السودان ورياح الثورات العربية

السودان يستشعر الحاجة للتغيير مثل باقي الدول العربية، ويتنازعه اتجاهان، يدعو الأول إلى التوافق مع النظام القائم، والثاني إلى التخلص منه.







الجزيرة

المسلمي الكباشي


السودان: تاريخ من الثورات المجهضة
السودان: وضع ثوري

النظام: من النكران إلى الاعتراف

موقف المعارضة: الشك في النظام

مخاطر سيناريو الثورة


ما مدى الاستجابة السودانية لتداعيات المد الثوري الذي يجتاح المنطقة العربية، والرياح السياسية العاصفة التي أطاحت بنظامين عربيين يعتبران  من أعتى الأنظمة وأكثفها إحاطة أمنية، هما النظامان المصري والتونسي، ويترنح نظامان آخران هما الليبي واليمني، ويهتز العرش السوري تحت وقع ذات العنفوان الثوري، واندلعت تظاهرات في عدة دول عربية أوقعت ضحايا كما في الجزائر والمغرب والبحرين وموريتانيا؟ فالثورة تنتقل من بلد عربي إلى آخر بإيقاع متسارع.

لكن الأوضاع في السودان  تبدو ساكنة نسبيا إذ جرت عدة محاولات للدعوة للتظاهر دون أن تجد استجابة، فهل تختلف الظروف الموضوعية في السودان عنها في البلدان العربية؟ أم أن شروط الثورة السودانية لا تزال خارج الفعل؟








السودان: تاريخ من الثورات المجهضة


الذاكرة النضالية المعاصرة للشعب السوداني غنية بممارسة الفعل الثوري المفضي إلى الإطاحة بالأنظمة السياسية. ففي التأريخ السياسي للسودان ما بعد الاستقلال الذي تم في يناير/كانون الثاني 1956م , أنجز الشعب السوداني ثورتين شعبيتين أطاحتا بالأنظمة السياسية العسكرية. الأولى كانت في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1964م، حيث اندلعت الثورة ولم تتوقف التظاهرات حتى استسلم الرئيس الفريق إبراهيم عبود الذي جاء إلى السلطة  بانقلاب عسكري في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1958م، وسلّم السلطة إلى المدنيين دون خسائر كبيرة سوى استشهاد القرشي الطالب في جامعة الخرطوم, والذي أصبح من بعد ذلك إيقونة نضالية ألهبت وألهمت المشاعر الثورية لجيل ما بعد أكتوبر.




الذاكرة النضالية المعاصرة للشعب السوداني غنية بممارسة الفعل الثوري المفضي إلى الإطاحة بالأنظمة السياسية. ففي التأريخ السياسي للسودان ما بعد الاستقلال الذي تم في يناير/كانون الثاني 1956م , أنجز الشعب السوداني ثورتين شعبيتين أطاحتا بالأنظمة السياسية العسكرية
والثورة الثانية، هي التي أطاحت بنظام الرئيس جعفر نميري في السادس من أبريل/نيسان 1985م، حيث انحاز الجيش السوداني إلي الجماهير الثائرة، وتسلّم قائده العام المشير عبد الرحمن  سوار الذهب السلطة شراكة مع مجلس وزراء من المدنيين برئاسة رئيس نقابة الأطباء يومها الدكتور الجزولي دفع الله. وقد أعادت  الحكومة الانتقالية السلطة إلى حكومة منتخبة بعدما امتدت فترة الانتقال لعام واحد.

القوى السياسية الرئيسة التي أنجزت ثورة أكتوبر/تشرين الأول كانت الاتحادات الطلابية والنقابات والأحزاب السياسية. فالثورة اندلعت من جامعة الخرطوم بعد ندوة نظمها إتحاد الطلاب، وخاطبها حسن الترابي القيادي الشاب في الحركة الإسلامية يومها، وتفاعلت معها القوى الحزبية والنقابية التي كانت جميعها تعيش قمة عنفوانها.

فالأحزاب السياسية التقليدية ممثلة في حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي اللذين نشآ على وقع النضال ضد الاستعمار في منتصف الأربعينات, لا يزالان يومها مقبلين على الحياة بدفع إنجاز مهمة التحرير، وبآمال خضراء في مواجهة تحدي التعمير. والأحزاب السياسية اليسارية الأممية والعروبية تتماهى حينها  في تيه شبابها مع المد اليساري الدولي والعربي ،الذي كان يملأ الأفق السياسي العالمي والإقليمي.

والحركة الإسلامية أخذت تتلمس طريقا مفعمة بالإرث الليبرالي السوداني، مستفيدة من ظروف ما بعد الاستعمار. والحركة الطلابية والنقابية لا تزال فتية تملأ أشرعتها مناخات التحرر الوطني. ولكن كل ذلك لم يمكّن القوى السياسية التي أطاحت بالنظام العسكري  في أكتوبر/تشرين الأول 1964م من تأسيس نظام ديمقراطي قابل للحياة، ليس فقط من جراء التحدي السوداني الداخلي الذي كانت مشكلة الجنوب أقوى مظاهره، ولكن أيضا بأثر رياح  الانقلابات العسكرية  التي هبت على العالم العربي بعد الاستقلال. ولم تكن الأحزاب اليسارية سواء الشيوعي منها أو العروبي، بحكم تكويناتها الفكرية وما تتأثر به من مناخ إقليمي يومها، ذات اهتمام جوهري باستمرار  النظام الديمقراطي وقد نفذ صبرها عليه.

ولهذا سارع تحالف من هذه الأحزاب بالاشتراك مع ضباط من الجيش ذوي توجهات مختلفة أغلبها يسارية بالسطو في الخامس والعشرين من مايو/أيار 1969م على النظام الديمقراطي الذي نشأ عن ثورة أكتوبر. واعتلى السلطة يومها العقيد جعفر نميري الذي حكم السودان على أسس شمولية لمدة ستة عشرة عاما. ثم أطاحت به الثورة الشعبية الثانية, ثورة أبريل/نيسان 1985م.

وكانت الأحزاب اليسارية أولى ضحايا نظام النميري  بعد الاختلاف بينها وبين العسكر في إدارة شئون البلاد، ومحاولاتها تدبير ثورات تصحيحية بحكم العنف الذي واجهت به السلطة العسكرية تلك الثورات، ولكن  القوى التي صنعت أكتوبر/تشرين الأول ظلت قادرة على الفعل حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، بما مكنها من تجديد روحها الثورية التي أفضت إلى ثورة أبريل/نيسان. ولكن تحديات السودان ذاتها وخاصة تحدي التمرد الذي تجدد، في مارس/آذار من العام 1983م، بقوة أكبر من سابقه برئاسة جون قرنق، والذي اكتسح مدن الجنوب في طريقه نحو الشمال، والمناخ الدولي والإقليمي المتصاعد في مناهضة النهوض الإسلامي, وفشل النظام الديمقراطي في تحسين الأوضاع المعيشية، واستشعار الحركة الإسلامية، المسماة الجبهة القومية الإسلامية، قوة ذاتية، كل ذلك  دفع بها للإطاحة بالنظام الديمقراطي بانقلاب عسكري في  30 يونيو/حزيران1989م ، ولما يمضي على الحكومة التي يرأسها الصادق المهدي والمنتخبة في أكتوبر/تشرين الأول 1986م أكثر من ثلاث سنوات. ومضت حتى يومنا هذا  22 سنة تحت ظل حكم الإنقاذ جرى فيها كثير من الماء تحت الجسر.






السودان: وضع ثوري





النظر الموضوعي لأوضاع السودان لا يجد اختلافا بين نظام السودان ونظرائه في البلاد العربية من حيث الشروط العامة لإنضاج الثورة

القوى الحزبية التي كانت قوة الدفع في ثورات أكتوبر وأبريل أصابها كثير من الإضعاف الممنهج بفعل الضربات الأمنية والسياسية التي وجهها إليها النظام القائم، كما أصابها الوهن بفعل الزمن وابتعادها عن ممارسة السلطة لسنوات بحيث انقطعت خبرات ممارسة الحكم عن أجيالها الجديدة. أما النقابات فقد أجرى عليها الحزب الحاكم تبدلات بنيوية، فتم تغيير طبيعتها من نقابة المهنة التي تجتمع عضويتها على مصالح مهنية إلى نقابة المنشأة التي تجمع تحتها المهن المختلفة في المنشأة الواحدة دون رابط مصلحي مهني يجمع بين أعضائها.

ثم سيطر الحزب الحاكم عليها بعد غياب القيادات التاريخية لهذه النقابات بفعل الفصل السياسي من العمل أو بلوغهم الشيخوخة. وجرت على الاتحادات الطلابية ذات الممارسات التي أفقدت  المعارضة السيطرة على الجامعات ومكّنت الحزب الحاكم من السيطرة على معظمها.

ولكن مقاربة ما يجري في السودان مع الثورات العربية لا صلة وثيقة بينه وبين كل الحديث عن الظروف التاريخية التي أنتجت الثورات السودانية، إذ لم تكن الطاقة التي كانت تقف بشكل رئيس وراء الثورات العربية الأحزاب ولا النقابات، فالأحزاب السياسية والنقابات في البلدان العربية التي هبت فيها رياح الثورة ليست بأفضل حالا من السودانية، ولكن  القوة الثالثة الشبابية التي تتخذ من التفاعل على شاشات الإعلام الإلكتروني أسلوبا في التخطيط والتعبئة والتحشيد، وهي وسيلة متاحة للجميع بما فيهم شباب السودان، هي التي فجّرت الثورات.

على أن رغم من إعلان عدد من قادة النظام اختلاف الأوضاع في السودان عما هي عليه في البلدان العربية على سنة النظم التي طالها التغيير، حيث لم ير مبارك شبها بينها وبين تونس بن علي، ولا يجد نظام القذافي قرائن تجمعه بالتونسيين والمصريين، ويرى علي عبد الله صالح أن اليمن شرق لا يجتمع بالغرب، إلا أن النظر الموضوعي لأوضاع السودان لا يجد اختلافا بين نظام السودان ونظرائه في  البلاد العربية من حيث الشروط العامة لإنضاج  الثورة.

1- طبيعة النظام السياسي تقوم على الحزب الواحد المسيطر على مقدرات الحكم منذ اثنين وعشرين  عاما ( يونيو/حزيران 1989)، وترتب على ذلك كل مقتضيات التحكم والاستمرار في مختلف مفاصل الحكم والدولة.   
2- تحكم اقتصادي شبه محكم، فالمقدرات العظمى للثروة القومية في قبضة دولة الحزب أو حزب الدولة دون تحقيق نقلة نوعية في طبيعة الاقتصاد الوطني تعمم الفوائد على الجميع، وتحصّن الحاكمين من غضب الناس. إذ بالرغم من النقلة الكبيرة  التي حدثت في البنية التحتية بازدياد معدلات إنشاء المشروعات القومية وخاصة الطرق والجسور والسدود إلا أن انعكاس ذلك على حياة الناس لا يزال ضعيفا حيث الهزال الظاهر للخدمة العامة التعليمية والصحية وغيرها، وازدياد كبير  في نسبة العاطلين عن العمل بالرغم من اتساع قاعدة التعليم العالي.  وتراجع أسعار صرف العملة الوطنية، وتدهورالأوضاع المعيشية.
2- صحب التحكم الاقتصادي فساد واسع في أجهزة الدولة، حسب عدد من المصادر، وفى القطاعات الاقتصادية عموما حيث يقوم توزيع الثروة، والفرص المدرة لها على أسس الولاء السياسي، وتأسست على ذلك طبقة اجتماعية سياسية توصف بالانتماء إلى نظام الحكم.
3- انفراد الحزب الحاكم بالسيطرة على مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية وما يستتبع ذلك من هيمنة إعلامية، إذ يستحوذ حزب المؤتمر الوطني  الحاكم على الأجهزة الإعلامية الرسمية بدرجة كبيرة، ويتحكم في هامش الحريات الصحفية لوسائل الإعلام الأخرى، حيث يتسع هذا الهامش ويضيق وفقا لرؤيته السياسية، وتقف خلف ذلك سيطرة أمنية متعددة الأجهزة ومتسعة النطاق الأفقي والرأسي.
4- إضافة إلى أزمات تمسك بخناق البلاد، فالجنوب انفصل في مناخ عدائي محتشد بالأزمات كما في أبيي والحدود والنفط وغيرها من قضايا فك الارتباط بين الدولتين الشمالية والجنوبية، ولا تزال تتعثر بقية أجندات اتفاقية السلام خاصة في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق اللتين تواجهان استحقاق المشورة الشعبية. ودارفور لا تزال أزمة مفتوحة على الاحتمالات كافة، وخاصة ذات الطبيعة السياسية الجنائية مثل الموقف من محكمة الجنايات الدولية التي تطلب رأس الدولة وعددا من قياداتها.

إذن تتوفر عوامل  الاحتقان السياسي، وهي ذاتها  محفزات التحرك الثوري.






النظام: من النكران إلى الاعتراف


في البدء اتسمت وجهة نظر النظام إلى ما يجرى حوله بكثير من المكابرة، فمن حيث التغيير الثوري الذي اجتاح البلدان العربية يرى كثير من سياسي النظام أنهم هم من ابتدروا الثورات العربية قبل أكثر من عشرين عاما وأنجزوا التحول الذي تسعى إليه الثورات اليوم، غير أن الموقف، تحت دفع الثورات وتداعيات  الضغط السياسي، أخذ في التغير، حيث نشط حراك سياسي داخل الحزب الحاكم يستشعر ضرورة الاستجابة لهذه الثورات والاعتراف بتوافر ظروفها، فقد  أدار شباب الحزب وقطاعاته الأخرى النسوية والعمالية حوارا مع الرئيس، أشارت المعلومات التي تسربت منه بأنه كان صريحا، وضع فيه المحاورون أمام الرئيس كل ما يتردد عن الفساد، والضعف السياسي والاقتصادي، ثم تلا ذلك وجهات نظر قوية من قياديين في حزب المؤتمر، مثل الدكتور أمين حسن عمر وزير الدولة برئاسة الجمهورية الذي كتب مقالات بعنوان( التغيير مطلوب الساعة)، أشار فيها إلى ضرورة أن" يبدي المؤتمر الوطني انفتاحا على التغيير ليس السياسي أو التنفيذي فحسب بل والدستوري".





إن الموقف، تحت دفع الثورات وتداعيات الضغط السياسي، أخذ في التغير، حيث نشط حراك سياسي داخل الحزب الحاكم يستشعر ضرورة الاستجابة لهذه الثورات والاعتراف بتوافر ظروفها، فقد أدار شباب الحزب وقطاعاته الأخرى النسوية والعمالية حوارا مع الرئيس، أشارت المعلومات التي تسربت منه بأنه كان صريحا، وضع فيه المحاورون أمام الرئيس كل ما يتردد عن الفساد

وفي ذات السياق، قال الدكتور محمد محجوب هارون عضو المؤتمر الوطني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم:" إن السودان ليس جزيرة معزولة في محيط متحول، وفي وسع التيار الإنقاذي أن يقود التحول أو أن يدفع ثمنه". ويبدو أن هذا وذاك دفع بأهمية الاستجابة لدواعي التغيير الذي لا يعلم احد مداه من حيث العمق والاتساع.

تغير الخطاب الحكومي تجاه موضوعة الفساد حيث كان الرد الرسمي أن من يدَّعون وجود للفساد عليهم توفير أدلتهم والاتجاه بها إلى المحاكم، غير أن الاستجابات الأخيرة جاءت من خلال إعلان الرئيس السوداني الرغبة الحكومية في تأسيس مفوضية لمكافحة الفساد. ونشط النائب العام وزير العدل في تحريك دائرة مكافحة الثراء الحرام، وتفصيل إجراءات إبراء الّذمة المالية للمسئولين لمنع استشراء الفساد.

ومع تزايد مساحة النقد الصحفي والسياسي الموجه للفساد ركبت الحكومة ذات الموجة، حيث أعلن نائب رئيس الجمهورية، علي عثمان طه، أن الدولة أعلنت الحرب على المحسوبية في الخدمة المدنية. وأعلن رئيس الجمهورية تصفية 27 شركة حكومية مملوكة للدولة بما يوحي بالتنبه إلى حجم الفساد الذي يمكن أن ينشأ عن تدخل الدولة في التجارة. وأصدر البرلمان تقريرا أقر فيه على غير العادة بفساد كبير في بذور  محصول عبّاد الشمس الذي أدى إلى فشل الموسم الزراعي 2008م -2009م، وأدان التقرير وزارة الزراعة، والبنك الزراعي وشركات بعينها.

ثم طرحت مفوضية الأمن القومي التابعة لرئاسة الجمهورية مبادرة للحوار الوطني، تتفق عبره مختلف القوى الحاكمة والمعارضة على الإجابة على سؤال كيف يحكم السودان؟ وأن يكون الحوار استجابة للتحولات التي تحدث في السودان على خلفية انفصال الجنوب، وما يأتي به ذلك من تغيير في المقدرات الجغرافية السياسية والهوية وغير ذلك. واختلفت استجابة القوى السياسية لما تطلبه مستشارية الأمن القومي، حيث قبلتها من حيث المبدأ أحزاب هامة مثل حزب الأمة والاتحاد الديمقراطي ولكن رفضتها  أحزاب مثل  الشيوعي والشعبي.






موقف المعارضة: الشك في النظام


انخرط حزب الأمة القومي برئاسة الصادق المهدي في حوار مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بحثا عن اتفاق حول قضايا يسميها المؤتمر الوطني توحيد القوى القومية، وتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة، ويسميها حزب الأمة قضايا التحول الديمقراطي، مثل حكومة قومية لا يستثنى احد من المشاركة فيها، تقود فترة انتقالية تعمل على إعادة تشكيل قوى السلطة، مثل القوات النظامية والخدمة المدنية وتحل مشكلة دارفور وتجري انتخابات ديمقراطية.

غير أن القوى السياسية المعارضة الأخرى في تحالف المعارضة لا ترى ما يمكن جنيه من هذا الحوار، ولا ترى إمكانية أن يقدم المؤتمر الوطني تنازلات هامة  تمكن من التحول الديمقراطي الشامل الذي يفقده الاستئثار بالسلطة، ولهذا لا ترى غير سبيل إسقاط النظام بقوة الشارع.

وكل ذلك مرده إلى غموض الموقف التفاوضي للمؤتمر الوطني، ومدى قدرته على الاستجابة لمطالب المعارضة. وهذا ليس فقط رؤية المعارضة تجاه الحزب الحاكم بل ربما ما يرى بعض قادته، فقد طالب د.أمين حسن عمر، وزير الدولة برئاسة الجمهورية، المؤتمر الوطني بضرورة تجاوز حالة الغموض: "يتوجب على المؤتمر الوطني أن يخرج من الإبهام فيما يعرض إلى الموضوع والتحديد، فعالم السياسة مثل عالم الأعمال والتجارة لا تنجح فيه صفقة ما لم تتضح معالمها وأركانها والتزاماتها واستحقاقاتها".

وبالرغم من أن منطق حزب المؤتمر الوطني أن مشروعيته تستند على تفويض شعبي عبر انتخابات عامة جرت في ابريل/نيسان من العام الماضي، إلا أن الدكتور أمين حسن عمر يرى:" أن الانتخابات والاقتراع الجماهيري وحده ليس كافيا لتحقيق الوئام السياسي"، إذا لم تعترف المعارضة بنتائج الانتخابات وتعتبرها مزورة.





القوى السياسية المعارضة الأخرى في تحالف المعارضة لا ترى ما يمكن جنيه من هذا الحوار، ولا ترى إمكانية أن يقدم المؤتمر الوطني تنازلات هامة تمكن من التحول الديمقراطي الشامل الذي يفقده الاستئثار بالسلطة، ولهذا لا ترى غير سبيل إسقاط النظام بقوة الشارع.

القوة الثالثة: تأثير محدود

شباب اختلفت مسمياتهم مثل حركة (شرارة ) وحركة ( قرفنا ) وغيرها، دعت عبر الفيس بوك وغيره من مواقع الإعلام الاجتماعي إلى تظاهرات حددت موعدها دون أن تحدد أمكنتها بهدف إسقاط النظام،غير أن الدعوة لم تحقق أهدافها، إذ كانت الاستجابة أضعف من أن ترتقي إلى مستوى الفعل المعارض الفعّال من ناحية المشاركين.

كما أن أجهزة الأمن تعاملت معها بعنف كبير وأحاطتها بسياج كثيف من الاتهامات، حيث قالت إنها تأتي في سياق تخطيط مشترك بين أحزاب المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي وحركات دارفور المسلحة، وأن هناك خلايا نائمة من هذه الحركات المسلحة تنتظر انطلاق التظاهرات لاستغلال الظرف والقيام بعمليات عنيفة بقوة السلاح لإدخال البلاد في فوضى تمكن الأحزاب المعارضة من الانقضاض على السلطة، وأضافت الأجهزة الأمنية أن ذلك مدفوع بتآمر خارجي خطط ومَوّل مشروع الفوضى في السودان. لم تبين إلى الآن مجموعات الفيس بوك قدرة على التماسك والتخطيط توحي بإمكانية التفجير السياسي للأوضاع في السودان.






مخاطر سيناريو الثورة


وهناك وجهات نظر أخرى متنوعة من حيث التنظيم والولاء السياسي لكنها تتفق في أن الحالة السودانية تشابه البلدان العربية التي أنجزت ثوراتها، من حيث الحاجة إلى الثورة، ولكنها تنفرد بوضع مختلف يقتضي التركيز على ضرورة التغيير الناعم، الذي يتجنب الثورة.




الثورة في ظل هذا المشهد ربما تفضي إلى أوضاع يصعب التحكم فيها، ويمكن أن تفلت من الجميع، وتؤدي إلى تصدع وطني يصعب لملمة أطرافه من بعد. وهذا ذات المنطق الذي يسوقه حزب الأمة برئاسة الصادق المهدي في تبرير حواره مع المؤتمر الوطني
فالأوضاع في تونس أو مصر، حسبهم، تقوم على دولة مركزية، شديدة التماسك القومي على غير الوضع في السودان الذي يواجه مهددات التماسك القومي في محاور عديدة، حيث العلاقة المتوترة مع دولة الجنوب الوليدة على خلفية أزمة أبيي وغيرها من قضايا فك الارتباط بين الدولتين، والأوضاع الهشة في مناطق جبال النوبة، والنيل الأزرق، بالإضافة إلى أزمة دارفور المتطاولة.

وحسب رأي هؤلاء فإن الثورة في ظل هذا المشهد ربما تفضي إلى أوضاع يصعب التحكم فيها، ويمكن أن تفلت من الجميع، وتؤدي إلى تصدع وطني يصعب لملمة أطرافه من بعد. وهذا ذات المنطق الذي يسوقه حزب الأمة برئاسة الصادق المهدي في تبرير حواره مع المؤتمر الوطني، إذ عنده أن البديل للحوار هو الثورة على الطريقة الليبية واليمنية، حيث يرى أن الجيش في السودان مؤدلج  بما يعني ثورة حمراء.

السودان أمام لحظة الحقيقة
إن الذاكرة النضالية لشعب السودان لا تزال حية، وربما أدى فشل ثوراته في القرن الماضي إلى ذهاب حلمه بعالم سعيد، ولكن فشل النظام الذي أعقب آخر  الثورات ربما يجدد أشواق السودانيين إلى ثورة جديدة، فبعضهم يرى الثورة في نفس السوداني كنار المجوس تظل مشتعلة بلا نهاية. وبالنتيجة فإن  شعب  السودان لا يختلف عن غيره من البلدان العربية، فهو في حاجة إلى التغيير الفوري سواء على الطريقة الثورية أو عبر التراضي الوطني الذي يؤسس  نظاما سياسيا تعدديا، يحدد فيه الجميع قواعد اللعبة ويلتزمون بها.

وإذا لم يتم التوصل إلى هذا التوافق الآن فإن السودان سيواجه تطورات لن يستطيع احد التحكم في نتائجها . ولن يجدي شيئا دعوة النظام إلى الاحتكام إلى صندوق الانتخاب دون شراكة الجميع في تهيئة الملعب الديمقراطي، وهو ما تحتج به المعارضة التي ترى أن المؤتمر الوطني يدعوها إلى منازلة لم تكن جزءًا من تهيئة ميدانها.
_______________
مدير مكتب قناة الجزيرة –الخرطوم





ABOUT THE AUTHOR