موقف دول "البريكس" من الثورات العربية: مخاوف ومحاذير

اختلفت مواقف دول البريكس من الثورات العربية، وإن اتفقت في الحذر من الدور الغربي، و التحذير من تكرار تجربة العراق.
1_1059373_1_34.jpg







 

براهاما تشيلاني


تزامنت حالة الاضطراب السياسي والزخم الثوري التي اجتاحت العديد من الدول العربية مع التوسع في عضوية مجموعة دول البريك BRIC بإنضمام دولة جنوب إفريقيا إلى تلك المجموعة التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين. وبحرف السين (South Africa) أصبح اسم المجموعة "بريكس BRICS" بعدما عرف في السنوات السابقة باسم "بريك" جامعا الأحرف الأولى من اسم كل دولة (Brazil, Russia, India, China). وتعد هذه الدول الخمس من بين أكثر القوى غير الغربية أهمية على مسرح السياسة العالمي، وتؤثر توجهاتها ومواقفها السياسية على عديد من القضايا، كان آخرها الثورات العربية الحديثة التي اندلعت مطلع العام الجاري.





لم يعد انتقال القوى الرئيسة رهينا بالانتصار في ساحات المعارك أو التحالفات الجيوسياسية الجديدة، بل أصبح النمو الاقتصادي المتسارع، حتى مع بقاء القوة العسكرية عاملا مهما، هو مفتاح انتقال مراكز القوى في العالم المعاصر.
وعلى خلاف ما عرفه تاريخ العالم سابقا، لم يعد انتقال القوى الرئيسة رهينا بالانتصار في ساحات المعارك أو التحالفات الجيوسياسية الجديدة، بل أصبح النمو الاقتصادي المتسارع، حتى مع بقاء القوة العسكرية عاملا مهما، هو مفتاح انتقال مراكز القوى في العالم المعاصر. ويتسم هذا الانتقال اليوم بطبيعة بنيوية مفاجئة وسيؤثر بشكل جذري على العلاقات الدولية والأمن العالمي.

وتمثل دول "البريكس" هذا الانتقال في مراكز القوى العالمية. فرغم تسليمنا بأن العالم يمر بمرحلة انتقالية إلا أن ملامح نظام عالمي جديد لم تتحدد بعد. وتدلنا مؤشرات المرحلة الانتقالية على نظام عالمي مختلف جذريا عن سابقه. ويمكن من حيث الدلالات الاقتصادية أن نشير إلى مجموعة "بريكس" باسم مجموعة "الآر فايف R- 5" إذ أن العملات النقدية في الدول الخمس تبدأ جميعها بحرف الراء: الريال البرازيلي، والروبل الروسي، والروبية الهندية والرينمنبي الصيني والراند الجنوب إفريقي.


دول البريكس: صعود بأجنحة اقتصادية
"البريكس" والثورات العربية
البريكس والمخاوف من الحسابات الغربية
البريكس بين رياح الديمقراطية وتهديد "الجهاديين"


دول البريكس: صعود بأجنحة اقتصادية 


في عام 2001، صكّ أحد الاقتصاديين في مؤسسة غولدمان ساش اسم "بريك" للإشارة إلى أربع دول صاعدة في مستقبل العالم الاقتصادي. ولم تتبن هذه الدول الأربع ذلك الاسم إلا في عام 2008 حين اجتمع وزراء خارجية ثلاث دول منها (روسيا والصين والهند)، ثم توسعت المجموعة الثلاثية التي عرفت آنذاك باسم "ريك RIC"  (الحروف الأولى من أسماء روسيا والهند والصين)، لتصبح "بريك" بانضمام البرازيل صاحبة الحرف "ب B"، وهو ما بشّر بظهور تكتل فاعل منتظر، أخذا في الاعتبار التوقعات التي ترى أن دول البريك قد تتفوق على الاقتصاديات الكبرى في عالم اليوم بحلول منتصف القرن الحالي.
وجاء انضمام دولة جنوب إفريقيا إلى البريك في 2011 ليعطي المجموعة بعدا أكبر في رقعته الجغرافية العالمية. وإن كان هذا الانضمام يمثل تكرارا لمجموعة أخرى قائمة بالفعل هي مجموعة "إبسا IBSA" والتي تعبر عن الحروف الأولى من أسماء دول الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. وهو تكرار يضع مجموعة "إبسا" أمام خطر التلاشي نتيجية العضوية المتكررة في المجموعتين.


وليس هناك جدال في أن دول "البريكس" تفتقر إلى الكثير من القواسم المشتركة، وهو ما يعزز دعوة الساخرين من المجموعة إلى القول بأن "بريكس" ليست سوى اسما بديعا لكيان لا جسد له. غير أن عدم تكوين دول "البريكس" لتكتل رسمي في الوقت الحاضر لا ينتزع من هذه المجموعة إمكاناتها على المدى الطويل لتشكيل انتقال محوري في مراكز القوى في العالم. فإعادة الترتيب النوعي في القوى حاليا يرمز إلى حالة مخاض تسبق ميلاد نظام عالمي جديد. فعالمنا اليوم يمر بلحظة فارقة في تاريخه، تظهر فيها تجمعات جديدة مثل البريكس بوسعها الإرتقاء إلى قوة ضامنة لإحداث تغيير في هندسة النظام العالمي.


ومن خلال عملها كمجموعة ضغط، يمكن لدول البريكس أن تتحول إلى محفز لإحداث إصلاح دولي، يشمل تغيير جذري في النظام الاقتصادي الذي نعيشه والمعروف اصطلاحا باسم "بريتون وودز Bretton Woods "، بحيث يتم تشكيل عملة عالمية موحدة تستخدم كاحتياط نقدي عالمي. وأخذا في الاعتبار أن دول بريكس تضم 25 % من مساحة الكتل الأرضية في كوكبنا ويعيش بها أكثر من 40 % من سكان العالم، فإن لدى المجموعة إمكانات هائلة لإحداث تغيير مستقبلي.


"البريكس" والثورات العربية 


تتمتع جميع دول بريكس بعضوية مجلس الأمن، فالصين وروسيا عضوان دائمان، والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا أعضاء دوريون يسعون إلى الحصول على مقاعد دائمة تتناسب مع تأثيرهم العالمي المتنامي. وقد فتحت الأحداث الثورية التي يشهدها المسرح السياسي في العالم العربي آفاقا جديدة لدول البريكس لممارسة تأثير دولي بشأن ردود الأفعال الدولية المناسبة تجاه تلك الاضطرابات.


وكانت ليبيا أول اختبار لدول البريكس، ففي 17 مارس/آذار 2011 تم التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 1973  لفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا ( لم تكن جنوب إفريقيا انضمت لمجموعة البريك بعد، إذ جاء انضمامها لاحقا في أبريل/نيسان 2011 في قمة دول البريك التي عقدت في مدينة سانيا Sanya في جنوب الصين). وحين طرح القرار للتصويت اختارت دول البريك الأربع، إضافة إلى ألمانيا، الامتناع عن التصويت.


وكان الخمسة الممتنعون عن التصويت دول كبرى بمعايير المساحة الأرضية والحجم الاقتصادي. وكان قرار هذه الدول بعدم دعم المبادرة الأمريكية ـ البريطانية ـ الفرنسية ضد ليبيا يكشف عن انقسام في المجتمع الدولي بشأن القضية. وبعد ان امتنعت ألمانيا عن التصويت، وهي عضو أساسي في حلف النيتو، اتبعت موقفها برفض المشاركة في كافة عمليات النيتو ضد ليبيا، معللة ذلك بأن التدخل العسكري ليس حلاً لمشكلات تلك الدولة. في المقابل صوتت دولة جنوب إفريقيا لصالح القرار معللة موقفها بأن المجتمع الدولي "لا يمكنه الصمت أو الوقوف مكتوف الأيدي أمام ممارسات العنف الدامي التي ترتكب بحق المدنيين الأبرياء" على يد الحكومة الليبية. من جانبها، اختارت الصين وروسيا عدم عرقلة القرار 1973، وبدلا من استخدام حق الفيتو اكتفت الدولتان بالامتناع عن التصويت.





تتمتع جميع دول بريكس بعضوية مجلس الأمن، فالصين وروسيا عضوان دائمان، والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا أعضاء دوريون يسعون إلى الحصول على مقاعد دائمة تتناسب مع تأثيرهم العالمي المتنامي.
وبمجرد أن بدأ تطبيق القرار، شرعت موسكو وبكين في انتقاد الأعمال العسكرية ضد ليبيا.  فروسيا على سبيل المثال دعت بعد ثلاثة أيام من تبني القرار وبدء مهمة عمليات القصف بقيادة الولايات المتحدة  بضرورة وقف إطلاق النار. وقال المتحدث باسم الحكومة الروسية إن "موسكو تراقب بأسف هذا العمل المسلح الذي يأتي ترجمة للقرار المتسرع الذي اتخذه مجلس الأمن". ومضى رئيس الورزاء الروسي فلاديمير بوتين لأبعد من ذلك حين قال إن القرار "معيب وخاطئ" لأنه "يسمح لكافة أشكال التدخل العسكري" فضلا عن أنه يذكرنا "بالدعاوى التي كانت تطلق لحشد الحملات الصليبية في العصور الوسطى". وفي علامة على تصاعد التنافس على سباق الرئاسة المقبل بينه وبين فلاديمير بوتين أعرب الرئيس الروسي دميتري ميدفيدف أن ما ذهب إليه بوتين "غير مقبول" محذرا من أن مثل تلك التصريحات يمكن أن "تؤدي إلى صدام الحضارات".

وبعد أن امتنعت الصين عن التصويت في مجلس الأمن، بدأت بكين في التعبير عن عدم موافقتها على الحملات الجوية للدول الغربية لقصف ليبيا، معربة عن قلقها البالغ بشأن الخسائر البشرية في صفوف المدنيين التي تسببها الضربات الجوية، ومحذرة من كارثة إنسانية. وبامتناع الصين عن التصويت على القرار 1973، تحركت بكين أبعد من موقفها التقليدي الملتزم بعدم التدخل في قضايا الصراع  الدولي.


ففي الماضي تكرر استخدام الصين لحق الفيتو لعرقلة مساعي مجلس الأمن لاستهداف دول مثل زيمبابوي وميانمار والسودان بتهم ارتكابها انتهاكات في قضايا حقوق الإنسان. لكن حدث تغير في سياستها الخارجية في فبراير/شباط 2011 حين صوتت لصالح قرار مجلس الأمن بفرض عقوبات على ليبيا.


أما البرازيل والهند، فقد أكدتا أنه لا يمكن الوصول إلى حل للقضية الليبية عبر الوسائل العسكرية ودعت جميع الأطراف إلى التوصل إلى حل سلمي. فالهند على سبيل المثال أعلنت أنها " تراقب باهتمام بالغ ما يجري في ليبيا من عنف مستمر ونزاع متصل وتدهور في الوضع الإنساني". وشجبت الهند "الضربات الجوية" التي يقوم بها النيتو في سماء ليبيا. وأكدت الهند أن "الوسائل المتبعة يجب ان تسعى إلى تهدئة، لا إشعال، الوضع المتازم فعليا في ليبيا وذلك من أجل حماية الشعب الليبي".


وإذا كانت دول البريكس لم تلعب دورا محوريا في الأحداث الثورية التي شهدها العالم العربي في كل من البحرين ومصر وعمان وسوريا واليمن، فإن الثورة الشعبية المصرية عززت من موقف الصين في الرقابة الصارمة على الإنترنت والاتصالات الإليكترونية لردع أي علامة أو دلالة على توجهات شعبية معادية للحكومة. فمنذ ان بدأت الثورات والاحتجاجات العربية في الانتشار من المغرب غربا إلى البحرين شرقا شددت السلطات الصينية قبضتها لسحق أية حركة لتنظيم تمرد ثوري في الصين. وتمنع أجهزة رقابة الإنترنت الآن محرك بحث غوغل من تقديم كلمات مفتاحية ليس فقط عن "الحرية" أو "حقوق الإنسان" بل كلمات مثل "ثورة الربيع" و"ميدان التحرير".


البريكس والمخاوف من الحسابات الغربية 


تباينت استجابة القوى الغربية ودول "البريكس" تجاه الاضطراب السياسي الذي شهدته أغلب الدول العربية. فباستثناء ألمانيا، سعت الدول الغربية الرئيسة إلى نهج فعال لضمان عدم انفلات الدول العربية عن قبضتها، بينما اعتنقت دول "البريكس" منهج عدم التدخل في شؤون العالم العربي، وراقبت بقلق كلا من التطورات الداخلية في الدول العربية ودور بعض القوى الخارجية للتدخل في شؤون تلك الدول.


ففي ليبيا، كانت دول "البريكس" مهتمة بالآثار الأوسع للأزمة وتداعياتها على الأمد الطويل. في المقابل، بدأت الحملة العسكرية الأمريكية – البريطانية - الفرنسية تحت دعاوى حماية المدنيين، ثم تغيرت الآن إلى إسقاط النظام في ليبيا، الأمر الذي أدى إلى إثارة مشكلات تتعلق باستراتيجية تلك الدول تجاه ليبيا والمخاطر المتوقعة التي قد تنتهي إليها هذه العملية بجعل ليبيا ـ عن دون قصد ـ قلعة للجهاديين على الأعتاب الجنوبية لأوربا.


ويبدو الموقف الغربي بالغ التناقض وشديد الانتقائية حيال الثورات العربية، كما يظهر ذلك إذا قارنا بين غضه الطرف عن التدخل الخليجي ضد المحتجين في البحرين، وتشجيعه بل وإسهامه في التدخل العسكري ضد النظام الليبي.


ويبدو أنه من الواجب توجيه الثناء والمديح للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لإعلانهم عن مسعاهم لمنع ذبح المدنيين. فالعالم الحر لا يمكن أن يقف مكتوف الأيدي في وقت يقوم فيه الطغاة باستخدام القوة العسكرية لذبح المدنيين. غير أن أي تدخل في شؤون الدول الأخرى ـ سواء كان عسكريا أو اقتصاديا أو بفرض عقوبات دبلوماسية ـ يجب أن يتم بنزاهة وموضوعية.


وقد أدركت بعض دول "البريكس" أن الزخم الثوري في العالم العربي بنيوي وفجائي في طبيعته، مع قدرته على إحداث تغيير محوري في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنفس الطريقة التي تغيرت بها أوربا جذريا بسقوط حائط برلين في 1989. وفي واقع الأمر كان عام 1989 خطا فاصلا في تاريخ العالم لدرجة أن التغيرات الجيوبوليتيكية الرئيسة في العالم قد وقعت في فترة مختزلة ومضغوطة في الإطار الزمني. ومع هذا، فإنه بوجود نفس تلك الأنظمة وذات الممارسات التي تجذرت وتعمقت عبر العقود،  فإن العالم العربي قد تأخر عن التغيير، وإن كان يبدو أن الاضطراب في العالم العربي الآن يمثل إفاقة متأخرة، في توق شعبي نحو الديموقراطية.


البريكس بين رياح الديمقراطية وتهديد "الجهاديين" 


لكن السؤال الآن، هل ستؤدي هذه الإفاقة إلى تمكين ديموقراطي للجماهير العربية؟





يبدو الموقف الغربي بالغ التناقض وشديد الانتقائية حيال الثورات العربية، كما يظهر ذلك إذا قارنا بين غضه الطرف عن التدخل الخليجي ضد المحتجين في البحرين، وتشجيعه بل وإسهامه في التدخل العسكري ضد النظام الليبي.
في نهاية المطاف، هناك هوة كبيرة بين "الصحوة" الديموقراطية و"التمكين" الديموقراطي. فالتوقعات في العالم العربي تبدو اليوم موازية للآمال الجديدة التي ظهرت في الكتلة الشرقية عام 1989. لكن التاريخ نادرا ما يسير بطريقة خطية أو متوقعة. فبينما يبدو جليا اليوم أن معظم دول العالم العربي تمر بمرحلة انتقال من النظام القديم لكنه من غير الواضح في أي طريق تمضي هذه الدول انطلاقا من لحظتها الانتقالية الراهنة.

ففي عام 1989 زعم الباحث الأمريكي فرانسيس فوكوياما متفاخرا في مقالة جعل منها كاتبا مشهورا أن نهاية الحرب الباردة تمثل ختاما للتطور الأيديولوجي و"نهاية التاريخ" مع عولمة القيم الديموقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل النهائي للحكم الإنساني. ومع هذا، وبعد عقدين من نهاية الحرب الباردة، فإن انتشار الديموقراطية ما زال يواجه رياحا عنيفة معاكسة. ففي حقيقة الأمر، عاد النظاما الثنائي القطبية ليطل برأسه من جديد من أشباح أيديولوجيات الحرب الباردة.


فصعود الرأسمالية الاستبدادية ـ والتي تعد الصين أفضل نموذج لها ـ خلق نموذجا عالميا ينافس الآن نموذج الديموقراطية الليبرالية.
وتذكرنا التطورات الأخيرة بأن التمكين الديموقراطي يتوقف على عديد من العوامل المتداخلة التي تختلف باختلاف طبيعة كل مجتمع، سواء كانت داخلية أو خارجية. فعلى المستوى الداخلي، هناك عاملان رئيسان هما: دور قوى الأمن، وآلة القمع المتقدمة تكنولوجيا التي تمتلكها الدولة.


ففي الشهور الأخيرة، ساعدت قوى الأمن في تشكيل التطورات بطرق مختلقة في ثلاث دول عربية. فبينما أدت الانتفاضة الشعبية في اليمن إلى تشظي المؤسسة الأمنية فإن النظام الملكي في البحرين قد وظف أفراد جهاز الشرطة في البلاد لقمع الاحتجاجات الشعبية.


وفي مصر، كان رفض الجيش مساندة حسني مبارك عاملا مساعدا في نهاية حكم ثلاثة عقود هيمن فيها قائد القوات الجوية الأسبق على مقاليد البلاد، وقد حفّز الجيش على اتخاذ هذا الموقف شعوره بأن مبارك يتهيئ لتوريث الحكم لنجله.


وبالنسبة للمظهر الثاني من العوامل الداخلية، فإن قدرة الدولة على التحكم بفعالية في شبكات الهواتف المحمولة والرسائل الإليكترونية والبريد الإليكتروني والإنترنت قد أصبح بنفس أهمية أجهزة القمع التقيلدية.


فاستخدام مواقع الشبكات الاجتماعية والرسائل النصية المباشرة لتنظيم الاحتجاجات الجماهيرية قد دعت الحكومات الى تعزيز قدراتها عبر فرض رقابة قوية على وسائل الاتصال.


فإذا أخذنا الصين كمثال من بين دول "البريكس" سنجد أن نظام الأمن الداخلي فيها تنوع بين مراكز الرقابة المباشرة المعتمدة على أحدث الوسائل التقنية إلى الاعتماد على جيش من المخبرين المأجورين وخفراء يجوبون المناطق السكنية متربصين بأي مثيري شغب محتملين. ففي رد فعل على انتشار دعاوى عبر الإنترنت تطالب الشعب بالتجمهر أيام الآحاد في مواقع بعينها في كل من شنغهاي وبكين من أجل إطلاق ثورة ياسمين (باللغة الصينية "موليهوا molihua") كشفت الحكومة الصينية عن استراتيجية جديدة تقوم على إغراق مسبق للميادين التي ينوي المتظاهرون التجمع فيها بحشد هائل من رجال الشرطة بحيث لا يتبقى مكان للمدنيين للتجمهر فيه.


أما العوامل الخارجية التي تؤثر في مدى نجاح التمكين الديموقراطي فذات أهمية خاصة حين يدور الحديث عن دول صغيرة أو ضعيفة. وليس هناك مثال أبلغ على ذلك من البحرين. وفي ليبيا تطور التدخل الدولي من مجرد تدخل محدود لإتمام مهمة إنسانية إلى هجوم عسكري شامل على قوات الكتائب الموالية للقذافي، في نهج يشير إلى أن هذه الحرب إنما تعكس في حقيقة الأمر اهتمامات ومصالح بعض القوى الغربية في المقام الأول. وقد كان التدخل في الشأن الليبي مدفوعا أيضا بحسابات جيوسياسية باردة على شاكلة تضييق الخناق أو تحجيم دور معمر القذافي كي لا يتمكن نظامه من استغلال الفراغ السياسي في كل من دولتي الجوار: مصر وتونس.


وينبع كذلك بعض قلق دول البريكس من تخوفها من صعوبة إعادة بناء ليبيا دولة حرة موحدة ومستقرة وفي منأى عن تأثير المجموعات الإسلامية في حال نجح الضغط العسكري في إسقاط نظام القذافي. فإسقاط نظام صدام حسين على يد الغزو الأمريكي لم يحقق الثمار المرجوة، بل تحول العراق العلماني المستقر إلى دولة متأرجحة تفشت فيها الأصولية وكادت أن تتشظى وتتجزأ أوصالها. ومع أن الولايات المتحدة لا تريد أن تتورط في ليبيا وترى نفسها غارقة في هذا المستنقع كما غرقت من قبل في المستنقع العراقي والأفغاني فإن السيناريو المتوقع هو أفق مسدود مشحون بأشباح تقسيم الدولة على أسس قبلية.





كان التدخل في الشأن الليبي مدفوعا أيضا بحسابات جيوسياسية باردة على شاكلة تضييق الخناق أو تحجيم دور معمر القذافي كي لا يتمكن نظامه من استغلال الفراغ السياسي في كل من دولتي الجوار: مصر وتونس.
ولسوء الحظ فإن المعايير والممارسات المختلفة التي تتم باسم دعم الحرية ترسل رسالة مفادها أن التمكين الديموقراطي في أي مجتمع رهين بتحقيق مصالح القوى الكبرى. ولعل هذا يصب أيضا في صالح الصين صاحبة أكبر وأقدم وأقوى نظام للحكم الفردي المطلق في العالم، والتي دوما ما اتهمت الغرب باستخدام تعزيز الديموقراطية كوسيلة جيوبوليتيكية.

ويمكن للصين أن تستفيد من الوضع الحالي إذا ما انزلقت الولايات المتحدة، رغم التراجع النسبي في قوتها الاقتصادية، لحرب ثالثة في ليبيا بعد حربي العراق وأفغانستان، فالصين (مثلها مثل روسيا) اختارت بذكاء عدم استخدام الفيتو ضد مشروع قرار مجلس الأمن الذي خول تدخلا عسكريا في ليبيا.


وفي النهاية، فإن دول "البريكس" تعتني في المقام الأول بتحديد أولويات العمل تجاه مثل هذه القضايا، فهل الأولى الرجوع إلى نظام دولي تحكمه القواعد والقوانين أم الارتكان إلى نظام يتمحور حول القوة العسكرية وتحكمه المصالح الآنية الضيقة للدول الأكبر؟
__________________
براهاما تشيلاني بروفيسور الدراسات الاستراتيجية في مركز البحوث السياسية - نيودلهي. ترجم النص من الإنجليزية إلى العربية عاطف معتمد عبد الحميد