إسرائيل وقوتها الناعمة في أفريقيا

يراجع هذا التقرير التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا الذي يستخدم العديد من الوسائل لتحقيق أهدافه وعلى رأسها ما يسمى القوة الناعمة، ويلقي الضوء على الجهود الإسرائيلية خلال المراحل السابقة، مع الوقوف على العلاقات العربية الأفريقية الآخذة بالتراجع بدلا من التقدم والتطور







 

حمدي عبد الرحمن


 يراجع هذا التقرير التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا الذي يستخدم العديد من الوسائل لتحقيق أهدافه وعلى رأسها ما يسمى القوة الناعمة، ويلقي الضوء على الجهود الإسرائيلية خلال المراحل السابقة وما شهدته من مد وجزر وفقا لرؤية وأهداف صناع القرار الإسرائيليين، مع الوقوف على العلاقات العربية الأفريقية الآخذة بالتراجع بدلا من التقدم والتطور.


ويحاول التقرير أن يرصد هذه الموضوعات وأبعادها من خلال المحاور الآتية:


- المدخل
- إسرائيل وأفريقيا عودة الروح
- الأهداف والعوامل المساعدة
- أدوات الاختراق وآلياته
- اختراق الأمن القومي العربي

- ما السبيل عربيا؟


المدخل


شهدت العلاقات الإسرائيلية بالدول الأفريقية ولا سيما غير العربية منها تحولات فارقة خلال الخمسين عاما الماضية. وربما تعزى تلك التحولات إلى تغير الاهتمامات وترتيب أولويات السياسة الخارجية الإسرائيلية فضلا عن تطور ديناميات النظام الدولي.


فالعصر الذهبي للتغلغل الإسرائيلي في أفريقيا والذي شمل عقد الستينيات سرعان ما شهد نهاية حاسمة له بعد حرب أكتوبر/تشرين أول 1973 وقيام الدول الأفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل. وقد حاولت الدبلوماسية الإسرائيلية إعادة وصل ما انقطع مع أفريقيا خلال فترة الثمانينات وقد تحقق لها ما أرادت بعد توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993.


وعلى الرغم من عودة الروح للعلاقات الإسرائيلية الأفريقية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلا أن مكانة أفريقيا شهدت تراجعا في أولويات التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي. بيد أن ظهور بعض التهديدات الأمنية على الساحة الأفريقية ولا سيما في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، وحدوث نوع من التكالب الاستعماري الجديد على موارد وثروات أفريقيا الطبيعية، قد دفع بالقيادة الإسرائيلية إلى إعادة التوكيد مرة أخرى على محورية أفريقيا في عملية صياغة السياسة الخارجية الإسرائيلية.


وتشير الأدبيات الصهيونية إلى أن تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية السياسية قد أشار في كتاباته أوائل القرن العشرين إلى المشابهة بين خبرة الشعب اليهودي والشعب الأفريقي ورغبة كل منهما في الخلاص والتحرر. يقول هرتزل: "لقد كنت شاهداً على خلاص شعبي من اليهود وأرغب في تقديم العون للعمل على خلاص الأفارقة". وقد حاول قادة الدولة العبرية بعد تأسيسها عام 1948 تحقيق هذه المثالية السياسية من خلال تقديم إسرائيل باعتبارها نموذجا يحتذى في عملية بناء الدولة الوطنية الحديثة في أفريقيا.


بيد أن البحث عن شرعية الوجود وتأمين الكيان الصهيوني بعد تأسيسه دفع بصانع القرار الإسرائيلي إلى أن يلقى هذه المثاليات السياسية وراء ظهره، ويتجه صوب إقامة علاقات دبلوماسية مع القوى الكبرى في النظام الدولي مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي.


ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حينما عرض قرار تقسيم فلسطين على الأمم المتحدة لم يكن يمثل أفريقيا جنوب الصحراء سوى دولتين فقط هما ليبريا وأثيوبيا، وفي حين أيدت الأولى القرار امتنعت أثيوبيا عن التصويت، فكان منطقيا حينها أن تنظر إسرائيل صوب القوى الاستعمارية الأوروبية وتهمل المستعمرات الأفريقية.


وقد مثل مؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز عام 1955 نقطة تحول كبرى في تطور السياسة الإسرائيلية تجاه أفريقيا، حيث لم توجه الدعوة إلى إسرائيل لحضور هذا المنتدى الدولي العام، بل وتم تبني سياسة مقاطعة إسرائيل وإدانة احتلالها للأراضي العربية.


إسرائيل وأفريقيا، عودة الروح 


وهذا كله أي ما سبق يطرح بعض القضايا الإشكالية المتعلقة بالوجود الإسرائيلي في أفريقيا ويثير كذلك مسألة الثابت والمتغير في الأهداف الإسرائيلية والأدوات المستخدمة لتنفيذ هذه الأهداف وعلاقة ذلك كله بسؤال الأمن القومي العربي.


في بداية التسعينيات من القرن الماضي تم إعادة تأسيس العلاقات بين إسرائيل وأفريقيا مرة أخرى وربما يعزى ذلك إلى ثلاثة عوامل أساسية:



  1. توقيع اتفاقات أوسلو ومعاهدة السلام الإسرائيلية الأردنية وهو ما يعني إزالة كافة العقبات التي كانت تعترض العلاقات الإسرائيلية الأفريقية.
  2. نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والدور الذي قامت به إسرائيل في مساعدة حكومة الأغلبية السوداء الأمر الذي أسهم في تجاوز عقبة العلاقة الإسرائيلية مع نظام الفصل العنصري البغيض.
  3. انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى المسيطرة في العالم وهو ما جعل التقرب منها في نظر الأفارقة يكون من خلال البوابة الإسرائيلية.

ويلاحظ أنه بنهاية عام 1993 كانت سبع دول أفريقية قد أعادت علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل، وفي العام التالي تبعتها عشرة دول أفريقية أخرى، وبنهاية عقد التسعينيات وصل عدد الدول الأفريقية التي أعادت علاقاتها أو أسست علاقات جديدة مع إسرائيل أربعين دولة، وهو ما يتجاوز العدد الذي تحقق في فترة الستينيات.


والملفت هنا أن دولاً أفريقية جديدة لم يكن لها علاقات من قبل بالكيان الإسرائيلي قد أضيفت إلى القائمة، ومن ذلك المستعمرات البرتغالية السابقة (أنجولا وموزمبيق، وغينيا بيساو، وساوتومي وبرنسيب) بالإضافة إلى زيمبابوي ونامبيا وإريتريا وموريتانيا. ومن المثير للدهشة أن رد الفعل الإسرائيلي على هذه العودة الإسرائيلية المتسارعة اتسم بالفتور الشديد وعدم الحماسة.


وارتبطت تلك المرحلة بإقامة علاقات إسرائيلية مع كل من الهند والصين في آسيا وبحركة تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع العالم العربي. وعليه أضحت حركة إسرائيل في أفريقيا محكومة بالاعتبارات والأولويات الإستراتيجية والاقتصادية.


وبصفة عامة قامت إسرائيل بافتتاح سفارات لها في أحد عشر دولة أفريقية هي أثيوبيا وإريتريا وكينيا وأنجولا والكاميرون ونيجيريا وكوت ديفوار والسينغال، ومصر وجنوب أفريقيا وموريتانيا.


ويلاحظ أن أفريقيا في معظم سنوات هذه المرحلة قد عانت من التهميش وعدم النظر إليها بحسبانها أولوية كبرى في السياسة الخارجية الإسرائيلية وحتى في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي، حيث ظهر جيل جديد من الإسرائيليين لا يبالون كثيرا بواقع الأفارقة وأزماتهم التي يعانون منها.


وقد برز هذا الإهمال الإسرائيلي واضحا في عدم قدرة الحكومة الإسرائيلية علي التعامل مع بعض قضايا العلاقات الأفريقية الإسرائيلية ومن ذلك:



  • نمو عدد العمال الأفارقة العاملين في إسرائيل.
  • انعكاسات هجرة يهود الفلاشا على المجتمع الإسرائيلي.

ولا يعني ذلك القول بأن إسرائيل تخلت عن أهدافها الثابتة في أفريقيا ولعل ما يؤكد ذلك هو ظهور مخاوف أمنية وإستراتيجية جديدة في القارة الأفريقية ولا سيما في حقبة ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول.


ويمكن القول إن إسرائيل قد حافظت دوما على مراكز نفوذها وتأثيرها في أفريقيا والتي تتمثل في:


- منطقة شرق أفريقيا وحوض النيل
حيث تحتفظ إسرائيل ببعثات دبلوماسية كاملة يرأسها سفراء في كل من إرتيريا وأثيوبيا وكينيا. كما أنها تمثل ببعثة دبلوماسية في جمهورية الكونغو الديمقراطية ويرأس هذه البعثة سفير مقيم في مقر وزارة الخارجية الإسرائيلية. أما باقي دول حوض النيل وهي أوغندة وتنزانيا ورواندا وبوروندي فإن إسرائيل تعتمد على سفرائها المقيمين في دول الجوار الأفريقية لرعاية مصالحها في هذه الدول.


وعليه فإنه إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة العلاقات المصرية الإسرائيلية الذي تم إقرارها بمقتضى معاهدة السلام بين البلدين عام 1979 لا تضح أن إسرائيل تحتفظ بعلاقات وثيقة مع دول حوض النيل كافة باستثناء السودان.


- منطقة الحزام الإسلامي في غرب أفريقيا
حيث تمتلك إسرائيل بعثات دبلوماسية كاملة برئاسة سفراء في كل من الكاميرون وكوت ديفوار والسنغال ونيجيريا. وفي عام 1999 تم رفع درجة التمثيل الدبلوماسي بينها وبين موريتانيا إلى مستوى السفارة إلى أن قامت حكومة الجنرال محمد ولد عبد العزيز أوائل عام 2009 بتجميد هذه العلاقات وطرد السفير الإسرائيلي من نواكشوط. ومن الملاحظ أن إسرائيل تحتفظ بعلاقات جيدة مع كافة دول غرب الأفريقية الأخرى وإن كانت لا توجد بها سفارات إسرائيلية كاملة وهو الأمر الذي يعكس الأهمية الجيوسياسية لهذه المنطقة لدى صانع القرار الإسرائيلي.


- منطقة الجنوب الأفريقي
إذ توجد علاقات إسرائيلية بدولة جنوب أفريقيا وهي ترجع إلى مرحلة نظام الفصل العنصري. ونظراً لوجود جالية يهودية مؤثرة في جنوب أفريقيا فإن العلاقة بين الدول العبرية وجمهورية جنوب أفريقيا حتى في مرحلة ما بعد التحول الديمقراطي عام 1994 تتسم بالاستقرار والحيوية. ومن الملفت للنظر كذلك أن إسرائيل تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع حكومة أنجولا وذلك منذ عام 1992 وهو ما يسمح لها باختراق منطقة اللوزيفون (أي أفريقيا الجنوبية الناطقة بالبرتغالية).


- مصر وشمال أفريقيا. استطاعت إسرائيل أن تكسر حدة الحصار العربي المفروض عليها منذ قيامها عام 1948 بعد توقيع معاهدة السلام مع مصر وتأسيس علاقات دبلوماسية متكاملة مع القاهرة عام 1980. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد حيث استطاعت بعد توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993 أن تطبع علاقاتها مع بعض الدول العربية في شمال أفريقيا مثل تونس والمغرب.


الأهداف والعوامل المساعدة


يمكن القول إجمالا أن السياسة الإسرائيلية تجاه أفريقيا قد حكمتها منذ البداية مجموعة من الاعتبارات والأهداف العامة، لعل من أبرزها:


الاعتبار السياسي، حيث تمثل أفريقيا قوة تصويتية كبرى في المحافل الدولية ولا سيما الأمم المتحدة، وهو ما يعني أن بمقدور الأفارقة إحداث تغيير هائل في السياسات الرامية لفرض العزلة الدولية على إسرائيل. بيد أن ثمة اعتبارات إستراتيجية تمثلت في حاجة إسرائيل إلى كسر حاجز العزلة التي فرضتها عليها الدول العربية من خلال إقامة شبكة من التحالفات مع دول الجوار غير العربية ولا سيما في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا. يقول ديفيد بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق في خطاب له أمام الكنيست عام 1960: "إن المساعدات التي نقدمها للدول الحديثة ليست عملا من أعمال الخير. إننا بحاجة إلى صداقة هذه الدول أكثر من حاجتها هي إلى مساعداتنا".


ولم تكن الاعتبارات الاقتصادية ببعيدة عن تفكير صانع القرار الإسرائيلي فأفريقيا غنية بمواردها وثرواتها الطبيعية، كما أنها تعد سوقاً محتملة للمنتجات الإسرائيلية.


وفي هذا المجال بدأت إسرائيل علاقاتها مع النخب السياسية الأفريقية في سنوات مرحلة ما قبل تصفية الاستعمار، ولعل المثال الأبرز ما تقدمه تجربة غانا، حيث تمت الاتصالات الإسرائيلية بقادة غانا عبر مؤتمرات الاشتراكية الدولية والكونفدرالية الدولية للنقابات العمالية الحرة. أفضى ذلك إلى افتتاح قنصلية إسرائيلية في أكرا عام 1956 أي قبل إعلان استقلال غانا بعدة أشهر. وفي مارس/آذار 1957 حينما أعلن استقلال غانا بشكل رسمي أسرعت إسرائيل بتحويل قنصليتها في أكرا إلى السفارة وأصبح أيهود أفريل (Ehud Avriel)أول سفير إسرائيلي في أفريقيا.


وفي خضم موجة استقلال الدول الأفريقية أسرعت إسرائيل بالاعتراف بهذه الدول وإقامة العلاقات الدبلوماسية معها. ففي عام 1959 افتتحت سفارتها في غينيا كوناكري، وخلال العامين 1960-1961 شملت علاقات إسرائيل الدبلوماسية دول الكونغو الديمقراطية (زائير آنذاك) ومالي وسيراليون ومدغشقر ونيجيريا. وقد وصل عدد السفارات الإسرائيلية في أفريقيا مع نهاية عام 1962 إلى 22 سفارة، وفي عام 1972 كانت إسرائيل قد أقامت علاقات دبلوماسية كاملة مع (32) دولة أفريقية.


ومن المثير للانتباه أن بعض الدول الأفريقية قد سعت لفتح سفارات لها في إسرائيل، بل أنها لم تمانع في أن يكون مقر هذه السفارات هو مدينة القدس. وقد اعتبرت إسرائيل القرار الأفريقي باعتبار القدس عاصمة لها هو نوع من التقدير والاعتراف بدولة إسرائيل.


وثمة مجموعة من المتغيرات الدولية والإقليمية تفسر لنا أسباب الهجمة الدبلوماسية الإسرائيلية على أفريقيا ومن ذلك:



  • موجة استقلال الدول الأفريقية في الستينيات وهو ما يعنى زيادة قدرتها التصويتية في الأمم المتحدة حيث كان الصراع العربي الإسرائيلي من أبرز القضايا التي تطرح دوماً للتصويت.


  • إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 وهو ما يمثل تحدياً أمام إسرائيل حيث أنها لا تتمتع بالعضوية في هذا التجمع الأفروعربي.


  • عضوية مصر ودول عربية أخرى في كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية أسهم في إقامة تحالفات عربية أفريقية، ولا سيما مع بعض القادة الراديكاليين أمثال نكروما وسيكوتوري.

وفي أعقاب حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 قامت الدول الأفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل تأييداً للموقف المصري، وإن كان البعض يرى أنه كان مدفوعاً كذلك بالرغبة في الحصول على المساعدات العربية ولا سيما من قبل الدول النفطية. وإذا كان قطع العلاقات الدبلوماسية لم يؤثر على استمرار الاتصالات بين إسرائيل وأفريقيا فإنه أحدث تحولاً كبيراً في مدركات صانع القرار الإسرائيلي كما أنه أدى إلى تغيير في السياسات الإسرائيلية المتبعة.


ويبدو أن إسرائيل قد حاولت الرد على هذا الموقف الأفريقي من خلال أمرين هامين:



  • أولهما دعم العلاقة الإسرائيلية بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في أوائل عام 1974.
  • وثانياً رفض المطالب الأفريقية الخاصة بالمساعدات الفنية. حيث قامت إسرائيل بتوجيه هذه الموارد إلى مناطق أخرى من العالم ولا سيما آسيا.

ومن الواضح أن إسرائيل قد عانت عزلة دولية واضحة نتيجة هذا الموقف الأفريقي وقد تجلى ذلك بوضوح في عام 1975 حينما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يساوي بين الصهيونية والعنصرية.


على أن إرهاصات مرحلة عودة التغلغل الإسرائيلي بدأت تدريجياً إلى أفريقيا في منتصف السبعينيات حينما اجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين مع كل من ليوبولد سيدار سنغور رئيس السنغال، وفيلكس هوفوت بوانيه رئيس كوت ديفوار.


بيد أن توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 كان يعني في أحد أبعاده نهاية لسنوات المقاطعة الأفريقية لإسرائيل.


ومع ذلك نستطيع أن نشير إلى عاملين أساسين أسهما في أن تعيد أفريقيا النظر في علاقتها مع إسرائيل:


- أولاً:
إحباط الدول الأفريقية من عدم فعالية حركة التعاون العربي الأفريقي بعد النتائج الهزيلة التي أفرزتها القمة الأفروعربية عام 1977. كما عبر الأفارقة عن استيائهم من الصراعات العربية/العربية ولا سيما بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد ومحاولة نقلها إلى منظمة الوحدة الأفريقية. وقد دفع ذلك ببعض المحاولات الأفريقية للتفكير في إقامة منظمة أفريقية زنجية تقصر عضويتها على الأفارقة دون العرب.


- ثانياً:
تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا ابتداء من نهاية السبعينيات. وقد دفع ذلك بالدول الأفريقية إلى تبني إعلان مونروفيا عام 1979 بشأن الاعتماد الأفريقي على الذات والمطالبة بإقامة نظام عالمي جديد. وسرعان ما تم تبني هذا الإعلان من قبل منظمة الوحدة الأفريقية وأطلق عليه "إستراتيجية مونروفيا" على أن المنظمة الأفريقية اجتمعت في أبريل/ نيسان عام 1980 في لاغوس وأقرت "خطة عمل لاغوس للتنمية الاقتصادية في أفريقيا 1980 -2000".


ويلاحظ أن نقطة التحول الكبرى في العلاقات الإسرائيلية الأفريقية خلال هذه المرحلة ارتبطت بأوائل الثمانينيات حينما تم تعيين ديفيد قمحي مديراً عاماً للخارجية الإسرائيلية الذي قاد حملة لا هوادة فيها من أجل العودة إلى أفريقيا مرة أخرى. فقد تم ترتيب سلسلة من زيارات كبار المسئولين الإسرائيليين للعواصم الأفريقية كتلك التي قام بها كل من إسحاق شامير وآرييل شارون، كما تم التوسع في مجال العلاقات العسكرية مع الدول الأفريقية وتفاوضت إسرائيل على مزيد من العقود والصفقات العسكرية في أفريقيا.


وعلى الرغم من استمرار العلاقات الاقتصادية والعسكرية الإسرائيلية مع الدول الأفريقية فإن عودة العلاقات الدبلوماسية كانت بطيئة وتدريجية. ففي مايو/ أيار 1982 أعلن الرئيس موبوتو سيسي سيكو رئيس زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) عودة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ليصبح أول رئيس أفريقي يفعل ذلك. وربما يمكن تفسير هذا التحرك من جانب موبوتو من خلال تفهم رغبته في الحصول على المساعدات العسكرية الإسرائيلية والتقرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة أزماته الداخلية بعد محاولات انفصال إقليم شابا عام 1977، 1978.


وفي أغسطس/ آب عام 1982 أيضاً قام الرئيس الليبيري صمويل دو بخطوة مماثلة وأعاد علاقات بلاده مع إسرائيل سعياً في كسب ود الولايات المتحدة الأمريكية التي كان لها تحفظات على نظام حكمه. وفي منتصف الثمانينات قامت دول أخرى مهمة بإعادة علاقاتها مع إسرائيل مثل كوت ديفوار والكاميرون، وفي أوائل التسعينيات قامت أربعة دول أفريقية فقط بإعادة علاقاتها مع إسرائيل وهي أثيوبيا وكينيا وغينيا وجمهورية أفريقيا الوسطى.


ويبدو أن صانع القرار الإسرائيلي بدأ يعيد حساباته ويتبنى اقتراباً جديداً في تعامله مع أفريقيا من خلال توظيف أدوات الحركة التي يمتلكه، إذ لم يعد الهجوم الدبلوماسي وافتتاح سفارة إسرائيلية في كل عاصمة أفريقية هدفا في حد ذاته. فقد تم التركيز على بعض العواصم الأفريقية ذات الأهمية الإستراتيجية البالغة بالنسبة لإسرائيل.


كما استطاعت إسرائيل توظيف شبكة من التفاعلات غير الرسمية لخدمة مصالحها في أفريقيا حيث أصبح العديد من مواطنيها يعملون في مختلف أنحاء القارة الأفريقية، بل أن بعض هؤلاء أصبحوا مستشارين لرؤساء دول كما حدث في نيروبي وياوندي وبانغي وأديس أبابا وكينشاسا. كما أن بعض الضباط السابقين في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تورطوا في الصراعات التي شهدتها سيراليون وليبيريا وأنجولا ونيجيريا وروندا وزائير.


ويبدو أن قرار إسرائيل عام 1987 الانضمام إلى حملة المقاطعة الدولية لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قد أسهم في فتح صفحة جديدة في علاقاتها مع الدول الأفريقية.


ويمكن أن نشير إلى عدد من الاعتبارات المهمة التي أفضت إلى عودة أفريقيا كأولوية مهمة في أجندة إسرائيل الخارجية ابتداء من عام 2000. وذلك على النحو التالي:


- الاعتبارات الأمنية
فثمة مخاوف إسرائيلية من انتشار الجماعات الإسلامية المتطرفة في كثير من مناطق أفريقيا ولا سيما في بؤر التوتر والصراعات الكبرى، وفي ظل حالات ضعف الدولة أو انهيارها كما هو الحال في الخبرة الصومالية. ولا شك أن إسرائيل تنظر إلى هذه المخاوف الأمنية باعتبارها تهديداً مباشراً لأمنها القومي. ولعل الغارة الإسرائيلية علي شرق السودان أوائل العام الحالي تعد مثالا واضحا على أهمية هذا البعد في السياسة الإسرائيلية تجاه أفريقيا.


- التغلغل الإيراني المتزايد في أفريقيا
واستخدام السياسة الإيرانية لنفس الأدوات التي استخدمتها إسرائيل لكسب عقول وقلوب الأفارقة وهي المساعدات التنموية. وعليه فإن إسرائيل رأت في إيران وسياستها الأفريقية تهديداً مباشراً لمصالحها الإستراتيجية في القارة السمراء. ويلاحظ أن إيران بدأت منذ عدة سنوات في توسيع دائرة تحركها الأفريقية مستفيدة إلى أقصى حد من الفرص المتاحة. فإلى جانب السودان توجد علاقات إيرانية وثيقة مع كل من جنوب أفريقيا والسنغال وأوغندة. وعادة ما يتم ترويج النموذج الإيراني أفريقيا ولا سيما في مجالات الطاقة والتنقيب عن النفط وتنمية القطاعات الزراعية والصحية وما شاكل ذلك. فقد افتتحت إيران مصنعاُ للجرارات الزراعية في أوغندة، كما أنها أقامت خط إنتاج لسيارات (ساماندا) الإيرانية في السنغال، ويلاحظ في هذا السياق أيضاً أن الفرق الطبية الإيرانية تجوب كثيراً من أنحاء القارة الأفريقية لتقديم خدماتها إلى المحتاجين.


- الاعتبارات الاقتصادية والتجارية
إذ تحاول إسرائيل أن تبنى على تقاليد عصرها الذهبي في أفريقيا. وهي تستخدم هيئة التعاون الدولي (مشاف) التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية باعتبارها الذراع الدبلوماسي الذي يسهم في تقوية علاقاتها مع الدول الأفريقية. وقد لوحظ خلال السنوات الماضية أن معظم النشاط الإسرائيلي في أفريقيا قد تركز في مجالين أساسيين هما تجارة الماس والأسلحة. ولذلك يطالب كثير من المحللين الإسرائيليين بضرورة إنقاذ سياسة إسرائيل الأفريقية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة من خلال تطوير وتوسيع دوائر الحركة التجارية معها من خلال التركيز على القوى الاقتصادية الواعدة فيها مثل نيجيريا وغانا وجنوب أفريقيا..


- التوكيد على أهمية أفريقيا الإستراتيجية بالنسبة لإسرائيل
حيث تحاول إسرائيل من خلال تبنيها مبدأ شد الأطراف إلى خلق بؤر للتوتر والصراع على أطراف النظام الإقليمي العربي في جواره الأفريقي. ويمكن أن نشير هنا إلى الدور الإسرائيلي في دعم حركات التمرد والعنف في جنوب السودان وغربه. ومن المعروف أن هذا المبدأ يعني خلق مناطق للتوتر تشمل الجماعات العرقية والإثنية في الدول العربية وتقديم كافة وسائل الدعم لها من أجل تقوية نزعاتها الانفصالية والقومية.


- التكالب الدولي الجديد على استغلال الموارد الطبيعية الأفريقية يفرض على إسرائيل أن تعيد حساباتها لتدافع عن مصالحها ويكون لها نصيب معلوم في عملية التنافس الدولي تلك التي تشهدها الساحة الأفريقية. ولذلك لا تتحرك إسرائيل صوب أفريقيا بدافع من مجابهة التمدد الإيراني فقط ولكن لمواجهة واحتواء النفوذ الصيني المتزايد كذلك.


وعليه فإنه يمكن النظر إلى زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان إلى كل من أثيوبيا وكينيا وأوغندة ونيجيريا وغانا في بداية سبتمبر/ أيلول 2009 باعتبارها نقطة تحول فارقة في السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه أفريقيا ومحاولة لإعادة العصر الذهبي لإسرائيل في أفريقيا.


أدوات الاختراق وآلياته


 يقول جون تيتيجه سكرتير عام الحركة العمالية في غانا في أعقاب زيارته لإسرائيل عام 1957: "لقد تعلمت في إسرائيل على مدى ثمانية أيام أكثر مما يمكن أن أتعلمه على مدى سنتين في جامعة بريطانية". كما عبر الزعيم العمالي الكيني توم موبيا عن إعجابه الشديد بتجربة إسرائيل في مجال زراعة وتنمية الأراضي القاحلة. يطرح ذلك كله أهمية الحديث عن أدوات إسرائيل في اختراق الفضاء الأفريقي:


1- إسرائيل ودبلوماسية القوة الناعمة
يقول ديفيد بن جوريون في كتابه عن إسرائيل وسنوات التحدي الذي صدر عام 1962:


"إن إسرائيل دولة صغيرة الحجم ومحدودة السكان، كما أنها لا تمتلك قوة عسكرية أو اقتصادية كبرى. بيد أنها تمثل على المدى البعيد قوة روحية خلاقة. ومعلوم أن العبرة في مملكة الروح للكيف وليس الكم... ولسوف يعود عليها إسهامها، أي إسرائيل، في تأسيس عالم جديد بالسلام والأمن واحترام العالم".


ولا شك أن هذا النص يعكس إدراك أول رئيس لوزراء إسرائيل بأن القوة العسكرية وإن حققت تأسيس كيان الدولة فإن تأمين شرعية الوجود يتطلب أدوات وسياسات أخرى غير الأداة العسكرية.


ومن هنا كان بحث صانع القرار الإسرائيلي عن خلق ما يمكن تسميته "النموذج الإسرائيلي" الذي يستطيع جذب اهتمام وتأييد المجتمع الدولي. ولعل سياسة المساعدات التنموية تعد أحد أبرز هذه الأدوات التي تستخدمها الدبلوماسية الإسرائيلية لتحقيق هذه الغاية وقد درج كثير من الكتاب الإسرائيليين على وصف هذه الإستراتيجية بأنها تمثل تطبيقاً لمبدأ القوة الناعمة "soft power" الذي صكه جوزيف ناي عام 1990.


وتحاول إسرائيل أن تستخدم برنامج التعاون الدولي لتحقيق أهداف سياستها الخارجية تجاه أفريقيا. يعني ذلك أن سياسة المساعدات التنموية التي تقدمها إسرائيل للدول الأفريقية تمثل تطبيقاً عملياً لمفهوم القوة الناعمة، ومما يزيد من فاعلية هذه السياسة أن إسرائيل تضفي عليه بعداً ثقافياً وأخلاقياً من خلال:


- التأكيد على أن إسرائيل، وهي دولة محدودة الموارد ترسل ما لديها من خبراء وفنيين بدلاً من الأموال التي تفتقر إليها من أجل مساعدة الدول الأفريقية في مجالات تنموية متعددة، مثل الري والزراعة والصحة العامة وتنمية المجتمعات المحلية وما إلى ذلك.


- طرح المفهوم الرسالي للشعب اليهودي وفكرة الخلاص، وهي ما تتضح في كتابات الجيل المؤسس للدولة العبرية. ولا شك أن هذا المفهوم يقدم إسرائيل باعتبارها "نموذجا" لبناء الدولة والقيم التي تقوم عليها.


- تقديم المساعدات التنموية باعتبارها تمثل منظومة القيم للشعب اليهودي في مختلف أنحاء العالم. ولعل استخدام برنامج "تيكون أولام"(Tikkun Olam) أو مساعدة اليهود في إصلاح العالم ضمن آليات التعاون الدولي الإسرائيلي، إنما يعكس ذلك التوجه لدى صانع القرار الإسرائيلي. وقد بدأت هذه المساعدات عام 1957 بناء على طلب من الرئيس الغاني كوامي نكروم، حيث قدمت إسرائيل المساعدة الفنية في عدد من المشروعات التنموية في غانا.


 ويلاحظ أن إسرائيل قد استفادت من خبرتها في مجال الزراعة حيث قدمت المساعدة الفنية في مجالات الري والزراعة وتخطيط المدن والتعاونيات. ومع تطور العلاقات الإسرائيلية الأفريقية تم التوسع في هذه البرامج حتى أن إسرائيل أنشأت وحدة التعاون الدولي (مشاف) داخل وزارة الخارجية لإدارة وتنسيق برامج المساعدات تلك، ومن الملاحظ أن جميع الدول الأفريقية التي دخلت في علاقات دبلوماسية مع إسرائيل قد استفادت بشكل أو بآخر من هذه المساعدات الفنية.


وقد احتلت الزراعة الأهمية القصوى في مجالات المساعدات الإسرائيلية لأفريقيا حيث دأب الخبراء الإسرائيليون على:



  • إنشاء مشروعات زراعية متخصصة تقوم على التكنولوجيا الملائمة وتبني محاصيل جديدة.
  • إنشاء مزارع ومراكز تدريبية.
  • تنظيم المؤسسات الريفية.
  • تخطيط مشروعات التنمية الريفية الشاملة.

على أن إسرائيل قدمت الدعم الفني في مجالات أخرى مثل الصحة العامة والتعليم والإعمار والعمل الاجتماعي وتطوير المجتمع المحلي.


ومن جهة أخرى استقبلت إسرائيل العديد من الدارسين والطلاب الأفارقة للتدريب في مراكزها العلمية والتدريبية المختلفة. فقد أنشأت الهستدروت المعهد الأفروأسيوي للدراسات العمالية بهدف تقديم مسافات تدريبية متخصصة في مجالات التنمية والعمل والتعاونيات.


ولعل من أبرز المشروعات التي تقدمها إسرائيل لأفريقيا في مجال الزراعة والأمن الغذائي، مشروع "حديقة السوق الأفريقية" The African Market Garden. ويهدف هذا المشروع إلى تقليل المخاطر وزيادة الإنتاجية في المزارع العائلية الصغيرة التي تقع في نطاق الأراضي القاحلة وشبه القاحلة.


ويقوم هذا النظام على الجمع ما بين أفضل المحاصيل وفقاً للاختبارات العلمية واستخدام الوسائل ذات التكلفة المنخفضة جداً مثل الري بالتنقيط والتي تسمح بزراعة الأراضي طول العام. إذ يلاحظ أن صغار المزارعين في هذه المناطق يتقيدون في نشاطهم الزراعي بفترة موسم الأمطار.


ويمكن هذا النظام الزراعي أصحاب الحيازات الصغيرة من توفير الاحتياجات الغذائية لأسرهم مع الاحتفاظ بفائض صغير يمكن بيعه. ويقوم مركز "مشاف" بتطبيق هذه الإستراتيجية في أفريقيا بالتعاون مع شركاء التنمية المحليين والمنظمات الدولية مثل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) وهيئة التعاون الفنلندية.


2- المساعدات العسكرية وتجارة السلاح
وقد اشتملت هذه المساعدات على تدريبات مباشرة للعسكريين الأفارقة أو إقامة وحدات عسكرية خاصة. وفي فترات زمنية متفاوتة كانت إسرائيل تقوم بتدريب جيوش أثيوبيا وغانا وكينيا وسيراليون وتنزانيا وأوغندة وزائير. ويلاحظ أن أول دفعة من طياري كينيا وأوغندة وتنزانيا وزائير قد تلقت تدريبها في إسرائيل.


 ولا يخفى أن لإسرائيل وجهاً قبيحاً في القارة الأفريقية يتمثل في تجارة السلاح حيث يقوم بعض رجال الاستخبارات والعسكريين الإسرائيليين السابقين، وذلك نيابة عن المؤسسة الصناعية العسكرية في إسرائيل بتصدير الأسلحة والمعدات إلى كثير من المناطق في أفريقيا.


ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى الدور الإسرائيلي في الحروب الأهلية التي شهدتها دول مثل أنجولا وليبيريا وسيراليون وكوت ديفوار. كما تورطت إسرائيل بدعم كثير من النظم الشمولية في أفريقيا.


وفي نهاية الخمسينيات طورت الإستراتيجية الإسرائيلية مبدأ شد الأطراف (Peripheral doctrine) الذي يعني إقامة تحالفات غير رسمية مع الدول الواقعة على أطراف منطقة الشرق الأوسط، وتربط إسرائيل بالمثلث التركي الإيراني في الشمال والأثيوبي في الجنوب. ومن الملاحظ أن هذه الدول الثلاثة غير العربية لديها مخاوف حقيقية من الرابطة العربية والإسلامية.


وعليه فإن المساعدات العسكرية الإسرائيلية لأفريقيا ركزت على منطقة القرن الأفريقي. فقد كان الاهتمام الإسرائيلي يتجه إلى أمن البحر الأحمر وحماية منطقة باب المندب، وربما يفسر لنا ذلك سر الاهتمام الإسرائيلي منذ البداية بتدعيم أواصر العلاقة مع أثيوبيا.
ويلاحظ أن إسرائيل قد قدمت الدعم المادي والعسكري لأثيوبيا في مواجهة الثورة الإرتيرية لأنها خشية أن يؤدي استقلال أرتيريا وتحالفها مع العرب إلى إغلاق البحر الأحمر يما يجعله بحيرة عربية.


وبالفعل قامت إسرائيل بتقديم مساعدات كبيرة للجيش الأثيوبي كما أنها أقامت قاعدة شبكة اتصالات في أرتيريا، وبالمقابل فقد حصلت إسرائيل على تسهيلات عسكرية في الأراضي الأثيوبية حيث أقامت بعض القواعد في الجزر القريبة من محيط باب المندب.


وقد جاءت أوغندة في المرتبة الثانية من حيث الاهتمام الإسرائيلي بعد أثيوبيا حيث أنها تحد جنوب السودان وهو ما يسهل من تقديم المساعدات الإسرائيلية لحركة التمرد السودانية.


3- دعم العلاقات التجارية والاقتصادية
 قامت إسرائيل بإنشاء العديد من الشركات الصناعية والتجارية بهدف الدخول في مشروعات الشحن والبناء وتنمية الموارد المائية. وعادة ما كانت هذه الشركات تضم أحد المساهمين الأفارقة وتمتلك الدول الأفريقية أغلب أسهمها.


بيد أن الملفت للنظر أن الطرف الإسرائيلي في هذه الشركات لم يكن يمثل القطاع الخاص وإنما كان يمثل الحكومة الإسرائيلية، وهو ما جعلها تدخل في إطار أدوات السياسة الخارجية الإسرائيلية في أفريقيا. وقد نظرت الدول الأفريقية إلى هذه الشركات باعتبارها فرصة للاستفادة من الخبرة الإسرائيلية في مجال الإدارة والاستثمار.


ويلاحظ أن هذه الشركات قد قامت ببناء (مقار) البرلمانات في سيراليون ونيجيريا والمطارات الدولية في غانا وأوغندة والفنادق في سيراليون ونيجيريا وتنزانيا وكينيا. بالإضافة إلى تمهيد آلاف الأميال من شبكات الطرق


4- الأداة الثقافية
يمكن القول بأن ثمة متغيراً ثقافيا ودينيا يؤثر على عملية صياغة السياسة الإسرائيلية تجاه أفريقيا. إذ يلاحظ أن المسيحية في أفريقيا والتي انتشرت مع الغزو الأوروبي للقارة تربط بين دولة إسرائيل والمناطق المسيحية المقدسة.


وعلى صعيد آخر توجد جاليات يهودية مؤثرة في أفريقيا، ففي أثيوبيا يقدر عدد يهود الفلاشا بنحو عشرين ألفا، وفي جنوب أفريقيا يوجد نحو (8800)، وقد اتضح تأثير ذلك واضحاً حينما قامت إسرائيل بعملية تهجير واسعة لما يزيد عن عشرة آلاف من يهود الفلاشا الإثيوبيين إلى إسرائيل، على الرغم من معارضة الحكومة الأثيوبية آنذاك.


ويلاحظ أن هذه الروابط يتم تكريسها كل عام من خلال رحلات الحج التي يقوم بها المسيحيون الأفارقة إلى المواقع الدينية في فلسطين المحتلة. ويلاحظ أن خصوصية هذه العلاقة تتجاوز واقع العلاقات الرسمية بين إسرائيل والدول الأفريقية.


اختراق الأمن القومي العربي 


 من الملفت للنظر أن الاختراق الإسرائيلي الواسع النطاق للقارة الأفريقية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ارتبط بحالة من التراجع الواضح للدور العربي ولا سيما المصري في أفريقيا.


وعليه فإن الفرصة كانت سانحة أمام إسرائيل أكثر من أي وقت مضى لاستعادة أمجاد عصرها الذهبي في أفريقيا، ولعل مكمن الخطورة في هذا التمدد الإسرائيلي تتمثل في اختراق منظومة الأمن القومي العربي ككل، وتهديد نظم الأمن الوطنية لبعض الدول العربية تحديداً مثل مصر والسودان والمغرب العربي.


ويمكن تحديد أهم عناصر التهديد الإسرائيلي للأمن القومي العربي في امتداداته الأفريقية على النحو التالي:


-اختراق النظم الأمنية والإقليمية الخاصة بالقرن الأفريقي،
بمفهومه الجيوسياسي باعتباره ممراً وبوابة للمرات البحرية الكبرى التي تطل عليها المنطقة العربية وهي المحيط الهندي والبحر الأحمر والخليج العربي.. ونظراً لارتباط هذا الإقليم بالصراع العربي الإسرائيلي فقد اعتبره بعض المحللين جزءاً من منظومة الإقليم الأفريقي الشرق أوسطي. Afro middle eastern sub region. وقد حاولت إسرائيل منذ البداية أن يكون لها منفذ بحري على البحر الأحمر حيث أضحى ميناء إيلات بوابتها التجارية على آسيا. وهي تعمل جاهدة للحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بحيرة عربية وهذا ما يفسر علاقاتها الوطيدة مع كل من أثيوبيا وإرتيريا. وقد استفادت إسرائيل من التواجد العسكري والاستخباراتي الأمريكي والغربي في المنطقة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول وذلك بغرض تعزيز نفوذها وتمديد مجالها الحيوي إلى العمق الأفريقي. يتضح ذلك بجلاء من قيامها بغارة جوية على أهداف في شرق السودان أوائل عام 2009.


- إشعال الخلاف بين دول المنبع والمصب لحوض النيل،
إذ لا يخفى أن لإسرائيل أحلاماً قديمة في الحصول على حصة من مياه النيل لري صحراء النقب وهو ما عبر عنه عملياً المهندس الإسرائيلي إليشع كيلي عام 1974 بتصميم ترعة لسحب المياه من أسفل قناة السويس وتوصيلها إلى إسرائيل. وتحرص الدولة العبرية على تكثيف تواجدها في كافة دول المنبع الأفريقية مثل أثيوبيا وإريتريا وكينيا والكونغو الديمقراطية. ولعل الأزمة التي ثارت بين دول المنبع وكل من مصر والسودان في اجتماع الإسكندرية في يوليو/ تموز 2009 وحالت دون توقيع الاتفاقية الإطارية لمياه النيل تعزي بدرجة كبيرة إلى الأيادي الإسرائيلية الخفية. وتستخدم إسرائيل أدوات دبلوماسيتها وقوتها الناعمة لزيادة نفوذها في حوض النيل بما يمكنها من محاصرة الأمن القومي لكل من مصر والسودان في المنطقة.


- محاولة تفجير مناطق الأطراف للنظام الإقليمي العربي في أفريقيا،
بالإضافة إلى خلق بؤر للتوتر والنزاع في مناطق التماس العربية الأفريقية: فقد عملت السياسة الإسرائيلية -وفقاً لمبدأ شد الأطراف الذي أسلفنا الحديث عنه- من أجل تفجير بعض الدول من الداخل مثل السودان وموريتانيا. كما أنها عملت من جهة أخرى على خلق بذور العداء بين الشعوب العربية والأفريقية وذلك وفق أسس ودعاوى دينية وعرقية وثقافية. وإذا كانت إسرائيل قد منحت نحو خمسمائة من لاجئي دارفور حق اللجوء السياسي فإنها تمتلك علاقات وثيقة مع حركة تحرير السودان –جناح عبد الواحد نور- والتي افتتحت مكتب اتصال لها في الدولة العبرية. يدفع ذلك إلى القول بأن الإستراتيجية الإسرائيلية تعمل دوماً على شد أطراف النظام الإقليمي العربي.


- ضرب المصالح العربية في العمق الأفريقي،
إذ لا يخفى أنه توجد جاليات عربية مؤثرة في بعض الدول الأفريقية ولا سيما في الغرب وهي تأتي في الغالب الأعم من بلاد الشام. ورغم حالة التمكن الاقتصادي لهذه الجاليات إلا أنها لا تمارس دوراً سياسياً فاعلاً وربما يعزى ذلك إلى محاولات خفية لإثارة نزعات وطنية وعنصرية. ولعل وجود العديد من المستشارين الإسرائيليين في كثير من دول غرب أفريقيا وكثافة المصالح الإسرائيلية في المنطقة تدفع إلى التساؤل حول حقيقة الأيادي الإسرائيلية في محاربة الوجود العربي في أفريقيا.


وعليه فإنه يمكن القول إجمالاً بان الإستراتيجية الإسرائيلية في أفريقيا تنال بشكل عام من أسس ودعائم الأمن القومي العربي في صياغاته الكلية، كما أنها تطرح على المحك الدور والمصالح الحيوية لبعض دول الأركان العربية في أفريقيا مثل مصر والسودان والجزائر.


ما السبيل عربيا؟


 لعل ما يزيد من خطورة الاختراق الإسرائيلي لأفريقيا أنه يرتبط بمحاولات استعمارية جديدة لإعادة صوغ حدود العالمين العربي والإفريقي، من خلال عمليات فك وتركيب جيوسترإتيجية، الأمر الذي يؤدي إلى خلق كيانات جديدة مصطنعة تنال من مقومات وأسس النظم الإقليمية السائدة.


ولا يخفى أن الإعلام الغربي ما فتئ يروج لمقولة الصدام بين العرب والأفارقة في مناطق التماس الكبرى ابتداء من القرن الإفريقي الكبير وحتى الساحل الموريتاني على المحيط الأطلسي. ألم يتم تصوير الصراع الدائر في دارفور على أنه محاولات للهيمنة من قبل أقلية عربية على أغلبية إفريقية تعاني ظلم التهميش والاستبعاد؟!


إن فترة الانقطاع التاريخية بين الشعبين العربي والأفريقي والتي امتدت منذ مجيء الاستعمار الغربي تمثل تحدياً خطيرا أمام دعم جهود التضامن العربي الأفريقي.


كما أن تحديات العولمة الراهنة وما تفرضه من مخاطر على كل من الشعبين العربي والأفريقي تقضي بأهمية عودة التلاحم والتضامن بين الجانبين، وهو ما ينبغي أن ينعكس على أجندة كافة تنظيمات العمل الجماعي المشترك لدى الفريقين ولا سيما الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية.


ولا بد من أن يدعم ذلك الموقف السياسي الشروع في تأسيس حوار استراتيجي جديد بين العرب والأفارقة تطرح من خلاله كافة القضايا المشتركة بهدف الوصول إلى رؤية واحدة لمواجهة تلك القضايا.


 ويمكن للباحث من منطلق خبراته الذاتية في العديد من دول المنطقة أن يؤكد على مجموعة من المفاهيم والمضامين التي تصلح لإقامة حوار استراتيجي جديد يتجاوز إشكاليات الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على دول الأركان للعالمين العربي والإسلامي في القارة الإفريقية، وذلك على النحو التالي:


أولا:
إعادة تصحيح المفاهيم التي تعكس المخزون الثقافي والحضاري المتعلق بالعروبة والإسلام- والأفريقانية، وإزالة أى إمكانية متصورة للصدام. وهنا يمكن العمل على تصحيح الصور الذهنية والقوالب الجامدة المرتبطة بالآخر عند كل طرف والتعامل الجاد والواعي مع القضايا الحساسة في تاريخ الذاكرة الجماعية لأطراف الحوار، مثل قضية الدور العربي والإسلامي في تجارة الرقيق الإفريقية.


ثانياً:
عدم اختزال العلاقات مع دول المنطقة فى مجال واحد من المقايضات السياسة والمقابل التجاري، إذ ينبغي إقامة شراكة حقيقة في إطار منظومة دول الجنوب ويمكن أن تتحقق هذه الشراكة عبر مناهج ومسارات متكاملة: ثنائي، ودون الإقليمي، والجماعي، والمؤسسي.


ثالثاً:
الاتفاق على أسس جديدة للتعاون بين العالمين العربي والإفريقي بما يحقق المنفعة المتبادلة لكل طرف وينبغي أن لا يتم اختزال العلاقات فى مسألة الدعم المالي.


رابعاً:
التركيز على المدخل غير الحكومي ونعنى بذلك مؤسسات ومنظمات المجتمع الأهلي التي تستطيع أن تستفيد من المواريث الحضارية والثقافية. فثمة مكون اجتماعي عربي وإسلامي في دول المنطقة لا يمكن إنكاره.


خامسا:
التوكيد على مدخل ووسائل القوة الناعمة لبعض الدول العربية الكبرى مثل مصر والجزائر والسعودية وليبيا، بل وحتى بعض القوى العربية الصاعدة مثل قطر وذلك من أجل كسب عقول وقلوب الأفارقة. يعني ذلك احتواء النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا من خلال نفس أدواته وآلياته.


ولعل بالإمكان كذلك في الحوار العربي الإفريقي الاستفادة من تراث اللحظات النضالية والبطولية التي جمعت كلا من العرب والأفارقة في مسيرة التحرر من الاستعمار بكافة أشكاله وألوانه.


وهنا نتذكر جهود الرعيل الأول من قادة حركة الوحدة في العالمين العربي والإفريقي مثل جمال عبد الناصر وكوامي نكروما وأحمد سيكوتوري.


وأظن أن هذه المرحلة قد استطاعت بفعل زخمها النضالي والشعبي أن تبني صورة إيجابية للتضامن العربي الإفريقي تتجاوز الأنماط والقوالب الجامدة السلبية التي روجتها أطراف خارجية مناوئة للطرفين.


إن التحديات المطروحة فى ظل النظام الامبريالي العالمي الجديد هي جد خطيرة كما أن الهجمة الإسرائيلية الراهنة على جوارنا الإفريقي تعد أشد خطرا، ومن ثم فان الاستجابة لها لابد أن تكون على المستوى نفسه من الجدية.


وعليه فإن الخطر الذي يتهدد الفضاءين العربي والأفريقي يتطلب حتمية التعاون والحوار الإستراتيجي بينهما.
_______________
أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وزايد.