المبادرة الخليجية: الرهان على "الشراكة" بين القوى اليمنية

المبادرة الخليجية مبنية على مبدأ الشراكة بين قواعد النظام الحالي مع أحزاب المعارضة والثوار، لكن الأطراف اليمنية تراهن على عامل الوقت لتحسين موقفها التفاوضي.







الجزيرة


خالد أحمد الرماح


سقف مطالب الطرفين
موازين القوى بين الطرفين
الوضع الداخلي: عامل الوقت
المبادرة في ميزان القوى


جاءت المبادرة الخليجية لتعبر عن تنامي القلق الخليجي، لما يجري في باحته الخلفية، بعد أن وصلت أزمة التغيير السياسي في اليمن بين ما يمكن تسميته تيار الثورة وبين النظام السياسي إلى طريق مسدود، وبعد تصاعد احتمالات انزلاق الأوضاع إلى الفوضى والحرب الأهلية، فحاولت المبادرة التعبير من جانب عن حقيقة موازين القوى بين الطرفين، ولم تخل من جانب آخر، من حسابات المصالح الخليجية في المسارات المحتملة للتغيير.

تتضمن المبادرة ثلاث خطوات تنفيذية أساسية، تتمثل الأولى في إعلان الرئيس نقل صلاحياته إلى نائبه (لم تحدد هل نائبه الحالي أم نائبا أخر يختاره)، واحتفاظه بمنصب رئيس صوري (لم تحدد أيضا السقف الزمني لمأموريته). والثانية تشكيل حكومة وحدة وطنية ترأسها المعارضة، تقوم بتسيير شؤون البلاد، والإشراف على وضع دستور جديد وإجراء انتخابات. وكانت الثالثة التزام كافة الأطراف بوقف كافة أشكال الانتقام والمتابعة والملاحقة من خلال ضمانات وتعهدات تعطى لهذا الغرض.





جاءت المبادرة الخليجية لتعبر عن تنامي القلق الخليجي، لما يجري في باحته الخلفية، بعد أن وصلت أزمة التغيير السياسي في اليمن بين ما يمكن تسميه تيار الثورة وبين النظام السياسي إلى طريق مسدود، وبعد تصاعد احتمالات انزلاق الأوضاع إلى الفوضى والحرب الأهلية
وتمت الإشارة ضمنياً إلى خطوة أخرى مهمة، بالقول أن تلتزم جميع الأطراف بإزالة عناصر التوتر سياسياً وامنياً، وبما يعني بصورة غير مباشرة رفع الاعتصامات والمسيرات وأي احتجاجات سلمية من قبل الطرفين.

وكما هو واضح من بنود المبادرة فإنها تعطي المعارضة، أو من يمكن تسميتهم المطالبين بالتغيير داخل المعارضة وخارجها، مكاسب أكبر من تلك التي كان من الممكن حصولهم عليها من خلال الحوار والتفاوض مع النظام قبل قيام "الثورة"، ولكنها بالتأكيد أقل من مكاسب الثورة المؤملة، الشبيهة بما حصل في الثورات العربية الأخرى التونسية والمصرية. فهي في أحسن الأحوال تعطيهم وضع الشريك الرئيسي في إدارة شئون البلاد خلال الفترة المؤقتة، والإشراف على مسارات الإصلاح السياسي والانتخابات.

وتسمح للرئيس بالبقاء في السلطة بصورة شرفية على رأس النظام، وربما تمكنه من التأثير في مجريات الأمور عبر قنوات السلطة غير الرسمية، وعبر نائبه الحالي أو الذي سيقوم باختياره. وتتيح للنخبة الحاكمة الحالية البقاء ضمن النظام السياسي كشريك في إدارة البلاد وفي تحديد مسارات الإصلاح السياسي والانتخابات، بما يمكن النظام من الحفاظ على تماسكه خلال الفترة المؤقتة، وإعادة ترتيب وضعه بعدها.






سقف مطالب الطرفين


يلعب المناخ الإقليمي العام دوراً أساسيا في تحديد السقف الأعلى لمطالب تيار الثورة، حيث يعلن المعتصمون الشباب أنهم لن يقبلوا بأقل من الرحيل الفوري للرئيس عن السلطة، وإسقاط النظام ومحاكمة رموزه، أي الوصول إلى نفس مستوى النجاحات التي حققتها الثورتان التونسية والمصرية. وقد يكون ذلك سقفا مرتفعا جدا بالنسبة لواقع اليمن وحقيقية ميزان القوى بين الطرفين، فيمكن التغاضي فعلاً عن إسقاط كامل للنظام السياسي، ومحاكمة الرئيس وأقاربه، لكن يظل هدف رحيل الرئيس هو السقف الأدنى المعلن لتيار الثورة، ومن غير المرجح القبول بأقل منه.





حسب بنود المبادرة الخليجية التي رحب بها الرئيس، وما هو معلن في خطاباته، فالسقف الأعلى لمطالبه يتحدد في بقائه رئيسا صوريا إلى نهاية مدته الدستورية في 2013، وهو ما يحقق له خروجا مشرفا من السلطة

إن هذا الهدف في الواقع هو ما يوحد المكونات المتعددة لتيار الثورة. والتوصل إلى اتفاق دون هذا السقف كفيل بتشظي الثورة وتفكيك مكوناتها، لتصل آثاره ربما إلى تفكيك تكتل أحزاب المشترك نفسه. وعدم تحقيق هذا الهدف بالنسبة لتيار الثورة يعني استمرار الاعتصامات والمسيرات السلمية حتى يتحقق. ومن غير المتوقع بالتالي أن يجازف أحد من ممثلي الثورة بالقبول ببقاء الرئيس إلى 2013 ولو بشكل صوري.

وحسب بنود المبادرة الخليجية التي رحب بها الرئيس، وما هو معلن في خطاباته، فالسقف الأعلى لمطالبه يتحدد في بقائه رئيسا صوريا إلى نهاية مدته الدستورية في 2013، وهو ما يحقق له خروجا مشرفا من السلطة.

لكني أعتقد أن ذلك ليس أكثر من سقف مرتفع للتفاوض. فالرئيس على ما يبدو مستعد فعلا لترك السلطة، بشرط عدم المساءلة القانونية، وبما يضمن بقاء النخبة الحاكمة الشابة والحزب الحاكم كطرف في المعادلة السياسية القادمة؛ وذلك من خلال إشراكهما في ترتيبات نقل السلطة لمرحلة ما بعد الرئيس صالح، باعتبار أن ذلك من جانب هو الضامن الفعلي والحقيقي لعدم المساءلة والملاحقة القانونية له ولفريقه لاحقاً.

ومن جانب آخر يلبي طموحات مشروعة للنخبة الحاكمة الشابة وأتباعها، والتي تشكل عامل الضغط الرئيسي في تحديد خيارات الرئيس في الوقت الراهن، بحيث تستطيع الاستفادة من الرصيد القبلي والشعبي للنظام، وخبرته السياسية، في إعادة إنتاج نفسها في النظام السياسي الجديد، وفي أحسن الأحوال إن لم تستطع الاستحواذ على النظام السياسي مجدداً، يمكن أن تكون شريكا أو طرفا إلى جانب الأطراف الأخرى، لكن ترفض ترك السلطة غنيمة سهلة للنخبة القبلية الشابة في الجانب الآخر كما تعتقد.

وربما يراهن الرئيس والنخبة الشابة على أن المرحلة المؤقتة ستُظهر التباينات والخلافات داخل تيار الثورة وداخل تكتل المشترك أيضا، فالشيطان يكمن في التفاصيل، ومن المرجح أن تختلف فيما بينها في تحديد حصة كل طرف سياسي في الحكومة المؤقتة، وفي الحوارات على إعادة صياغة الدستور الجديد، وأثناء التنافس على مقاعد البرلمان القادم، وذلك سيمكن النظام من اللعب على التناقضات وإعادة خلق توازنات جديدة تؤدي ربما في النهاية إلى إجهاض أحلام الثورة برمتها وإعادة اللعبة إلى المربع الأول.

فسقف مطالب المعارضة في الوقت الراهن –على ما يبدو- لا يصل إلى إسقاط النظام السياسي تماماً وحل الحزب الحاكم ومحاكمة النخبة الحاكمة كما في الثورات المجاورة، ويقبل أن يبقى الحزب الحاكم جزءا من القوى السياسية، وأن له حق المشاركة في الإصلاحات السياسية وفي أي انتخابات قادمة، ولكن بشرط أن يتم ذلك وهو خارج السلطة وليس جزءا منها. ذلك أن المعارضة وصلت من واقع تراكم خبراتها مع الرئيس، إلى أنه لا يمكن إجراء إصلاحات سياسية حقيقية، وانتخابات حرة ونزيهة، والرئيس أو النخبة المحيطة به لا تزال ممسكة بمفاصل السلطة الفعلية، وبمقدورها استغلالها والالتفاف على الإصلاحات، وتعظيم مكاسبها في أي انتخابات تجري.






موازين القوى بين الطرفين


من الواضح أن الطرفين المتنازعين في اليمن دخلا للتو مرحلة "عض الأصابع"، وأيهما يصرخ أولاً ويقدم تنازلات للخروج من الأزمة. وتحدد ذلك موازين القوى بين الطرفين، وتأثير عامل الوقت في ترجيح كفة أحدهما.





من الواضح أن الطرفين المتنازعين في اليمن دخلا للتو مرحلة "عض الأصابع"، وأيهما يصرخ أولاً ويقدم تنازلات للخروج من الأزمة. وتحدد ذلك موازين القوى بين الطرفين، وتأثير عامل الوقت في ترجيح كفة أحدهما

وإذا نظرنا نجد الرئيس لا تزال بيده كل الأجهزة والمؤسسات الأمنية والإعلامية في الدولة، والقطاع الحيوي من المؤسسة العسكرية، والوحدات القتالية النوعية والقوات الجوية، ولديه شعبية كبيرة يستطيع حشدها، ولا يمكن الجزم أن دافعها المال وإغراء السلطة كما تروج المعارضة، وإن كانت تتركز بشكل واضح في العاصمة صنعاء والمحافظات المحيطة بها.

وفي المقابل يضم تيار الثورة كل أطياف المعارضة السياسية في الساحة اليمنية داخل المشترك وخارجه، وشريحة واسعة من الشباب يمثلون معظم التوجهات السياسية والجغرافية، والجزء الأكبر من القوة القبلية المؤثرة، وقطاعا مهما من وحدات الجيش، فضلا عن حدوث انشقاقات داخل النخبة الحاكمة وداخل الحزب الحاكم، وانضمامها إلى تيار الثورة. وبينما تتركز القوة الشعبية للنظام السياسي في العاصمة صنعاء ومحيطها، يتفوق تيار الثورة بشكل حاسم في هذا الجانب في محافظات رئيسية أخرى، كتعز وعدن والبيضاء، ومحافظات أخرى بدرجة أقل. وتغذي تيار الثورة رياح التغيير الإقليمية، والمشاعر الثورية المنتشرة في المنطقة.

ويميل الموقف الدولي ومواقف بعض الفاعلين الإقليميين حتى الآن، لصالح النظام إلى حد ما، من خلال تفضيل إجراء إصلاحات جادة في إطار النظام السياسي، مع بقاء النخبة الحاكمة الحالية كشريك، لكن ليس ثورة تقصيها. فوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تعتبر بصراحة أن النظام السياسي الحالي جزء من الحل، ولم تصدر حتى الآن أي تصريحات أو إشارات خارجية قوية مؤيدة للثورة، كتلك التي صدرت تجاه مبارك وبن علي سابقاً.

وربما تتخوف الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى من صيرورة الأوضاع بعد رحيل الرئيس صالح، خصوصاً أن اليمن بلد لا تحكمه مؤسسات راسخة وقوية مقارنة بالحالة المصرية والتونسية، ويظل الانزلاق إلى الفوضى أمرا محتملا دائماً. وربما أيضاً أن البديل من وجهة نظرها لا يزال غير واضح المعالم، فتيار الثورة يضم جميع ألوان الطيف السياسي، ولا يوجد لديه تصور واضح محل اتفاق لما بعد رحيل الرئيس.

ويقترب الموقف الخليجي –باستثناءات بسيطة- من الموقف الدولي، والمبادرة الخليجية في نسختها الثانية جزء من هذا الموقف، حيث تميل لصالح بقاء النخبة الحالية لتكون أحد عناصر معادلة التوازنات السياسية في اليمن في المرحلة التالية. وربما يُفسر ذلك في إطار محاولة بعض الأطراف الخليجية الاحتفاظ بنفس سياسة توازنات القوى التي تعودت عليها في إدارة الشأن اليمني. وأيضاً تقليل درجة المخاطر المحتملة في حال ولادة نظام سياسي جديد برموز جديدة، قد يكون سقف طموحاتها وتطلعاتها وتوجهاتها غير واضح، ويشبه القفز إلى المجهول خصوصا بالنسبة للأشقاء في المملكة العربية السعودية الأكثر تأثيرا وتأثرا بما يجري في اليمن.

إضافة إلى تخوف يثيره البعض وهو أن المساعدة في إنجاح ثورة شعبية شبابية غير منقوصة، وبكامل مطالبها في اليمن، قد يثير ويحفز تطلعات الأجيال الشابة في الدول الخليجية المجاورة.
إلا أن مواقف القوى الدولية والإقليمية ليست ثابتة، ولديها من المرونة الكافية لتتغير حسب معطيات توازنات القوى بين الطرفين على الواقع. وطالما ظل النظام السياسي متماسكاً ومتفوقاً في موازين القوى الداخلية، فالموقف الدولي والإقليمي سيظل لصالحة، ومع خيار إدخال إصلاحات وليس رحيل النظام.






الوضع الداخلي: عامل الوقت


وما سيجبر أي من الطرفين على تقديم تنازلات، ليس الضغوط الخارجية، وإنما تطورات الأوضاع الداخلية. فالنظام يراهن على عامل الوقت في خفوت المشاعر الثورية لدي الشباب المتحمس، وعودة المحتجين إلى منازلهم، وإجبار أحزاب المعارضة على العودة إلى الحوار والتفاوض.

والمعارضة أيضا تراهن على أن عامل الوقت في صالحها، فالاقتصاد اليمني لن يتحمل استمرار الحالة الراهنة لفترة طويلة، ومن المحتمل حدوث انهيار اقتصادي وشيك، فالحكومة بالكاد نجحت حتى الآن في كبح جماح ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الريال اليمني، الذي واصل ارتفاعه منذ بدأت حركة الاحتجاجات، وأدى إلى تصاعد أسعار بعض السلع. بالإضافة إلى تردي أوضاع بعض الخدمات الأساسية في العاصمة وعدد من المدن الرئيسية. وحالة الشلل شبه التام للمؤسسات التعليمية وبعض المؤسسات الرسمية في عدد من المحافظات. واستنفاذ النظام الأدوات المتاحة لديه لإيقاف الاعتصامات السلمية المنتشرة في 13 محافظة من أصل 19.

وعجزه عن القيام بأي خطوات لإصلاح الأوضاع، أو تشكيل حكومة جديدة بديلة عن القائمة التي تم الإعلان عن حلها، بصورة منفردة، وبعيداً عن التوافق مع المعارضة. فيما المعارضة تسعى إلى تصعيد حركة الاحتجاجات الشعبية في المحافظات ذات الأغلبية الثورية لتصل إلى مرحلة العصيان المدني والشلل التام للحياة فيها، بالتزامن مع تصعيد حركة الاحتجاجات أيضا في العاصمة صنعاء.

وتردي الأوضاع وخروجها التدريجي عن سيطرة الحكومة سيؤدي من جانب إلى إجبار الكتلة البشرية الكبيرة التي لازالت صامته، على تحديد موقف إزاء ما يجري لتدعم كفة تيار الثورة أو كفة الرئيس. ومن جانب آخر، ترجح المعارضة أن يدفع ذلك القوى الخارجية إلى الضغط باتجاه تلبيه مطالب المحتجين في رحيل الرئيس، كمطلب رئيسي والتوافق بشأن النقاط الأخرى المتبقية.






المبادرة في ميزان القوى





سبب تعثر المبادرة الخليجية حتى الآن، أنها لا تعبر عن حقيقة توازن القوى القائم، وتعيد تمثيله في هياكل السلطة في المرحلة الانتقالية، باعتبارها المرحلة الحاسمة التي سيتم فيها تحديد ملامح المستقبل والنظام السياسي الجديد الذي سيتم الانتقال إليه.
يمكن القول إن مؤشرات توازن القوى الفعلي بين الطرفين يشير إلى نوع من التكافؤ بينهما، مع احتمال أن يؤدي عامل الوقت إلى ترجيح كفة تيار الثورة مستقبلا. وسبب تعثر المبادرة الخليجية حتى الآن، أنها لا تعبر عن حقيقة توازن القوى القائم، وتعيد تمثيله في هياكل السلطة في المرحلة الانتقالية، باعتبارها المرحلة الحاسمة التي سيتم فيها تحديد ملامح المستقبل والنظام السياسي الجديد الذي سيتم الانتقال إليه.

وأي مبادرة يمكن أن تنجح في تقديم أرضية تحظى بقبول المعارضة، إذا حققت توازنا فعليا في هياكل السلطة في المرحلة الانتقالية، تمنع كلا من السلطة الحالية والمعارضة من استغلالها لتعظيم مكاسبهما.

أو الحل الآخر أن تقوم بإخراج الطرفين منها، بحيث يتم تشكيل سلطة سياسية محايدة مؤقتة من شخصيات مستقلة وتكنوقراط، يتم اختيارهما بالتوافق بين الطرفين لتشكيل مجلس رئاسة مؤقت، وحكومة تكنوقراط، تقوم بتسيير الأعمال، وإدخال الإصلاحات السياسية التي تم الاتفاق عليها مسبقاً من قبل الأحزاب والقوى السياسية، والإشراف على إجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة، تكون جميع الأطراف المتنافسة فيها على مسافة واحدة من السلطة، وتمنع أيا منها من استغلال إمكانيات الدولة والمال العام والإعلام الرسمي لصالحه.
_______________
باحث في الشؤون اليمنية