جمهورية جنوب السودان.. إمكانات كبيرة وتحديات أكبر

على الرغم من الفرحة التي عمت أهالي جنوب السودان ليلة التاسع من يوليو/تموز 2011 عشية إعلان "الاستقلال" إلا أن الأوضاع أكثر تعقيدا مما تقدمه الكاميرا من مشاهد. وربما يرتسم أمام قادة الدولة الجديدة بقدر كبير من الإرباك هذا التداخل بين الفرص والتحديات.
201173010552972734_2.jpg

المسلمي الكباشي 

تمهيد

تبلغ مساحة الدولة الجديدة 648 ألف كلم مربع، وتتميز بغزارة المياه حيث يستغرق موسم أمطارها تسعة أشهر في كل عام، ومغطاة بالغابات الخضراء التي تستحوذ على 80% من مساحة غابات السودان السابق، ثم إن بها ثروة حيوانية هائلة، وثروة سمكية كبيرة. وهذه الدولة الجديدة لا تستثمر أكثر من 5% فقط من ملايين الأفدنة الصالحة للزراعة، وأرضها تصلح لإنبات شتى أنواع المحاصيل: الأرز، قصب السكر، الذرة، الفاكهة... إلخ, وفي باطن الأرض مختلف أنواع المعادن، كالنفط، الحديد، اليورانيوم... إلخ. ذلك هو الوجه الأجمل من الصورة، دولة تتمتع بثراء طبيعي، وتمتلك من الموارد ما يسيل له لعاب الاستثمارات والمصالح الاقتصادية الدولية. ولكن الواقع الاجتماعي والأمني والسياسي يجعل طريق النفاذ إلى هذه الموارد أمرا صعبا، لعدة أسباب، من أهمها:

التحديات الداخلية

التمردات القبلية المسلحة
تواجه حكومة جنوب السودان عددا من التمردات القبلية المسلحة؛ إذ إن بعض جنرالات الحركة الشعبية قد خرج عليها شاهرا سلاحه محدثا بذلك اضطرابات أمنية في العديد من المناطق. تبدأ من قوات قلواك قاي، وبيتر قديت، والسلطان عبد الباقي في ولاية الوحدة، ولا تنتهي عند قوات جورج أطور وقوات قربال تانغ وغيرها في ولاية جونقلي. وكان من نتيجة ذلك تدهور الأوضاع الأمنية؛ حيث أعلنت الأمم المتحدة أن عدد القتلى في النصف الأول من هذا العام بسبب العنف القبلي تجاوز 2300 قتيل. وتتداخل الأسباب المباشرة لخروج هؤلاء الجنرالات على الدولة الجديدة، من هذه ذلك ما هو سياسي متعلق بالمشاركة في السلطة السياسية، أو بتنافس قبلي على الموارد الرعوية والزراعية. إلا أن الدوافع العميقة لهذه التمردات تعود إلى أن طبيعة مجتمع جنوب السودان الذي تترسخ فيه القبلية، والولاء فيه في المبتدأ للقبيلة وليس للدولة. ويتم الاستحواذ على الثروة والسلطة باسم القبيلة، وبجنوب السودان مئات القبائل ترجع أصولها لثلاث مجموعات، هي:

  1. القبائل النيلية.
  2. القبائل النيلية الحامية.
  3. المجموعات السودانية.

وتستحوذ المجموعة النيلية على 65% من مجموع السكان حيث الدينكا التي تمثل 40% من قبائل جنوب السودان تليها النوير 20% ثم الشلك 5%.. ولهذا فإن أخطر التحديات التي تواجه الدولة الوليدة تكمن في قدرتها على تحقيق الاندماج القومي الذي يتجاوز القبلية، ويرسخ الولاء للدولة.غير أن تداعيات ما بعد الاستقلال لا تشير إلى قدرة أو رغبة بعض قادة الحركة الشعبية في التجاوز السريع لهذه المآزق الأمنية، فقبيل نشر هذا التقرير تم إغتيال "المتمرد" قلواك قاى في ولاية الوحدة، في خطوة من شأنها أن تؤجج من جديد ثارات قديمة.

المسألة الدينية
وإذا كان هذا التنوع العرقي الذي ما خمد يوما في التعبير عن مكوناته بعنف يشكل التحدي الأكبر، فإن التشنجات الدينية منذ سيطرة الحركة الشعبية على مقاليد السلطة بعد اتفاقية نيفاشا 2005 يبدو أنه تحد يتطلب أخذه بعين الاعتبار مستقبلا، خاصة بعد أن أخذت تتصاعد مع ذلك مخاوف إسلامية من المصير الذي ينتظر حقوق المسلمين الدينية والثقافية والسياسية، ومصدر هذه المخاوف -كما يرى كثيرون- هو ازدياد حالة التماهي السياسي للحركة الشعبية مع الدين المسيحي وإن تظاهرت بعلمانية الدولة. وقد تكون الحركة الشعبية ترغب في تقديم الجنوب باعتباره دولة مسيحية في مواجهة عدو شمالي يقوم بناؤه الفوقي على الإسلام، الأمر الذي يجد قبولا كبيرا لدى الجمعيات التنصيرية الغربية التي أسست دعايتها لدعم الحركة الشعبية على "إنقاذ المسيحيين من خطر الأسلمة القسرية التي تمارسها حكومة الشمال". هذا الصراع الديني الذي كان خافتا بدأ يظهر للعلن شيئا فشيئا في الخطاب الإعلامي وفي الممارسة السياسية؛ إذ تم اغتيال الداعية الإسلامي فؤاد ريتشارد في منطقة بحر الغزال قبل أسبوع واحد من ميلاد جمهورية جنوب السودان، ووُجِّهت أصابع الاتهام إلى استخبارات الجيش الشعبي لتحرير السودان الذي أصبح جيش الدولة الجديدة.

وقبل ثلاثة أيام من ميلاد الدولة تم اعتقال قياديين من القيادات الإسلامية الجنوبية، هما السيدان موسى المك كور أمين العلاقات الخارجية في المجلس الأعلى لمسلمي جنوب السودان، وعبد السلام آدم كوكو الناشط في الأعمال الخيرية على خلفية احتجاجهما على اغتيال الشيخ فؤاد ريتشارد. هذه التطورات تفتح الأسئلة على المسألة الدينية للدولة الجديدة بالرغم مما عرف به الجنوب من تسامح ديني، حيث يوجد في الأسرة الواحدة المسلم والمسيحي واللاديني دون أن يثير ذلك حساسيات دينية؛ ولهذا فقد يكون من المهم لقادة الجنوب أن يتذكروا باستمرار بأن  ميلاد دولة جنوب السودان ما جاء في بعض أسبابه إلا لفشل السودان الكبير في إدارة التنوع العرقي والديني والثقافي، وأن ذات التحدي ينتصب أمام الدولة الوليدة المكونة من طيف واسع من التنوع، إذ أن نجاحها في عدم إنتاج ذات الأزمة يقوم على حسن إدارتها لهذا التنوع. وبالطبع ليس التحدي الأمني الذي يواجه دولة جنوب السودان الوليدة نابعًا فقط من الفشل في إدارة التنوع، ولكن الجوار الإفريقي لدولة الجنوب يصدِّر إليها بدوره متاعبه الأمنية، وأكبر تجليات ذلك هو جيش الرب الذي يعيث فسادا في غرب الاستوائية، مثيرا اضطرابات أمنية، فشلت حكومة جنوب السودان في السيطرة عليها على مدى السنوات الست الماضية، ولا يزال يشكل مهددا داهما لقدرة الدولة على السيطرة على ترابها الوطني.

فضلا عن ذلك هنالك تحد كبير يواجه الدولة الجديدة هو التحدي الاقتصادي؛ فبالرغم من ثراء الموارد الطبيعية إلا أن مؤشرات الواقع الاجتماعي الاقتصادي تجعل من الفرحة الغامرة بإعلان دولة الجنوب سرابا يحسبه الظمآن ماءً إن لم تتحقق التفاتة سريعة لمواجهة هذا الواقع فالمؤشرات الاقتصادية تقول: إن دخل الفرد في اليوم في جمهورية جنوب السودان أقل من دولار. وإن  أكثر من 10% من الأطفال يموتون قبل أن يبلغوا الخامسة، و75% من البالغين أميون. كما تنعدم في جنوب السودان البنية التحتية سواء الفنية البشرية المتعلقة بتوفر المهنيين القادرين على إدارة الدولة، أو الإنشائية المتعلقة بقدرة الدولة على تقديم الخدمات الصحية والتعليمية والأمنية؛ بالإضافة إلى ضعف الإنتاج والإنتاجية الزراعية حيث لا يُزرع من أرض الجنوب أكثر من 4.5% مما هو صالح للزراعة، وبمحاصيل محددة ومحدودة، لا تتعدى الوفاء الجزئي بالاستهلاك اليومي للأسرة.

والثروة الحيوانية الكبيرة رأس مال اجتماعي أكثر من كونها رأس مال اقتصادي، يربيها أصحابها للتفاخر والمكانة الاجتماعية. بالإضافة إلى أن الدولة ليس لها منفذ بحري وبالتالي لا تجد سبيلها المباشر إلى موانئ التعاطي الاقتصادي الدولي استيرادا وتصديرا، ولكن الأمل في الجنوب معلق على الوعي الإقليمي والدولي بالمقدرات الاقتصادية للجنوب الذي بدأ بالفعل يهتم بجنوب السودان مطلقا حالة من الإقبال والتنافس الاستثماري، ربما تستطيع توظيف الموارد وإحالتها إلى واقع اقتصادي يمكِّن الجنوبيين من تأسيس دولة تلبي طموحات واحتياجات شعبها. وقد عبَّرت الوعود الغربية التي بُذلت للجنوبيين ليلة الاستقلال عن إرادة غربية بل وأممية جادة في مساعدة الجنوبيين في الخروج من حصار الضيق الاقتصادي، إلى أفق الرحابة المعيشية؛ حيث يشاهَد:

  • اهتمام مؤسسات المال الدولية بالجنوب؛ إذ افتتح البنك الدولي مكتبا في جوبا عاصمة الجنوب منذ خمس سنوات، وهو يقدم المشورة لحكومة الجنوب لبناء اقتصادها، كما أن صندوق النقد الدولي وعد حكومة الجنوب بعضوية كاملة فيه بعد الانفصال.. وبالرغم من التحفظات الموضوعية على تجارب المؤسسات المالية الدولية مع دول العالم الفقيرة، والتساؤل عن دورها وما إذا كان مساعدة أم رهن الاقتصادات النامية وربطها بماكينة الاقتصاد الدولي الغربي، إلا أن مجرد هذه الخطوات تشكل تعبيرا عن الوعي بضرورة إدماج الجنوب في الاقتصاد الدولي.
  • إعلان منظمة التغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) عن خطة مؤقتة لمساعدة جمهورية جنوب السودان (بناء قطاع زراعي متين ومستدام) من خلال برنامج رصدت له خمسين مليون دولار لبناء القدرات في مكاتب الإرشاد الزراعي ودعم إنتاج البذور، وتطوير قطاع إنتاج الماشية سواء بالتدريب على أساليب الإدارة المنتجة أو التوسط لحسم النزاعات على موارد المياه والمراعي.

    كما تم تدشين مشروع بمبلغ عشرين مليون يورو في إطار برنامج الاتحاد الأوربي لعملية مسح الغطاء الأرضي، وذلك باستخدام تابع لفضاء صناعي يجمع المعلومات الزراعية وتلك الخاصة بالغابات والمراعي والأنهار؛ إذ يعاني الجنوب من حالة مزرية من الجهل بتفاصيل مقدراته الاقتصادية.

  • قطْع دول الجوار الإفريقي لدولة جنوب السودان شوطا كبيرا في تأسيس علاقاتها الاقتصادية مع الدولة الوليدة، سواء من حيث الرؤية أو الممارسة العملية، خاصة وأن لهذه الدول قصب السبق في دعم مقاومة الجنوب منذ تأسيسها. فقد كانت أوغندا -برئاسة موسيفيني- أهم مصدر للدعم العسكري، وكانت كينيا أهم مركز للاتصال السياسي والدبلوماسي، بل كانت القابلة التي ولدت على أيديها المبادرات والمفاوضات التي أفضت إلى اتفاقية السلام الشامل والتي كانت المقدمة الطبيعية للانفصال. والآن يشكل الأوغنديون الجالية الأكبر في جنوب السودان، وجنوب السودان الدولة الأولى التي تستقبل الصادرات الأوغندية التي كان حجمها 250 مليون دولار 2006 وتضاعف ثلاث مرات إلى عام 2008. أما كينيا فقد أسس البنك التجاري فيها منذ 2006 ثمانية فروع له في عدد من مدن الجنوب، ويخطط لرفعها إلى ثلاثين فرعا بحلول عام 2030؛ مما يعكس أهمية التقديرات الكينية لحجم الفرص الاقتصادية في دولة جنوب السودان. وقد سبق للسيد مارتن أودور أوتينو رئيس البنك التجاري الكيني أن قال لرويترز عن جنوب السودان: "إنها أرض بِكر.. من الممكن أن تصبح أكبر اقتصاد في المنطقة خلال فترة تتراوح بين عشر إلى عشرين سنة"، وتشكل الطرق البرية حتى الآن الرافد الأساسي للتواصل التجاري، وربما ستصبح السكك الحديدية قريبا الرافد الرئيس للحركة التجارية بين جنوب السودان وكل من كينيا وأوغندا وأثيوبيا.

سؤال الديمقراطية
عادة ما تبدأ الدول الحديثة النشأة ببذل الكثير من الوعود بأنها ستفوق السابقين بتأسيس نظام ديمقراطي وتعددي يتمتع مواطنوه بحريات لا حصر لها، وبكرامة تستعصي على الانتهاك، وقد سمع الملايين الثمانية من مواطني جنوب السودان من قادتهم هذه الأماني الجميلة. ولكن هناك من يتحفظ على إمكانية تحقيق ذلك لعدة أسباب منها:

  • أن تجارب جيوش التحرير الثورية التي تقود بلدانها لاستقلال عبر النضال المسلح غالبا ما تستعصي على الخروج من حالة التكوين العسكري النفسي والسياسي إلى حالة تسلم السلطة فيها إلى مدنيين؛ فالمتأمل في هذه التجارب يجد واقعا قاسيا أسسه الثوار. وفي بلدان مختلفة يندم مواطنوهم على دعمهم للثورة، وتثور أشواقهم للنظام القديم الذي قام الثوار لتبديله، كما حدث في كينيا والكونغو وزيمبابوي على سبيل المثال.
  • قامت تجربة الحركة الشعبية لتطوير السودان على الممارسة الأحادية للسلطة طوال السنوات التي أعقبت اتفاقية السلام في يناير/كانون الثاني 2005؛ إذ ظلت القوى السياسية الأخرى التي تتجاوز اثنين وعشرين حزبا تشكو من ضيق المساحة التي تمنحها الحركة الشعبية للتحرك السياسي لخصومها، وضيقها بالنقد السياسي الذي يواجه به هؤلاء المعارضون الحصار السياسي الذي تفرضه الحركة الشعبية على المشهد السياسي. وهنا يردد المراقبون كثيرا من الأسئلة من قبيل: هل في قدرة حكومة جمهورية جنوب السودان إبعاد الجيش عن الحياة السياسية وتسريع تمدين الدولة التي يسيطر عليها الآن وبقوة المظهر العسكري؟ هل لدى الحركة الشعبية الاستعداد العملي لتدوال سلمي للسلطة اعتمادا على نصوص الدستور  التي بها -كغيرها من دساتير العالم الثالث– نصوص عن الديمقرطية والحريات؟ هل ستشهد دولة الجنوب ممارسة عملية مشهودة لحرية التنظيم والتعبير؟ وهل ستشهد الأشهر القادمة صحافة حرة تدير الحوار السياسي في الدولة الوليدة بشفافية واتساع أم أن المراقبين والمواطنين سيسمعون إعادة أسطوانة أن الدولة الجديدة في خطر أمني يتهدد وجودها؛ مما يعني محاصرة التنظيم الحر والصحافة المستقلة الحرة تحت لافتة "الدولة التي يتربص بها أعداؤها"؟

كل ذلك مرتبط بتغيير الثقافة السياسية التي تشكل محتوى الحراك السياسي لقوى الدولة في جنوب السودان، فهي دولة تأسست على خلفية نضال سياسي عسكري، ولكن استمرار الروح العسكرية السائدة الآن يهدد جهود تأسيس دولة مدنية. وهذا يقتضي جهدا ثقافيا تتحول معه مفردات ومعاني الخطاب واللغة والثقافة السياسية من السياق العسكري إلى السياق المدني. ويعتبر تأسيس نظام ديمقراطي تحديا كبيرا يواجه دولة الجنوب الوليدة وينتظره العالم بكثير من الخوف والرجاء.

التحديات الخارجية

علاقة جنوب السودان بشماله
لكن يبقى التحدي الأهم هو ذلك المتعلق بالأمن القومي وما يعنيه ذلك من فهم ووعي بالبيئة الإقليمية والدولية التي تمارس فيها دولة جنوب السودان سياستها الخارجية، وتدير عبرها ملفاتها الشائكة وقضاياها المعقدة. ولا شك أن دولة جنوب السودان وجدت من الترحيب الإقليمي والدولي ما يفتح لها أبواب الحراك السهل في المجال الدولي والإقليمي إن استطاعت توظيفه بذكاء وفعالية. ولكن عليها الانتباه لإدارة أهم ملفين:

  • الأول: لن يكتب لدولة جنوب السودان استقرار في ظل اضطراب أمني يجتاح الدولة الأم، جمهورية السودان، في الجوار الشمالي، فالتداخل الأمني والسياسي والاجتماعي بين الدولتين أعمق وأرسخ من التعامل معه من خلال عملية جراحية قاسية وإن كانت هذه العملية هي انفصال الجنوب؛ إذ لا تزال القضايا العالقة شديدة الحيوية والمتعلقة بالحدود والديون والأصول، وإدارة الاقتصادات المتداخلة ومنطقة أبيي المتنازع عليها، هذه قضايا ستكون مثار توتر مستمر في علاقات الدولتين إن لم تواجهاها بوعي وإيجابية. وحتى الآن ليس هناك ما يشير إلى سلاسة إدارة هذه العلاقات بين الدولتين، إذ بدأ العهد الجديد بحرب عملات افتقدت فيها العلاقات الشفافية والصراحة، فقد  أعلنت الدولتان في الأسبوع الذي تلا الانفصال تغيير عملتيهما، حيث إستبدلت دولة الجنوب عملة  الدولة الأم بأخرى جديدة، دون إخطار الشمال، في الوقت الذي فاجأت فيه حكومة السودان (الشمالي) الجنوب بإلغاء عملتها القديمة. حرب العملات هذه أنتجت حالة من الإرباك عمقت كثيرا فجوة الثقة بين الدولتين، ومع ذلك فإن قوة المصالح المشتركة أقوى من "التكتيكات" المتأثرة بحداثة الإنفصال. وعلى كل فإن الإدارة الفاشلة لهذا الملف لن تعجِّل باندلاع الحرب فقط بين الدولتين وإنما تنتهي بهما إلى دولتين فاشلتين ما يفتح الأفق لتدخل دولي يطيح باستقلالهما.
  • الملف الثاني: هو ملف العلاقة الدولية الخاصة مع الغرب، وعلى وجه الخصوص مع الولايات المتحدة الأميركية التي يعتبرها الكثيرون عرّاب الانفصال، فقد وضعت ثقلها السياسي والإعلامي والديني في الميزان من قبل اتفاقية نيفاشا 2005 لبلوغ هذا الهدف. وهي في ذلك لا تمارس أعمالا خيرية، ولكن لها أهدافها الخاصة المتعلقة بإستراتيجياتها في المنطقة والعالم. ويمكن لقادة دولة جنوب السودان الوليدة الاستفادة من هذه العاطفة الجياشة تجاهها، والصداقة الحميمة التي تفيض عليها من تلقاء الغرب الأوربي والأميركي، ولكن ذلك ينبغي أن يتم بحذر لتجنب إدراجها في أجندات القوى الغربية ومعاركها في المنطقة، خاصة في دولة شمال السودان التي لا تخفي هذه القوى اعتراضاتها الجذرية على طبيعة النظام، وسلوكه السياسي فيها، وبالتالي سعيها لتبديل النظام أو تغيير سلوكه، وفي مناخ الممانعة الذي يبديه النظام في الخرطوم ربما انزلقت دولة جنوب السودان للاصطفاف ضد جارها الشمالي. وقد لا يغيب على قادة جنوب السودان قدرة الشمال على رد المتاعب نحو الجنوب. ولهذا لابد من السير الحذِر في العلاقات الدولية ،بين توظيف التناقضات للاستفادة منها ،والاندراج في مصفوفة أدوات الآخرين لخدمة أجنداتهم. وبالطبع لا يفتقر قادة الجنوب إلى الوعي بهذه التعقيدات، وربما لا يفتقرون أيضًا إلى القدرة على إدارتها لمصلحة بلدهم الوليد. ولابد من التذكير بأن أهمية دولة الجنوب ليست فقط في مواردها الاقتصادية الهائلة، ولكن أيضا في موقعها الإستراتيجي؛ إذ إنها تقع من إفريقيا في موقع القلب؛ فهي تطل على إقليمي البحيرات والقرن الإفريقي، حيث التقاطعات الإستراتيجية المهمة في منطقة هائجة بالاضطرابات الأمنية، أحد أطرافها حركة القاعدة -في منطقة القرن الإفريقي- التي تحمِّلها الولايات المتحدة مسؤولية الإرهاب الذي تؤسس على حربه  أحد محاور سياستها الدولية. وبالطبع تتداخل المصالح الإسرائيلية في كل ذلك؛ فإسرائيل لم تكن بعيدة عن الجهود التاريخية للمقاومة الجنوبية المسلحة التي بدأت في الستينيات من القرن الماضي، والتي انتهت بقيام دولة جنوب السودان. بالإضافة إلى وجودها المعتبر في كل دول الجوار لدولة جنوب السودان: إثيوبيا، كينيا، أوغندا، الكونغو الديمقراطية، وما وراء الجوار. لقد انتهى الجدل حول قيام دولة جديدة ،وانقسم السودان الذي لم يعد الدولة الأكبر مساحة في إفريقيا والعالم العربي. وانفتح جدل آخر حول قدرة الدولة الوليدة على مقاومة أعاصير الحياة لتلبي أشواق شعبها في الحياة الكريمة، وبالرغم مما تتمتع به دولة جنوب السودان من فرص، فإن تحديات جساما تحيط بها، وتشكل اختبارا حول إمكانية اجتيازها إلى أفق الاستقرار.

_________________
مدير مكتب الجزيرة، الخرطوم 

ABOUT THE AUTHOR