مركز الجزيرة للدراسات
يمكن القول، بدون أية درجة من المبالغة، إن السياسة التركية الداخلية تعيش أزمة مستمرة منذ انقلاب 1960 العسكري الذي أطاح بحكومة مندريس المديدة وأودى برئيس الحكومة إلى حبل المشنقة. فقد شهدت تركيا خلال العقود الخمسة التالية للانقلاب الأول تدخلين عسكريين سافرين في الحياة السياسية، ثلاثة تدخلات غير مباشرة، وعددا لا يحصى من التدخلات الخفية.
ثمة عدد من العوامل التي أدت إلى مثل هذا الوضع المزمن والمتسم بالقلق والتأزم الداخليين:
- الأول، تحول المؤسسة العسكرية منذ 1960 إلى لاعب رئيس في الحياة السياسية، ليس فقط من خلال مجلس الأمن القومي، الذي أقامه دستور ما بعد الانقلاب، وظل العسكريون يشكلون أغلبية أعضائه حتى قبل سنوات قليلة، ولكن أيضاً لخضوع أغلبية القيادات الحزبية التركية لإرادة الجيش.
- الثاني، أن انقلاب 1960 جاء بفعل انفجار مسألة الهوية، ولم يتبلور إجماع تركي كاف منذ ذلك الحين لوضع حل للجدل والانقسام الداخليين حول هوية تركيا وموقعها ودورها.
- الثالث، أن الولادة الصعبة للجمهورية في أعقاب الهزيمة العثمانية في الحرب العالمية الأولى أسست لارتباط وثيق بين الوضع الداخلي والسياسة الخارجية. وقد أصبح هذا الارتباط مصدراً آخر للجدل والانقسام الداخليين منذ ولادة التعددية السياسية في نهاية الحرب العالمية الثانية.
- أما العامل الرابع فيتعلق بولادة النظام الديمقراطي والتعددي، التي لم تأت نتيجة هزيمة قاطعة للنظام القائم ولأسس القوة التي ارتكز إليها، بل من رحم النظام نفسه. هذه الولادة جعلت تركيا أسيرة تدافع مستديم بين القوى الديمقراطية، التي تسعى إلى توسيع نطاق الحريات وتعزيز إرادة الشعب، والقوى الحاكمة التي يصفها معارضوها بأنها أبوية وتعتقد بحقها في الوصاية على الشعب.
أرغنيكون والأزمة التركية المزمنة
السباق بين الإصلاحات ومساعي الإطاحة بالحكومة
أرغنيكون والأزمة التركية المزمنة
البحث الذي أجراه وكلاء النيابة في غرفة أسرار الجيش أوصلهم إلى خطة انقلاب عسكري، أعدها فريق من الضباط بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات نهاية 2002. |
وهذه القضية التي أدت إلى تصعيد التوتر لم تكن جديدة، بل تعود إلى صيف 2007 حين اكتشف وكيل نيابة بمدينة اسطنبول مخزن سلاح وذخائر في منزل يعود لضابط تركي بإحدى ضواحي المدينة، وذلك أثناء التحقيق في قضية اغتيال ذات طابع سياسي غامض.
وكان تصميم وكيل النيابة على كشف حادثة الاغتيال ومخزن السلاح الغريب، قد أوصل الأمور إلى ما بات يعرف في تركيا بملف أرغنكون -المنظمة السرية المشكلة من عناصر عسكرية عاملة وسابقة، وكتاب وصحافيين ورجال قضاء وأعمال- التي تعود في أصولها إلى سنوات الحرب الباردة.
ويعتقد أن أرغنكون شكلت باعتبارها منظمة خفية خلال سنوات الحرب الباردة، لمواجهة خطر احتلال تركيا من قبل الاتحاد السوفياتي في حال نشوب حرب بين الكتلة الشيوعية وحلف الأطلسي، شأنها في ذلك شأن العديد من المنظمات المشابهة التي شكلها حلف الأطلسي في عدد من الدول الأوروبية الأخرى.
ولكن أرغنكون التركية لم تحل بعد نهاية الحرب الباردة بل تحولت إلى "منظمة سياسية – إجرامية"، تتقاطع داخلها مجموعات قومية وعلمانية وانقلابية متطرفة، تستهدف الحفاظ على الوضع القائم في البلاد منذ انقلاب 1960، الذي وفر للمؤسسة العسكرية وحلفائها دوراً فاعلاً ومستتراً في بنية الدولة التركية. وطبقاً للتحقيقات التي لا يتوقع لها أن تنتهي قريباً، فإن عناصر تنتمي إلى منظمة أرغنكون تعهدت خلال العقدين الماضيين بعدد لم يحدد بعد من جرائم اغتيال شخصيات رأت المنظمة بأنها تهدد وحدة تركيا ونظامها القومي، كما لعبت دوراً إجرامياً في ملاحقة وقتل العشرات، وربما المئات، من الناشطين الأكراد - الأتراك، أو المشتبه بدعمهم لحزب العمال الكردستاني.
أوصلت التحقيقات في نشاطات أرغنكون قبل شهور قليلة وكلاء النيابة العاملين في القضية إلى ضباط عاملين في الجيش وإلى قلب المؤسسة العسكرية، واستدعى استمرار التحقيقات أن يطلب رئيس الوزراء من رئيس الأركان السماح لوكلاء النيابة بدخول ما يعرف بالغرفة الكونية في قيادة أركان الجيش، الغرفة التي يحفظ فيها أكثر أسرار المؤسسة العسكرية حساسية، ولم يحدث أن دخلها مسؤول مدني قط من قبل.
وقد حدث أن البحث الذي أجراه وكلاء النيابة في غرفة أسرار الجيش أوصلهم إلى خطة انقلاب عسكري، أعدها فريق من الضباط بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات نهاية 2002. وتضمنت الخطة بعضاً من الخطوات التي كان الضباط الانقلابيون سيتخذونها للتمهيد للانقلاب، بما في ذلك "التسبب في اشتباكات عسكرية محدودة مع القوات اليونانية في منطقة بحر مرمرة، وتفجير عبوات في المصلين عقب صلاة الجمعة" في بعض أكبر مساجد اسطنبول وأكثرها اكتظاظاً.
أدى اكتشاف هذه الخطة في مقر مركزي لقيادة الأركان، إلى موجة جديدة من الاعتقالات، التي طالت بعضاً من أبرز الضباط السابقين، بما في ذلك قادة أسلحة الجو والبحرية والجيش التركي الأول، وبعضاً من الضباط العاملين أبرزهم الجنرال سالدياري بيرك، مع العلم أنه لم يحدث مطلقا منذ انقلاب 1960، أن قدم أي من الضباط الانقلابيين للمحاكمة. أما أن يستدعى ضباط للقضاء بتهمة التخطيط للانقلاب، فلم يخطر ذلك في أكثر الخيالات جموحاً، وهذا بالتأكيد أثار ردود فعل حادة في أوساط أنصار الوضع الراهن، ومن استشعروا عزم حكومة العدالة والتنمية على إصلاح شأن الدولة التركية، مرة وإلى الأبد.
ومنذ انطلقت التحقيقات في ملف أرغنكون، استقدم عدد من الضباط المتقاعدين للتحقيق، وقدم بعضهم للمحاكمة، ولم يتحمل بعض الضباط المتهمين ضغوط التحقيق والرأي العام وأقدموا على الانتحار، بينما تعرضت صورة المؤسسة العسكرية، التي يحتفظ لها الشعب التركي بتقدير وولاء، للخدش والشكوك أمام الرأي العام الذي صدمته الحقائق البشعة التي كشفها وكلاء نيابة مثابرون.
ولكن الدوائر العلمانية في حزب الشعب الجمهوري المعارض، في الإعلام، وفي دوائر القضاء، شنت هجمة شاملة على الحكومة وعلى وكلاء النيابة القائمين بالتحقيقات في القضية، كما تدخلت الهيئة المشرفة على القضاة ووكلاء النيابة، التي تسيطر عليها النخبة العدلية العلمانية، في فبراير/ شباط الماضي لنقل عدد من وكلاء النيابة العاملين في القضية من مواقعهم، في خطوة استهدفت إجهاض التحقيقات.
السباق بين الإصلاحات ومساعي الإطاحة بالحكومة
قد تؤدي محاولة إطاحة الحكومة بغير صناديق الاقتراع إلى انفجار عنف داخلي أو انهيار عميق للاستقرار، سيصعب على النخبة العلمانية، المتناقصة عدداً والمتراجعة نفوذاً، عسكرية كانت أو مدنية، تحمل مسؤوليته. |
بيد أن بيان إردوغان أمام البرلمان التركي في اليوم التالي جاء مفاجأة لكافة الدوائر، فقد أعلن رئيس الوزراء أمام نواب الشعب، بصراحة ووضوح غير مسبوقين، أن تركيا لن تسمح بعد اليوم بإفلات "المتآمرين خلف الأبواب المغلقة من العقاب" وأن القانون سيطال كل من يمس المؤسسات الدستورية ويحاول تقويض إرادة الشعب. في الوقت نفسه، كانت السلطات العدلية تلقي القبض على عدد جديد من الضباط المتهمين" بالتآمر والتخطيط لأعمال انقلابية"؛ كما عرض ضباط آخرون أمام القضاء لتوجيه لوائح اتهام لهم.
يتمتع الجنرال باشبوغ، الذي احتل موقع قائد القوات البرية قبل توليه رئاسة الأركان، بسجل عسكري لامع وشعبية كبيرة في أوساط الجيش؛ وعرف بأنه واحد من أكثر جنرالات الجيش تسييساً وقدرة على تقدير الموقف.
ويواجه الجنرال وضعاً بالغ التعقيد والحساسية، لم يسبق لقائد أركان تركي أن واجهه منذ قيام الجمهورية. فمن ناحية، وفر الاتساع المطرد في التحقيقات المتعلقة بملف الأرغنكون فرصة لبعض الدوائر الليبرالية والإسلامية المعادية لنفوذ الجيش السياسي وسجله الطويل في التحكم المستتر في شؤون الدولة، للهجوم على المؤسسة العسكرية، ومحاولة إعادتها إلى حدودها الدستورية في شكل قاطع ونهائي. ومن ناحية أخرى، يتطلب موقع رئاسة الأركان من الجنرال باشبوغ الدفاع عن كرامة الجيش والحفاظ على معنوياته، سيما وأن بعض المشتبه بهم هم من زملائه الذين عرفهم وخدم إلى جوارهم سنين طويلة.
ثمة نظريتان لتفسير موقف الجنرال باشبوغ المتعاون، على مضض، مع حكومة إردوغان في التحقيقات المتسعة داخل الأوساط العسكرية المتهمة بالتآمر:
- الأولى، أن رئيس الأركان قد توصل إلى قناعة راسخة بأن تركيا قد تجاوزت عهد الانقلابات العسكرية، وأن محاولة للانقلاب على حكومة منتخبة، تستند إلى سجل هائل من الإنجازات، ستواجه معارضة واسعة النطاق من كافة دوائر الشعب التركي، وربما تنتهي بكارثة محققة على تركيا.
- الثانية، أن التحقيقات توصلت فعلاً إلى أدلة تؤكد تورط باشبوغ في المخططات الانقلابية (منذ قيادته للقوات البرية)، وأن حكومة إردوغان حرصت على استبعاد اسمه من التحقيقات، حفاظاً على كرامة الجيش واستقرار مؤسسات الدولة، وأن الجنرال بات ممتناً لهذا الموقف من الحكومة.
من جهة أخرى، يشير المقربون من رئيس الوزراء إلى أن هذه القضية تسببت في هموم ثقيلة له طوال العامين الماضيين، فإردوغان يؤمن أن الجيش التركي هو في النهاية جيش الشعب، وليس جيش مجموعة من "الجنرالات المتآمرين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الدولة والشعب، والمسكونين بأوهام السيطرة والمخاوف المضخمة على مصير الدولة والبلاد"، ويؤمن بأن الدول القوية، الدول التي تطمح إلى تعهد دور كبير في إقليمها وعلى المسرح العالمي، تحتاج جيشاً قوياً. ولكنه يؤمن كذلك أن قيام الجيش بالتدخل في الشأن السياسي طوال نصف القرن الماضي، جر على الجيش وعلى تركيا كوارث لا حد لها؛ وأن الوقت قد جاء لتعزيز الديمقراطية التركية، ووضع نهاية "للتحكم المستتر وغير الشرعي في شؤون الحكم". ولم يعد خافياً أنه كلما اقتربت التحقيقات من مواقع ودوائر ومستويات أكثر حساسية وإثارة للجدل، كلما ازداد عزم رئيس الوزراء على المضي بمشروعه الإصلاحي إلى نتائجه المنطقية بحسب وصف المقربين منه.
فقد خاض إردوغان انتخابات 2007 بوعد قيام حكومته الثانية بإعداد دستور جديد، دستور مدني يحل محل الدستور الذي وضعه انقلابيو 1980، ويعتبره كثيرون السبب الرئيس في حالة عدم الاستقرار الحالية في البلاد. ولكن إردوغان لم يستطع الإيفاء بوعده نظراً لعدم تعاون المعارضة العلمانية؛ في حين يتطلب إقرار دستور جديد أكثرية ثلثي البرلمان وقدراً من الإجماع الوطني. ولكن التطورات الأخيرة في تحقيقات أرغنكون، أقنعت إردوغان بضرورة إجراء حزمة من التعديلات الدستورية، حتى إن اضطر إلى إقرارها باستفتاء شعبي في حال رفضت أحزاب المعارضة توفير أغلبية كافية لتمريرها في البرلمان. ولكن أصواتاً ارتفعت في أوساط حزب الشعب الجمهوري المعارض تؤكد على أن إجراء استفتاء خلال الأسابيع القادمة لن يكون دستورياً، وهددت باللجوء إلى المحكمة الدستورية في حال مضت الحكومة في خططها للاستفتاء.
خاض إردوغان انتخابات 2007 بوعد قيام حكومته الثانية بإعداد دستور جديد، دستور مدني يحل محل الدستور الذي وضعه انقلابيو 1980، ويعتبره كثيرون السبب الرئيس في حالة عدم الاستقرار الحالية في البلاد. |
وفي كلمة له أمام الأكاديمية العسكرية يوم 13 مارس/ آذار الحالي، دعا الجنرال باشبوغ الجنود الأتراك إلى الوحدة والتماسك، محذراً من أيام عصيبة قادمة. ما يوحي به هذا الوضع أن الأزمة الأخيرة تركت تركيا، مرة أخرى، في سباق بين تعديل دستوري ملموس، يضع حداً، وإن في شكل جزئي، لتمتع النخبة القضائية والعسكرية العلمانية بسلطات تعلو إرادة الناخبين، وسعي هذا النخبة الحثيث لإيقاف عجلة الإصلاحات وبالتالي الإطاحة بالحكومة وقيادة حزب العدالة والتنمية وإعادة الساعة إلى الوراء.
بيد أن هذا السيناريو/ السباق ليس حتمياً بالضرورة. فالرأي العام التركي المناهض لأساليب التآمر العسكرية وغير العسكرية هو في أقوى حالاته؛ وسجل الحكومة الاقتصادي والسياسي الداخلي، وفي حقل السياسة الخارجية، لا يمكن لأي قوة في البلاد تجاهله أو القفز عليه. وقد تؤدي محاولة إطاحة الحكومة بغير صناديق الاقتراع إلى انفجار عنف داخلي أو انهيار عميق للاستقرار، سيصعب على النخبة العلمانية، المتناقصة عدداً والمتراجعة نفوذاً، عسكرية كانت أو مدنية، تحمل مسؤوليته.
والواضح أن الأزمة الأخيرة، وبالرغم من أنها لم تجذب الكثير من الاهتمام العالمي والإعلامي الخارجي، ربما ستكون مفصلية. فإن خرجت حكومة العدالة والتنمية منها منتصرة، ونجحت في تمرير حزمة التعديلات الدستورية، فربما ستكون قد غيرت تركيا الجمهورية في شكل قاطع ونهائي، وغير قابل للنكوص.