إيران: رؤية من منظور روسي

تكمن أهمية تقرير كارنيغي "إيران: رؤية من موسكو"، أنه ينظر إلى إيران من منظور روسيا ويرتكز على خبرتها مع إيران، ويرى أن الضربة العسكرية للمنشآت النووية الإيرانية لن تحل الإشكالية القائمة، وستؤدي إلى انقسام المجتمع الدولي وستزعزع استقرار الشرق الأوسط.
16 December 2010
1_1029769_1_34.jpg







 

علي حسين باكير


في الوقت الذي يفترض فيه الكثير من المراقبين خارج روسيا وفي الولايات المتّحدة تحديدا أنَّ موسكو مقرّبة جدا من طهران أو أنّها متحالفة معها ضد أميركا؛ فإن الحقيقة تكاد تكون عكس ذلك تماما، وهي أكثر تعقيدا من هذا الافتراض. تكاد تكون هذه الأسطر الثلاثة المحور المركزي للتقرير الذي أصدرته مؤسسة كارنيغي للسلام في أكتوبر/تشرين أول 2010 تحت عنوان "إيران: رؤية من موسكو"(1).





يشير التقرير إلى أنّ المعارضة الإيرانية ليست وحدة متجانسة سياسيا وأيديولوجيا بدورها، ويفتقد العديد من قادتها إلى الكاريزما، ويجدون صعوبة في التنسيق والعمل سويا مع بعضهم.
وتكمن أهمية التقرير في أنّه ينظر إلى إيران من خلال الأعين الروسية؛ فهو صادر من مكتب المؤسسة في موسكو، ويجمع بين الرؤية الشمولية والعمق التحليلي والمنهج الأكاديمي؛ حيث شارك في وضعه كل من "ديميتري ترينين" العسكري المتقاعد والذي خدم في العهدين: السوفيتي والروسي معًا، وحصل على شهادة الدكتوراه من الولايات المتّحدة، وشغل فيما بعد مناصب بحثية مرموقة في عدد من الأماكن أبرزها كليّة الدفاع التابعة للناتو في روما والمعهد الأرووبي في موسكو. إضافة إلى "أليكسي مالاشنكو" وهو أكاديمي ومؤرِّخ أيضا، قام بالتعليم في عدد من الجامعات الروسية المرموقة كما في معهد موسكو للعلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية، وعمل باحثا في مجال الشرق الأوسط والدائرة الإسلامية في عدد من المراكز البحثية وهو يتقن العربية.

ويشير معدّو التقرير إلى أنّه قد لا يعبّر بالضرورة عن رأي الحكومة الروسية، لكنّه يرتكز بالتأكيد على خبرة روسيا الطويلة والمعقّدة مع إيران. وهو يتطرّق من هذه الزاوية إلى العديد من المسائل الشائكة والحساسة ليقدّم وجهة نظر خاصة، تعكس العمق التاريخي للعلاقة مع طهران والمعطيات الحالية والرؤية المستقبلية ليصل إلى استنتاجات مثيرة وفريدة في نفس الوقت، خاصّة وأنّه يأتي ليقدّم تحليلا لإيران من المنظور المركزي لموسكو.


وفيما يلي أبرز المحاور الواردة في التقرير:


التطورات السياسية الداخلية في إيران
المعطيات الجيوبوليتيكية الإقليمية لإيران
حيثيات العلاقات الروسية- الإيرانية
الملف النووي ومخاطر إيران نووية على موسكو
الخلاصات الأساسية والرؤية الإستراتيجية المستقبلية


التطورات السياسية الداخلية في إيران 


يشير التقرير إلى أنّ السلطة السياسية في إيران تتركّز حاليا في يد الجيل الأول من القيادات الإسلامية الذي يقوده المرشد الأعلى علي الخامنئي، والجيل الثاني الذي يقوده الرئيس محمود أحمدي نجاد ورئيس البرلمان علي لاريجاني. أمّا الجيل الثالث فرجاله الآن في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر وهم مثار استقطاب حاد، وقد يلعبون دورا مهما خلال السنوات العشر القادمة.


صحيح أنّ هناك توترًا بين هذه الأجيال الثلاثة لكن ليس هناك خلاف سياسي رئيسي على شكل النظام، كما أنّ فعالية الحكومة تعتمد على مدى انسجام الرئيس مع المرشد الأعلى. وعلى الرغم من أنّ خامنئي يدعم نجاد، إلا أنّ العلاقة بينهما آخذة في التحول إلى طابع تنافسي بشكل متزايد؛ فالأول يريد تدعيم سلطته الآخذة في التراجع وإن بشكل بطيء، والثاني يتمتع بحيوية وطموح يدفعانه إلى الإصرار على ترك بصماته بشكل راسخ في تاريخ البلاد.


أمّا مجلس الخبراء، فيتمتع بأهمية قصوى لأنه قادر على عزل وتعيين المرشد الأعلى، كما تزداد أهميته في وقت الأزمات لاسيما بين المرشد والرئيس؛ ولذلك يحرص نجاد على كسب ود أعضائه، علما أنّ رئيس المجلس حاليا هو "البراغماتي" هاشمي رافسنجاني المنتقِد للمرشد والرئيس معا.


وفيما يتعلّق بمجلس صيانة الدستور، فعلى الرغم من أنّ بعض أعضاء مجلس الشورى (البرلمان) يقومون بانتقاده، إلاّ أنّ البرلمان بشكل عام يمتنع عادة عن تحويل أي تشريع إلى المجلس من شأنّه أن يُصنَّف على أنّه مثير للجدل أو يتعارض مع الإسلام، وهو ما يعكس الطبيعة المحافظة لغالبية أعضاء البرلمان، علمًا أنّ الرئيس نجادًا يعاني من مشاكل مع البرلمان الذي امتنع سابقا عن الموافقة على اختياره لبعض أعضاء حكومته.


أمّا فيما يتعلّق باستعمال "القوة القهرية"، فالنظام الإيراني يعتمد على الحرس الثوري الإيراني الخاضع مباشرة للمرشد الأعلى، وفي موازاته على القوّات المسلّحة للدولة. وينظر كل منهما إلى الآخر على أنّه منافس رئيسي. وفي الوقت الذي يركّز الأول على حماية النظام، تركّز الثانية على حماية حدود البلاد لتتفادى ما حصل إبان الشاه عندما تمّ الزج بدباباتها في مواجهة المتظاهرين عام 1978؛ ولهذا السبب ربما لم يتدخل الجيش في الأوضاع الداخلية إبان المظاهرات عام 2009. ولأنه لم يتم استدعاء الحرس الثوري أيضا؛ فقد استخدم النظام القوات شبه العسكرية المتمثلة بالـ"باسيج" التي تتلقى أوامرها من الرئيس، والتي تُعد مسؤولة بشكل مباشر عن معظم الإصابات التي حدثت في صفوف المعارضة.


ويشير التقرير إلى أنّ المعارضة ليست وحدة متجانسة سياسيا وأيديولوجيا بدورها، ويفتقد العديد من قادتها إلى الكاريزما، ويجدون صعوبة في التنسيق والعمل سويا مع بعضهم. أما هدف الحركة الخضراء الأقصى فيتمثّل بتغيير الرئيس أحمدي نجاد باعتباره مغتصبا لنتائج انتخابات عام 2009، وأن تستبدل به نظاما يكون أكثر ليبيرالية اقتصاديا وسياسيا، فيما يذهب بعض مؤيدي الحركة الخضراء كالملكيين أبعد من ذلك بإعلان العداء لولاية الفقيه.


المعطيات الجيوبوليتيكية الإقليمية لإيران 


وفقا للتقرير، ليس من الضروري أن تكون الدول في موقع روسيا لتفهم أنّ خبرة ثلاثة عقود من البقاء علّمت النظام الحاكم في طهران أن يضع الأمن على رأس الأجندة القوميّة للبلاد؛ فقد أدّى العديد من التطورات بعد العام 2003 إلى جعل عقلية التحصين والتمترس حاضرة دوما في ذهن القادة الإيرانيين.





إذا كانت السياسات الإيرانية إسلامية فإنّ جيوبوليتيكيتها شيعية؛ إذ يعيش الشيعة خارج إيران في عدد قليل من الدول، وهم يشكِّلون "أغلبية فقط في العراق والبحرين"، مع العلم أنه يتحتم على شيعة العراق التعايش مع السنة العرب والسنة الأكراد.
فبعد العام 2003، كان على إيران التعايش مع تعزيزات ضخمة من القوات الأميركية على الضفتين: الشرقية (أفغانستان) والغربية (العراق)، بالإضافة إلى تواجد البحرية الأميركية على سواحل الخليج. وكان عليها أيضا مراقبة الانتشار الأميركي في قواعد وسط آسيا في قرغيزستان، وحتى العام 2005 في أوزبكستان. وكذلك كان عليها متابعة توسّع الناتو إلى حدودها، خاصّة أنّ الحلف كان وحتى العام 2008 ينوي ضم جورجيا. وبرغم هذا لا تزال تشعر إيران بما لها من تاريخ إمبراطوري أنّ لها كل الحق في ادّعاء التفوّق الإقليمي؛ ولذلك "هي تزدري وتقزِّم الدول العربية في الهلال الخصيب والخليج والدول الأخرى في جنوب القوقاز ووسط آسيا وأفغانستان".

وبما أنَّ إيران واحدة من بين الدول القليلة جدا ذات الأغلبية الشيعية في العالم، فهذا يعطيها الإحساس بأنَّ لديها مهمة رسالية. وعليه، يمكن القول: إنّه إذا كانت السياسات الإيرانية إسلامية فإنّ جيوبوليتيكيتها شيعية؛ إذ يعيش الشيعة خارج إيران في عدد قليل من الدول، وهم يشكِّلون "أغلبية فقط في العراق والبحرين"، مع العلم أنه يتحتم على شيعة العراق التعايش مع السنة العرب والسنة الأكراد. أمّا شيعة أذربيجان الذين يشكلون ما بين 40 إلى 60% من المسلمين فيها؛ فهم في غالبيتهم علمانيّو الهوية نتيجة للفترة الشيوعية. عدا ذلك؛ فإن الشيعة أقلية في عدد من الدول كلبنان وسوريا واليمن والسعودية وأفغانستان.


ومع ذلك، يشدد التقرير على أنّ استخدام إيران لهذه الأكثريات أو الأقليات كطابور خامس، قد يؤدي إلى استنفار أكبر من قبل الدول السُّنية سواء العربية أو غير العربية. لكنّه يؤكّد في المقابل، على أنّ طهران ستبقى تسعى إلى "استخدام الراديكاليين الشيعة كحزب الله" كعنصر من عناصر قوتها.


وبما أنّه من الواضح أنّ الجيوبوليتيكا الإيرانية ليست شيعية بكاملها، فإن إيران تحاول أن توازن أهدافها من خلال العلاقة مع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين كتركيا وباكستان أو مع لاعبين أكبر كالصين والهند، وحتى مع دول أخرى مسيحية كأرمينيا وسُنيّة كتركمانستان ومع سنيّة فارسية كطاجكستان. وكذلك طوّرت طهران تحالفا سياسيا وعسكريا مع سوريا التي" تُعتبر ذات غالبية سنيّة وحكم علوي"، واستطاعت حتى أن تتحدى واشنطن بعلاقات مع كوريا الشمالية في آسيا، ومع زيمبابوي في أفريقيا، ومع فنزويلا في أميركا اللاتينية، وحتى مع بيلاروسيا في أوروبا الشرقية.


حيثيات العلاقات الروسية- الإيرانية


تاريخيا، اكتسبت العلاقات الروسية-الإيرانية طابع العلاقات التجارية والتنافس الإقليمي الصعب بين الطرفين. كما شهدت هذه العلاقة منافسة جيوبوليتيكية مع أطراف ثالثة للسيطرة على إيران.


المراحل التاريخية
ويمكن اختزال المراحل التي مرّت بها هذه العلاقة في فترات مختلفة -وفقا للتقرير- فيما يلي:



  • في القرن الثامن عشر: اصطدم بطرس الأكبر مع الفرس في القوقاز وعلى طول بحر قزوين ليضم كل الشريط الساحلي إلى نفوذه، لكنّ خَلَفَهُ قام بالتخلّي عن هذه المكتسبات لإيران لأنها لا تستحق عبء الدفاع عنها.


  • في القرن التاسع عشر: هزمت روسيا جيوش الشاه واستولت على داغستان وأذربيجان وأرمينيا، وقد أدى الشعور الفارسي بالإذلال إلى أن تقوم حشود غاضبة في طهران في عام 1829 بقتل البعثة الروسية بأكملها بمن فيهم السفير الروسي "ألكساندر غريبوييدوف" الذي لا يزال الروس يتحدثون عنه إلى اليوم لكونه واحدا من أشهر الكتّاب، ولا زالت كتاباته تُدرَّس في روسيا كمادة إلزامية إلى يومنا هذا.


  • في القرن العشرين: هيمنت روسيا في بدايته على شمال إيران، وقامت في العام 1907 بالاتفاق مع البريطانيين على تقسيم البلاد إلى منطقتي نفوذ: روسية في الشمال وبريطانية في الجنوب، وقام البلدان باحتلال إيران في العام 1941. كما دعم الاتحاد السوفيتي الأنظمة الموالية له في شمال إيران إلى أن اضطر إلى الانسحاب في العام 1946 تحت الضغط الإنجليزي– الأميركي.



    • الحرب الباردة: وفيها قام الشاه بالتحالف مع أميركا، واستضاف مستشارين عسكريين أميركيين ومنشآت استخباراتية أميركية، وانضم إلى المعاهدة المركزية (حلف بغداد)، وهو ما دفع روسيا إلى دعم اليساريين الإيرانيين والقوميين.
    • الثورة الإسلامية: وفيها كانت مشاعر روسيا مختلطة بين الفرحة نتيجة الكارثة الإستراتيجية التي حلَّت بالأميركيين، وبين التخوّف من الصعود الإسلامي نتيجة الخبرة المروِّعة التي كانت تشهدها في أفغانستان. وعلى الرغم من أنّ موسكو بقيت محايدة رسميا في الحرب الإيرانية-العراقية، إلاّ أنّها قدمت مساعدات عسكرية وتقنية للعراق بناءً على معاهدة الصداقة بينهما للعام 1971.
    • انهيار الاتحاد السوفيتي: وخلال هذه الفترة تخوّفت روسيا من أن تقوم إيران بتصدير الثورة إلى أذربيجان وآسيا الوسطى، لكنَّ المفاجأة السارة لموسكو أنّ طهران لم تفعل ذلك حتى مع صعود نبرة التضامن التركي مع الدول التركيّة المستقلة حديثا على بحر قزوين، بل على العكس حاولت التقرّب من موسكو.

معطيات الحسابات الثنائية



تاريخيا، اكتسبت العلاقات الروسية-الإيرانية طابع العلاقات التجارية والتنافس الإقليمي الصعب بين الطرفين. كما شهدت هذه العلاقة منافسة جيوبوليتيكية مع أطراف ثالثة للسيطرة على إيران.
استنادا إلى ما ذكره الباحثون، فقد كان لإيران أسباب وجيهة في التقرب من موسكو في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لعلّ أبرزها مسألة العزلة الغربية والتكنولوجيا والتسلّح؛ حيث كانت طهران تحتاج إلى متنفّس جديد وقد وجدت في الانسحاب السوفيتي من أفغانستان، وانتهاء الحكم الشيوعي في روسيا فرصة لتحقيق هذا التواصل وإيجاد هذا المتنفس.

في المقابل، فقد كانت المعادلة صعبة بالنسبة لروسيا؛ فمن جهة كانت تحتاج إلى المال لإعادة إحياء صناعتها الدفاعية المتهالكة، ومن جهة أخرى لم يكن لديها مصلحة في تقوية منافس تقليدي لها (إيران) في وقت كانت تعاني هي من ضعف شديد.


ومن المنظور الجيوبوليتيكي الواسع، كان على القادة الروس العمل على معادلة دقيقة تستوجب الموازنة بين رفض مطالب إيران بالحصول على المزيد من التكنولوجيا المتطورة في المجالات المثيرة للريبة، وبين التعاون الوثيق جدا معها وبالتالي مواجهة الغضب الأميركي.


وكان لموسكو حساباتها الخاصة في العديد من الملفات المشتركة، لعلّ أبرزها:



  • الاقتصاد: صحيح أنّ المصالح الاقتصادية الروسية مع إيران كانت عاملا مهمّا إلا أنّها محدودة في حقيقة الأمر؛ فمشروع بوشهر على سبيل المثال بلغت قيمته حوالي المليار دولار. والحقيقة أنّ هذا الملف خضع لتجاذبات عديدة، فقد أوقفت روسيا العمل به مرات عديدة تحت عنوان المصاعب التقنية، لكنّ الحقيقة أنّها كانت تفعل ذلك متأثرة بالحساسية الأميركية التي كان يسببها المشروع لها.


  • التسلح: باعت موسكو إيران منذ أوائل التسعينيات قدرا كبيرا من الأسلحة البريّة كالدبابات (T-72) والمدرعات والآليات القتالية والذخائر. لكنَّ الطائرات المقاتلة (SU-24) والغواصات تبقى الأكثر ترتيبا للتبعات على روسيا؛ لأن باستطاعة إيران استخدامها ضد البحرية الأميركية في الخليج.


  • الغاز الإيراني: تفترض مصلحة روسيا أن تمتلك حصّة في الإنتاج والتسويق من حيث المشاركة في نقل الغاز الإيراني إلى جنوب آسيا. لكن ما لا تريده موسكو هو أن تصبح إيران قادرة على نقل الغاز إلى أوروبا وهي الوجهة الأكثر ربحية لشركة غاز بروم العملاقة الروسية، أو أن يتم تحويل منتدى الغاز إلى منظمة قد تحدّ من حريتها في سوق الغاز العالمي.

العامل الأميركي في العلاقات الإيرانية- الروسية
يعتبر العامل الأميركي عنصرا مهما في العلاقات الروسية-الإيرانية. تاريخيا كانت روسيا تنظر إلى إيران باعتبارها عنصرا إستراتيجيا في الأهمية الإقليمية، وكانت إيران تنظر إلى روسيا كعنصر مهم في تقويض السياسيات الأميركية، لكن وصول إدارة باراك أوباما إلى الحكم غيَّر المعادلة.


فقد أيقنت موسكو -من خلال اتفاقية "Reset"، وتوقف مساعي حلف شمال الأطلسي عن التوسع لضم جورجيا وأوكرانيا، ومن خلال إلغاء الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا- أنّ أوباما هو الرجل المنشود لتحقيق المصالح المشتركة للبلدين.


ولأن موسكو كانت مقتنعة بأنّ أوباما لا يدرج الإطاحة بالنظام الإيراني أو شن عملية عسكرية ضدّ طهران ضمن خيارات أجندته السياسية، وافقت في نوفمبر/تشرين الثاني 2009 على مجموعة من العقوبات الاقتصادية المحدودة ضد إيران، وفي يونيو/حزيران 2010 وافقت على قرار مجلس الأمن 1292 وبموجبه تمّ منع تصدير الأسلحة الثقيلة إلى إيران، فألغت روسيا صفقة (S-300) المقدرّة بحوالي مليار دولار.


ونتيجة لذلك، انتقد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد نظيره الروسي ديمتري ميدفيديف متّهما إياه بأنّه أصبح "أداة في يد "البروبغندا الأميركية" ضد إيران؛ فمن المنظور الإيراني، انتقلت روسيا إلى معسكر الأعداء التاريخيين، وتعكس شدّة الاتهامات الإيرانية الرسمية لروسيا مدى الإحباط وخيبة الأمل العميقة التي أصابتهم جرَّاء التحول في السياسة الروسية؛ ذلك أنّ هذا التحول سلب الإيرانيين لعبتهم الديبلوماسية المفضّلة والمتمثلة باستخدام روسيا كورقة لإحداث انشقاق في المجتمع الدولي ومجلس الأمن، كما أدى إلى انكشاف الموقف الصيني فاضطرت بكيّن إلى أن تصوّت ضد طهران في مجلس الأمن في سلسلة العقوبات الأخيرة، الأمر الذي أدّى إلى عزل إيران بطريقة لم تكن الأخيرة تتوقعها.


الملف النووي ومخاطر إيران نووية على موسكو 


لا تختلف دوافع طهران عن دوافع غيرها ممن سبقها من الجهات الدولية الفاعلة في السعي للحصول على القدرة النووية خاصة في مجال الأمن وممارسة نفوذها في محيطها القريب والبعيد. أضف إلى ذلك، أنّ تصوير هذا الأمر على أنّه مرتبط بقيام الثورة الإسلامية أمر خاطئ؛ فالبرنامج النووي الإيراني يسبق الثورة الإيرانية كما أنّ الدعم الداخلي له يتخطّى هوس النخبويّين به على نطاق واسع.


ويشير التقرير في هذا السياق إلى أنّه يمكن اختصار الأهداف الإيرانية في المجال النووي في:



  1. امتلاك دورة الوقود بشكل كامل في الداخل الإيراني.
  2. تطوير قدرات إنتاج سلاح نووي.
  3. تطوير وسائل تحميل بعيدة المدى تكون قادرة على ضرب أهداف في مجال الشرق الأوسط الكبير وما بعده.

من المنظور الإيراني، فإن التسوية المقبولة مع المجتمع الدولي هي التسوية التي تستوفي هذه الأهداف الثلاثة المذكورة أعلاه، إضافة لخطوات تؤدي إلى إعادة إدماج إيران في النطاق الدولي بما يتيح لها الوصول إلى التكنولوجيا المتقدّمة، وتدفق الاستثمارات إليها، والحصول على قروض، والوصول إلى الأسواق الإقليمية والدولية.





على الرغم من أنّ روسيا تعتبر لاعبا مهما في الملف النووي لكنّها لا تستطيع التأثير مباشرة على السلوك الإيراني من جهة، كما لا تستطيع أن تكون وسيطا بين إيران وأميركا من جهة أخرى.
وقد تقبل إيران في هذه الحالة أن تبقى من الناحية العملية دولة غير نووية بما يوافق معاهدة منع الانتشار النووي، لكن بما يحفظ لها قدراتها التي تتيح لها التحول إلى دولة نووية بكل سهولة إذا ما قررت ذلك كما في "النموذج الياباني".

ومن غير المتوقع أن تقوم أي حكومة إيرانية بما فيها "حكومة ديمقراطية مفترضة" بمناقشة كامل البرنامج النووي؛ فالديمقراطيون هناك يميلون نحو الحس القومي، وعليه فإن إيران ديمقراطية ستنظر إلى البرنامج النووي كرمز للانبعاث من جديد وكتأكيد على موقعها الدولي.


وعلى الرغم من أنّ روسيا تعتبر لاعبا مهما في الملف النووي لكنّها لا تستطيع التأثير مباشرة على السلوك الإيراني من جهة، كما لا تستطيع أن تكون وسيطا بين إيران وأميركا من جهة أخرى. لكن باستطاعتها في المقابل أن تشجّع بعض الأطراف في طهران والتي تبحث عن المواجهة مع أميركا أو أن تدعم أولئك الذين يفضّلون التوصل إلى تسوية مع واشنطن. وحتى الآن، فإن روسيا لم تتّخذ قرارا واضحا بهذا الشأن ولا تزال علاقتها مع إيران متناقضة للغاية.


حاولت روسيا أن تلعب دور المسهِّل في الملف النووي الإيراني خلال العديد من المحطات لإقناع إيران بالتوصل إلى اتفاق مع المجتمع الدولي تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية لكن دون أن تصل هذه الجهود إلى النتيجة المرجوة. وحاولت في المقابل إقناع إسرائيل وأميركا بالعدول عن ضرب إيران عبر وسائل عديدة.


لكنّ ذلك لا يعني أن روسيا توافق على امتلاك إيران للأسلحة النووية ولوسائل نقلها لما لذلك من تداعيات خطيرة على موسكو، وهو ما من شأنه -إن حدث- أن يؤدي إلى تغيير التوازن الجيوسياسي والإستراتيجي بشكل دراماتيكي في المنطقة الممتدة من القوقاز إلى آسيا الوسطى لغير صالح موسكو التي ظلّت لها اليد العليا فيها منذ القرن التاسع عشر.


ولا شك أنّ هذا الوضع سيطول أيضا المواضيع أو الملفات التي يختلف فيها الموقف الروسي عن الموقف الإيراني وفي طليعتها الملفات المتعلقة بمنطقة قزوين. أضف إلى ذلك أنّ إيران نووية ستكون منافسا جدّيا وخطيرا لروسيا في عدد من المناطق من القوقاز إلى طاجكستان، وستشكّل إيران فضاء محيطا بها وستضطر حينها بعض الدول كتركمانستان إلى أن تتبنى سياسات وديّة تجاه طهران تحت وطأة القوة النووية وهو ما سيؤثر على وضع الطاقة الجيوسياسي في المنطقة المحيطة ببحر قزوين ككل.


الخلاصات الأساسية، والرؤية الإستراتيجية المستقبلية 


انطلاقا من كل هذا التوصيف للسياسة الإيرانية والعلاقة مع روسيا والملف النووي، يمكن تسجيل العديد من الخلاصات التي يمكن ملاحظتها من منظور روسي، إضافة إلى الرؤية الإستراتيجية المستقبلية التي يقدمها التقرير.


الخلاصات الأساسية
أبرز الخلاصات التي يمكن الإشارة إليها، من منظور روسي هي الآتي:



  • من غير المحتمل تغيير النظام: فالآمال المعقودة على تغيير النظام الإيراني قريبا سابقة لأوانها؛ إذ لا فرصة لدى المعارضة الإيرانية للإطاحة بالحكومة الإيرانية في المستقبل القريب، لكن من غير المرجّح أيضا في المقابل أن يستطيع المحافظون في الحكم إزالة المعارضة بشكل كلي لأنها تضم عددا من الشخصيات ذات الحيثية الشعبية.


  • إيران مستقرّة: فالنظام يعتمد تعدد المحاور والأقطاب، والهيكل التعددي الإيراني والضوابط والتوازنات الموجودة في صلب نظامها السياسي كلها عوامل تحمي إيران من حدوث انهيار كما حدث في الحالة السوفيتية التي تعتمد الأحادية الحزبية الثابتة؛ فالنظام في تفاعل دائم على المدى القصير ولكنّه مستقر بشكل مذهل عامة. ووفقا لهذا التحليل؛ فإنّ مظاهرات 2009 هي مجرّد خضّة عابرة.


  • إيران كقوة إقليمية: تسعى لأن يحترم جيرانها مصالحها ويرجعوا إليها في المواضيع الأمنيّة الكبرى. وهي تنظر إلى التدخل العسكري الأميركي في المنطقة من زاوية أنّه يشكِّل تهديدا لها، ومن زاوية أنّه يحد من حرية القرار الأميركي والحركة الأميركية في الوقت عينه. كما تنظر إلى المملكة العربية السعودية في هذا الإطار على أنّها المنافس الأخطر لها في سعيها لتحقيق التفوق الإقليمي والهيمنة على المنطقة.


  • الترسانة النووية المحتملة: من المحتمل أن تكون إيران قررت فعلا الذهاب إلى ما بعد "الخيار الياباني" -والمتمثل في حيازة القدرة على تصنيع أسلحة نووية لكن دون إنتاجها-، وتصنيع ترسانة نووية صغيرة كما فعلت باكستان. ومن شأن ذلك -إن حدث- أن ينطوي على مخاطر عالية على المنطقة وعلى الأمن الدولي الآن وفي المستقبل المنظور.


  • هيمنة الأيديولوجيين والتداعيات الأمنيّة: إذا ما سيطر الأيديولوجيون وحلفاؤهم في الحرس الثوري كليّا على النظام الإيراني فإن المخاطر الحالية ستزداد بشكل كبير، خاصّة أنّهم من الممكن أن يلجؤوا إلى التهديد النووي.


  • التوصل إلى اتفاق بخصوص الملف النووي: قد تكون إدارة أوباما الفرصة الأمثل لإيران للتوصل إلى اتفاق بشان ملفها النووي، وعدم إدراك ذلك من قبل قادة إيران أو تجاهلهم له يعني أنّهم يريدون المواجهة. ومع ذلك، فإن إمكانية التوصل إلى تسوية بهذا الشأن لا تزال قائمة، لكنّ نافذة الوقت المتاح آخذة في النفاد وقد لا تبقى مفتوحة أكثر من 12 إلى 18 شهرا (2)، ورفض طهران الانخراط في مباحثات سيخلق حجما كبيرا من المخاطر على إيران وعلى المنطقة برمّتها.

الرؤية المستقبلية الإستراتيجية
واستنادا إلى ما سبق من خلاصات واستنتاجات، يعتقد التقرير أنّ الإستراتيجية العقلانية للتعامل مع إيران في الملفات سابقة الذكر في المرحلة المقبلة لا بد وأن تتضمن الملاحظات التالية:






  • إذا ما سيطر الأيديولوجيون وحلفاؤهم في الحرس الثوري كليّا على النظام الإيراني فإن المخاطر الحالية ستزداد بشكل كبير، خاصّة أنّهم من الممكن أن يلجؤوا إلى التهديد النووي.
    الاستمرار في المحادثات:
    فالحوار مع طهران حول الملف النووي والمواضيع الأمنية أمر ضروري، كما أنّ الوصول إلى اتفاق أمر ممكن، علما أنّ المتشددين في إيران قد يرفضونه لاعتقادهم بأنّه قد يهدد سيطرتهم على السلطة.


  • التعامل مع شركاء متعددين: يؤثّر التنافس بين القوى المتشددة والمعتدلة داخل النظام الإيراني على عرقلة الحوار مع إيران أو على تقدّمه؛ ولذلك يجب على المجتمع الدولي أن يطوّر إستراتيجية تتناسب مع المعتدلين، وتعمل على عزل تأثير المتشددين الذين يسعون إلى حشد دعم شعبي لطرحهم.


  • لا تساوم المعارضة: إذا ما تمّ ربط قادة المعارضة بشكل وثيق بمجموعات حقوق الإنسان في الخارج؛ فإن النظام الإيراني سينجح في اتهامهم كعملاء للغرب، وعليه فإن على منظمات حقوق الإنسان والحكومات الغربية أن تتذكر على الدوام ضرورة إبقاء مسافة بينها وبين قادة المعارضة.


  • الحفاظ على التماسك بين أعضاء مجلس الأمن: كما من من الأهمية بمكان الحفاظ على وحدة الموقف داخل المجتمع الدولي؛ فالحديث بصوت واحد يترك صداه بشكل قوي وواضح في طهران ويمهّد الطريق لتسوية معقولة، مع ضرورة أن لا تظهر هذه الوحدة وكأنها حرب صليبية ضد إيران الشيعية المسلمة.


  • عدم الإفراط في فرض العقوبات: لأنّ إساءة استخدامها قد يؤدي إلى تعزيز سلطة النظام في إيران وإلى تقسيم المجتمع الدولي، وهو الأمر الذي يتطلّب التعامل معها بدقة وعناية.


  • تجنب كارثة ضربة عسكرية: فالضربة العسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية لن تحل الإشكالية القائمة، وستؤدي إلى العكس تماما؛ فهي ستقسم المجتمع الدولي وتزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط الكبير كما ستجعل من شبه المؤكد نظريا صعود إيران كدولة نووية يقودها متشددون ذوو ميول انتقامية.


  • الاستعداد لردع إيران نووية: إذا تحوّلت إيران فعلا إلى دولة نووية، فيجب التحضير حينها لإستراتيجية ردع ذات مصداقية. ومن الممكن لمنظومة الدفاع الصاروخية الأوروبية لاعتراض الصواريخ بعيدة المدى أن تشكّل جزءًا من جهد جماعي بين الولايات المتحدة والناتو وروسيا لمواجهة هذا التحدي.

ومن الممكن لأنظمة الدفاع الصاروخي الباليستي المشتركة والمنسقة أيضا أن تصبح قاعدة للتعاون الإستراتيجي بين أميركا وروسيا بما يساعد على تحول علاقتهما الإستراتيجية من نموذج الحرب الباردة إلى نموذج آخر للأمن.
_______________
باحث في العلاقات الدولية


(1) عنوان التقرير بالإنكليزية: Iran: A View From Moscow. ويمكن الاطلاع عليه من خلال الضغط هنا.


(2) التقرير لا يبين سبب تحديد هذه المدة بالضبط، فلعله يشير إلى قرب نهاية ولاية أوباما حينها.

ABOUT THE AUTHOR