اتصال الجغرافيا والتاريخ
صعود الهوية القومية في العصر الحديث
توتر العلاقات المشرقية
التحديات الجديدة
فرص المستقبل
أغلب التصنيفات التي نستخدمها اليوم للدلالة على هويات الشعوب الإسلامية في الفترتين الإسلامية المبكرة والوسيطة هي تصنيفات إنشائية فمع مطلع العهد الإسلامي استقر الفاتحون العرب المسلمون في البلاد المفتوحة واندمجوا في اجتماع هذه البلدان |
اتسع أفق الجزيرة العربية ليصل بلاد الشام وفارس بشرق إفريقيا وسواحل الهند؛ واستقبلت الهضبة الإيرانية موجة وراء الأخرى من الهجرات والغزوات الآسيوية؛ وكان الأناضول على الدوام مسرحاً للتدافع والالتقاء الآسيوي – الأوروبي. ليس ثمة بقعة في الأرض وحدتها الجغرافيا كما وحدت هذه البقعة، وليس ثمة بقعة في الأرض تختصر ملامح العالم وأعراقه ومواريثه كما تختصرها هذه البقعة.
وقد ارتبط تاريخ الشعوب القاطنة في المجال المشرقي، عرباً وفرساً وكرداً وأتراكاً وأمازيغ، منذ فجر الإسلام ارتباطاً وثيقاً. لم يأت هذا الارتباط من الموقع الذي احتله الدين الجديد في حياة شعوب هذه المنطقة وحسب. الحقيقة أن الإسلام لم يصبح دين أغلبية شعوب المجال المشرقي إلا بعد عدة قرون من الفتوحات. ولكن ثقافة الإسلام كانت منذ البداية ثقافة حاضنة، تمثلت في خلاياها التكوينية عناصر لا حصر لها من الديانات التوحيدية السابقة التي زرعت جذورها ولا تزال في هذه المنطقة من العالم، ومن الثقافات والمواريث الحضارية لشعوب المنطقة. عندما وصل الفاتحون العرب المسلمون إلى سورية والعراق التقوا أبناء عمومتهم من عرب الضاحية المسيحيين في حوض الفرات وبادية الشام.
وقد ولد من الجدل بين العرب المسلمين والعرب المسيحيين بعض من أهم القضايا التي سترسم ملامح علم الكلام الإسلامي بعد ذلك. وليس ثمة شك أن الأنظمة الضرائبية والتنظيمية للدولة الإسلامية المبكرة قد استمدت الكثير من ركائزها من الأنظمة الفارسية السائدة المطبقة في العراق وفارس وكرمان وخراسان.
وإن كانت العلاقة بين بلاد الإسلام وبيزنطة شهدت سلسلة من الحروب والمواجهات العسكرية، فقد عرفت أيضاً حركة لا تتوقف من التجار والرسل والعلماء، ومعهم الأفكار والقوانين والعقائد.
لعبت العناصر الفارسية دوراً بارزاً في بناء الإسلام المبكر، فقهاً وأدباً وإدارة ولغة وجيشاً. وبعد أقل من قرنين على ظهور الإسلام، كانت العناصر التركية تلعب دوراً بارزاً في بنية دار الإسلام السياسية والعسكرية. وربما يمكن القول إن الشعوب التركية احتلت موقعاً مهيمناً في التاريخ الإسلامي منذ موجة الهجرة السلجوقية في منتصف القرن الخامس الهجري وحتى انهيار السلطنة العثمانية في نهاية الحرب الأولى.
والحقيقة، أن أغلب التصنيفات التي نستخدمها اليوم للدلالة على هويات الشعوب الإسلامية في الفترتين الإسلامية المبكرة والوسيطة هي تصنيفات إنشائية. فمنذ مطلع العهد الإسلامي، استقر الفاتحون والمهاجرون العرب المسلمون في البلاد المفتوحة، وسرعان ما اندمجوا في اجتماع هذه البلدان.
كما شهدت مناطق الكثافة العربية اندماج العلماء والفقهاء والجند من أصول فارسية وتركية وكردية في الاجتماع العربي - الإسلامي.
ترك هذا التداخل التاريخي الطويل أثره على اللغات الكبرى لشعوب هذه المنطقة، وعلى ثقافاتها. لم تكن العربية، لغة الدين الجديد، مصدر هذا التأثير وحسب، بل كانت أيضاً وعاء استقبال للمؤثرات النابعة من لغات الشعوب الإسلامية الأخرى، لا سيما الفارسية والتركية. منذ القرن السادس عشر، انقسمت هذه المنطقة من العالم إلى دولتين رئيسيتين: الصفوية والعثمانية، بينما حافظ المغرب الأقصى على هويته السياسية الخاصة.
وبالرغم من الجدل المتكرر حول النمط الصفوي للتشيع الإسلامي، فإن أحداً لا يمكنه التقليل من الأثر الذي تركته الحقبة الصفوية على الميراث الشيعي، داخل إيران وفي العالم بأسره، بما في ذلك المنطقة العربية. ومن المستحيل فهم الإسلام المعاش اليوم، فقهاً وعقائد وتصوفاً، بدون فهم الجذور العثمانية للسرديات الإسلامية السائدة.
خلف الميراث الديني والثقافي والتداخل الإثني، خلف امتداد حدود الأمبراطوريات وانزياحها، يجمع شعوب الفضاء المشرقي، مسلمين وغير مسلمين، عرباً وكرداً وفرساً وأمازيغ، مشترك من القيم والعادات والتقاليد، من الذوق الفني والذوق المطبخي، من رؤية الذات ورؤية العالم. من فاس والقاهرة ودمشق، إلى المدينة وبغداد وحلب، ومن إسطنبول إلى قونية، ومن أصفهان إلى مشهد، تسكن مدن المشرق العتيقة الذاكرة الجمعية للشعوب العربية والفارسية والتركية، وفي أزقة هذه المدن وأسواقها، ينتقل العرب والإيرانيون والأتراك والاكراد والأمازيغ، عندما يتنقلون، بدون أدنى شعور بالاغتراب.
صعود الهوية القومية في العصر الحديث
ما دامت الهوية القومية هي المرجعية القصوى للعصر الجديد، فلماذا تعلو هوية قومية على أخرى، وأي مسوغ يعطي لهوية ما حق إلغاء الهويات الأخرى؟ |
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، انتهى النظام التقليدي للعلاقات بين دول وشعوب المشرق، وولَد نظامٌ جديد، بني على الدولة القومية. كان لكل من الشعوب الثلاثة تجربته القومية، تجربته الخاصة لبناء الهوية، التي أقيمت على أساسها وباسمها دول ما بعد الحرب الأولى. ولكن تجارب الأمم الثلاث تداخلت إلى حد كبير، وسرعان ما سيعمل هذا التداخل على ترسيب الخلافات، بل وتفجير الحروب.
ولأن الدول الحديثة في المنطقة لم تقطع كلية مع الماضي، وما كان لها أن تقطع، فقد استدعي الماضي مراراً لتسويغ ادعاءات الحاضر ولتسويغ انقساماته وحروبه. ما ساهم في المزيد من تفاقم عوامل التوتر والخوف، أن ميزان القوى العالمي كان قد اختل منذ أكثر من قرن لصالح الإمبرياليات الأوروبية، وأصبح للقوى الغربية الكبرى بالتالي دور مباشر أو غير مباشر في تحديد طبيعة العلاقات المشرقية الجديدة.
ولدت الدولة التركية الحديثة من ركام الهزيمة العثمانية في الحرب الأولى وتضحيات حرب الاستقلال. وقد رأى القادة الوطنيون الجدد، وعلى رأسهم مصطفى كمال، في النظام العثماني القديم عبءاً ثقيل الوطأة، فبادروا إلى إلغاء السلطنة وإنشاء الجمهورية.
وعندما اتضح أن مؤسسة الخلافة، حتى في موقعها الرمزي، ستشكل قيداً على الجمهورية، سارعوا أيضاً إلى إلغاء الخلافة. أدرك مصطفى كمال ورفاقه حقيقة توازنات القوى الناجمة عن الحرب العالمية الأولى، التي تمثلت بتمركز البريطانيين والفرنسيين في الجوار التركي، من ناحية، وولادة الاتحاد السوفياتي، من ناحية أخرى.
ولذا، فقد تخلى القادة الجدد عن فكرتي الجامعة الإسلامية والجامعة التركية، واعتنقوا خياراً قومياً تركياً ضمن الحدود التي أمكن الحفاظ عليها مما تبقى من السلطنة العثمانية. وقد عزز من التصور القومي للجمهورية، أن سنوات الحرب الأولى أدت إلى ترحيل مئات الألوف من الأرمن، وأن التسوية التي وضعها الحلفاء الأوروبيون لحرب الاستقلال التركية تضمنت تبادلاً سكانياً هائلاً بين اليونان والجمهورية التركية. ولكن ذلك لا يعني أن الجمهورية التركية استطاعت التحرر من موقعها المشرقي وميراثها العثماني.
تبنت الجمهورية التصور العثماني المتأخر للمواطنة، واعتبرت أن المواطن النموذجي هو التركي عرقاً ولغة، المسلم ديناً، والحنفي مذهباً، وأنه ما دامت أغلبية سكان الدولة الجديدة من المسلمين، فليس ثمة أكثرية وأقلية في الشعب التركي. ومنذ ولادة الجمهورية، مضت عملية الإنشاء القومي للشعب التركي بلا هوادة. ولكن النزعة القومية الراديكالية للجمهورية ما كان لها أن تنجح في إخفاء حقائق الواقع.
كان النظام العثماني في معظم تاريخه نظاماً غير مركزي، وهو ما سمح بهامش استقلال ذاتي للجماعات الدينية والإثنية. ولكن النظام الجمهوري ولد على أساس مركزي محكم، حيث الدولة لا تسيطر على أرضها وحدودها وحسب، بل وعلى شعبها وثقافته وأنماط اجتماعه. ولذا، فقد كان طبيعياً أن تؤدي ردود الفعل القومية والثقافية على التوجهات الاندماجية الإكراهية للدولة الجديدة إلى أن يصبح الأتراك أتراكاً، الأكراد أكراداً، والعرب عرباً.
ما دامت الهوية القومية هي المرجعية القصوى للعصر الجديد، فلماذا تعلو هوية قومية على أخرى، وأي مسوغ يعطي لهوية ما حق إلغاء الهويات الأخرى؟
كانت التجربة العربية في القرن العشرين مختلفة إلى حد كبير عن التجربة التركية. لم تستطع الحركة العربية في نهاية الحرب الأولى بناء دولة عربية موحدة من الولايات العربية العثمانية السابقة، بل ولا حتى الاحتفاظ باستقلال كل هذه الولايات.
وبينما استطاعت الفكرة العربية أن تكسب مواقع جديدة لها في مصر والمغرب العربي خلال الفترة بين الحربين الأولى والثانية، فقد كانت الدول العربية القطرية تعزز وجودها وتحكم مسوغات بقائها وسيطرة وتوالد طبقاتها الحاكمة في الوقت نفسه.
رسمت حدود الدول العربية في شكل عشوائي في أغلب الحالات وطبقاً لمصالح القوى المستعمرة، وما إن حلت لحظة الاستقلال حتى انفجرت الحدود المشتركة بين هذه الدول في صراعات متصلة. كان العرب قد نجحوا في سنوات الحرب الثانية العاصفة في إنشاء جامعة الدول العربية كإطار للتعبير عن وجودهم كأمة وعن رغبة شعوبهم في الوحدة، ولكن الجامعة لم تمنع الخلافات الحدودية السعودية – اليمنية، السعودية – الإماراتية، الجزائرية – المغربية، المصرية – السودانية؛ ولا منعت انفجار العلاقات العراقية - الكويتية أو السورية - اللبنانية أكثر من مرة.
اختلفت الأنظمة العربية على دور دولها الرئيسية، على من يقود النظام العربي، على التحالف مع القوى الدولية الكبرى، واختلفت في صورة أساسية لأنها تتوجه إلى، وتتصارع على، رأي عام عربي واحد. في أصولها، كانت الفكرة العربية فكرة حاضنة، استبطنت تعريفاً ثقافياً للعروبة.
ولم يكن غريباً بالتالي أن يضم جيل العروبيين الأوائل في المشرق والمغرب مثقفين وعلماء وزعماء من أصول إثنية غير عربية، من محمد كرد على وخير الدين الزركلي ونوري السعيد وعزيز على المصري إلى ابن باديس، صاحب "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب." ولكن ردود الفعل العربية على إخفاقات النصف الأول من القرن العشرين دفعت بعنصر إثني متخيل إلى الخطاب العربي القومي. وما إن تخلت العروبة عن توجهها الثقافي وطبيعتها الحاضنة حتى أخذت الدول العربية ذات التعددية الإثنية في الانفجار من الداخل، من المسألة الأمازيغية في المغرب العربي إلى المسألة الكردية في العراق.
إيران أيضاً لحقت بركب الدول القومية الحديثة. لم تكن الفكرة القومية واضحة تماماً لدى المثقفين الإيرانيين في نهاية القرن التاسع عشر، سيما وأن إيران تعتبر واحدة من أكثر الدول الإسلامية تعددية على المستوى الإثني. ولكن نجاح مصطفى كمال في الحفاظ على استقلال تركيا وتبنيه للفكرة القومية كان مصدر إعجاب وملاحظة الكثير من الزعماء والقيادات الإيرانية في عشرينيات القرن الماضي. وعلى خطى أتاتورك، حاول رضا شاه إعادة بناء إيران، مستعيناً بالأداة العسكرية في أغلب الأحيان، إيران الموحدة حول دولة قوية وحول الفكرة القومية، وإيران الحديثة، ذات المحتوى الثقافي الغربي. جعل رضا شاه من تحالف من القبائل الشمالية عماداً للجيش، الذي اعتنى بتدريبه على أسس حديثة، مستعيناً بخبراء أجانب عند الحاجة. وسرعان ما أطاح بالإمارة العربية في الجنوب، وأطلق قواته في حملة تلو الأخرى لإجبار العشائر الراحلة، الخارجة عن سيطرة الدولة، على التوطن؛ بل وأمر في بعض الحالات بنقل عشائر بأكملها من منطقة إلى أخرى. ولأنه كان شاهداً على تدخلات القوى الأوروبية الفادحة في الشأن الإيراني خلال السنوات الأخيرة من الحكم القاجاري، فقد أراد أيضاً أن يضع حداً للنفوذ الأجنبي، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولإحكام السيطرة على البلاد وتعزيز وحدتها، قام ببناء خط سكة حديد عبر البلاد.
كما في تركيا الجمهورية، ولدت فكرة القومية الإيرانية وعززت بإرادة الدولة وفعالية أدواتها، إيران باعتبارها هوية متعالية على الهويات المكونة للشعوب الإيرانية: الفارسية والتركية والعربية والكردية والبلوشية.
بالرغم من أن تاريخ العلاقات بين الجماعات الدينية والطائفية لم يكن مثالياً دائماً، فإن التنوع الديني والطائفي الهائل في المشرق العربي – الإسلامي هو شاهد حي على قدرة شعوب المشرق على الاختلاف والتعايش في الوقت نفسه |
كان للجمهورية التركية ملفاتها العالقة مع جوارها العثماني السابق. إحداها كانت تلك المتعلقة بوضع ولاية الموصل، التي احتلتها القوات البريطانية بعد إعلان الهدنة بين الدولة العثمانية والحلفاء؛ ولذا، فلم يحسم مصير الولاية قانونياً إلى أن توصلت الأطراف المعنية إلى تسوية أشرفت عليها عصبة الأمم في منتصف العشرينات. ولكن قضية ولاية الموصل، التي تضم في حدودها الإدارية العثمانية محافظات إربيل والسليمانية ودهوك ونينوى العراقية، وخليطاً من السكان العرب والأكراد والتركمان، عادت للتداول بين حين وآخر، لاسيما بعد أن برزت دعاوى تقسيم العراق خلال السنوات القليلة الماضية.
وقد ظلت تركيا الجمهورية تطالب سلطات الانتداب الفرنسي في سورية بضم لواء الإسكندرون، على أساس وجود أغلبية تركية بين سكانه، حتى تحقق هذا الهدف في 1938؛ وهو ما أضاف إشكالية أخرى إلى التاريخ المشتبك للقوميتين العربية والتركية.
خلال الخمسينات والستينات، نظرت الحركة العربية القومية لتركيا باعتبارها جاراً خطراً، وممثلاً لسياسة الأحلاف الغربية وسعي القوى الإمبريالية إلى لسيطرة على مقدرات المنطقة. وليس ثمة شك في أن الشعور السوري المتعاظم بالخطر من تركيا لعب دوراً هاماً في الوحدة السورية – المصرية.
تسبب الخلاف حول حصص مياه الأنهار المشتركة في توتر العلاقات بين أنقرة ودمشق وبغداد في أكثر من مناسبة خلال ربع القرن الماضي. وقد نجم عن الافتراق بين سياسات وتحالفات الجمهورية التركية والجمهوريات العربية القومية أن انحازت الأخيرة إلى اليونان خلال حقبة التدافع التركي – اليوناني، بما في ذلك الموقف من الأزمة القبرصية.
في التسعينات كادت الحرب تنشب بين تركيا وسورية بسبب رعاية الأخيرة لحزب العمال الكردستاني. واليوم، وبالرغم من تراجع ملفات الخلاف الحادة بين تركيا والدول العربية، فإن الدول العربية الرئيسة، مثل مصر والسعودية، تنظر بحذر وربما بتوجس، للسياسة التركية النشطة في المجال العربي؛ بينما تتباين مواقف الفرقاء العراقيين حول السياسة التركية تجاه القضية العراقية وفي شمال العراق.
ولم تكن العلاقات العربية – الإيرانية أقل توتراً. ثمة تاريخ طويل من التدافع بين إيران الصفوية والقاجارية والدولة العثمانية. ولأسباب ثقافية وجيوبوليتكية، كان العراق في أغلب الأحيان ساحة التدافع الرئيسة بين الدولتين. وبعد ولادة العراق الحديث، برزت الخلافات في العشرينات حول قانون الجنسية العراقي، وحول الزوار الإيرانيين للعتبات في العراق، وحول قيام رضا شاه بضم إمارة المحمرة. خلال الثلاثينات، ثار الخلاف حول الحدود، لاسيما في منطقة شط العرب. هدأت الأوضاع قليلاً خلال الأربعينات والخمسينات؛ ولكنها سرعان ما تفاقمت من جديد في الستينات.
نظرت الدول العربية القومية إلى نظام الشاه باعتباره حليفاً لإسرائيل، وقد استقبلت القاهرة عدداً من المعارضين الإيرانيين، كما استقبلت حكومة عارف في العراق آية الله الخميني. قام نظام الشاه، من ناحيته، بتعزيز علاقاته ببعض من علماء النجف، كما قدم الدعم للحركة الكردية الانفصالية. ثم فتح ملف آخر في العلاقات العربية – الإيرانية عشية الإعلان عن الإمارات العربية المتحدة في 1971 وسيطرة إيران على عدد من جزر الخليج. وبالرغم من توصل العراق وإيران إلى اتفاق الجزائر حول شط العرب، ومن ثم تخلي الشاه عن دعم التمرد الكردي في شمال العراق، وتحسن العلاقات الإيرانية – المصرية في السنوات الأخيرة من عهد الشاه، فقد كان المعارضون الإيرانيون يجدون أحضاناً مفتوحة لهم في سورية وفي أوساط المقاومة الفلسطينية في لبنان.
فتحت الثورة الإسلامية في إيران صفحة جديدة في العلاقات العربية – الإيرانية، لاسيما أنها أثارت تعاطفاً شعبياً عربياً هائلاً. ولكن المخاوف من تصدير الثورة، من ناحية، وطموحات بغداد القومية، من ناحية أخرى، أدت إلى انفجار الحرب العراقية – الإيرانية، واصطفاف النظام العربي في مجمله خلف العراق. ولم تطل فترة الهدوء والمصالحة طويلاً بعد انتهاء الحرب؛ إذ سرعان ما عاد التوتر على خلفية من البرنامج النووي الإيراني، العلاقات الوثيقة التي تربط طهران بحزب الله وانقسام لبنان على نفسه، وعلاقات التحالف الإيرانية – السورية، التي يراها عدد من الأنظمة العربية تدخلاً في التوازنات العربية الداخلية. وبينما تتهم إيران بتقديم العون لتمرد الحوثيين في اليمن، تثير السياسة الإيرانية تجاه العراق المحتل العديد من الأسئلة، على المستويين العربي الرسمي والشعبي.
اتسمت العلاقات التركية – الإيرانية بالهدوء خلال معظم القرن الماضي، سيما وأن الدولتين ارتبطتا بعلاقات وثيقة مع المعسكر الغربي في سنوات الحرب الباردة، وأن الجمهورية الكمالية أدارت ظهرها لفكرة الجامعة التركية. ولكن الحرية النسبية التي تمتعت بها تركيا في الستينات والسبعينات، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، شكلا تحدياً نسبياً لحقبة العلاقات الهادئة والعادية. أنصار القومية التركية الجامعة ينظرون إلى إيران الفارسية باعتبارها عقبة في طريق التواصل التركي مع وسط آسيا، ومصدر دعم للقوميين الأرمن. وقد اعتبرت الدوائر الأمنية التركية إيران الإسلامية مصدر خطر على أمن تركيا الداخلي.
وبالرغم من أن تراجع تيارات تصدير الثورة في إيران ووصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في أنقرة أعاد الكثير من الدفء إلى العلاقات بين البلدين، فإن الموقف التركي من البرنامج النووي الإيراني ليس واضحاً تماماً.
ولا تعود الإشكاليات في العلاقات العربية – التركية – الإيرانية خلال حقبة ما بعد تشكل الدولة القومية إلى التنافس داخل الفضاء الإستراتيجي الواحد الذي تقطنه الأمم الثلاث وعجز الدول القومية الحديثة عن إدارة شؤون هذا الفضاء وحسب؛ بل إن ثمة مشتركاً آخر ساهم في تعقيد هذه الإشكاليات: ولادة القوميات الثلاث، العربية والتركية والإيرانية في لحظة تاريخية واحدة تقريباً، وفي ظل ظروف اشتباك وتدافع بين الأمم الثلاث، وبينها وبين القوميات الأخرى المتواجدة في محيطها.
ولأن الفكرة القومية أصبحت المسوغ الرئيس لوجود دول المنطقة، فقد أنشأت كل من هذه الدول سرديتها القومية الحصرية، وروايتها الرسمية للتاريخ، أو بالأحرى أساطير هويتها الخاصة، التي استبطنت في بحثها عن التميز توجهاً للقطيعة مع الأمم الجارة لها. إن واحدة من أهم خصائص التاريخ القومي للأمم أن تجلي الهوية القومية يرتبط شرطياً بنزعة لتحديد خصم قومي.
في تسويغهم للفكرة العربية، ربط الآباء العرب الإصلاحيون بين تسلم الجماعات غير العربية قيادة الإسلام وما اعتبروه انحطاط العالم الإسلامي وتراجع دوره على المسرح العالمي. ولم يميز القوميون العرب بعد الانهيار العثماني بين النزعات المركزية التحديثية للنظام العثماني المتأخر والنزعة التتريكية، فاتهموا القوميين الأتراك العثمانيين بكل الشرور وحملوهم منفردين مسؤولية الانشقاق العربي - التركي. وما زالت الفكرة التركية تستدعى مشاعر بالغة السلبية لدى طلاب المدارس العربية. ولم يلبث الخطاب العربي القومي أن عاد للتاريخ الأبعد ليستمد منه مكوناته، متهماً إيران الحديثة باستلهام ميراث طويل وأزلي من الشعوبية والعداء للعرب.
وفي سعيه لتبرير إلغاء السلطنة والخلافة وإسباغ الشرعية على النظام الجمهوري، كرس الخطاب الكمالي في الوعي التركي الجمعي أسطورة الخيانة العربية للدولة العثمانية، وطعن العرب إخوتهم الأتراك في الظهر. في ظل الجمهورية ورعايتها، أنشئت لغة تركية جديدة، بنيت على تاريخ ثقافي أسطوري، بهدف التخلص من المواريث الثقافية العربية والفارسية. وقد سار الخطاب الإنشائي للأمة الإيرانية في الاتجاه نفسه، قاطعاً مع محيطه العربي – الإسلامي بابتكار أسطورة الأصل "الآري" للشعوب الإيرانية، ومستلهماً التاريخ الفارسي قبل الإسلام. تصورت الأيديولوجية القومية للنظام البهلوي تماهياً مطلقاً بين الأمة والحكم، حيث يجسد الشاه وحدة الأمة وبقائها. وبالرغم من إطاحة الثورة الإسلامية النظام البهلوي، فإن النظام الإسلامي حافظ على مجمل الأسطورة القومية.
لم تؤسس الخطابات القومية العربية والتركية والإيرانية للقطيعة بين الأمم الثلاث وحسب، بل وعملت في شكل حثيث على تجاهل الجماعات القومية الأصغر. أكراد تركيا أصبحوا أتراك الجبل، وأكراد إيران صنفوا باعتبارهم إحدى الجماعات الفارسية القديمة؛ وإذ احتار الخطاب القومي العربي في تعريفه للأكراد، لم يعجز عن اختراع إصول عربية لأمازيغ المغرب. في الجهة المقابلة، لم يكن الخطابان القومي الكردي والقومي الأمازيغي أقل حيلة في بناء الهوية القومية الحصرية وفي القطيعة مع المحيط العربي والتركي والإيراني.
الحركة القومية بالطبع ليست مؤامرة ما، بل نتاج تطورات تحولية في التاريخ الإنساني؛ والتنكر للهوية القومية هو تنكر لقوى تاريخية فاعلة، تساهم مساهمة كبرى في تشكيل صورة العالم وخارطة قواه منذ أكثر من قرنين. ولكن تحول الفكرة القومية إلى أداة للصراع والقطيعة ليس أمراً حتمياً؛ وقد باتت الأمم المشرقية في حاجة قصوى لمراجعة تاريخية لسردياتها القومية.
وليس ثمة شك في أن التدافعات المتفاقمة بين دول المشرق أخذت في الآونة الأخيرة في استدعاء الانقسامات الطائفية، وفي استخدام السلاح الطائفي لتسجيل بعض من النقاط هنا أو هناك. ثمة إشكالية طائفية لا يمكن تجاهلها، اكتسبت صوراً مختلفة عبر التاريخ الإسلامي الطويل. وبالرغم من أن تاريخ العلاقات بين الجماعات الدينية والطائفية لم يكن مثالياً دائماً، فإن التنوع الديني والطائفي الهائل في المشرق العربي – الإسلامي هو شاهد حي على قدرة شعوب المشرق على الاختلاف والتعايش في الوقت نفسه.
في المجال المشرقي تعثر العديد من المشاريع التوحدية مثل السوق العربية المشتركة والاتحاد المغاربي مجلس التعاون الخليجي، وتجمع الدول المطلة على البحر قزوين |
طول قرن من الزمان، نجحت الكتلة الأطلسية في المحافظة على موقعها المسيطر على اقتصاد العالم وثرواته وأنظمته المالية. ولكن النصف الثاني من القرن العشرين شهد انتصار حركة التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وشهد محاولات حثيثة لكسر احتكار الكتلة الأطلسية للثروة والمعرفة والقوة؛ كما شهد تسارعاً غير مسبوق في قوى العولمة. وبتصاعد حدة المنافسة، لم يعد ممكناً تحقيق الرفاه أو المحافظة عليه بالاعتماد على القدرات المحدودة للدولة القومية.
لتعزيز قدراتها التنافسية وتعظيم نصيبها من السوق العالمي، عملت القوى الاقتصادية، القديم منها والجديد، على تشكيل أنظمة اقتصادية، أو اقتصادية – سياسية، فوق – قومية. ومع بداية القرن الحادي والعشرين، يحتل المشهد العالمي عدد من الأنظمة الجيو – اقتصادية، التي تتفاوت في درجات الاندماج والتعاون، أهمهما: الاتحاد الأوروبي، الذي يكاد يضم أغلب دول القارة الأوروبية؛ إلى جانب منظمة دول جنوب شرق آسيا، اتفاقية التجارة لأميركا الشمالية، ومنظمة إعلان شنغهاي.
في المجال المشرقي، هناك عدد من المشاريع، مثل السوق العربية المشتركة، الاتحاد المغاربي، مجلس التعاون الخليجي، وتجمع الدول المطلة على البحر قزوين. تعاني هذ المشاريع من التعثر، إما لكونها عرضة لانقلابات السياسة البينية، أو لمحدودية سوقها وافتقادها النسبي لتنوع النشاطات الاقتصادية، أو لمحدودية أهدافها. هذا لا يعني بالطبع أن هذه الأطر التعاونية فائضة عن الحاجة؛ الحقيقة، أنها نظم بالغة الأهمية وينبغي العمل من أجل رفع مستوى فعاليتها. ولكن الواضح أن عدداً من الأطراف يرى أن ثمة فراغاً في النظام الإقليمي، يستدعي إقامة أطر جديدة؛ ولعل المشروع الفرنسي لإقامة منظمة تعاون متوسطية تمثل تجلياً لمثل هذه الرؤية.
في المقابل، تضم دول المجال المشرقي أكثر من أربعمائة مليون نسمة من السكان؛ بامتداد جغرافي قاري، تتنوع داخله النشاطات الاقتصادية، لتشمل كل دوائر الإنتاج والخدمات والسياحة.
بعض من دول المشرق، مثل تركيا وإيران ومصر، قطعت شوطاً كبيراً في مجالات التصنيع المختلفة، وتضم بين سكانها قطاعاً عالي التعليم والخبرة. وتكاد هذه الدول جميعا تنقسم إلى نفطية ونصف نفطية، مما يجعلها من أكثر الدول استفادة من الفائض النقدي المتولد من الارتفاع المستمر لأسعار مصادر الطاقة. وهي إلى جانب ذلك كله، تتوسط أسواق العالم الرئيسية وكتله البشرية الثلاث في إفريقيا، في جنوب وشرقي آسيا، وعلى جانبي الأطلسي.
4- كيف يمكن إذن لهذا المنتدى المساهمة في بناء مستقبل أفضل لشعوب المشرق؟
- تشجيع، والمساهمة في، المراجعات الفكرية لإرث القطيعة الذي رسبته ثقافة وخطاب الدولة القومية الحديثة.
- العمل على بلورة تصورات جديدة لحل الإشكاليات السياسية والإستراتيجية بين دول المشرق.
- العمل على بلورة تصورات جديدة لمعالجة المسألة القومية في المجال المشرقي، بدون أن تستهدف إضعاف الهوية القومية.
- استطلاع آفاق التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي بين دول وشعوب المشرق المختلفة، على كافة المستويات وفي كافة المجالات.
على أن يأخذ عمل هذا المنتدى في الاعتبار مسألتين ضروريتين: الأولى، إدراك العلاقة الوثيقة بين مواريث الماضي وإشكالات الحاضر ووعود المستقبل. والثانية، العمل في وقت واحد على مستويين: من أعلى إلى أسفل ومن الأسفل إلى الأعلى؛ بمعنى عدم الاقتصار على محاولة التأثير في سياسات الدول، ولكن أيضاً السعي إلى التأثير على تصورات الشعوب والرأي العام.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات