الدور القادم للمؤسسة العسكرية في تونس

وضعت الثورة التونسية بعد نجاحها الجيش في وضع لم يعد معه ذالك الجيش "المحايد" كما أراد له بورقيبه وبن علي لكنه أيضا لم يصل أو لن يصل إلى مستوى المشاركة في صنع القرار السياسي خلافا لما يجرى في دول عربية.







 

كمال بن يونس


من بين أكثر الأسئلة إلحاحا التي تطرح في الكواليس وفي عديد الفضاآت السياسية في تونس وخارجها منذ الإطاحة ببن علي يوم الجمعة 14 يناير /كانون الثاني 2011: ما الدور القادم للمؤسسة العسكرية التونسية؟ وهل ستعود قيادات الجيش إلى ثكناتها وتنسحب من الحياة السياسية فور استكمال مسار حفظ الأمن في المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد بسبب الفراغ السياسي المفاجئ الذي حدث في جل مؤسسات الدولة وما تسبب فيه من فلتان أمني وسياسي وإعلامي واجتماعي ونقابي؟ أم ستختار المشاركة في صنع القرار السياسي ولعب الدور المركزي فيه بعد أكثر من نصف قرن من "الحياد" تكريسا لإرادة بورقيبة وبن علي التي تقوم على عدم تشريك قيادات الجيش مباشرة في تسيير المؤسسات السياسية للدولة بخلاف ما جرى ولا يزال في دول عربية عديدة من بينها بقية الدول المغاربية (الجزائر والمملكة المغربية وموريتانيا وليبيا) ومصر؟





من بين ما يرجح سيناريو تفعيل الدور السياسي والأمني لمؤسسة الجيش الوطني في تونس ما بعد بن علي عامل "الشرعية الثورية" الذي أصبح يلعب لصالح قيادتها منذ الثورة.
وهل سيقبل الشعب التونسي الذي عانى من عقود طويلة من الاستبداد -في ظل الحكومات التي تعاقبت عليه منذ استقلاله عن فرنسا عام 1956- أن تصبح المؤسسة العسكرية الطرف الفاعل مستقبلا في السلطة التنفيذية في تونس ما بعد الثورة؟

ثم هل ستقبل المؤسسة الأمنية المدنية التي تضخم دورها السياسي وتشعب في عهد بن علي أن تنتقل إلى الصف الثاني لصالح قيادات الجيش؟


هذه التساؤلات ازدادت إلحاحا بعد بروز عدة مؤشرات عن الدور الحاسم الذي لعبه عدد من كبار قادة الجيش الوطني في الأيام والساعات الأخيرة من حكم بن علي، ثم في بعض المحطات السياسية والأمنية المفصلية بعد نجاح الثورة. وفرضت هذه التساؤلات بعدما برز من ترحيب في صفوف الأوساط الشعبية والإعلامية وكثير من القيادات والسياسية الحزبية بالحضور العسكري في الشوارع لعدة أسباب من بينها حالة الفراغ الأمني والهلع التي انتشرت في البلاد خلال الأيام التي تلت سقوط بن علي وتعاقب أعمال العنف وحوادث الحرق والاعتداءات على مئات من المحلات الخاصة وعلى مقرات الأمن ورموز سيادة الدولة محليا وجهويا ووطنيا.


رشيد عمار.. دور الجيش بعد الثورة
الشرعية الثورية وتعزيز دور الجيش
الصبغة المدنية للنظام
الفلتان الأمني والإعلامي


رشيد عمار.. دور الجيش بعد الثورة 


جاءت ترقية الجنرال رشيد عمار وتعيينه بأمر من الرئيس المؤقت فؤاد المبزع قائدا عاما للقوات المسلحة -مع الاحتفاظ بمنصب قائد عام لقوات البر- لتدعم فرضية تفعيل دور المؤسسة العسكرية سياسيا في المرحلة القادمة.


ودعمت حظوظ هذا السيناريو في أعقاب الزيارة التي وصفت "بالسرية" التي أداها القائد العام للقوات المسلحة وقائد أركان جيوش البر التونسية رشيد عمار إلى قطر بعد 4 أيام من زيارة نظيره القطري اللواء الركن حمد بن عيل العطية لتونس. وجلبت تحركات الجنرال رشيد عمار ومساعديه الانتباه، لتزامنها تحركات سياسية وعسكرية وأمنية إقليمية ودولية مهمة جدا في تونس ما بعد بن علي، بعضها في علاقة بالشأن التونسي والبعض الثاني بالأبعاد الجيو إستراتيجية من بينها ثورة ليبيا ثم الحملة العسكرية الأطلسية الخليجية المدعومة عربيا -وخاصة من قبل الدوحة وأبو ظبي- لتغيير النظام الحاكم في ليبيا.


وقد تساءل البعض لماذا أبرزت وسائل إعلام ومواقع اجتماعية تونسية وعربية ودولية هذه التحركات للقائد العام للقوات المسلحة بالرغم من كون رئيس الوفد العسكري المرافق له كان وزير الدفاع؟


في نفس الوقت وبالرغم من الخبرة السياسية الطويلة للسيد أحمد نجيب الشابي المحامي والوزير في أول حكومة بعد سقوط بن علي وزعيم الحزب الديمقراطي التقدمي والقيادي في عدة تيارات عروبية ويسارية ثم ليبرالية متصالحة مع الإسلام السياسي، فإنه تخلى عن "المجاملات السياسية" وأورد في المؤتمر الصحفي الذي برر فيه استقالته من الحكومة بالتجاوزات والأخطاء السياسية التي من شانها "أن تمهد لكي يتدخل الجيش ويمسك بمقاليد الحكم والتحضير لمرحلة سياسية جديدة مما سيفقد المؤسسة العسكرية ما عرفت به من حياد."


وقد أولت أطراف عديدة تصريح الشابي اهتماما خاصا لأنه لم يكن في الحكومة المؤقتة برئاسة الغنوشي مجرد ٍوزير للتنمية الجهوية بل واحدا من أبرز مهندسيها ورموزها السياسيين. والجميع يتذكر أن الشابي كان أول من دعا في الأسبوع الأخير من عهد بن علي إلى تشكيل حكومة تنفتح على المعارضة سماها البعض ائتلافية وآخرون الإنقاذ الوطني.


وقد لعب الشابي دورا مركزيا مع أحمد ابراهيم زعيم التجديد (الحزب الشيوعي سابقا) وقيادات نقابية عمالية -بينها الطيب البكوش الأمين العام الأسبق للاتحاد العام للشغل- في تشكيل تلك الحكومة وتعزيزها بمعارضين ونقابيين ومستقلين وفي اختيار عدد كبير من كوادر الدولة الذين عينوا في مواقع سياسية وإدارية مركزية مختلفة وطنيا وجهويا مباشرة بعد الثورة.


ولعل من أبرز التساؤلات في هذا الصدد تحذيرات أحمد نجيب الشابي من تصاعد الدور السياسي للجيش في مؤتمر صحفي لإعلان الاستقالة من الحكومة مجرد "موقف سياسي شخصي استباقي" أم رسالة للشعب وإلى صناع القرار السياسي في تونس من شخصية يفترض أن لديها معلومات مطلعة كما قد احتكت برموز الدولة في الأسابيع التي تلت سقوط بن علي ومن بينها رئيس الحكومة محمد الغنوشي ووزير الدفاع رضا قريرة ووزيري الداخلية في نفس الفترة أحمد فريعة ثم فرحات الراجحي.


والأهم هو أن الشابي ربط بين تحذيراته من تصاعد دور المؤسسة العسكرية وما وصفه "انصياع  الوزير الأول الجديد الباجي قائد السبسي ورئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع إلى "قرارات الخصوم السياسيين" ومن بينها "التخلي عن تنظيم انتخابات رئاسية والدخول مباشرة في الإعداد لانتخابات المجلس التأسيسي إضافة إلى عدم ترشح أعضاء الحكومة لهذه الانتخابات".


واعتبر الشابي أن هذه الإجراءات من شانها أن "تحيد عن الانتقال الديمقراطي الذي ينشده التونسيون ويؤسس لفراغ سياسي خطير في البلاد خاصة إذا علمنا أن الرئيس المؤقت لن يمدد في فترة رئاسية جديدة." بما يعني ضمنا الإشارة إلى أن بعض الجهات المؤثرة في القرار السياسي من بينها رموز المؤسسة العسكرية يمكن أن يكونوا وراء إحداث "الفراغ الدستوري والقانوني والسياسي" وحل البرلمان بغرفتيه والدستور حتى يلعبوا دورا حاسما بعد تجاوز مدة الشهرين التي رسمها الدستور القديم لرئيس الجمهورية المؤقت كي ينظم انتخابات رئاسية جديدة لا يكون طرفا فيها.


ومن بين ما أكد حرص الوزير المستقيل والمعارض البارز سابقا لبورقيبة ثم لبن علي على التحذير من الدور السياسي للجيش ما جاء على لسانه في تصريحات صحفية "تاريخية" فور استقالته من الحكومة. فقد صدرت عن شهادة من "داخل المطبخ السياسي" عن الأسابيع الأولى للثورة أن من بين الأمور التي كانت تقلقه زمن وجوده في الحكومة أن "أخطر القرارات السياسية" كانت تصدر دون علم رئيس الحكومة محمد الغنوشي وغالبية وزرائه. بما في ذلك قرارات فك اعتصام القصبة الأول بالعنف وقرار تجميد حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان يقال أن له أكثر من مليوني منخرط والذي أورد أنه صدر عن الجنرال رشيد عمار ووزير الداخلية (الذي أقاله الباجي قائد السبسي بعد أسابيع من توليه مقاليد الأمور في ظروف تحفظت عليها عدة أوساط سياسية وحقوقية) القاضي فرحات الراجحي ومختار الجلالي المعارض القومي العربي والبرلماني السابق ووزير الفلاحة في حكومتي الغنوشي والسبسي وزوج الكاتبة والمعارضة الشهيرة نزيهة رجبية "أم زياد".


الشرعية الثورية وتعزيز دور الجيش 





تعززت "الشرعية الثورية" للجيش التونسي بعد الإطاحة ببن علي بحكم الإعلان عن حالة طوارئ دامت شهرا أسندت خلاله مسؤولية إعادة الأمن في البلاد إلى القوات العسكرية أساسا.
ومن بين ما يرجح سيناريو تفعيل الدور السياسي والأمني لمؤسسة الجيش الوطني في تونس ما بعد بن علي عامل "الشرعية الثورية" الذي أصبح يلعب لصالح قيادتها منذ الثورة.

ويربط عديد المراقبين بين شعبية قيادة المؤسسة العسكرية وما أعلن عنه من "تحفظها على الإفراط في استخدام القوة ضد المتظاهرين المحتجين على الأوضاع الاقتصادية والسياسية في الأسابيع والأيام التي سبقت الإطاحة بزين العابدين بن علي" بما في ذلك يوم انتصار الثورة الجمعة 14 يناير /كانون الثاني بعد أن كلف الجنرال رشيد عمار بمهمة "منسق عام لقوات الأمن الداخلي" في وزارة الداخلية إلى جانب مهماته العسكرية فلعب مع كوادر الوزارة دورا في عدم تفريق المظاهرة الكبيرة التي نظمت يومها في الشارع الرئيسي للعاصمة (شارع الحبيب بورقيبة) ورفعت لأول مرة شعارات الإطاحة ببن علي وعائلته ودامت حوالي 6 ساعات ونقلتها الفضائيات ووسائل الإعلام العالمية مباشرة.


كما تعززت "الشرعية الثورية" للجيش التونسي بعد الإطاحة ببن علي بحكم الإعلان عن حالة طوارئ دامت شهرا أسندت خلاله مسؤولية إعادة الأمن في البلاد إلى القوات العسكرية أساسا. كما تأكد أن غالبية كبار المسؤولين وأقرباء بن علي الذين أوقفوا بعد فرار بن علي وقع الاحتفاظ بهم في ثكنة الجيش الوطني بالعوينة في قرطاج بالعاصمة ولم يودعوا السجن المدني أو مراكز الإيقاف التابعة لوزارة الداخلية. وقد أكدت هذه المؤشرات أن المؤسسة العسكرية أصبحت "لاعبا مهما" (أو الطرف الأهم) مباشرة بعد خلع بن علي واعتقال عضده الأمني الأول الجنرال علي السرياطي المدير العام للأمن لقوات الأمن الرئاسي منذ عشرة أعوام والمدير العام السابق لقوات الأمن الوطني في وزارة الداخلية والقائد العام الفعلي للمخابرات وكل الأجهزة العسكرية والأمنية طوال عقدين.


كما أكدت شهادات عدد من وزراء بن علي والمقربين منه بعد الثورة أن قيادات المؤسسة العسكرية شاركوا إلى جانب قيادات المؤسسة الأمنية ورموز متنفذة قديمة في النظام -مثل الهادي البكوش أول رئيس وزراء في عهد بن علي- في المشاورات التي جرت في الليلة الفاصلة بين 14 و15 يناير /كانون الثاني في مقر وزارة الداخلية بين محمد الغنوشي "رئيس الجمهورية بالنيابة" وفق الفصل 56 من الدستور بعد البلاغ الأول الذي أعلن عن "مغادرة بن علي "وحصول "شغور مؤقت في منصب رئاسة الجمهورية".


وكانت المشاورات والمقررات التي جرت ليلتها بحضور قيادة أركان الجيش والأمن وشملت مباشرة وعبر الهاتف "مرجعيات سياسية" للدولة -مثل حامد القروي الوزير الأول ونائب رئيس حزب التجمع الدستوري سابقا وسلفه الهادي البكوش- حاسمة في دفع محمد الغنوشي ورؤساء مجلسي النواب والمستشارين والمجلس الدستوري: فؤاد المبزع وعبد الله القلال وفتحي عبد الناظر، للحسم في موضوع خلع بن علي نهائيا ودعوة قائد الطائرة الرئاسية التي نقلته إلى جدة بالعودة فورا إلى تونس مع الطائرة، ثم دعوة المجلس الدستوري إلى إعلان بلاغ للشعب التونسي صباح السبت 15 يناير /كانون الثاني اعتبر "شغور منصب رئيس الجمهورية نهائيا" واعتمد الفصل 57 من الدستور وكلف رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع بمهمة رئيس جمهورية مؤقت.


ويعتقد البعض أن "الشرعية الثورية" للجيش دعمت بعد انتهاء المهلة الدستورية بشهرين التي يفترض أن تنظم خلالها انتخابات شعبية عامة لاختيار رئيس جديد. وحسب هؤلاء فإنه بالرغم من المحافظة على الصبغة المدنية للنظام من خلال الإعلان عن تمديد مهمة الرئيس المؤقت فؤاد المبزع وتعيين السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي رئيسا جديدا للحكومة، كرس عمليا تمديد إشراف المؤسسة العسكرية على الوضع الأمني والسياسي في البلاد خاصة بعد الإعلان رسميا يوم 18 مارس /آذار عن مصادقة مجلس الوزراء المؤقت على حل الدستور والبرلمان بغرفتيه والمجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي والاجتماعي في مرسوم صدر عن الرئيس المؤقت.


الصبغة المدنية للنظام 


لكن هل تعني هذه المؤشرات وغيرها صحة ما ذهب إليه ديبلوماسيون وإعلاميون ومراقبون غربيون عن فرضية تولي المؤسسة العسكرية ورئيس أركان الجيش التونسي الجنرال رشيد عمار تحديدا مهمة رئاسة البلاد؟


وهل يمكن أن تلعب المؤسسة العسكرية في تونس دورا سياسيا مماثلا للذي لعبته نظيرتها في تركيا والجزائر لاسيما في حال حدوث تمديد مرحلة "الفلتان الأمني والإعلامي والسياسي والحزبي" وتعمق المشاكل الاقتصادية والاجتماعية؟


وهل من الوارد أن تلعب القيادة العليا للجيش دور "البديل السياسي العلماني" لتيارات الإسلام السياسي عامة ولحركة النهضة خاصة، والتي تؤكد معطيات عديدة تزايد حظوظها بعد انهيار نظام بن علي وحزبه وتراجع دور المؤسسة الأمنية المدنية التي اعتمد عليها خلال ربع القرن الماضي؟


العديد من الخبراء القانونيين والدستوريين بينهم الأساتذة هيكل محفوظ -أستاذ القانون العام في الجامعة التونسية- والعربي عزوز -نائب رئيس منتدى ابن رشد المغاربي للدراسات بتونس- والبروفسور عبد السلام مغراوي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ديكه الأميركية، يستبعدون هذا السيناريو لأسباب كثيرة من أهمها ما تميزت به تونس عربيا وإقليميا من "حياد تام للمؤسسة العسكرية ويقظة ووعي المجتمع المدني الذي كرستها الحركة السياسية التونسية المدعومة بانتفاضة عارمة ثم بثورة شعبية غير مسبوقة في العالم العربي".


ويعتبر كثير من الخبراء القانونيين والدستوريين في تونس بينهم الخبير القانوني الجامعي الكبير الصادق بلعيد وقيس سعيد نائب رئيس الجمعية التونسية للقانون الدستوري أن "الجيش يحظى بتقدير كبير من قبل التونسيين وله فضل كبير في إعادة الأمن للبلاد وتأمين عملية الانتقال السياسي لكن المؤسسة العسكرية تلتزم إلى حد الآن احترام دستور البلاد الذي يمنع على الجيش التدخل في السياسة مباشرة، وهي وفية لتقاليدها في الحياد إزاء العملية السياسية".


كما نوه عدد من المختصين في الشؤون السياسية التونسية بكون "تقاليد الحياد عن تسيير الشأن العام السياسي والاقتصادي متجذرة لدى المؤسسة العسكرية في تونس منذ تأسيسها"، وسجلت أن تدخلها في الأحداث السياسية كان تاريخياً ومنحصراً في "إعادة الأمن دون التدخل مباشرة في الحياة السياسية" على غرار ما حصل بمناسبة اضطرابات 26 يناير /كانون الثاني 1978 العمالية الاجتماعية الدامية، و"ثورة الخبز" في يناير /كانون الثاني 1984، ثم بمناسبة حرب الخليج الثانية في يناير /كانون الثاني 1991. وكان الجيش يعود كل مرة إلى ثكناته. كما يحظى الجيش التونسي "بتقدير ومحبة التونسيين على نطاق واسع" بسبب "عدم تورط قياداته مباشرة في تسيير الحياة السياسية والإدارة المدنية أو في قضايا فساد اقتصادي، واختزال دوره على حماية أمن البلاد من المخاطر الخارجية وبعض المهمات المدنية مثل تشييد جسور وطرقات مشاريع تنموية ضخمة والتدخل في حالات الكوارث الطبيعية وقيامه بمهمات إنسانية أو حفظ السلام في الخارج في إطار الأمم المتحدة".


الفلتان الأمني والإعلامي 





يحظى الجيش التونسي "بتقدير ومحبة التونسيين على نطاق واسع" بسبب "عدم تورط قياداته مباشرة في تسيير الحياة السياسية والإدارة المدنية أو في قضايا فساد اقتصادي".
لكن حرص قيادات المؤسسة العسكرية تاريخيا على الحياد في الصراعات الحزبية والسياسية الداخلية لا يعني لا مبالاتها وحيادا مطلقا في بعض الملفات خاصة في هذه المرحلة التي تتميز عن سابقاتها بعناصر عديدة من بينها:

  • غياب رئيس دولة سياسي في حجم الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي أو رئيس حكومة في حجم الهادي نويرة ومحمد مزالي يمكن أن تتنازل المؤسسة العسكرية لفائدته عن دورها السياسي.

  • استمرار مظاهر الفلتان الأمني والإعلامي والركود الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية.

  • صعوبة حصول وفاق سياسي بين زعامات الأحزاب السياسية المعارضة سابقا حول شخصية تقود البلاد ونمط حكم المرحلة القادمة.

  • تزايد نفوذ تيارات الإسلام السياسي شعبيا مما يثير مخاوف قطاع عريض من النخب العلمانية في تونس وفي العواصم المؤثرة في القرار السياسي التونسي (وخاصة باريس وواشنطن وبروكسل) وفي المنطقة وداخل المؤسسات العسكرية والأمنية من سيناريو تحقيقها لانتصار ساحق في المحطات الانتخابية القادمة.

  • صعوبة التحكم بسهولة في ملفات الفساد المالي والسياسي التي تطالب غالبية القوى السياسية والشبابية بفتحها ومحاسبة المسؤولين عنها وهو ما يوشك أن يجر البلاد إلى سلسلة من عمليات الانتقام والثأر والفوضى وقد يتسبب في هروب كثير من رجال الأعمال التونسيين والأجانب بما سيتسبب في مضاعفة عدد العاطلين عن العمل من نصف مليون قبل الثورة إلى أكثر من مليون خلال الأشهر القادمة.

لكل هذه الأسباب وغيرها وإمام حالة الفراغ القيادي الذي تعيشه تونس إثر سقوط بن علي، وغياب شخصية سياسية بديلة تحظى بالإجماع، أعرب عدد من الخبراء بينهم الأدميرال جاك لانكساد، رئيس أركان الجيش الفرنسي السابق والسفير الأسبق في تونس، عن اعتقاده بأن "قرار قيادة الجيش التونسي رفض قمع الانتفاضة الشعبية، كان له أثر حاسم في سقوط الرئيس بن علي، ويمكن أن يكون لها دور العنصر السياسي والأمني الضامنً للاستقرار وتجاوز حالة الفوضى التي تشهدها البلاد".


وأضاف بأن "الشعب التونسي أظهر من خلال انتفاضته أنه لن يكون مستعداً لتقبل نظام استبدادي جديد بثوب عسكري".


وإذا كان"المجتمع الدولي لم يعد يقبل بقيام دكتاتورية عسكرية"، ودعا الحكومة الانتقالية في تونس إلى "فتح صفحة جديدة في البلاد عبر تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية"، فإن استبعاد سيناريو استلام الجيش لمقاليد الأمور في تونس لا يعني إقصاءه بل يعني أنه سيقوم بدور مهم مباشرة أو غير مباشرة "لضمان السير الحسن لعملية الانتقال السياسي الديمقراطي".


وقد يتدخل عامل مهم لصالح تفعيل دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية -وإن بقيت خلف الستار- وهو "التنافس (أو التناقض) القديم الجديد الذي حرص بورقيبة وبن علي على تعميقه بين المؤسسة الأمنية المدنية التابعة لوزارة الداخلية والمؤسسة العسكرية.


ومن بين ما يرجح هذا السيناريو أن الجيش لم يكن أبدا غائبا عن تسيير مراكز صنع القرار السياسي في تونس. فقد سعى بن علي ذو الخلفية العسكرية الأمنية المزدوجة منذ استلامه الحكم إلى "احتواء" التناقض فعين مبكرا الجنرال علي السرياطي ثم رئيس أركان جيش البر محمد الهادي بلحسين على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني في وزارة الداخلية. كم ربط بين استلام مناصب مدنية عليا في الدولة والمشاركة في دورات تدريب طويلة في المعهد الأعلى للدفاع الوطني.


وقد كانت من بين أولى قرارات المؤسسة العسكرية بعد بن علي تعيين قائد المخابرات العسكرية الجنرال احمد شبير، مديرا عاما للأمن الوطني في وزارة الداخلية لكن التململ ضده وضد تنامي دور المؤسسة العسكرية في صفوف ضباط الأمن المدنيين أدى إلى إقالته وتعويضه بمدير عام مدني من أبناء الوزارة. وقد فسر البعض "التململ" على أنه "مواجهة" بين "المؤسسة الأمنية" (المدنية) والمؤسسة العسكرية.


لكن وجهة النظر هذه محدودة الدقة لأن الاحتجاجات "الباردة" حينا والمباشرة حينا آخر برزت كذلك ردا تعيينات كبار المشرفين على المؤسسات المدنية في وزارة الداخلية وعلى قرارات المسؤولين الثلاثة الذي تعاقبوا على حقيبة الداخلية منذ 14 يناير /كانون الثاني (أحمد فريعة وفرحات الراجحي والحبيب الصيد -وجمعهم مدنيون- أي أن "التململ" ضد أحمد شبير لم يكن بالضرورة ضد بدلته العسكرية ولكنه اندرج أساسا ضمن سلسلة " التحركات " إلي نظمها ضباط وأعوان من المؤسستين الأمنية المدنية والرئاسية (ونقاباتهم) ضد النيل من "هيبة القطاع الذي ينبغي أن يبقى محايدا وفي خدمة الدولة" وضد المس بمصالح المنتمين إليه والدعوات الصادرة عن بعض رموز المعارضة السابقة نشطاء حقوق الإنسان قصد "معاقبة المسؤولين عن التعذيب والقتل والتجاوزات الأمنية" في عهد الرئيس السابق.


وبصرف النظر عن الموقف من تحركات نقابات رجال الآمن وضباطه فإن كل المؤشرات تؤكد استفحال "الفلتان الأمني" الذي اشتكى منه الوزير الأول الباجي قائد السبسي مرارا.





إذا كانت الانتفاضة الاجتماعية والشبابية انطلقت للمطالبة بالحق في الشغل والحد من البطالة فإن الإحصائيات الرسمية مفزعة وتؤكد أن عدد العاطلين تطور في ظرف أسابيع من أٌقل من خمسمائة ألف إلى أكثر من 720 ألفا.
هذا "الفلتان" يوشك أن يتطور في اتجاه "إجهاض الثورة" لأن "نقص حضور قوات الآمن في الشوارع" وترددها في التدخل بحزم لمنع حصول حوادث عنف (على غرار ما حصل في اجتماع مدينة المنستير الذي كانت ستنظمه قيادة حركة النهضة يوم الأحد 1 مايو /أيار الذي هاجمه "مجهولون" مسلحون بالسلاسل والسكاكين والهراوات والحجارة؟) يتسبب يوميا في استفحال  "المشاكل الأمنية " ومن ثم الاقتصادية والاجتماعية في تونس.

وإذا كانت الانتفاضة الاجتماعية والشبابية انطلقت للمطالبة بالحق في الشغل والحد من البطالة فإن الإحصائيات الرسمية مفزعة وتؤكد أن عدد العاطلين تطور في ظرف أسابيع من أٌقل من خمسمائة ألف إلى أكثر من 720 ألفا.. والعدد مرشح لأن يرتفع إذا ما تواصل الفلتان الأمني والإعلامي والسياسي إلى أكثر من مليون عاطل. كما أن المبالغ الهائلة التي وعدت بها مؤسسات وبنوك دولية وحكومات غربية تونس -لدعم فرص التنمية الاقتصادية والسياسية بها وضمان رواتب العمال والموظفين والمتقاعدين- تبدو بدورها في خطر. يضاف إلى كل هذا أن المسار السياسي يبدو أبعد ما يكون عن "منطق الوفاق" بل قد يتطور إلى مواجهات سياسية وحزبية وعقائدية خطيرة بين رموز النظام السابق ومعارضيه من جهة وبين "الإسلاميين" و"العلمانيين الماركسيين والليبراليين" من جهة ثانية.


 هذه العوامل وغيرها قد تدفع المؤسسة العسكرية إلى التدخل ولعب دور "أكثر نجاعة" بصيغ مختلفة تكون وفاقية مع السياسيين ورموز المؤسسة الأمنية.
__________________
رئيس منتدى ابن رشد المغاربي بتونس للدراسات