المحكمة الدولية ولبنان: صراع الأجندات بين الداخل والخارج

القرار الظني المتوقع صدوره عن المحكمة الدولية جعل لبنان ينقسم إلى فريق يرحب به تحت شعار العدالة وفريق يرفضه تحت شعار التسييس والاستقرار، ويجد كل منهما حليفا في الخارج يريد أن يحقق نقاطا في مباراته الدولية.







 

طلال عتريسي


بعد نحو أربع سنوات على التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005 أعلن في الأول من آذار/مارس 2009 عن بداية عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. هذه المحكمة ستبدأ عملها قبل أن تتمكن لجنة التحقيق الدولية التي تشكلت قبل أربع سنوات من تحديد المجرمين الذي ستسوقهم إلى قفص الاتهام في لاهاي.





باتت لجنة التحقيق الدولية بالنسبة إلى المعارضين لها أكثر قابلية للتشكيك في ما تقوم به وفي نزاهة التوقيفات التي عمدت إليها.
تحولت هذه المحكمة منذ قرار مجلس الأمن بإنشائها إلى قضية خلافية في لبنان بين الفريقين السياسيين الأساسيين الثامن من آذار والرابع عشر منه. وستتحول هذه المحكمة طوال عام 2010، بعد تسريبات كثيرة عن قرارها الظني باتهام "أفراد من حزب الله"، إلى القضية الرئيسة التي ستشغل الأوساط السياسية والقضائية ليس في لبنان فحسب بل في الدوائر الإقليمية والدولية التي اعتبرت نفسها معنية بأهداف هذه المحكمة، وبمصير المتهم المفترض فيها. هكذا تصدر من لبنان ومن دول عدة مواقف متباينة من هذه المحكمة ومن اتهامها المتوقع إلى "أفراد من حزب الله". وتلخصت تلك المواقف في اتجاهين: الأول يدافع عن المحكمة وعن استقلاليتها، ويعتبرها وسيلة لتحقيق العدالة وكشف المجرمين ومنع استمرار القتل والاغتيالات في لبنان، والثاني يشكك في نزاهة المحكمة ويتهمها بالتسييس والخضوع للرغبات الدولية، واعتبارها أداة للنيل من المقاومة ومن حزب الله في لبنان بعد فشل النيل منهما في حرب تموز/يوليو 2006.

سوريا: اتهام وتجريم ثم تبرئة واعتذار
شهود الزور بين سوريا وحزب الله
معركة حزب الله الاستباقية
المحكمة الدولية في الأجندات الدولية
المبادرة السورية-السعودية وتفكيك قنبلة القرار الظني


سوريا: اتهام وتجريم ثم تبرئة واعتذار 


ترافق عمل لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس عام 2005 مع اتهام سوريا بجريمة اغتيال الرئيس الحريري. وساهم في هذا الاتهام بيئة سياسية وإعلامية داخلية لبنانية ودولية (فرنسية وأميركية) مناهضة لسوريا(1)، ولكن من دون أي قرائن "صلبة" على هذا الاتهام الذي تحول إلى قوة ضغط عبر تظاهرات شعبية تطالب سوريا بالخروج من لبنان. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تم اعتقال أربعة جنرالات كبار مقربين من رئيس الجمهورية إميل لحود، وهم لا يزالون في مواقعهم الأمنية (مدير عام قوى الأمن الداخلي، ومدير عام الأمن العام، وقائد الحرس الجمهوري، ومدير الاستخبارات في الجيش) بتهمة التورط في هذه الجريمة (وفقا لإدعاء بعض الشهود أمام لجنة التحقيق )، وباعتبارهم رأس ما أطلق عليه المعارضون لسوريا "النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك" الذي ينبغي تفكيكه والتخلص منه.


خرجت القوات السورية من لبنان بعد نحو شهرين فقط على جريمة الاغتيال وعلى التظاهرات اليومية المعادية لها، لكن تهمة الاغتيال و"عدم التعاون مع لجنة التحقيق" ظلت تلاحقها وتلاحق بعض المسؤولين الأمنيين والعسكريين فيها، واستمر الأمر على هذه التهمة طوال السنوات الأربع على تشكيل لجنة التحقيق. وكانت قوى الرابع عشر من آذار، وفي مقدمتها تيار المستقبل، تتصرف على أساس أن سوريا هي المرتكب الفعلي وليس المتهم فقط بهذه الجريمة. لذا قامت هذه القوى بحملة تعبئة سياسية وإعلامية قوية معادية لسوريا ترافقت مع دعوات إلى ترسيم الحدود بين البلدين والى إعادة النظر في كل الاتفاقيات الموقعة بينهما، وتحولت كل تظاهرات هذا الفريق السياسي إلى مناسبات للهجوم على سوريا وعلى رئيسها بشار الأسد.


تزامنت الاتهامات اللبنانية لسوريا مع ضغوط عربية ودولية في الاتجاه نفسه، ومع انتقال نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام إلى باريس ليقود حملة اتهام ضد النظام بارتكاب تلك الجريمة، في ما بدا وكأنه محاولة لإحكام الطوق حول نظام الأسد في دمشق.


وفي 29 نيسان/ابريل عام 2009 ، تثير لجنة التحقيق الدولية عاصفة من التساؤلات ومن الشكوك حول صدقية عملها وحول التهم التي وجهتها، إذ سيطلق في هذا اليوم سراح الضباط الأربعة الذين ظلوا رهن الاعتقال نحو أربع سنوات من دون أن توجه إليهم أي تهمة حقيقية، وستتراجع اللجنة بعد ذلك عن اعتبار سوريا المتهم الرئيس في جريمة الاغتيال، ما يعني أن كل ما فعلته هذه اللجنة طوال السنوات الماضية لم يستند إلى ما يكفي من الأدلة لا لتوقيف الضباط الأربعة، ولا لاتهام سوريا بارتكاب الجريمة. لذا باتت لجنة التحقيق الدولية بالنسبة إلى المعارضين لها أكثر قابلية للتشكيك في ما تقوم به وفي نزاهة التوقيفات التي عمدت إليها.


الحدث الآخر الذي لا يقل أهمية عن إطلاق الضباط الأربعة "لعدم ثبوت الدليل ضدهم" هو مصالحة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري مع القيادة السورية برعاية سعودية مباشرة. فقد تراجع التوتر السوري-السعودي، وانكسر جليد العلاقات الفرنسية السورية وعادت الولايات المتحدة وأوروبا إلى الحوار المباشر مع سوريا، لكن زيارة الرئيس الحريري إلى سوريا لن تقتصر أهميتها على مجرد استعادة الحوار المباشر بين الطرفين بعد قطيعة السنوات الأربع الماضية، بل سيحصل ما هو أهم من ذلك بكثير، إذ سيقر الرئيس الحريري في تصريح واضح ومقتضب في 6 أيلول /سبتمبر 2010 إلى جريدة الشرق الأوسط السعودية: "بوجود شهود زور ضللوا التحقيق وأساءوا إلى العلاقات بين سوريا ولبنان". وبعد هذا التصريح ستتحول قضية شهود الزور إلى القضية الرئيسة في لبنان التي ستتمسك بها المعارضة (الثامن من آذار) لمعرفة ملابسات "من هم هؤلاء الشهود؟ ومن فبركهم؟ ومن مولهم؟ ومن يحميهم؟ ولماذا ضللوا التحقيق؟"، في حين سترفض الموالاة (الرابع عشر من آذار) الاعتراف بمثل تلك البساطة بدور هؤلاء الشهود. وستقلل من أهميتهم (2)، وستعتبر أن تحديد طبيعة التزوير يعود إلى لجنة التحقيق الدولية، بعد صدور قرارها الاتهامي، وليس قبل ذلك.


إن اعتراف رئيس الحكومة اللبنانية بوجود "شهود زور ضللوا التحقيق" هو نقيض اتهام لجنة التحقيق الدولية، وفريق رئيس الحكومة، طوال السنوات الماضية لسوريا بجريمة الاغتيال، أي أن الاعتراف ببراءة سوريا وبوجود شهود زور، وبعد إطلاق سراح الضباط الأربعة، هو بالنسبة إلى المعارضة تشكيك في صدقية التحقيق بعد التهم الظالمة والافتراءات على أبرياء.


شهود الزور بين سوريا وحزب الله 





أكد جيفري فيلتمان السفير الأميركي السابق في لبنان في جلسة استماع في وزارة الخارجية في 8/6/2010 أن حكومته أنفقت 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله في لبنان، كما أكد في تصريحات أخرى في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2010 أنه يعمل على تمزيق حزب الله وتقديمه هدية الأعياد إلى اللبنانيين.
لم توقف المصالحة اللبنانية السورية الخلاف السياسي والقضائي في لبنان حول أهداف المحكمة الدولية وحول شرعيتها، فالاعتراف الرسمي بوجود شهود زور أشعل السجال بين القوى السياسية في لبنان حول كيفية التعامل مع هذه المحكمة ومع ما سيصدر عنها، وفتح باب الخلاف والتحريض السياسي والإعلامي المتبادل على مصراعيه، وبات شهود الزور هم القضية الرئيس طوال عام 2010.

وما سيزيد من تعقيدات هذه القضية، التي ستتحول إلى أزمة ستمنع مجلس الوزراء من الانعقاد لأسابيع، هو التلويح الواضح بتحول وجهة الاتهام بجريمة الاغتيال إلى حزب الله. فقد عاد التداول وبقوة في وسائل الإعلام المحلية والأجنبية إلى ما سبق ونشرته صحيفة دير شبيغل الألمانية في 23 أيار/ مايو 2009 عن ما اعتبرته "خلاصة جديدة تتجه إليها التحقيقات مفادها أن السوريين لم يخططوا ولم ينفذوا عملية الاغتيال، بل القوات الخاصة التابعة لتنظيم حزب الله الشيعي اللبناني"، ونقلت مضمون هذا التقرير فضائيات وصحف عربية وأجنبية عدة، ودخل لبنان في دوامة من الشائعات عن الموعد المفترض لصدور القرار الظني الذي سيوجه الاتهام إلى "أفراد من حزب الله" بجريمة الاغتيال.


تركز الخلاف بين القوى السياسية اللبنانية (الثامن من آذار والرابع عشر منه) حول قضيتي شهود الزور وحول القرار الظني المرتقب الذي سيتهم "أفرادا من حزب الله". فقد تمسك الطرف الأول بقضية شهود الزور لمعرفة لماذا ضللوا التحقيق، وجعل من هذه القضية أولوية على جدول أعمال أي جلسة لمجلس الوزراء، وطالب بإحالة هؤلاء الشهود إلى المجلس العدلي، ورفض هذا الطرف في الوقت نفسه القرار الظني المرتقب واعتبره قرارا "مسيسا" استنادا إلى الأخطاء السابقة التي وقعت فيها لجنة التحقيق الدولية، والى تراجعها عن اتهام سوريا وانتقالها إلى اتهام حزب الله، وكذلك إلى تصريحات ومواقف شخصيات ومسؤولين وصحافيين من دول عدة عربية وأجنبية تؤكد مضمون القرار الظني، ما يؤكد بالنسبة إلى فريق الثامن من آذار الأغراض السياسية للمحكمة خلافا "للسرية المفترضة في تحقيق من هذا النوع"، وهذا "ينزع عن المحكمة نزاهتها وعدالتها ويسمح بالتالي بعدم الركون إلى ما سيصدر عنها من اتهام".


رفض الطرف الثاني (الرابع عشر من آذار) القبول بإدانة شهود الزور، ورفض اعتبارهم "تضليلا" للتحقيق، ولم يقبل بربط عمل المحكمة أو صدور القرار الظني بنتيجة محاكمتهم. واجتهد بعض أطراف هذا الفريق حول معنى شهادة الزور. كما اجتهد آخرون حول توقيت محاكمة هؤلاء الشهود لدى القضاء اللبناني وحتى حول صلاحية هذا القضاء نفسه في تلك المحاكمة، لكن فريق الرابع عشر من آذار تمسك في المقابل بالمحكمة الدولية وبدستوريتها وبمشروعية ما تقوم به، ودافع عن نزاهتها وعن عدم تسييسها، ودعا إلى التزام ما سيصدر عنها، إذ لا يمكن التراجع عنها لأنها تمثل المجتمع الدولي ومجلس الأمن، ودعا حزب الله إلى الدفاع عن نفسه وإظهار براءته إذا وجه القرار الظني التهمة إليه.


معركة حزب الله الاستباقية 


بعد هذا التحول الذي بات مؤكدا في نظر حزب الله من حيث توجه التحقيق الدولي إلى اتهامه بدلا من سوريا، بدأ حزب الله معركة دفاعية استباقية ضد هذه المحكمة وضد قرارها الظني المرتقب. وقد اعتمد الحزب في هذه المعركة على مبررات وذرائع أمنية وسياسية وقانونية ليثبت وهن المحكمة وفقدانها معايير النزاهة والمهنية المفترضة للوصول إلى العدالة ولمعرفة القتلة. فسأل المحكمة لماذا لم تكن إسرائيل أحد المتهمين المفترضين بهذه الجريمة؟ ولماذا لم يحاول المحققون التحقيق مع أي من المسؤولين الإسرائيليين؟ علما بأن رئيس لجنة التحقيق الدولية سيرج براميرتز الذي خلف ديتليف ميليس أعلن في 10/1/2007 أن "عشر دول لم تتعاون مع لجنة التحقيق ومن بينها إسرائيل (وفرنسا وألمانيا...)"، كما أكد حزب الله أن طائرات التجسس الإسرائيلية لم تنقطع عن الطيران فوق لبنان، بما في ذلك يوم وقوع جريمة الاغتيال وفوق مسرح الجريمة نفسه. وقدم حزب الله من أجل هذه الاتهامات شريطا مصورا من أرشيف المقاومة يرصد حركة الطيران الإسرائيلي فوق لبنان، وفوق منطقة جريمة الاغتيال.


استند الحزب أيضا في هجومه على قرار المحكمة المرتقب إلى التجسس الإسرائيلي على شبكة الاتصالات اللبنانية، بعدما تم اكتشاف هذا الأمر، ومعه قدرة إسرائيلية تقنية عالية على التحكم في الاتصالات المتبادلة بين المشتركين، من دون أن يكون أي مشترك قد أجرى فعليا أي اتصال بأحد من هاتفه النقال. خصوصا وأن ما تم تسريبه حول القرار الظني يستند في التهمة الموجهة إلى حزب الله على اتصالات جرت بين أفراد منه يوم وقع الجريمة، ليستنتج الحزب أن إسرائيل قد تكون هي التي فبركت هذه الاتصالات لتوجيه التهمة إليه.


كما لجأ الحزب في إطار هذا الهجوم إلى الإطار القانوني مستعينا بشخصيات حقوقية بارزة للتأكيد على عدم دستورية أصل تشكيل المحكمة، نظرا لعدم توقيع رئيس الجمهورية (إميل لحود) على قرار تشكيلها، ولعدم عرضها على مجلس النواب للموافقة عليها.





أبرز ما حصل في معركة حزب الله الاستباقية فهو تلويح حلفائه بتغيير المعادلة السياسية في البلاد إذا صدر القرار الظني قبل التوافق على التسوية.
أما أبرز ما حصل في معركة حزب الله الاستباقية فهو تلويح حلفائه بتغيير المعادلة السياسية في البلاد إذا صدر القرار الظني قبل التوافق على التسوية. ولم يحدد الحزب ما سيفعل إذا صدر القرار لكنه ترك باب القلق مشرعا، خصوصا من خلال تأكيده رفض أي تعاون أو تفاوض بعد صدور القرار، وتشير تسريبات نشرتها صحف مؤيدة للحزب عن تغيير أو عن انقلاب في المعادلة السياسية الراهنة. (خصوصا وأن الحزب سبق وقام بعملية مماثلة في 7 مايو/أيار عام 2008 أدت إلى "اتفاق الدوحة" وإلى فرض تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد انتخاب رئيس للجمهورية). لذا انشغلت الأوساط الإقليمية والدولية بمعرفة ماذا يمكن أن يفعل الحزب، تارة لجهة الاطمئنان إلى طبيعة التوازن السياسي في البلاد خشية تكرار تجربة حماس في غزة، وطورا للاطمئنان الغربي إلى أمن قوات اليونيفيل في جنوب لبنان. ومن هنا نشأت معادلة "الاستقرار أهم من العدالة" بالنسبة إلى معارضي المحكمة، في مقابل العدالة مدخل إلى الاستقرار بالنسبة إلى الفريق المؤيد لها.

لم يكن حزب الله من خلال معركته الاستباقية ضد المحكمة وقرارها الظني يخشى فقط ما يعتبره "اتهاما ظالما"، بل كان الحزب يدرك تماما أن مثل هذا الاتهام لن يقتصر على مجرد تشويه صورته داخليا أو عربيا، لأن مثل هذا الاتهام سوف يتجاوز ذلك إلى التأكيد أن الحزب هو منظمة إرهابية تقوم بالاغتيالات. ويعرف الحزب أن الماكينة الإعلامية والسياسية الغربية ستستغل هذه التهمة لتنسب إليه عشرات عمليات الاغتيال التي حصلت في لبنان وفي أماكن أخرى في المنطقة وفي العالم. وقد لا تكون مخاوف الحزب وتقديراته مجرد أوهام. فقد أكد جيفري فيلتمان السفير الأميركي السابق في لبنان في جلسة استماع في وزارة الخارجية في 8/6/2010 أن حكومته أنفقت 500 مليون دولار لتشويه صورة حزب الله في لبنان، كما أكد في تصريحات أخرى في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2010 أنه يعمل على تمزيق حزب الله وتقديمه هدية الأعياد إلى اللبنانيين (3).


وفي الواقع، ليس من المستبعد بعد صدور تهمة مماثلة ضد الحزب أن تعمد الولايات المتحدة من خلال مجلس الأمن إلى إصدار قرارات أخرى أشد قسوة تعتبر الحزب ميليشا أو منظمة إرهابية وتدعو إلى نزع سلاحه، وإذا كانت مثل هذه القرارات ستثير متاعب إضافية في لبنان إلا أنها ستشكل ضغوط قوية على أي مؤيد للحزب في أي مكان في العالم تمنعه من التعاون معه، أو إرسال التبرعات إليه.


المحكمة الدولية في الأجندات الدولية 


لم تكن معركة القرار الظني أو قضية المحكمة الدولية في لبنان خارج بيئة الصراع أو المحاور الإقليمية والدولية، فمن المعلوم أن حزب الله وحلفائه في قوى الثامن من آذار هم أكثر قربا من محور سوريا- طهران، مع ملاحظة التفاوت في هذا القرب بين طرف وآخر من أطراف هذه القوى (علاقة حزب الله الخاصة مع إيران). كما أن الفريق الآخر أي قوى الرابع عشر من آذار هم أكثر قربا من محور "الاعتدال العربي"، وعلى رأسه المملكة السعودية (وعلاقتها الخاصة مع تيار المستقبل) ومصر. كما تحظى هذه القوى بدعم علني وتأييد الولايات المتحدة الأميركية. ما يعني أن طبيعة الخلاف حول المحكمة أو الرهان على نتائج ما ستتوصل إليه ليس معزولا لا عن صلات القوى المحلية بالمحاور الإقليمية ولا عن علاقة هذه المحاور بالقوى الدولية.


إسرائيل أيضا لم تقف متفرجة على ما يجري. وهي ربما أكثر المعنيين بتداعيات اتهام حزب الله. سواء لجهة ما سيلحق بالحزب من جراء هذا الاتهام أو لمخاوفها من الانعكاسات السلبية على التوازن السياسي في لبنان. لذا اعتبر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الجنرال عاموس يدلين، أن القرار الظني للمحكمة الدولية سيشكل ما سماها كارثة دعائية على حزب الله، وأنه سيقوض الاستقرار في لبنان. وبث التلفزيون الإسرائيلي الرسمي في 30 تموز/يوليو 2010 خبرا "ادعى فيه أن المحكمة الدولية توصلت إلى نتيجة مفادها أن المسؤول عن هذا الاغتيال هو مسؤول عسكري بارز في حزب الله، وليس سوريا كما أشيع في السنوات الماضية". وقال محرر الشؤون العربية في هذا التلفزيون "إن الشبهات تدور حول مصطفى بدر الدين ابن عم عماد مغنية" (الشرق الأوسط 31/7/2010). واعتبرت صحيفة هآرتس في 30/12/2010 أن المدعي العام للمحكمة الدولية دانيال بلمار سيقدم قراره الظني الأولي في منتصف الشهر المقبل (15/1/2011) دون أن ينشر محتوى هذا القرارِ أو أسماء الأشخاص الذين سيصدر بحقهم القرارُ الظني، حيث ستبقى هذه التفاصيل سرية حتى الانتهاء من مطالعة قاضي المحكمة دانيال فرانسين لهذا القرار والذي يمكن أن يستمر ما بين شهرين ونصف إلى ثلاثة أشهر، كما نقلت هآرتس تقديرات ترجح نشر هذه التفاصيل في بداية شهر أبريل/نيسان المقبل (2011)، هذا إذا لم يحصل تأجيل إضافي. وقد سبق لنائب رئيس الوزراء الإسرائيلي سيلفان شالوم قوله: "أن إدانة صادرة من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ضد حزب الله ستؤدي إلى تطبيق القرار 1559 وإلزامية تجريد حزب الله من سلاحه".


لكن المخاوف الإسرائيلية اتجهت إلى ما يمكن أن يقوم به حزب الله إذا صدر القرار الظني. لذا بحثت الحكومة الأمنية المصغرة في إسرائيل في24/11/2010 في احتمال عودة التوتر مع حزب الله مع اقتراب القرار الظني، لأن احتمال توجيه الاتهام إلى حزب الله باغتيال الحريري في 2005 قد يثير "توترات كبيرة" بين إسرائيل ولبنان، ولم يصدر أي بيان في ختام الاجتماع الذي شارك فيه رؤساء وكالات الاستخبارات الإسرائيلية. وحتى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ربط بين عدم التدخل في شؤون المحكمة خشية التوتر الذي قد يثيره هذا التدخل من جانب حزب الله على الحدود الشمالية.


المبادرة السورية-السعودية وتفكيك قنبلة القرار الظني 





إسرائيل المستفيد الأكبر من اتهام حزب الله بهذه الجريمة، تعتقد أن مثل هذا الاتهام سيجعلها في وضع أفضل في مواجهة هذا الحزب الذي لا يكف عن التلويح والتهديد بامتلاك آلاف الصورايخ التي ستسقط على مستوطناتها في أي حرب مقبلة بين الطرفين.
ترافق التوتر حول القرار الظني مع مساع سورية-سعودية لمنع الأزمة من الانفجار في الشارع أو في وجه الحكومة، لذا كانت المساعي تدور حول إما منع القرار من الصدور أو تطويق تداعياته السياسية والأمنية المحتملة. وقد واجهت هذه المبادرة التي حافظت على قدر كبير من السرية والتكتم حول تفاصيلها أكثر من اتجاه داخلي لبناني وخارجي إقليمي ودولي في التعامل معها، بين مؤيد ومشجع وبين معارض ورافض، وإلى من يحاول نفي وجود مثل هذه المبادرة أصلا. كما اختلف فريقا الرابع عشر والثامن من آذار حول توقيت تنفيذ هذه المبادرة بين من يريدها قبل صدور القرار الظني ومن يريدها بعده. والفارق شديد الأهمية بالنسبة إلى الطرفين. إذ يؤكد حزب الله أنه لن يذهب إلى التفاوض أو إلى التفاهم بعد توجيه التهمة إليه وإدانته ضمنا. ولذا هو يعتبر نفسه غير معني بهذا القرار وبمضمونه الاتهامي بعد صدوره. وهو لن يفاوض وهو في موقع الاتهام، لكن حزب الله يؤكد في الوقت نفسه تأييده لهذه المبادرة ودعمه لها. وهو في الواقع (مع حلفائه المحليين والخارجيين) صاحب مصلحة أكيدة في تفاهم يبعد عنه شر الاتهام ويخفف عنه وطأة التوتر الداخلي السياسي والمذهبي ويعيد إليه اهتمامه وتركيزه السياسي والإعلامي على قضية المقاومة.

في حين يعتبر الطرف المقابل وخصوصا تيار المستقبل (مع حلفائه المحليين والخارجيين) أن صدور القرار الظني سيجعل حزب الله وحلفاؤه في موقع أضعف في المعادلة السياسية الداخلية. لذا يفضل هذا التيار تأجيل البحث في أي تفاهم إلى ما بعد صدور هذا القرار.


يواجه هذا التفاهم السوري- السعودي المفترض تعقيدات تدور حول المقايضة المطلوبة بين الطرفين: إذ يريد رئيس الحكومة سعد الحريري في مقابل التخلي عن القرار الظني إطلاق يده حكوميا في المجالات الاقتصادية والخارجية والمالية بعدما منعته المعارضة (حزب الله والتيار الوطني الحر) عمليا من حرية التحرك كما يشاء في هذين المجالين. أي ما أطلق عليه البعض "الحكم مقابل المحكمة".


في حين لا يبدو حزب الله مستعدا لاستعادة المعادلة السابقة نفسها التي حكمت علاقته برئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري عندما أطلقت يده في مجال الاقتصاد والاعمار –بوجود القوات السورية في لبنان- في مقابل عدم التعرض لشرعية المقاومة، وربما لهذا السبب يؤكد السوريون والسعوديون على دور التوافق الداخلي اللبناني وعلى أهميته في تحقق مبادرتهم.


ثمة مستوى آخر يدفع المملكة السعودية وعلى رأسها الملك عبد الله نحو التفاهم مع سوريا لحفظ الوضع في لبنان ومنعه من الانفجار، ومن احتمال تغيير معادلته السياسية الحالية التي يشير إليها حزب الله وحلفاؤه تلميحا أو تصريحا، إذ تعتبر المملكة أنها لا تريد خسارة نفوذها في لبنان بعدما خسرت ذلك النفوذ في العراق. أي المصالحة للحد من الخسائر. في حين يعتقد البعض أن اتهام الحزب هو الذي سيخلق معادلة جديدة تعوض تلك الخسائر.


الأطراف الأخرى المعارضة لحزب الله تبدو بدورها في حال من التردد والارتباك تجاه هذه المبادرة وتجاه تأثيراتها المحتملة على الوضع في لبنان عموما. فالولايات المتحدة على سبيل المثال تحاول أن تتجاهل وجود مثل هذه المبادرة، لأن حزب الله بالنسبة إليها يهدد أمن إسرائيل وهو "امتداد للنفوذ الإيراني في لبنان" (4)، وهي تخوض معركة تقويض هذا النفوذ على جبهات وملفات عدة في المنطقة. ولذا هي تعتبر اتهام الحزب بجريمة الاغتيال فرصة ثمينة لتشويه صورته والنيل منه، لكن مصدر القلق الأميركي يكمن في عجز الولايات المتحدة عن فعل أي شيء إذا قام حزب الله بالسيطرة على البلاد وعلى فرض تغيير المعادلة السياسية لمصلحته ومصلحة حلفائه. ولذا تحاول الولايات المتحدة عرقلة هذه المبادرة إلى أقصى حد ممكن. أما الدول الأوروبية، التي تتمنى بلا شك إضعاف حزب الله، تخشى مع صدور القرار الظني من الفوضى المحتملة السياسية والأمنية التي ستعرض قوات اليونيفيل في جنوب لبنان لمخاطر أمنية تخلقها بيئة من الاضطراب ومن عدم الاستقرار.


إسرائيل المستفيد الأكبر من اتهام حزب الله بهذه الجريمة، تعتقد أن مثل هذا الاتهام سيجعلها في وضع أفضل في مواجهة هذا الحزب الذي لا يكف عن التلويح والتهديد بامتلاك آلاف الصورايخ التي ستسقط على مستوطناتها في أي حرب مقبلة بين الطرفين. وهذا يسمح بالاستنتاج أن إسرائيل لن تفكر في خوض حرب ضد الحزب وضد لبنان في المدى المنظور لأنها تعتقد أن عليها انتظار تداعيات القرار الاتهامي ضد حزب الله قبل التفكير في أي حرب ضده، خصوصا وأن إسرائيل تخشى أيضا من سيطرة حزب الله وحلفائه على لبنان، ومن الفوضى المحتملة التي قد تجعل حدودها الشمالية مفتوحة على الاحتمالات كافة التي لا تجد نفسها مستعدة لها في الوقت الراهن.





ينتقل لبنان إلى عام جديد 2011 وهو في حالة من الانتظار المشوب بالقلق، وفي أزمة سياسية حادة تمنع الحكومة من الاجتماع على الرغم من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تتفاقم.
هكذا ترقب اللبنانيون بقلق مصير المبادرة السورية-السعودية حول المحكمة الدولية وقرارها الظني المرتقب، بين من يؤكد تقدمها وبين من يشكك أو ينفي حتى أصل وجودها؛ وثمة من يعتقد أن تأخير الإعلان عن "الصيغة" المقترحة للحل يعود إلى أن مضمونها سيتناول أيضا طبيعة التوازنات في المواقع السياسية بين الطوائف اللبنانية استنادا إلى اتفاقي الطائف عام 1989والدوحة عام 2008. ما يجعل المبادرة أكثر صعوبة والإعلان عنها أكثر تعقيدا.

ينتقل لبنان إلى عام جديد 2011 وهو في حالة من الانتظار المشوب بالقلق، وفي أزمة سياسية حادة تمنع الحكومة من الاجتماع على الرغم من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تتفاقم. فلا القرار الظني المرتقب قد صدر. ولا التفاهم السوري-السعودي أبصر النور.


تأخرت المواعيد ولم تصدق التسريبات. ومن غير المعلوم متى سيتحقق ذلك. لكن من المؤكد أن كلا الأمرين يواجه صعوبات وعراقيل ومحاولات لمنعه أو تأخيره من الصدور. وتبدو الرهانات على هذا أو ذاك متناقضة إلى حد كبير؛ وما يحصل على هذا الصعيد، مهما كانت نتائجه المرتقبة (لمصلحة المحكمة أو ضدها)، هو فصل جديد من فصول الصراع الداخلي في لبنان، لكنه يعكس في الوقت نفسه ما يجري في محيطه الإقليمي، وعلاقة هذا المحيط بالسياسات الدولية واتجاهاتها. ولذا يحظى مصير المحكمة الدولية وما ستقدم عليه بكل هذا الاهتمام. ولعل هذا الترابط الوثيق بين الداخلي والإقليمي والدولي هو ما يجعل الحلول في لبنان أكثر تعقيدا والأزمات أكثر تواترا.






________________
باحث في الشؤون اللبنانية

مراجع
(1) راجع ما ورد في كتاب "سر الرؤساء" الذي نشر بالفرنسية عام 2010 ويتحدث فيه المؤلف "فانسان نوزي" عن دور الرئيس جاك شيراك في الإعداد للقرار 1559 وفي التحريض على سوريا، وعن محاولاته لإسقاط النظام في دمشق. (نشرت جريدة السفير اللبنانية في 8/11/2010 فصولا من هذا الكتاب).
(2) "إن ما يسمى ملف "الشهود الزور"هو الذريعة التي اعتمدت من اجل تعطيل المؤسسات، وهو جزء من سياق لا يزال أصحابه يصرون على تركيب فبركات وخبريات لا تمت إلى الحقيقة بشيئ" (افتتاحية جريدة المستقبل التابعة لتيار المستقبل في 31/12/2010)
(3) نشر الكاتب الأميركي "فرانكلين لامب" تقريرا على موقع "فورين بوليسي جورنال"، وفيه كلام منقول عن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى بأن المحكمة الدولية هي وسيلة بيد “ الولايات المتحدة وإسرائيل لتدمير حزب الله”. وروى "لامب" وقائع محادثة قال أنها جرت بين  فيلتمان وموظفة مكتبه السابقة, السفيرة الأميركية الحالية في لبنان مورا كونيلي, في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2010, خلال زيارة إلى النائب وليد جنبلاط في دارته في كليمنصو, قال فيها فيلتمان: "لقد حاصرت هؤلاء حيث اريدهم يا مورا. شاهدينا فيما نحن نمزق حزب الله بألف ضربة بطيئة! من يعتقدون أنفسهم؟ وسنقوم بذلك باستخدام القرار 1757 وهذه المرة سنسلك الطريق إلى آخره؟". وتابع فيلتمان: "لقد طلبت من إسرائيل أن تبقى بعيدة عن لبنان، لأن الجيش الإسرائيلي لا يمكنه هزيمة حزب الله، كما أن المنطقة برمتها قد تحترق. أنا من سيتعامل مع الأمر، وهذه ستكون هديتي إلى لبنان لمناسبة عيد الميلاد".
(4) المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هي بالنسبة إلى الصحافي روجر كوهين في نيويورك تايمز "أداة أميركية لضرب إيران عبر حزب الله ولو على حساب لبنان"  (13/12/2010 ).

ABOUT THE AUTHOR