مصر وأمن الخليج: رحلة البحث عن دور في بيئة متغيرة

مصر مرتبطة بالخليج من الناحية الفعلية لكنها لا تمتلك ارتكازا استراتيجيا بداخله، ولا يمكنها أن تستعيض عنه بالخصام السياسي مع إيران الذي قد يتحول إلى عبء على الخليجيين أنفسهم.







 

عبد الجليل زيد المرهون


يُنظر إلى مصر، على نحو تقليدي، باعتبارها لاعباً إقليمياً، يستند إلى ثقل جيوبوليتيكي متقدم. وهي قد نهضت، في فترة من تاريخها، بدور الدولة المركزية في الوطن العربي. ومارست، في الوقت ذاته، أدواراً رئيسية في المحيط الأفريقي.


وعلى الرغم من ذلك، فإن صورة الأمس ليست هي ذاتها اليوم.


لقد تغيّرت معالم البيئة الجيوسياسية على المستوى الإقليمي، كما الكوني. وتغيّرت بالتبعية الوظيفة الجيوبوليتيكية للعديد من دول العالم، إما صعوداً أو هبوطاً.


وفي الوقت ذاته، شهد المحتوى القيّمي للنظام الدولي قدراً كبيراً من التحوّل، جرى خلاله إعادة تعريف عدد من المفاهيم المرتبطة بالأمن والسياسة والاقتصاد. وتم في الإطار ذاته إعادة تعريف وظائف الدولة وأدوارها، ومبدأ السيادة الذي تنهض عليه.


في هذا المنعطف، لم تفقد مصر شياً من مكانتها في الحسابات الكبرى، على مستوى الجيوبوليتيك الإقليمي والجيوستراتيجيات الكونية.





الاشتباك المصري الإيراني لا يدور في الخليج، بل على ضفاف المتوسط، معبراً عنه بدعم طهران لحزب الله وحركة حماس وحكومة إسماعيل هنية في غزة. وكل ذلك معطوفاً على التحالف الإيراني السوري، المدّعم بالتقارب مع تركيا.
وعلى الرغم من ذلك، فإن دور مصر الراهن في المحيط الخارجي لا يعكس، بحال من الأحوال، ثقلها الجيوبوليتيكي العام. وهذا ينطبق، ضمن دوائر أخرى، على دورها في النظام الإقليمي الخليجي، المتضمن ثماني وحدات سياسية، هي دول مجلس التعاون الخليجي الست والعراق وإيران.

هذا النظام ببنائه الجيوسياسي، وتفاعلاته المحلية والدولية، يُعد شديد الارتباط بمصالح مصر وأمنها القومي. وفيه يمكن قياس درجة زعامتها الإقليمية، أو بالأحرى اختبار هذه الزعامة.


على مدى العقود الثلاثة الماضية، سعت مصر لإيجاد موطئ قدم لها في تفاعلات النظام الإقليمي الخليجي، وحاولت في حالات عدة إعادة توجيه هذه التفاعلات، أو التحكم في بعض مساراتها، أو التأثير الجزئي عليها.


وربما تكون مصر قد حققت بعض ما أرادت، إلا أنها لم تتمكن من إعادة التعريف الاستراتيجي، الكلي أو الجزئي، لبيئة النظام الخليجي، ولم  تثبت نفسها كطرف في الهياكل الأمنية والسياسية المشتركة في هذا النظام، كما لم تستطع أخذ دور القوة الفرعية، أو المتممة، للإستراتيجية الأميركية في الخليج، ولم تمنح مكاناً في هذه الإستراتيجية.


وفي الوقت ذاته، لم يُقدر لمصر قيادة دور عربي، أو مقاربة عربية مجمع عليها، لأمن الخليج.


وتبنت مصر، في المقابل، إستراتيجية "الاشتباك السياسي" مع إيران، ليس بالمدلول المعرفي المتداول، بل بالمعنى النقيض تماماً. وهو وقف التفاعلات الموجبة والدخول في صدام  دبلوماسي وإعلامي على قاعدة عريضة من القضايا الخلافية، والتقاطب الأيديولوجي.


وفي بُعده الأهم، فإن الاشتباك المصري الإيراني لا يدور في الخليج، بل على ضفاف المتوسط، معبراً عنه بدعم طهران لحزب الله وحركة حماس وحكومة إسماعيل هنية في غزة. وكل ذلك معطوفاً على التحالف الإيراني السوري، المدّعم بالتقارب مع تركيا.


وفي هذا المشهد إعادة إنتاج مقلوب أو عكسي لمشهد الثمانينات، عندما كانت مصر داعماً لوجستياً وفنياً للعراق في حربه مع إيران.


وفي أحد مضامينه، بدا الملف النووي الإيراني جزءاً من معادلة الصراع الإقليمي. وقد رمى، ضمن أمور أخرى، بإيحاءاته المباشرة على مناخ التقاطب القائم بين طهران والقاهرة.


أولاً: المتضمنات الجيوبوليتيكية العامة
ثانياً: التجربة السياسية والأمنية
ثالثاً: صراع النفوذ المصري الإيراني
رابعاً: هل تبني مصر سلاحها النووي؟
خامساً: الدور المصري في إطار عربي


أولاً: المتضمنات الجيوبوليتيكية العامة 


إن معطيات الجغرافيا والتاريخ ووحدة الإطار الثقافي، والنمط الكثيف للتفاعلات الاجتماعية والاقتصادية، تجعل من أمن الخليج جزءاً أصيلاً من الأمن القومي العربي.


إن مضايق هرمز وباب المندب والسويس ترتبط فيما بينها ارتباطاً وثيقاً على مستوى الحاسة الإستراتيجية. وإن التطورات في عصب و مصوع وجزر فاطمة الإريترية تعكس نفسها على أمن الملاحة، ووضع الممرات الإستراتيجية، في باب المندب وهرمز. كما تتأثر هذه الممرات بالتطورات الدائرة في شمال البحر الأحمر، وتحديداً في العقبة ومنطقة الصراع العربي الإسرائيلي (1).


كذلك، يُمثل النفط بٌعداً هيكلياً آخرا على مستوى علاقة أمن الخليج بالأمن القومي العربي. فالاقتصاديات العربية هي في مجملها اقتصاديات نفطية إما مباشرة أو بالتأثير.


وتدخل في علاقة نفط الخليج بالأمن القومي العربي قضية العمالة العربية في المنطقة الخليجية، وتحويلاتها المالية، وبرامج العون الإنمائي، والاستثمارات الخليجية في الأقطار العربية.


وبدوره يبدو المعطى الديموغرافي بُعداً بنيوياً في علاقة أمن الخليج بالأمن القومي العربي، ففي ظل الندرة السكانية للمنطقة الخليجية تبدو فرص إنجاز الأمن الإقليمي أمام تحد يصعب التغلب عليه دون الارتكاز الكلي أو الجزئي إلى العمق البشري العربي.


على صعيد العلاقات الخليجية المصرية، بصفة خاصة، يمكن الوقوف على نمط كثيف من التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية، تصاحبه مستويات متفاوتة من الروابط السياسية والأمنية، التي شهدت تقليدياً صوراً عدة من الصعود والهبوط. وتأثرت بمقاربات وأدوار القوى الإقليمية والدولية المختلفة.


على مستوى التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية، يفوق المحتوى غير الرسمي لهذه التفاعلات كثيراً مضمونها الرسمي.


هناك بنية اقتصادية وتجارية متينة للعلاقات الخليجية المصرية (2). كما تشكل تحويلات العاملين المصريين في دول الخليج إيرادات هامة تجاوزت، في بعض الأحيان، السياحة والنفط وعائدات قناة السويس (3). وحسب مؤشرات العام 2010، هناك أكثر من 1.4 مليون مصري يعملون في السعودية وحدها، يقابلهم أكثر من 400 ألف سعودي يقيمون في مصر بصفة دائمة (4).


ثانياً: التجربة السياسية والأمنية 


على الصعيد السياسي والأمني، ثمة سؤال  فرض نفسه على المتابعين للسياسة الخارجية المصرية، مفاده: هل أن تقلّص الدور المصري في المنطقة جاء إفرازاً لمتغير مصري داخلي، أم هو نتيجة فرعية لتحوّل الخيارات الدولية للدولة المصرية؟.





على نحو مبدئي، يمكن القول إن السياسة المصرية في الخليج لا تتحرك في إطار الإستراتيجية الأميركية، لكنها تسير على ضفافها.
هناك وجهتا نظر على هذا الصعيد: ترى الأولى أن تركيز مصر على أمنها الداخلي قد جمد سياستها الخارجية، وتراجعت في أولويات الدولة. ورأى هؤلاء أنه اعتباراً من ثمانينيات القرن العشرين توقفت مصر عن أن تكون لاعباً مؤثراً في محيطها الإقليمي العربي (5).

في المقابل، ثمة اعتقاد عام مفاده أن الطبيعة المعقدة للعلاقات المصرية الأميركية قد حالت دون تبلوّر دور مصري مؤثر في القضايا الإقليمية، سواء في الساحة العربية أو الأفريقية. فمن جهة، لم تمنح الولايات المتحدة مصر دوراً ذا مغزى في إستراتيجيتها الإقليمية، لأن هذه الأخيرة لم ترق إلى مستوى الحليف القريب، أو لأنها لا تمتلك مقومات هذا الدور من وجهة النظر الأميركية.


ومن جهة أخرى، حالت المساعدات الأميركية المنتظمة لمصر دون تبنيها مقاربات متعارضة مع المصالح الأميركية، إن في إطارها الإقليمي أو الكوني.


وقد ذهبت دراسة تقويمية، ذات طبيعة مرجعية، صادرة عن مجلس السياسات الخارجية في نيويورك، إلى القول بأن المساعدات الأميركية "تمنح الولايات المتحدة تأثيراً كبيراً على القرارات الرئيسية في السياسة المصرية" (6).


ورأت الدراسة، في السياق ذاته، أن هذه المساعدات أنشأت مؤسسة عسكرية مصرية مؤيدة بصلابة للولايات المتحدة. وأن عشرين عاماً من التعاون العسكري أولد قيادة عسكرية مصرية متوافقة مع النهج الأميركي (7).


وبالطبع، نحن هنا بصدد مقولة سجالية، ربما تعاظم مضمونها التحليلي، كما لا يجوز إغفال بُعدها المعياري أيضاً.


بيد أن الصحيح، في الوقت نفسه، هو أن تحالفات مصر الدولية قد ساهمت لعقود طويلة في تعريف دورها الإقليمي، أو هي على الأقل أثرت بعمق في مضمون وحجم هذا الدور. بل إن تحالف مصر مع الاتحاد السوفيتي، في خمسينيات وستينات القرن الماضي، كانت نتيجته إعادة تعريف البيئة الجيوسياسية لمنطقة البحر الأبيض المتوسّط برمتها.


وفي مقابل النقد الموجه للدور المصري الراهن، لجهة محدوديته، رأت القاهرة في جمود عملية السلام في الشرق الأوسط سبباً في تراجع دور "المعتدلين العرب" عامة، بما في ذلك الدور المصري ذاته. وذلك لمصلحة دول مثل إيران (8). وقالت القاهرة أن هذا الأمر يتعزز اليوم في ظل الخيارات السائدة في إسرائيل (9).


وبالانتقال للحديث عن السياسة المصرية في الخليج، منذ ثمانينات القرن العشرين، يمكن القول أن هذه السياسة ليست جزءاً من الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، سواء بالمعيار الأمني والعسكري، أو بالمنظور الجيوسياسي العام.


إن الولايات المتحدة لم تمنح مصر دوراً فرعياً، أو متمماً، لسياساتها على النحو الذي حصلت عليه إيران قبل العام 1979، أو ذلك الذي طلب من تركيا بعد حرب الخليج الثانية دون أن يتحقق، أو الذي تطلبه الولايات المتحدة حالياً من أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو).


إن السياسة المصرية في الخليج لديها نوعاً مما يمكن وصفه باستقلالية الأمر الواقع، الناجمة عن عدم الرغبة الأميركية في دمج مصر بمنظومتها الأمنية في الإقليم؛ هذه المنظومة المستندة إلى الحضور العسكري المباشر، وعقد الاتفاقيات والتفاهمات مع دول المنطقة على أساس ثنائي حصراً.


وعلى الرغم من ذلك، شجعت الولايات المتحدة على حضور سياسي مصري في الخليج، لمواجهة ما يُعرف بالمد الأصولي. كما دعمت جهود التنسيق المصري الخليجي في قضايا الأمن الداخلي. وهناك حوار منتظم يجري بين الولايات المتحدة وما يُعرف بمجموعة "مجلس التعاون الخليجي +3" (GCC+3)، التي تضم إضافة لدول المجلس كل من مصر والأردن والعراق. وهذه اللقاءات ذات طابع تشاوري، على الرغم من أنها تجري على مستوى وزراء الخارجية.


وعلى نحو مبدئي، يمكن القول إن السياسة المصرية في الخليج لا تتحرك في إطار الإستراتيجية الأميركية، لكنها تسير على ضفافها. ويمكن تعميم هذا التوصيف على موقف القاهرة من كل من الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الثانية والغزو الأميركي للعراق والملف النووي الإيراني.


1- تجربة الحرب العراقية الإيرانية
في تجربة الحرب العراقية الإيرانية، سارعت مصر لدعم العراق سياسياً وإعلامياً، كما قدمت له مساعدات سرية، في صورة معدات ومستشارين (10).


وفي الحقيقة، فقد وجدت القاهرة في الحرب العراقية الإيرانية فرصتها السانحة للخروج من طوق العزلة الذي لفها منذ العام 1977. وهنا تحركت لا لتدعم نظام صدام حسين وحسب، بل لتضغط به على الخليجيين أنفسهم.


وإذا كانت القاهرة قد وجدت في الحرب فرصتها لنقل المعركة السياسية مع طهران إلى العمق الخليجي، فإن مسار ما بعد الحرب قد وضعها في مواجهة ضمنية مع خصوم النظام العراقي، الذين أصبحوا دول الداخل الخليجي نفسها، فضلاً عن إيران.


وهنا كان تشكيل مجلس التعاون العربي بمثابة محاولة مصرية للضغط على دول الخليج وتجاوزها. وقد التقت النوايا المصرية هذه مع جموح بغداد غير المحسوب في عواقبه. وخلافاً لما أشاعه البعض، فإن الاصطفاف المصري العراقي حينها لم يكن لإحياء الجبهة الشرقية، بل لتحييد وتدجين القوة العراقية، التي كانت في ذروة عنفوانها. وربما هذا تحديداً ما أدركته القوى الدولية الفاعلة، لتدفع بالقاهرة للدخول في تحالف مرحلي مع بغداد. بيد أن الأمور ما لبثت وخرجت عن نطاق السيطرة، عندما قرر النظام العراقي الخروج من أزمته الداخلية، عبر توجيه جيشه مجدداً نحو الخارج، حيث كانت الكويت هدفه الجديد. وهنا كان غزو الكويت نتاجاً قاسياً للحرب العراقية الإيرانية ذاتها.


2- تجربة حرب الخليج الثانية



وفي واشنطن رأى البعض، أن المساعدات الأميركية السنوية المقدمة لمصر قد لعبت دوراً حاسماً في تشكيل الموقف المصري من الغزو الأميركي للعراق، تماماً كما كان إلغاء الديون المستحقة للولايات المتحدة على القاهرة أحد محفزات المشاركة المصرية في حرب الخليج الثانية عام 1991.
ويمكن القول أن الغزو العراقي للكويت قد مثل تهديداً للمصالح المصرية في منطقة الخليج.

والحقيقة أن مصر ربما أدركت متأخرة خطأ اصطفافها مع النظام العراقي خلال ثمانينيات القرن العشرين لمجرد شعورها بالعزلة وجمود علاقاتها بدول الداخل الخليجي، أو بالأصح تراجع مستوى هذه العلاقات على خلفية تقاطب إقليمي وعربي حاد.


وعلى الرغم من شجبها للغزو العراقي للكويت، فإن مصر لم تتمكن من منع اتساع رقعة الأزمة واندلاع حرب الخليج الثانية. هذا في حين يحسب لمصر أنها درأت عن الخليج حرباً كادت تكون محققة في صيف العام 1961، وذلك عندما أعلن الرئيس العراقي حينها عبد الكريم قاسم ضمه للكويت، فور إعلان استقلالها عن بريطانيا.


إن قاسم رغم جموحه وتطلعه للزعامة العربية لم يستطع كسر كلمة مصر، أو تحدي إرادتها القومية، التي جمعت العرب على الحل السياسي، وفوتت على بريطانيا فرصة استغلال الأزمة.


ولقد شاركت مصر عسكرياً في حرب الخليج الثانية، إلا أن مشاركتها كانت ذات طابع رمزي وحسب. وبعد الحرب، جاء إعلان دمشق ليعبر جزئياً عن التطلعات المصرية الجديدة في الخليج.


وقد أجهض إعلان دمشق على نحو مبكر. وقد يكون في ذلك انتصاراً للرؤية الرافضة للحضور الأمني العربي في الخليج. ولكن وعلى خلاف ما قد يتبادر للبعض، فإن من أجهض هذا الإعلان بصورة مباشرة ليست القوى الغربية، بل الكويت. إذ ضغطت حثيثاً باتجاه تفريغه من مضمونه الأمني والسياسي، بل والاقتصادي أيضاً.


وكانت القاهرة قد أعلنت فور انتهاء الحرب أن الدول العربية يجب أن تنهض وحدها بمقاربة الأمن الإقليمي في الخليج (11). كما أفادت بعض التقارير الدولية بأن مصر سعت لإقناع دول مجلس التعاون الخليجي باستبعاد أية مقاربة  تلحظ دوراً إيرانياً في هذا الأمن (12).


وهو الأمر الذي أثار طهران، ودفعها للتصريح بأن مطالبة مصر بدور في أمن الخليج يعادل مطالبة إيران بدور في أمن السويس (13).


3- تجربة الغزو الأميركي للعراق
لعل الغزو الأميركي للعراق، في العام 2003، مثل الاختبار الأكثر صعوبة للسياسة المصرية في المنطقة، فالقاهرة التي أدركت مبكراً مغزى الحدث وأبعاده، سارعت للإعلان عن رفضها لأي تحرك عسكري ضد بغداد.


ومع وصول الأزمة إلى مراحلها الأخيرة، أوضح الرئيس المصري حسني مبارك، في 19 آذار/ مارس 2003، أن مصر حرصت منذ البدء على التمسك بعدد من المبادئ، تتمثل في "رفض محاولات التدخل لتغيير أنظمة الحكم بالقوة، لكون ذلك شأن داخلي خاص بكل دولة" (14). بيد أن مبارك حمّل، بصورة ضمنية، العراق المسؤولية عما وصلت إليه الأزمة، إذ قال بأن هذا الوضع "كان نتيجة أخطاء أطراف عديدة، يأتي في مقدمتها الغزو العراقي للكويت عام 1990، الذي خلق مخاوف أمنية لدى العديد من دول المنطقة" (15).


وفي وقت لاحق أو متزامن، وفي خضم تطورات متسارعة، أعلن رسمياً بأن مصر سمحت للقوات الأميركية بالمرور في قناة السويس، ومجالها الجوي. واعتبرت الحكومة المصرية أن هذه الخطوة تمليها التزاماتها الدولية، في إشارة إلى اتفاقية القسطنطينية، الموقعة في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1888، والتي تنص على أن الملاحة في القناة حرة لجميع السفن دون تمييز، وهي على حياد في حالة الحروب والأزمات الدولية.


وبطبيعة الحال، هذه وجهة نظر ربما اتفق معها البعض وعارضها البعض الآخر، ذلك أن  القضية المطروحة هنا هي أساساً ذات مضمون سياسي واستراتيجي، فضلاً عن كونها ترتبط بماهية تفسير القانون الدولي ذاته.


وفي واشنطن رأى البعض، أن المساعدات الأميركية السنوية المقدمة لمصر قد لعبت دوراً حاسماً في تشكيل الموقف المصري من الغزو الأميركي للعراق، تماماً كما كان إلغاء الديون المستحقة للولايات المتحدة على القاهرة أحد محفزات المشاركة المصرية في حرب الخليج الثانية عام 1991(16).


وفي 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010، نفت القاهرة رسمياً مقطعاً ورد في مذكرات الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، ذكر فيه أن الرئيس مبارك ساهم في إقناعه بأن العراق كان يمتلك أسلحة جرثومية (17).


وفي مذكراته التي حملت عنوان "لحظات حاسمة"، قال بوش: إن مبارك أبلغ قائد القوات الأميركية، الجنرال تومي فرانكس، أن "العراق يملك أسلحة جرثومية وقرر استخدامها ضد قواتنا". وقال بوش إن مبارك رفض إعلان هذه الاتهامات "خشية استفزاز الشارع العربي" (18). وتابع قائلاً: إن "المعلومات التي صدرت من رئيس في الشرق الأوسط، كان يعرف صدام جيداً، أثرت في تفكيري" (19).


وربما يقول البعض أن مصر نظرت إلى الغزو الأميركي باعتباره فرصة للتخلص من العراق كمنافس إقليمي، أو كمنافس على الزعامة العربية. وبطبيعة الحال، يصعب على المرء التسليم بهذه المقولة، بل هي أشبه ما تكون  بغواية سياسية.


فالعراق، حتى في ذروة عافيته السياسية والأمنية، لم يُقدّر له أن يصبح منافساً لمصر. وإن الذي حدث في عهد الرئيس عبد الكريم قاسم لم يخرج عن إطار التقاطب الأيديولوجي بين مصر الناصرية والعراق، المرتكز في سلطته الداخلية إلى تحالف وثيق مع الحزب الشيوعي المحلي، الموسكوفي الاتجاه.


أما عراق عام 1978، فهو لم يواجه مصر المتطلعة لقيادة الوطن العربي، بل واجه مصر البعيدة عن هذا التطلّع.


وبالطبع، فقد حققت بغداد نجومية سياسية كانت تبحث عنها طويلاً، وذلك عندما قدر لها، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، استضافة القمة العربية، التي أعلنت رفضها لاتفاقيتي كامب ديفيد.


وعلى الرغم من ذلك، فإنه بمعيار صراعات الزعامة داخل النظام الإقليمي العربي، فإن مصر تخشى على مكانتها من العراق في حالتين: الأولى، قيام تحالف عراقي مشرقي. والثانية، تشكل تحالف عراقي سعودي. أو انضمام العراق إلى مجلس التعاون الخليجي. فحينها ستنتقل الزعامة العربية إلى الخليج على نحو حاسم.


ثالثاً: صراع النفوذ المصري الإيراني 


في أحد أبعادها، ارتبطت مقاربة الدور المصري في الخليج، منذ ثمانينيات القرن الماضي، بصراع النفوذ بين القاهرة وطهران، الذي ارتبطت بداياته بالحرب الباردة الدولية، أو لنقل جاء في سياقها العام.





الصدام السياسي المصري الإيراني يُحسّن موقف القاهرة التفاوضي مع الغرب، كما جزئياً مع الخليجيين أنفسهم. وقد يلبي في الوقت ذاته أغراضاً ترتبط بسياسة مصر الداخلية.
وقد قطعت إيران ومصر العلاقات الدبلوماسية في العام 1980 (20). واعترضت إيران ليس فقط على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، بل كذلك على استضافة القاهرة للشاه، ودعمها للعراق خلال الحرب  العراقية الإيرانية (21).

وفي الرابع عشر من أيار/مايو 1987، أعلنت مصر عن قطع العلاقات الدبلوماسية غير المباشرة مع إيران، متهمة إياها "بانتهاك اتفاقات فيينا التي تنظم النشاط الدبلوماسي" (22). وأمرت بطرد ممثلي مكتب رعاية المصالح الإيرانية في السفارة السويسرية.


في سياق مقاربة الدور المصري الراهن في الساحة الخليجية، قد يبدو للبعض أن الصراع المصري الإيراني هو صراع على الخليج. لكن الصحيح أنه صراع يدور جزئياً في الخليج وليس عليه، إذ أن مصر تدرك تماماً حدود الهامش المتاح لها في الإقليم، إن من قبل الولايات المتحدة أو الخليجيين أنفسهم.


وفي الوقت ذاته، فإن الصراع أو التنافس المصري الإيراني، لا يدور حول زعامة العالم الإسلامي. حيث أن تنافساً مصرياً في هذا الإطار يمكن أن يحدث مع أنقرة أو بعض العواصم العربية، وليس مع طهران.


كذلك، فإن مصر لا تواجه السياسة الإيرانية في الخليج نيابة عن الولايات المتحدة، فالقاهرة لا تستطيع أن تضع نفسها في هذا الموضع، مهما بلغت درجة خصومتها مع طهران.


بيد أن ما سبق ذكره لا يعني أن ليس ثمة أهداف للصدام السياسي المصري الإيراني في الإقليم، فهذا الصدام يُحسّن موقف القاهرة التفاوضي مع الغرب، كما جزئياً مع الخليجيين أنفسهم. وقد يلبي في الوقت ذاته أغراضاً ترتبط بسياسة مصر الداخلية.


إن البعد الأهم للتنافس المصري الإيراني لا يرتبط بالخليج ولا يدور فيه، بل يقع على ضفاف البحر المتوسط، حيث عمق مصر الاستراتيجي.


إن ما يعني مصر، في واقع الأمر، هو الدعم الإيراني لحزب الله وحركة حماس وحكومة إسماعيل هنية في غزة، معطوفاً على التحالف الإيراني السوري، الذي تعزز بالاقتراب التركي من دمشق وطهران.


إننا بصدد مشهد جيوسياسي مناقض تماماً لذلك الذي ساد خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، حين واجهت القاهرة طهران في عقر دارها، بما هو أكثر من السياسية، عبر دعمها للعراق لوجستياً وفنياً في حربه مع إيران.


في تفاصيل هذه الصورة، هناك من يرى أن الحصار المفروض على قطاع غزة قد زاد من حجم الروابط القائمة بين حماس وإيران.


في المقابل، تتهم القاهرة طهران باستخدام علاقاتها مع حماس لتقويض المصالح الفلسطينية، وإفشال عملية التسوية السلمية (23).


ووفقاً لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت)، فقد هرّبت إيران إلى قطاع غزة، خلال العام 2010، حوالي 1000 قذيفة هاون، ومئات الصواريخ قصيرة المدى (أو القذائف الصاروخية)، وعشرات الصواريخ المضادة للدبابات (24). وحسب التقرير الإسرائيلي، فإن إيران استخدمت السودان وسيناء لتهريب هذه الأسلحة إلى غزة (25).


في السياق ذاته، كانت الحكومة المصرية قد أعلنت، في 8 نيسان/ أبريل 2009، أنها اكتشفت 49 شخصا يشكلون خلية تابعة لحزب الله، تعمل سراً في مصر. ووفقاً لسلطات القاهرة، فقد قام أعضاء الخلية برصد حركة السفن في قناة السويس، والتخطيط لهجمات ضد المنتجعات السياحية التي يرتادها إسرائيليون. واتهمت مصر حزب الله أيضاً بتهريب الأسلحة لحماس عبر الحدود المصرية مع غزة (26).


ويحلل تقرير لخدمة أبحاث الكونغرس أبعاد الإعلان المصري عن خلية حزب الله  بالقول أن الكشف عن هذه الخلية قد خدم المصالح المصرية من عدة وجوه، منها إظهار مصر بأنها هدف مباشر للتدخل الإقليمي الإيراني، الأمر الذي تأمل منه حشد "الدول العربية المعتدلة" إلى جانبها، ووضع "حلفاء إيران" في موقف دفاعي (27).


ومن جهة أخرى، فإن اكتشاف هذه الخلية قد جاء بعد نحو أسبوعين من تقرير بثته شبكة (CBS News) عن عملية نفذها الطيران الحربي الإسرائيلي، إبان حرب غزة، استهدفت شاحنات متجهة من السودان إلى مصر، محملة بأسلحة إيرانية إلى حركة حماس، الأمر الذي سبب إحراجا للسلطات المصرية، إذ كيف استطاعت إيران أن تتحرك في منطقة نفوذها (28).


ويتنبأ التقرير، الذي صدر في أيلول/سبتمبر 2009، بأن تستخدم إيران القوى الفاعلة من غير الدول للضغط على مصر، في حين ستلجأ هذه الأخيرة لحشد بعض الدول العربية حولها، من أجل كبح النفوذ الإيراني (29).


رابعاً: هل تبني مصر سلاحها النووي؟ 


على صعيد آخر، يمكن القول إن الملف النووي الإيراني قد أضاف بُعداً جديداً إلى التنافس المصري الإيراني، كما لنزاع طهران مع الغرب. وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، التي بدت في طليعة المعنيين بهذا الملف.





إن أوراق مصر التفاوضية في الداخل الخليجي والشرق الأوسط سوف تتعزز على نحو كبير في اللحظة التي تتمكن فيها القاهرة من بناء نسق متقدم من الروابط مع العراق.
وخلال زيارته لإسرائيل، في آذار/ مارس 2010، قال جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأميركي: "إن الولايات المتحدة مصممة على منع إيران من الحصول على أسلحة نووية" (30).

بيد أن محللين في واشنطن ردوا على ذلك بالقول إن الولايات المتحدة كانت مصممة أيضاً، خلال الستينات، على منع ظهور صين نووية، إلا أن هذه الصين قد ظهرت بالفعل (31).


وقبل سنوات، قال الرئيس جورج بوش الابن أن واشنطن "لن تسمح" مطلقاً بكوريا شمالية نووية، إلا أن إدارته استيقظت عام 2006 على تجربة نووية كورية. وباتت كوريا تعلن اليوم امتلاكها ردعاً نووياً. وثمة من يعتقد أن لديها من البلوتونيوم ما يكفي لإنتاج سبع قنابل نووية كحد أدنى (32).


وفي التاسع من حزيران/ يونيو 2010، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار الرقم (1929)، الذي فرض جولة رابعة من العقوبات على إيران، على خلفية برنامجها النووي (33). وقالت مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، سوزان رايس:" إنه قرار قوي، سيكون له تأثير رئيسي على إيران. وهذا يوضح لماذا عملت بجد من أجل الحيلولة دون صدوره... يبقى هدفنا إقناع إيران بوقف برنامجها النووي، والدخول في مفاوضات بناءة" (34).


وقد رأى البعض أن الخيار النووي (العسكري) يلبي المصالح الأيديولوجية والإستراتيجية لإيران، ويبطل التحديات (أو المخاطر) بعيدة المدى، المتأتية من الغرب (35).


على صعيد إقليمي، تحركت دول مجلس التعاون الخليجي لمحاكاة برنامج إيران النووي، وقررت في العام 2006 تشييد بنية تحتية للطاقة النووية.


وقد خلصت دراسة للوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن الطاقة النووية تبدو خياراً منطقياً من الناحية الاقتصادية لدول الخليج (36).


وفيما هو أبعد من الطاقة النووية المدنية، خشي البعض من أن يؤدي ظهور سلاح نووي في إيران إلى سعي قوى إقليمية أخرى إلى السير في الاتجاه ذاته. وخلق دمينو نووي، في الشرق الأوسط (37).


ووفقاً لما جاء في إحدى الوثائق المسربة من قبل موقع (WikiLeaks)، فقد أخبر الرئيس مبارك وفداً من الكونغرس الأميركي بأن مصر ستضطر للشروع في برنامج نووي عسكري، إذا حصلت إيران على القنبلة النووية (38). وقد قال مبارك ذلك خلال لقاء جمعه بهذا الوفد في أيار/ مايو من العام 2008، على هامش اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في شرم الشيخ (39).


وعلى الرغم من ذلك، هناك من يعتقد، مثل جيمس والش، أن دولة مثل مصر، على وجه التحديد، لا يتوقع لها المضي في برنامج نووي عسكري، حتى بافتراض وجود إيران نووية، وذلك خشية إلحاق أضرار جسيمة بعلاقتها بالولايات المتحدة، وفقدانها المساعدات العسكرية والاقتصادية (40).


ويرى هؤلاء أنه إذا كان الدافع بالنسبة لمصر هو مواجهة واقع نووي إقليمي، فهذا الواقع قائم بالفعل منذ عقود، حيث تحتفظ إسرائيل بترسانة نووية متقدمة (41).


خامساً: الدور المصري في إطار عربي 


إن مصر التي ترتبط بالخليج في كل شي، من السياسة والتجارة إلى العلاقات الأسرية بين عامة الناس، لا بد أن تستفيد في مقارباتها الراهنة من تجربتها التاريخية، يوم كانت تمثل دور الدولة المركزية، الجامعة للعرب والحاضنة لهم. وعليها أن تعتمد منظوراً قومياً لا محلياً لحركتها في الخليج، وخاصة لجهة تعاملها مع الطرف غير العربي فيه.





هناك اليوم مصلحة أميركية واضحة في دمج العراق في محيطه العربي، وذلك بهدف الحد من النفوذ الإيراني فيه، والدفع باتجاه تحسين بيئته الأمنية، التي تضمن انسحاباً أميركياً محمود العواقب.
بل أن مصر يمكنها الاقتداء بالتجربة التركية الراهن، حيث وصلت أنقرة إلى جل ما تريده، دون أن تراهن على عداء أي طرف، مهما بدا منافساً. لقد ارتفعت الاستثمارات الخليجية في تركيا من مستويات لا يعتد بها عام 2003 إلى نحو ملياري دولار عام 2008 (42)، ونمت التجارة التركية الخليجية بسرعة قياسية بين العام 1998 والعام 2008 (43).

وكما دول الداخل الخليجي، كذلك العراق يجب أن يكون في صلب المقاربة المصرية الراهنة لأمن الخليج. بل يمكن القول أن العراق بمقدوره أن يصبح بوابة عريضة لدور مصري جديد لا في الخليج وحسب، بل في الوطن العربي والشرق الأوسط عامة.


إن العراق يحتاج إلى مصر بقدر حاجتها إليه. إنها حاجة متبادلة وذات مغزى عميق في حسابات الجيوبوليتيك الإقليمي.


ويخطئ من يعتقد أن ما يوصف بالنفوذ الإيراني يمكن أن يحول بين مصر وبين بناء علاقات وثيقة وذات طابع استراتيجي مع العراق.


إن أوراق مصر التفاوضية في الداخل الخليجي والشرق الأوسط سوف تتعزز على نحو كبير في اللحظة التي تتمكن فيها القاهرة من بناء نسق متقدم من الروابط مع العراق.


وقد زار رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، مصر في تشرين الأول/ أكتوبر 2010، وبحث مع الرئيس مبارك سبل تطوير العلاقات الثنائية. ودعا إلى تطوير العلاقات السياسية وإشراك الشركات المصرية في إعادة الإعمار (44).


ومن الزاوية الإستراتيجية، يمكن القول إن العراق، وفقاً لخطط الانسحاب التي يجري تنفيذها، قد ابتعد عن كونه ركيزة للقوة الأميركية في المنطقة، أو منطلقاً لها. وهذا خلاف ما حدث لكل من ألمانيا الغربية واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وكوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية.


إن اتفاقيتي وضع القوات والإطار الاستراتيجي، الموقعتين بين واشنطن وبغداد، قد منحتا العراق خصوصية أمنية وسياسية على صعيد علاقته بالولايات المتحدة، إلا أن هذه الخصوصية بقيت في إطار ما يُمكن وصفه "بالحد الأدنى"، قياساً بالتجارب الأميركية المماثلة.


وهذا السقف من العلاقات الأميركية العراقية قد حدّ من مخاوف عدد من الفرقاء في الداخل العراقي. وخَفّض على نحو كبير هواجس الفرقاء الإقليميين، سواء أولئك المتحالفين مع الولايات المتحدة أو البعيدين عنها. ذلك أن وجود تحالف أميركي عراقي، على شاكلة الأميركي الكوري، أو الأميركي الياباني، من شأنه أن يثير مخاوف مرتبطة بالمكانة والدور بالنسبة للبعض، وبالأمن بالنسبة للبعض الآخر. وهذه حقيقة غير منطوق بها دائماً في المنطقة.


وبهذا المعنى، فإنّ السياق الجديد للعلاقات الأميركية العراقية قد خدم فرص اندماج العراق في بيئته الإقليمية، وزاد من إمكانية قبوله فيها، دونما هواجس متضخمة في هذا الاتجاه أو ذاك.


وكان بعض الباحثين قد ذهبوا للقول بالارتكاز على العراق كأداة (أو كنموذج) لإحداث تحولات بعيدة المدى في سائر الوطن العربي. و قال هؤلاء بأنه ينبغي تحديث الدوافع المحركة للمسعى الأميركي الجديد في العراق وجواره العربي (45).


وفي الأحوال كافة، لا بد من العمل اليوم على تحييد الخصوصيات الأيديولوجية عن مسار العمل العربي المشترك، وتجنب التموضع الأيديولوجي، الذي من شأنه أن يعصف بهذا العمل، على النحو الذي شهدته المنطقة في العقود الخمسة الماضية.


وبالتوازي مع الحسابات العربية، حثت الولايات المتحدة على جعل العراق شريكاً إقليمياً في ترتيبات الأمن في الخليج (46).


وفي بيان صادر عن البيت الأبيض، في 27 شباط /فبراير 2009، قال الرئيس باراك أوباما: إن مستقبل العراق ومصيره لا ينفصل عن مصير الشرق الأوسط. وقد آن الأوان كي يصبح  شريكاً كاملاً في حوار المنطقة، وأن يقيم معه جيرانه علاقات طبيعية ومثمرة (47).


أما وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، فقد صرح قائلاً أنه: "إذا كان العالم العربي يشعر بالقلق إزاء التأثير الإيراني، فإن معالجة ذلك تتم عبر مزيد من النفوذ العربي في بغداد, كإرسال المزيد من السفراء، وارتباط الدول العربيّة بترتيبات إقليميّة أمنيّة بشكل أوثق" (48).


وبالطبع، هناك اليوم مصلحة أميركية واضحة في دمج العراق في محيطه العربي، وذلك بهدف الحد من النفوذ الإيراني فيه، والدفع باتجاه تحسين بيئته الأمنية، التي تضمن انسحاباً أميركياً محمود العواقب.


ومن منظور الرؤية الواقعية، ليس ثمة ضير في تقاطع المصلحة العربية في العراق مع حسابات الولايات المتحدة، أو أية قوة دولية أخرى. وهذه قضية يجب أن تكون حاضرة في أية مقاربة إقليمية خاصة بالعراق. وهذا الأمر ينطبق على الحديث عن فرص الدور المصري في العراق.





الصدام المصري الإيراني يمكن أن يتحوّل، بقليل من التطوّرات غير الجوهرية، إلى عبء على الخليجيين أنفسهم.
وبالعودة إلى أصل مقاربة الدور المصري في الخليج، فإن ما يمكن قوله ختاماً هو أن مصر تحتفظ في هذا الإقليم بحجم كبير ومتعاظم مما يمكن وصفه بتفاعلات الأمر الواقع الطبيعي، التي خلقتها الجغرافيا والتاريخ والتداخل البشري. وهذا النسق من التفاعلات، الذي يتجلى في الدبلوماسية اليومية، والتجارة والاقتصاد، والتعاون المدني بصنوفه المختلفة، لا يرتبط في جوهره بنمط الخيارات السياسية والأيديولوجية السائدة في مصر أو الخليج، بل هو غالباً ما يتسق اتساقاً إرادياً مع دور محدود لتحولات السياسة والعلاقات الثنائية. وينطبق هذا الأمر على دول الداخل الخليجي، كما على العراق، وإن بدرجة أقل.

في المقابل، لم يعثر الدور المصري في الخليج على معطى استراتيجي يرتكز عليه في معادلة النفوذ، فمصر لا تمثل في الإقليم اليوم دور القوة الضامنة ولا الموازنة. وهي في الوقت ذاته ليست عضواً في أية ترتيبات للأمن، ولا وجود لها في هياكل العمل الخليجي المشترك. كما لا ينظر إلى مصر كقوة داعمة لخيارات أمنية أو كمصدر للتسليح، أو جسراً وسيطاً بين الخليج وقوى عالمية معينة أو منظمات إقليمية.


وفوق ذلك كله، فإن مصر لا تنهض بدور فرعي أو رديف في إطار إستراتيجية كونية محددة في هذه المنطقة.


وهذا الغياب، الذي يمكن وصفه على نحو مجمل بالغياب الهيكلي، يُمثل المعضلة الأكثر جوهرية في مقاربة الدور المصري في الخليج.


المعضلة الأخرى في هذه المقاربة تتجلى في رهان القاهرة على الصدام السياسي مع طهران، والنظر إليه كأحد مقومات شرعية نفوذها في الخليج. فهذا الرهان يصعب التعويل عليه، حتى في المدى المتوسط، أو الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة. بل إن الصدام المصري الإيراني يمكن أن يتحوّل، بقليل من التطوّرات غير الجوهرية، إلى عبء على الخليجيين أنفسهم.
_______________
باحث خليجي متخصص في الشؤون الإستراتيجية والدفاعية






المصادر
1- عبد الجليل زيد المرهون، أمن الخليج بعد الحرب الباردة ، دار النهار للنشر ، بيروت 1997 ، ص 379
2- لإطلالة وافرة على طبيعة العلاقات الاقتصادية بين مصر ودول الخليج، وماهية تأثيرها على السياسة الخارجية المصرية.أنظر:
Gil Feiler, Economic Relations between Egypt and the Gulf Oil States, 1967-2000, Sussex Academic Press, Sussex (UK), November 2003 
3- Benantar, Abdennour, EGYPT AND THE WAR ON IRAQ: IMPLICATIONS FOR DOMESTIC POLITICS, Journal of Third World Studies, Association Of Third World Studies (ATWS),Spring 2007, at: Click here.
4- ربيع شاهين، ناظر: العلاقات المصرية - السعودية متميزة.. ولا تنافس بين البلدين، بوابة الأهرام، 4 كانون الثاني يناير 2011
5- George Friedman, Egypt and the Destruction of Churches: Strategic Implications, STRATFOR global intelligence, January 4, 2011, at: Click here.
6- Strengthening the U.S.-Egyptian Relationship,(A CFR Paper),Council on Foreign Relations Press, May 2002, at: Click here.
7-  Ibid.    
8- MICHAEL SLACKMAN, MEMO FROM RIYADH: Influence of Egypt and Saudi Arabia Fades, The New York Times, November 10, 2009, at: Click here.
Iraq Prime Minister Visits Egypt and Iran
9- ALASTAIR CROOKE, Egypt's Waning Influence, The New York Times, June 9, 2010,at: Click here.
10 -Wm. Millward,Egypt and Iran: Regional Rivals at iplomatic Odds, Canadian Security Intelligence Service ( CSIS), Commentary No. 22, May 1992, at: Click here.
11- WILLIAM E. SCHMIDT, AFTER THE WAR: Egypt; Egypt's Leader Says Postwar Security Is Up to Arabs Alone, The New York Times, March 04, 1991, at: Click here.
12-Wm. Millward,Egypt and Iran: Regional Rivals at Diplomatic Odds, , Op.Cit.    
13-Ibid .   
14- مبارك: وصلنا  إلى مرحلة خطيرة بسبب أخطاء عديدة أهمها غزو الكويت،" جريدة الأهرام" ،20 مارس 2003.
15- المصدر نفسه
16- Benantar, Abdennour, EGYPT AND THE WAR ON IRAQ: IMPLICATIONS FOR DOMESTIC POLITICS, , Op.Cit.
17- القاهرة تنفي وقائع عن حرب العراق نسبها بوش إلى الرئيس مبارك في مذكراته، أ ف ب، 21 تشرين الثاني نوفمبر 2010. إضغط هنا
18-  المصدر نفسه.  
19-  المصدر نفسه.
20- Jeremy M. Sharp, Egypt: Background and U.S. Relations, Congressional Research Service, Washington, September 2, 2009, at: Click here.
21- Ibid.   
22- JOHN KIFNER, Egypt Breaks All Diplomatic Ties With Iran, The New York Times, May 15, 1987, at: Click here.
23- DANIEL BYMAN, How to Handle Hamas, The  Click here.New York Times, August 25, 2010, at
24- MICHAEL SLACKMAN, Possibility of a Nuclear-Armed Iran Alarms Arabs, The New York Times, September 30, 2009, at: Click here.
25- YAAKOV KATZ, Iran smuggled hundreds of rockets to Gaza in 2010, The Jerusalem Post, December 30, 2010, at: Click here.
26- Ibid.
27- Jeremy M. Sharp, Egypt: Background and U.S. Relations, , Op.Cit.
28- Ibid. 
29- Ibid. 
30- Ibid. 
31- DAVID E. SANGER, Debate Grows on Nuclear Containment of Iran, The New York Times, March 13, 2010,at: Click here.
32- Ibid.
33- Ibid.
34- SECURITY COUNCIL IMPOSES ADDITIONAL SANCTIONS ON IRAN, VOTING 12 IN FAVOUR TO 2 AGAINST. WITH 1 ABSTENTION, THE UNITED NATIONS SECURITY COUNCIL ,SC/9948, Resolution 1929 (2010),  6335th Meeting,June9, 2010, at Click here.
35-  NEIL MacFARQUHAR, U.N. Is Set to Vote on Iran Sanctions, The New York Times, June 8, 2010, at Click here.
36- COLIN DUECK and RAY TAKEYH, Iran’s Nuclear Challenge, POLITICAL SCIENCE QUARTERLY, The Academy of Political Science, Volume 122 , Number 2 ,Summer 2007, at: Click here.
37- WILLIAM J. BROAD and DAVID E. SANGER, U.S. Is Pushing to Deter a Mideast Nuclear Race, The New York Times, May 2, 2010,at: Click here.
38- WILLIAM POTTER and GAUKHAR MUKHATZHANOVA, Nuclear Phobia, The New York Times, September 22, 2010, at: Click here.
39- Egypt considering nuclear arms if Iran gets them, Fox News, December 02, 2010, at:  Click here.
40- Ibid.
41- WILLIAM POTTER and GAUKHAR MUKHATZHANOVA, Nuclear Phobia, Op.Cit.
42- Ibid.
43- Aram Nerguizian, Turkish-Arab Economic and Military Cooperation: How Far Will it Go?, The Carnegie Endowment for International Peace, DECEMBER 15, 2010. Click here.
44- Sean Foley,TURKEY AND THE GULF STATES IN THE TWENTY-FIRST CENTURY, The Middle East Review of International Affairs (MERIA), Volume 14, No. 3 - September 2010, at: Click here.
45- JOHN LELAND, Iraq Prime Minister Visits Egypt and Iran, The New York Times, October 20, 2010, at: Click here.
46- Fouad Ajami, Iraq and the Arabs' Future, Foreign Affairs, Volume 82, Number1 ,January/February 2003, at: Click here.
47- Loveday Morris, Gates calls for GCC to embrace Iraq, The National ( UAE), December 13. 2008, at: Click here.
48- U.S. Defense Strategy to Responsibly End War in Iraq. Highlights three-part strategy to end U.S. combat mission, THE WHITE HOUSE, Office of the Press Secretary, February 27, 2009, at: Click here.

ABOUT THE AUTHOR