العلاقات العراقية- الأميركية: توازنات ما بعد الانسحاب

العلاقات العراقية الأمريكية بعد سحب واشنطن لقواتها نهاية العام الجاري تتحكم فيها قوتان رئيسيتان، واحدة تدفع البلدين لتعاون يتراوح بين التبعية والندية، وقوى ثانية تدفع إلى صراع يتراوح بين المناكفة والملاحقة القضائية.
2011124135419933734_2.jpg

عندما احتلت الولايات المتحدة الأميركية العراق، أعلنت أنها ستبقى هناك لعقود قادمة، وأنها ستجعل من العراق قاعدتها الرئيسة التي ستحل محل قاعدة "انجرلنك" بل وحتى السيلية. وباشرت الإعداد المباشر أو غير المباشر لاحتلال سوريا ثم إيران وصرحت بذلك علناً لأنها اعتبرتهما من محور الشر، إلا أن المقاومة الوطنية العراقية التي بدأت منذ 10أبريل/نيسان 2003 وسرعة ردها غير المتوقع، أفشلت كل هذه المخططات، واضطرت الإدارة الأميركية إلى أن تنتقل من إستراتيجية إلى أخرى في المستنقع العراقي، وانتهت بإستراتيجية الخروج أو "اقطع واهرب" (Cut and Run) لعام 2009 وصولا إلى إستراتيجية الانسحاب التكتيكي وترك العراق للعراقيين. وقد استطاعت الإدارتان الأميركيتان الحالية والسابقة أن تطرحا إستراتيجية الانسحاب التكتيكي من العراق بتقنين دستوري قانوني دولي لا يمكن الاعتراض عليه، ولا اعتباره نتيجة للهزيمة التي منيت بها القوات الأميركية في العراق. فقد تم التوقيع على المعاهدة الأمنية الإستراتيجية المعروفة باسم "سوفا" SOFA في 2008، وهي معاهدة طويلة الأمد وتضم معاهدتين: الأولى تنظيم سحب القوات الأميركية من العراق وفق جدول زمني بدأ من يونيو/ حزيران 2009 على أن تنتهي مع سحب آخر جندي أميركي مع نهاية 2011، والثانية معاهدة الإطار الإستراتيجي للتعاون بين البلدين على كافة الأصعدة وخصوصا في مجال تكنولوجيا المعلومات. ومن خلال هذه المعاهدة وإستراتيجية الانسحاب، ستحقق الإدارة الأميركية الهدفين المهمين اللذين شنت من أجلهما هذه الحرب اللامشروعة على العراق، ودمرت من خلالها بلدا ناهضا ومتطورا على الأقل بالقياس إلى عموم دول منطقة الشرق الأوسط. وهذان الهدفان هما:

  1. الأول، تحقيق الوجود المتقدم في الشرق الأوسط بوجود قاعدة أو مجموعة قواعد في العراق بموقعه الجيو-إستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط.
  2. والثاني، تحقيق القاعدة الجيو-اقتصادية القائلة بأهمية النفط العراقي والسيطرة على احتياطياته للتحكم بالأسواق العالمية، وللتخلص من أزمة الطاقة الأميركية المرتقبة على مدى سنوات القرن الحادي والعشرين القادمة.

الأكيد أن الخروج الذي كانت ترفضه أميركا سابقا وافقت عليه مرغمة لسببين: أولهما فعل المقاومة، وثانيهما التكاليف المادية العالية في وقت تعاني فيه الميزانية الأميركية من أكبر وأخطر عجز في تاريخها. وبذلك فإن نهاية هذا العام 2011 يفترض أن تشهد انسحابا كاملا للقوات الأميركية المتواجدة في العراق. وهذا الأمر سيكون له أثر كبير على العراق، الطرف الأول في المعادلة، وعلى النفوذ والتواجد الفعلي للولايات المتحدة في المنطقة، الطرف الثاني في المعادلة.

أميركا بين الانسحاب والنفوذ

ابتداء يمكن القول إن هناك شريحة واسعة من المحللين، وخاصة تلك التي عارضت الاحتلال، ولازالت، تعارض النفوذ الواسع الذي تمتعت به الولايات المتحدة في العراق، وتعتقد أن هذا الانسحاب لن يتحقق، وإنما ستتم الاستعاضة عنه بصيغ أخرى تضمن استمرار النفوذ الأميركي في العراق، وسيتحول بذلك الاحتلال من عسكري إلى سياسي دبلوماسي. ويسندون رأيهم هذا بأدلة وتحليلات. فمثلا يقول أصحاب هذا الرأي إن الولايات المتحدة التي خططت لاحتلال العراق منذ فترة ليست بالقصيرة لم تأت لكي تخرج بهذه السهولة، وإن ما فعلته في العراق لم يكن من أجل مصلحة العراقيين وإنما من أجل مصلحة أميركية وإسرائيلية بحتة. ويستند هذا الرأي على ما كتبه زبيغنيو بريجنسكي –مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق في كتابه "الفرصة الثانية" من أن الولايات المتحدة الأميركية ذهبت إلى العراق لأجل النفط وإنهاء التهديد العراقي لإسرائيل. ويؤكدون أن الدليل الأهم هو ما جاء على لسان كونداليزا رايس مؤخرا في تصريحها الذي قالت فيه: "إن الولايات المتحدة لم تذهب إلى العراق من أجل تحقيق الديمقراطية". وكذلك ما ذكره وزير الأمن القومي الإسرائيلي السابق آفي ديختر عن الدور الإسرائيلي في العراق بعد احتلاله عام 2003: " لقد حققنا في العراق أكثر مما خططنا وتوقعنا". كما أنهم يستندون إلى ما ينشر الآن حول إبقاء عشرين ألف جندي أميركي في العراق لأغراض التدريب، أضف إلى ذلك وجود ما بين 30 إلى 50 ألف مقاتل أجنبي بصيغة أفراد في الشركات الأمنية الخاصة، وهذه القوات ستؤمن نفوذا أميركيا مستمرا في العراق. هذا، وحسب تسريبات بعض الدوائر المرتبطة بالبنتاغون، فإن أكثر من 14 قاعدة أميركية منتشرة في أماكن سرية خُطِطَ لبنائها منذ بداية الاحتلال، لتمسك بزمام أمور منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وهي كافية للولايات المتحدة لتحقق الانتشار الواسع في المنطقة، ناهيك عن وجود أكبر وأضخم سفارة أميركية في العالم. كل هذا دليل كاف، برأيهم، على أن الولايات المتحدة موجودة ومتحكمة في هذه المنطقة من خلال قلب إستراتيجي لا يمكن تجاهله.

ويضيف أصحاب هذا الرأي أن عدم عمل الإدارة الأميركية في العراق على إنشاء جيش عراقي قادر على حماية البلاد بعد ما يقارب تسع سنوات من الاحتلال ما هو إلا دليل آخر على إبقاء العراق في حاجة إلى التواجد الأميركي. وأخيرا و ليس آخرا فإن القرار الأميركي بإبقاء القوات المنسحبة من العراق في الأراضي الكويتية المجاورة، إنما هو دليل على عزم الإدارة الأميركية العودة إلى العراق في أي وقت تشاء.

ويمكن أن نضيف إلى آرائهم ثلاث أفكار:

  1. الفكرة الأولى: إن ترك العراق والمنطقة في هذا الوقت يعني إطلاق العنان للنفوذ الإيراني، لكي يزداد في المنطقة، في وقت تحاول الولايات المتحدة وإسرائيل جاهدتين تقليص هذا النفوذ.
  2. والفكرة الثانية: إن أحد الأسباب المهمة لاحتلال العراق هو حماية أمن إسرائيل وإخراج العراق نهائيا من دائرة الصراع العربي-الإسرائيلي، وهو هدف لن يتحقق إذا تُرِك العراق تحت حكم الأحزاب الدينية الموالية لإيران والمتضامنة مع حزب الله، ما سيكون له أثر سلبي أكيد على الأمن الإسرائيلي.
  3. الفكرة الثالثة: النفط سبب رئيس آخر من أسباب الاحتلال، يعزز الحاجة إليه ما تشهده الولايات المتحدة من أزمة اقتصادية خانقة، فلا يعقل أن الولايات المتحدة على استعداد لتترك العراق والاستثمارات النفطية الكبيرة التي حصلت عليها دون قوة تحميها في حالة نجحت الانتخابات العراقية في إيصال حكومة قد تلغي هذه الامتيازات، خاصة وأن هناك معارضة قوية لسياسة التراجع عن التأميم الذي حدث في سبعينيات القرن الماضي وإنهاء الاحتكارات الأجنبية وسياسة فتح الباب واسعا للشركات الأميركية لاستثمار النفط العراقي الأرخص كلفة في الاستخراج في العالم (كلفة استخراج برميل النفط في الولايات المتحدة تبلغ بين ستين وسبعين دولار، في حين أن كلفته في العراق هي ما بين الدولار والدولارين فقط. علما بأن احتياطي النفط العراقي في حقل واحد هو حقل "مجنون"، يساوي احتياطي الولايات المتحدة كاملا.

وبغض النظر عن ما قيل سابقا فإن نهاية العام الحالي ستحمل تطورات هامة ومؤثرة، بل تحديات كبيرة للإدارتين العراقية والأميركية.

بالنسبة للإدارة العراقية، يتمثل التحدي الأول في اختبار القدرات الميدانية العسكرية. فسيكون العام 2012 اختبارا حقيقيا وجديا لقدرة الحرس الوطني (الجيش) والشرطة المحلية وجاهزيتهما الكاملة للدفاع عن الوطن سواء من "الإرهاب" والفوضى الداخلية أو من أي اعتداءات خارجية لحفظ الأمن وتعزيز الاستقرار في كافة أنحاء العراق. فدعوة رئيس أركان الجيش العراقي بابكر زيباري إلى ضرورة تأجيل الانسحاب الأميركي من العراق لأن القوات الدفاعية العسكرية العراقية غير مؤهلة وغير جاهزة لتسلم المهام القتالية والسيطرة على الأوضاع الأمنية، قد أعطت تقديرا ميدانيا واضحا وصريحا لجاهزية القوات العراقية. كما حدد في دعوته مدى طويلا لحصول هذه الجاهزية بدعم ومساندة الولايات المتحدة الأميركية يمتد لغاية 2020.

التحدي الثاني، يندرج تحته احتمالية قيام حروب أهلية داخلية تتمثل في مطالبة المحافظات المختلفة بالحصول على حق تشكيل أقاليم تحكم نفسها بنفسها لها ميزانية خاصة بإدارة خاصة، بعيدا عن السلطة المركزية وصراعاتها السياسية.

التحدي الثالث، ينطوي على مسألة التنازع بين المحافظات والتشكيلات الإدارية الحالية لضم مناطق متنازع عليها حسب تعبير الدستور العراقي. وهكذا يمكن أن تظهر أو أن تتجدد نزاعات عديدة مثل النزاع العربي-الكردي، الكردي-التركماني، السني-الشيعي، الشيعي-الشيعي والسني-السني وهكذا. يضاف إلى ذلك تحدي مواجهة "الميليشيات المسلحة" التي ستحاول فرض سيطرتها على الشارع مرة أخرى. وقال بذلك قائد القوات الأمريكية بالعراق: "إن الميليشيات الشيعية التي ما زالت تستهدف القوات الأميركية المنسحبة يمكن أن تصبح تهديدا لحكومة رئيس الوزراء نوري المالكي بعد انسحاب الجنود الأميركيين". تضاف إلى ذلك الصراعات السياسية الحادة بين مختلف الكتل والأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية، ناهيك عن التوتر الشديد بين السلطة المركزية وسلطة إقليم كردستان، بالإضافة إلى تحدي مشكلة الفساد المستشري في البلاد، والفشل في تشكيل حكومة (وزارة) مكتملة منذ عام 2010 ولغاية الآن وقضية تدخل دول الجوار. ومن كل ما سبق يمكننا أن نتصور حجم التحديات التي ستواجه السلطة المركزية في بغداد بعد الانسحاب الأميركي بصيغته النهائية.

أما بالنسبة للإدارة الأميركية، فإن التحدي الأول، وهو الأكبر، سيتمثل في مواجهة محاولات إيران للسيطرة على السياسة العراقية، وهو ما بدأت بوادره تظهر منذ الآن، حيث صرح المستشار الأعلى للقائد العام للقوات المسلحة الإيرانية اللواء يحيى رحيم صفوي في كلمة ألقاها في قم في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 قائلاً: "إن نفوذ إيران أكبر بكثير من نفوذ أميركا في العراق.. وإن إيران هي أكبر قوة إقليمية تتمتع بالأمن والاستقرار فضلاً عن قوة تأثير كبيرة في المنطقة والعالم". ويتفرع عن هذا التحدي محاولة الحكومة العراقية الانضمام إلى المحور الإيراني - السوري المعارض للولايات المتحدة. أما التحدي الثاني فإنه يتمثل في ظهور عراق غير مستقر وغارق في نزاعات طائفية قد تتحول إلى اقتتال يومي سوف لن يمكن حصره في العراق، بل سينتقل إلى المناطق المجاورة وخاصة جنوبي السعودية والكويت وغربي الأردن، وكلا المنطقتين ضمن مناطق تحرص الولايات المتحدة على إبقائها في دائرة الاستقرار.

نحو توازنات جديدة

من المفروض أن تنتقل العلاقة بين العراق والولايات المتحدة بعد الانسحاب من حالة التبعية إلى حالة التعاون بين طرفين متساويين في السيادة والاستقلال، وبالتالي فإن العراق سيكون قادرا، من الناحية النظرية، على اتخاذ قرارات مستقلة غير خاضعة للضغط الأميركي. والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل ستسمح الإدارة الأميركية لمثل ذلك أن يحدث؟ خاصة إذا ما علمنا أن العراق قد اتخذ مؤخرا قرارا يتعارض والإستراتيجية الأميركية في المنطقة بامتناعه عن التصويت على تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، وتحفظ على قرار العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الجامعة على سوريا في 27نوفمبر/تشرين الثاني 2011 ، ورفض تنفيذه؛ في وقت أعلنت الولايات المتحدة أنها تحبذ فرض العقوبات وتدفع باتجاه ذلك بعد أن فشلت في اتخاذ قرارات مشابهة في مجلس الأمن. وإذا كانت الولايات المتحدة تسامحت مع مثل هذه القرارات، فكيف سيكون رد فعلها إذا ما اتخذت الحكومة العراقية قرارات أخطر نتيجة تحالفها مع إيران قد تؤثر على الصراع العربي الصهيوني؟ هل ستبقى الولايات المتحدة محايدة؟ وهل ستقبل إيران أن يبقى حلفاؤها في العراق كذلك؟

يمكن أن تشهد طبيعة العلاقات العراقية-الأميركية لمرحلة ما بعد الانسحاب تغييرا ملحوظا سيتجه بشكل أكثر نحو البراغماتية-المصلحية وخصوصاً لترتيب القوى الإقليمية في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة سوف لن تفك ارتباطها بالعراق في ظل حاجتها له. فالعراق حاليا هو البلد الوحيد المستقر اقتصادياً في مقابل عدم الاستقرار الداخلي الذي هز كلا من سوريا ومصر، وربما يشمل المملكة العربية السعودية والكويت. والعراق من وجهة نظر الولايات المتحدة يجب أن يعيد قوته لمنافسة إيران وليس ليكون جزءا منها أو تابعا لها (وهنا فإن الولايات المتحدة تجتهد في أن تجد صيغة تمكن العراق من الوقوف بوحه إيران لتحرمها من استخدام قدراته ضد إسرائيل). وفي المقابل فإن العراق سيبقى بحاجة للولايات المتحدة لدعم عوامل البناء والاستقرار. وبالتأكيد فإن شكل واتجاه العلاقات الأميركية-الإيرانية، الأميركية-الإسرائيلية، الأميركية-السعودية، الأميركية-السورية، الأميركية-الأردنية سينعكس على مستوى وطبيعة العلاقات الأميركية-العراقية.

من ناحية أخرى، فإن ربيع الثورات العربية سيلقي بظلاله على عراق ما بعد الانسحاب، ولو ببطء، ربما ليس لأسباب سياسية ولكن لأسباب تتعلق بتفشي الفساد المالي والإداري في كل مفاصل الدولة العراقية وفشل الحكومة في محاربته، علاوة على القتل والتشريد والتهجير والاعتقال العشوائي وانعدام الأمن والأمان، أضف إلى ذلك انعدام الخدمات، والمليارات المسروقة والمهدورة من أموال العراق والتي ترد أخبار بعضها في مصادر أميركية. كل ذلك سيؤدي إلى قيام ثورة على الوضع الحالي في العراق تطالب بمحاسبة الحكومة والإدارة الأميركية لفشلهما في محاربة هذه الظواهر، وسيكون هذا مطلبا شعبيا أكثر من كونه مطلبا حكوميا أو سياسيا.

وأخيرا وليس آخرا: ماذا سيكون رد الفعل الأميركي إذا ما نجحت الأحزاب الإسلامية العراقية المتشددة في الهيمنة على السلطة بصورة كاملة، وفشلت الأحزاب العلمانية في انتزاع السلطة منها؟ إن مثل هذا الوضع الذي بات يرعب الولايات المتحدة، وإسرائيل بالطبع، بعد أحداث تونس ومصر يمكن أن يقلب كل ما خططت له الدولتان رأسا على عقب بعد الانسحاب من العراق.

سيناريوهات ما بعد الانسحاب

إن مقتضيات التحليل الواقعي تكشف لنا أن ثمة فوارق نوعية ستحكم العلاقات الأميركية-العراقية لمرحلة ما بعد الانسحاب، والتي يمكن اعتبارها جديدة في معادلة التفاعل الدولي. ويمكن رسم ملامحها في ثلاثة سيناريوهات.

  • الأول منها وعلى المدى القريب، هو على شكل علاقات التعاون والصداقة إلى حد التبعية، وسنجد فيه خضوعا عراقيا للإرادة الأميركية، ويستند في حدوثه على النظام السياسي العراقي والسياسيين الحاليين وعقلياتهم وتصرفاتهم، فحينما يجد هؤلاء الساسة في الإدارة الأميركية المُخلِص والمنقذ من أي اعتداء خارجي أو حتى داخلي، سيجعل ذلك بالتأكيد العلاقة بين البلدين علاقة التابع والمتبوع. وما يمكن أن يعزز هذا الشكل من العلاقات هو أولاً: التوقيع على مزيد من الاتفاقيات الطويلة الأمد الاقتصادية والعسكرية. ثانياً: نزوع قيادة إقليم كردستان (البارزاني والطالباني) إلى التمسك بالوجود الأميركي والاستعداد لمنحه كل ما يطلب حتى وإن وصل الأمر إلى قبول قواعد أميركية في الإقليم.

    ثالثاً: ازدياد المطالبة بإقامة أقاليم جديدة في المناطق العربية والتي سمح الدستور بإنشائها. وإذا ما نجحت هذه المحاولات فإن ضعف السلطة المركزية سيزداد وستكون بحاجة أكبر إلى الدعم الأميركي. رابعاً: عدم الاستقرار السياسي وزيادة الصراعات حول المناصب سيجعل من الولايات المتحدة أداة تستخدمها الأطراف لردع بعضها البعض. فالأطراف الخاسرة ستظل متمسكة بالحلول الأميركية لا بل إنها ستلجأ إلى النفوذ الأميركي لتجعل منه نفوذا مستمرا في العراق.

    وهناك عامل آخر يدفع إلى تقوية العلاقات الأميركية العراقية مستقبلا، وهو ما يتعلق بتنظيم القاعدة الذي سيميل إلى تغيير إستراتيجيته في العراق من هجمات مباشرة على القوات الأميركية إلى التركيز على القوات العراقية، من أجل تحويل العراق إلى إمارة إسلامية ضمن إمارات القاعدة. وهذا سيتم بفعل تنشيط الخلايا النائمة للقاعدة في العراق والذي سيدفع الحكومة العراقية إلى طلب الاستعانة بالولايات المتحدة الأميركية لتفعيل الاتفاقية الأمنية المشتركة الموقعة بين الطرفين، الأمر الذي سيجعل الوجود الأميركي فاعلا في العراق وسيُبقي علاقات تعاون بين البلدين في إطارها الإستراتيجي (مكافحة الإرهاب الدولي).

  • السيناريو الثاني، هو علاقة متأرجحة بين التعاون- والمناكفة (شق عصا الطاعة). وهذا السيناريو يتحقق على المدى المتوسط، ويتطلب لحصوله أن يكون العراق دولة كاملة الأهلية والاستقلال وذات سيادة وتقوم باتخاذ قرارات في سياستها الخارجية غير مؤثر عليها من قوى خارجية، وذات حكومة شراكة وطنية تكنوقراطية بعيدة عن المحاصصة الطائفية، وتضع المصلحة القومية العراقية العليا أساسا للتعامل في السياسية الخارجية مع الولايات المتحدة ومع القوى الإقليمية ودول الجوار من غير العمق العربي، وضمن إستراتيجية الحفاظ على الأمن القومي العراقي. وفي مثل هذه العلاقة سوف لن يكون هناك صراع أزلي ولا تعاون أزلي، وإنما هنالك مصالح واحترام متبادل وحدود لا يمكن أن تتجاوزها الولايات المتحدة إلى جعل العراق قاعدة أميركية سياسيا وعسكرياً. ويستوجب هذا السيناريو عراقا قويا سياسيا واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وذا إستراتيجية واضحة المعالم والأهداف.

    ما يعزز جانب الصراع في هذا الشكل من العلاقات هو مسألتان: الأولى، التأثير الإيراني على عملية صنع واتخاذ القرار العراقي كما أشرنا سابقا. والثانية، العلاقات العراقية-السعودية والعلاقات –الخليجية بشكل عام التي هي في توتر من نوع خاص حالياً لأسباب طائفية لا يمكن تجاهلها ولأسباب المد الإيراني غير المتوقف في العراق الذي لا يمكن نكرانه. فهنالك أطراف سياسية، ضعيفة التأثير في عملية صنع القرار، تفضل أن تكون هنالك علاقات مع المملكة العربية السعودية لغرض موازاة النفوذ الإيراني. كما أن الولايات المتحدة تجد في التقارب العراقي-السعودي عاملا إستراتيجياً مجديا أكثر من مكاسب الارتماء العراقي في الأحضان الإيرانية.

    وهذا السيناريو يحتم على العراق التقليل من الاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية، فتلجأ الحكومة العراقية إلى فتح آفاق أخرى للتعاون مع دول أكثر قدرة من الناحية الاقتصادية لزيادة استثماراتها في العراق، كما أظهرت زيارات رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي إلى كل من الصين واليابان والأحاديث عن زيادة الانفتاح على دول جنوب شرق آسيا. وحتى من الناحية العسكرية فإن هنالك بعض الشواهد التي تدلل على محاولة العراق الانفتاح والتعاون مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) لغرض تقليل الارتكاز الكامل على الجانب الأميركي فيما يخص تدريب وتسليح القوات العراقية, ولعل اتفاقية العراق مع الحلف لعام 2009 لتنمية القدرات والمهارات الأمنية والعسكرية مع المساعدة في تقديم التدريب والاستشارة والدعم من أجل بناء قوات أمن عراقية فعالة، لهو دليل على ذلك. خاصة بعد أن أظهرت الولايات المتحدة ترددا كبيرا في تزويد الجيش العراقي بما يحتاجه من أسلحة.

    ومن الناحية السياسية، هنالك مؤشرات على أن الإدارة الأميركية بدأت تفقد قدرتها على فرض رأيها وسيطرتها على الحكومة العراقية، ولعل فشل زيارات نائب الرئيس جو بايدن السبع في فترة أزمة تشكيل الحكومة العراقية ودعواته للمصالحة الوطنية، وطرحه مقترحات لتشكيل الحكومة على أسس الشراكة، لدليل واضح على رفض الحكومة العراقية تدخل واشنطن في السياسة الداخلية العراقية؛ بل إن المالكي أعلن حينها رفض حكومته تدخل واشنطن وسفيرها كريستوفر هيل منذ البداية في الانتخابات التشريعية التي جرت في مارس/آذار 2010، ما أظهر العراق وكأنه قد خرج من الوصاية الأميركية. ناهيك عن أن هذا السيناريو يوجب أن تكون هنالك سياسة خارجية رشيدة معتدلة ومستقلة عقلانية موحدة تنهض على اعتبار المصلحة الوطنية والقومية أساسَ التعامل مع الولايات المتحدة.

  • السيناريو الثالث وللمدى الاستراتيجي البعيد، يتمثل في عودة علاقات المواجهة والتصادم، وذلك بمجيء حكومة وحدة وطنية تعمل على بناء السلام والأمن والدولة بمفاهيم التغيير من الداخل والاعتماد على القوى الوطنية الداخلية الرافضة لجعل العراق قاعدة إستراتيجية للولايات المتحدة. وإذا ما قدر لمثل هذه الحكومة أن تتشكل فإنها بالتأكيد ستحمل الولايات المتحدة، ومن تحالف معها من العراقيين والعرب، مسؤولية ما جرى في العراق، بل وربما تذهب للمحاكم الدولية لمطالبة الولايات المتحدة بتعويض العراق والعراقيين عن كل ما جرى في البلاد طوال سنوات الاحتلال، بل وربما تعود إلى السنين الـ 13 التي فرض فيها الحصار الظالم على العراق وشعبه؛ خاصة وأن منظمات دولية، لا بل لجان تحقيق رسمية أوربية قد بدأت بالتحقيق في الذرائع التي أطلقتها الولايات المتحدة وحليفاتها وخاصة بريطانيا لتبرير احتلال العراق.

ويبقى السيناريو الأول الأكثر احتمالاً للسنوات المقبلة القادمة. فجميع المؤشرات الحالية من منطلق المدرسة الواقعية، تؤكد أن العراق لا يمكن أن يفك ارتباطه الإستراتيجي بالولايات المتحدة الأميركية والعكس صحيح. فالعلاقات التي ينوه بها السياسيون الرسميون من الإدارتين العراقية والأميركية تؤكد أن المصلحة والصداقة ستكون المرتكز الفعلي الذي سيسيّر العلاقات بين البلدين. وتأتي زيارة بايدن الأخيرة إلى بغداد في 30نوفمبر/تشرين الثاني 2011 ليحتفل بتسليم العراق للعراقيين وليعلن بشكل رسمي عن الانسحاب الأميركي منه، لتؤكد ذلك عندما أعرب عن نية الولايات المتحدة في دعم العراق في كافة المجالات.
_____________________
سوسن إسماعيل العساف-مدرس وباحث في الدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية -كلية الدراسات الشرقية والإفريقية- جامعة لندن

ABOUT THE AUTHOR