة مكافحة الأصولية" قيل إنها أعدت في رئاسة الأركان وذيلت بتوقيع العقيد الركن دورسون شيشيك أحد قادة القوات المسلحة‏ بغرض إسقاط الحكومة الحالية وتصفية حركة "فتح الله كولن" الإسلامية من خلال تدبير عدد من المكائد والدسائس‏، وهو ‏ما يعني أن الجيش لم يتخلص بعد من فكرة الانقلاب علي الحكومة الشرعية المنتخبة‏، أو بمعني أكثر دقة أن بعض عناصر هذه المؤسسة ما زالت تري لنفسها الحق في الانقلاب بصورة مباشرة أو غير مباشرة علي الحياة السياسية التي اختارها الناس عبر انتخابات برلمانية حرة ونزيهة‏، غير مكترثة بأمن البلاد واستقرارها وحلمها في الانضمام للاتحاد الأوروبي.


ويبدو أن الضربات القوية التي تلقاها الجيش التركي منذ صعود حكومة العدالة والتنمية في العام 2002 إلى سدة الحكم قد نالت من نفوذ العسكر السياسي وأجبرتهم على السعي لمهادنة الحكومة والتودد إليها، وذلك بعد الانتقادات التي انهالت عليه بداية من شهر أكتوبر/تشرين أول 2008 بجريرة إخفاقه في إنهاء تهديد مقاتلي حزب العمال الكردستاني ‏في أعقاب هجوم دموي تعرض له مركز حدودي للجيش علي أيدي متمردي حزب العمال الكردستاني راح ضحيته‏ 17‏ قتيلا‏، مرورا بفشله في تقويض الإصلاحات الدستورية التي تسحب البساط السياسي من تحت أقدامه في إطار مساعي حكومة العدالة الرامية إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي‏, فضلا عن تورط عناصر عسكرية في قضيتي أرغينكون ووثيقة مكافحة الأصولية للخروج على الحكومة الشرعية المنتخبة، إلى جانب تأييد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للإصلاحات التي اتخذتها حكومة العدالة في هذا المضمار، ودعم إدارة أوباما لحكومة العدالة على نحو ما تجلى في زيارة الرئيس الأمريكي لتركيا في الرابع من شهر أبريل/نيسان الماضي ليجدد التواصل بين واشنطن والحكومات المدنية المنتخبة في أنقرة بعد أن دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على تجاهل الحكومات المدنية في تركيا وتفضيل التعاون مع قيادات الجيش، باستثناء عهد تورغوت أوزال.


‏فما من شك في أن مثل هذه المستجدات والضربات قد أجبرت المؤسسة العسكرية على مراجعة مواقفها والانحناء للرياح العاتية، خصوصا بعد أن بات واضحا أن المسار الديمقراطي قد غدا محميا من قبل الشارع التركي أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط لأن حزب العدالة والتنمية يحكم البلاد بمفرده دون أي ائتلاف مع أي حزب آخر، ولكن لأن جميع استطلاعات الرأي تبين أن حكومته مازالت تحظى بدعم واسع من المواطنين الأتراك الذين لم يعد سهلا على جنرالات الجيش إقناعهم بعد الآن بأية مبررات للخروج على الحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطيا. وهو الأمر الذي يفسر تقاعس الجيش عن القيام بانقلاب عسكري جديد أو حتى أي تحرك لإجهاض مساعي حكومة حزب العدالة الإصلاحية، والتي تحظى بدعم ومباركة من قبل الشعب والغرب في آن، كما يفسر النهج التصالحي الجديد الذي جنح الجيش لتبنيه مؤخرا، على نحو ما تجلى في مواقف ومناسبات شتى.


ففي منتصف أبريل/نيسان عام 2009، صرح رئيس الأركان التركي أن الجيش، وإن كان هو الحارس الأمين على العلمانية الكمالية، فإن هذا لا ينبع من معاداته للإسلام وإنما من رفض لاستخدام الدين كأداة سياسية. وأكد باشبوغ أن الجيش لم يعد مصدرا للتهديد وإنما مشجع للمسيرة الديمقراطية للبلاد، مشيدا بأهمية الديمقراطية لاستقرار الجمهورية التركية.


وفى مسعى منه لإبداء تفهم لمساعي حكومة العدالة والتنمية من أجل تسوية المسألة الكردية بشكل سلمى وديمقراطي، أعلن باشبوغ أن الإجراء العسكري لم يعد هو الحل الأمثل للقضية الكردية. وفي خطاب آخر له في شهر يونيو/حزيران الماضي نقلته تسع محطات تلفزيونية على الهواء واستمر ساعتين، رسم باشبوغ الخطوط العريضة لرؤية المؤسسة العسكرية لهوية الدولة التركية، وعلاقة الجيش بالحكومة المدنية، والمسألة الكردية والإسلام.


وقد اتفق معظم المحللين السياسيين على اعتدال الخطاب وانفتاحه على آفاق فكرية لم تكن مألوفة في الخطاب العسكري التركي التقليدي. فلقد عزز الخطاب الفكرة الرائجة حول التوافق بين الحكومة وقيادة أركان الجيش في جميع خطواتها الإصلاحية، وأن الأولى ما كان لها أن تقدم على أي اختراق في المشكلات الشائكة لولا موافقة الثانية.


كذلك، أبدى الخطاب مرونة غير مسبوقة في التعاطي مع الأقليات العرقية إذ استعاد باشبوغ فيه تعبيراً كان استخدمه أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي لوصف الهوية التركية القائمة على المواطنة، فقال بـ"مواطني تركيا" بدلاً من "المواطنين الأتراك" التي تحيل إلى هوية عرقية محددة، وهو الأمر الذي يشي باتجاه المؤسسة العسكرية لاحترام الأقليات غير التركية القاطنة للبلاد وتفهمها لحقوقها وخصوصياتها، وكان باشبوغ نفسه متمسكاً بشدة بالمفهوم الثاني في خطاب تنصيبه قائداً للأركان، قبل أقل من سنة واحدة. وهو بذلك، يبدى تناغما مع المثقفين الليبراليين الأتراك، الذين دأبوا خلال السنوات العشر الأخيرة، على الترويج لفكرة مواطنة تركيا لتجاوز مفهوم الأمة القائم على العرق والثقافة التركيين، ولم يكتف باشبوغ في خطابه بذلك، بل أشار إلى ضرورة القيام بإجراءات ملموسة لإنهاء مشكلة حزب العمال الكردستاني، ما يعني في القاموس السياسي التركي إصدار العفو العام عن مقاتلي الحزب.


بالتوازي مع ذلك، اكتسى اجتماع مجلس الأمن القومي التركي في شهر يوليو/ تموز 2009، مسحة دفاعية غير مسبوقة. فقد دام نحو ثماني ساعات جعلته الأطول مدة خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، بحث خلالها قضية تدخلات المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية التركية. غير أن المدهش في الأمر كان وقوف قادة المؤسسة العسكرية، وللمرة الأولى منذ تأسس المجلس، موقف المدافع عن أنفسهم أمام اتهامات وانتقادات حكومة حزب العدالة والتنمية بشأن مخططات بعض عناصر الجيش للإطاحة بها على نحو ما أبرزته قضية أرجينكون وغيرها، لتتبدل بذلك المواقف وتتغير الأوضاع، حيث أصبح الجيش التركي في موقف المتهم أمام الحكومة التي جرى العرف داخل ذلك المجلس على مساءلتها وإملاء مطالب العسكريين حماة النظام عليها.


وفى أكتوبر/ تشرين أول الماضي 2009، عمدت قيادات الجيش التركي إلى كسر مقاطعتها لأنشطة البرلمان التركي والتي بدأت مع انتخاب عبد الله جول رئيسا للبلاد عام 2007، حيث حضر رئيس الأركان وبرفقته عدد من قيادات الجيش جلسة افتتاح البرلمان، وذلك بعد أن حضر عسكريون جلسات البرلمان في وقت سابق من العام الحالي، عندما ألقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطابا به، ولكنهم مع ذلك تجنبوا حضور الجلسات، ولكن استمع قائد الجيش الجنرال ايلكر باسبوج، الذي اتخذ نهجا تصالحيا مع الحكومة منذ تعيينه على رأس القوات المسلحة في العام 2008، بوقار للرئيس جول وهو يلقي خطابه، وإن لم يصفق أو يقف بعد انتهاء جول من إلقاء خطابه الذي استغرق 45 دقيقة.


سر نجاح حكومة أردوغان






ربما لم يكن بمقدور حكومة العدالة والتنمية تحقيق ذلك النجاح الملفت في تنظيم العلاقة بين الجيش التركي والعملية السياسية لولا حزمة الإنجازات التي حققها واتخذ منها ومما استتبعته من تأييد شعبي جارف قاعدة صلبة للوقوف في وجه سطوة جنرالات الجيش وأنصارهم من المدنيين.





بينما يميل غالبية الأتراك إلى التأكيد على أن تدخل الجيش التركي في السياسة قد مضى إلى غير رجعة، يجنح نفر من المحللين الغربيين والأتراك للقول بأنه لا يمكن الجزم أن عهد تدخل الجيش في السياسة قد ولى، وما يمكن الجزم به فقط، هو أن عهد الانقلابات العسكرية في تركيا قد بات في ذمة التاريخ
ويأتي في صدارة تلك الإنجازات بالطبع، الإنجاز الاقتصادي، الذي وسع من دائرة مؤيدي حكومة أردوغان بعد نجاحها في إرجاع العافية تدريجيًا إلى الاقتصاد التركي في فترة قصيرة لا تتجاوز تسعة أشهر، بعد أن كان يعيش قبل مجيء حكومة العدالة بثلاث سنوات أزمة حادة، الأمر الذي ساعد حكومة العدالة على العبور بذلك الاقتصاد النفق المظلم للأزمة الاقتصادية العالمية التي اجتاحت العالم خلال العامين الماضيين، بأقل خسائر ممكنة مقارنة باقتصادات أوربية وعالمية أخرى.

وقد كان من شأن ذلك النجاح الاقتصادي المبهر، أن وفر لحكومة العدالة الأرضية الشعبية التي ساعدتها على القيام بإصلاحات قانونية وحقوقية عديدة؛ إذ سَنّ العشرات من القوانين التي توسع نطاق الحرية الفردية، وتتلاءم مع الكرامة الإنسانية، مثل تشديد العقوبة على القائمين بعمليات التعذيب سواء في السجون أو في مخافر الشرطة، وتوسيع حرية التجمعات والمظاهرات، وسن قانون حق الفرد في الحصول على المعلومات، وحق التعبير السلمي عن الرأي بجميع أشكاله، وحق الأقليات العرقية في تعلم وتعليم لغاتها؛ فأصبح في الإمكان مثلا بث برامج تليفزيونية باللغة الكردية، كما أصدر قانون العفو عن التائبين من الأكراد الذين التحقوا بحركة حزب العمال الكردستاني الانفصالي.


وخارجيا، اتبع الحزب سياسة خارجية حكيمة؛ فقد اهتم بتحسين علاقات تركيا مع دول الاتحاد الأوربي ومع الولايات المتحدة الأمريكية، من دون أن يكون ذيلا ولا تابعًا لأي منهما، حتى استعادت العلاقات التركية مع كليهما حيويتها وانتعاشتها إلى الحد الذي دفعهما لدعم الدور الإقليمي التركي ومباركة سياسات أنقرة في غالبية الاتجاهات، فقد كان من شأن نجاحات حكومة العدالة على الصعيدين المحلى والدولي أن حظيت بدعم وتأييد الغرب لمساعيها الرامية إلى تقليص نفوذ العسكر وإقرار الديمقراطية في البلاد، وهو الأمر الذي كان له بالغ الأثر في حشد الدعم الغربي لموقف حكومة العدالة والتنمية في مواجهة العسكر، لاسيما وأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد لعبت دورًا مساندًا ومؤيدًا لجميع الانقلابات العسكرية التي قام بها الجيش في السابق؛ ما جعل من الضروري الحصول على تأييدها -أو علي الأقل تحييدها- عند المواجهة مع المؤسسة العسكرية. وما كانت دول الاتحاد الأوربي لتقبل مثل هذا الوضع الشاذ لتدخل الجيش في السياسة والذي يتصادم مع جميع المعايير الديمقراطية السائدة في العالم الغربي، وفي جميع الدول الديمقراطية الأخرى.


لذا كان من مطالب الاتحاد قيام تركيا بوضع نهاية لهذا الأمر، ورفع الوصاية العسكرية على السياسة لكي تكون أهلا للانضمام للاتحاد. ولم يكن مسئولو الاتحاد الأوروبي يعلقون أملا كبيرًا على قيام أي حكومة بالإقدام على مثل هذه الخطوة الجريئة؛ لعلمهم بمدى قوة المؤسسة العسكرية في تركيا التي تساندها وتؤيدها مؤسسات علمانية أخرى قوية جدًا، مثل المحكمة الدستورية، ووسائل الإعلام القوية، ومجلس التعليم العالي الذي يشرف على جميع الجامعات، والقصر الجمهوري. لذا، وبعد أن استشعر الأوربيون قوة حكومة العدالة وجاهزيتها للقيام بهذه الخطوة المهمة، أيدوا مساعيها في هذا الخصوص.


وفى تقريره الأخير الذي أصدره في أكتوبر/تشرين أول من عام 2009 بشأن جاهزية تركيا للعضوية، والذي أعرب وزير الدولة التركي لشؤون الاتحاد الأوروبي أغامان باغش عن ارتياحه لما جاء فه، جدد الاتحاد انتقاده تدخل الجيش التركي في الحياة السياسية، وخصوصاً موضوع الأقليات والملف الكردي، داعياً إلى وضع دستور جديد بديل لذلك الذي وضعه الانقلابين عام 1982 والذي لا تزال تركيا تطبقه حتى الآن رغم تغيير العديد من مواده بناءً على طلب الاتحاد. وللمرة الأولى يتطرق التقرير إلى قضية تنظيم "ارغينيكون" المُتهم بمحاولة إسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، مثنياً على ما قال إنه عزم القيادة السياسية على التصدي للمحاولات الانقلابية والتنظيمات السرية.


أخيرا، وبينما يميل غالبية الأتراك إلى التأكيد على أن تدخل الجيش التركي في السياسة قد مضى إلى غير رجعة، يجنح نفر من المحللين الغربيين والأتراك للقول بأن ما اتخذته حكومة العدالة والتنمية من خطوات وثابة على هذا الدرب لا يمكن أن يدفع إلى القول بأن عهد تدخل الجيش في السياسة قد ولى إلى الأبد؛ وما يمكن الجزم به فقط، هو أن عهد الانقلابات العسكرية في تركيا قد بات في ذمة التاريخ، أما حق تدخل الجيش في الحياة السياسية فلا يزال مكفولاً في الدستور الحالي بذريعة حماية مبادئ الجمهورية، أو على الأقل من خلال التفسيرات الملتوية والمغرضة من قبل المؤسسة العسكرية وأنصارها لبعض مواد هذا الدستور.


ولذلك، فإن ظلال عسكر تركيا في العملية السياسية ستظل باقية ما لم تنجح جهود حكومة حزب العدالة والتنمية في وضع دستور مدني جديد لا يضع المؤسسة العسكرية في مكانها الدستوري الصحيح حسبما هو متبع في النظم الديمقراطية الحقيقية.


_______________
متخصص في الشؤون التركية والإيرانية بالأهرام 





ABOUT THE AUTHOR