كركوك: التدويل على الأبواب

كركوك العراقية تعد ميدانا للتنازع بين مكوناتها الثلاثة، التركمان والأكراد والعرب، ومطمحا لقوى إقليمية لاعتبارات أمنية أو اقتصادية، وإذا عجزت القوى العراقية كما يبدو حاليا عن التوصل إلى اتفاق حولها فإن القوى الدولية ستضع يدها على القضية.







 

فاضل الربيعي


يجسّد ُالصراع على كركوك بين الأكراد والتركمان والعرب صورة نادرة لأزمة قوى خاضت لوقت طويل صراعا لم تعد تملك أي إمكانية حقيقية لحسمه أو وضع نهاية له، لا بالقوة المسلحة ولا بالوسائل السلمية. فلا الأكراد -بكل ما يملكون اليوم من مصادر قوة ونفوذ- قادرون على حسم الصراع بالقوة، أو من خلال استغلال الخلل الديموغرافي وفرض الأمر الواقع عبر تنظيم استفتاء يسهل عليهم ضمّها إلى إقليم كردستان؛ ولا العرب الذين شهد وجودهم التاريخي تراجعاً وضعفاً مستمراً في أرياف ومدن المحافظة، يمكن لهم أن يحسموا الصراع بالقوة أو من خلال الاستفتاء الشعبي. والأمر ذاته ينطبق على التركمان الذين باتوا يشعرون، كما لم يشعروا من قبل، بالعجز التام عن صد الأخطار المهددّة لوجودهم، أو على الأقل تعطيل المطالبات الكردية بضم المحافظة إلى الإقليم. هذا الاستعصاء في الصراع سوف يسمح لقوى أخرى، دولية وإقليمية، بلعب أدوار لحسمه ووضع حد له؛ وبطبيعة الحال لن تكون كركوك في النهاية من نصيب أي طرف من الأطراف المحلية، ذلك أن أي تفاهم على صيغة حل إقليمي- دولي، قد تضع هذه المحافظة تحت إدارة دولية طويلة الأمد، وربما ُتخرجها نهائيا ً من يد الدولة المركزية والأطراف المحلية سواء بسواء.


كركوك: جذور الأزمة ومصادرها
مستقبل كركوك وسط التأثيرات الدولية-الإقليمية
الاستفتاء والمادة 140 ومسألة الانفصال الكردي
احتمالات التدويل وإمكانيات الخروج من المأزق


كركوك: جذور الأزمة ومصادرها 





يجسّد ُالصراع على كركوك بين الأكراد والتركمان والعرب صورة نادرة لأزمة قوى خاضت لوقت طويل صراعا لم تعد تملك أي إمكانية حقيقية لحسمه أو وضع نهاية له، لا بالقوة المسلحة ولا بالوسائل السلمية.
تمثل كركوك نموذجا فريدا من نوعه لمدينة متعددة الثقافات في بلد يواجه مستقبلا ً مجهولا ً. لكن أسس التعايش التاريخي التي قامت عليها العلاقة بين العرب والتركمان والأكراد، وهم المكوّنات الرئيسة في المحافظة، تعرضت لهزّات عنيفة متتابعة، أدّت من بين ما أدّت إلى تفجر نزاع عِرْقي مركب، كان يتغذى باستمرار من بواعث وأحلام وأطماع محلية وإقليمية ودولية. وذلك ما يدفع الكثير من المراقبين إلى الاعتقاد أن مستقبل التعددية الثقافية في كركوك بات مهدداً.

إن المزايا الجغرافية والإستراتيجية التي تتمتع بها- إلى جانب كونها كنزا ً نفطيا ً- هي التي تجعل منها ساحة صراع، تخطى منذ وقت طويل حدوده المحلية؛ إذ تقع كركوك في منطقة من السهوب الرسوبية الخصبة الممتدة حتى بغداد، بحيث تتراءى في أعين الأكراد مثلا، حاجزا ً طبيعياً وعازلا ً أمنيا ً نموذجيا ً، يفصل أربيل والسليمانية عن المركز عند خط جبل حمرين، وهو سلسلة جبلية منخفضة الارتفاع تربط مدن كردستان بالطرق المؤدية إلى العاصمة بغداد، حيث تصبح المسافة هناك أقل من 150 كم. ومن المنظور الجغرافي - السياسي، تقع المحافظة داخل مساحة تجعلها في آن ٍ واحد في حالة تماس سياسي وعرقي مباشر من جهة الشرق مع السليمانية، حيث معقل جلال الطالباني، كما تجعلها في حالة احتكاك مستمر من جهة الشمال مع محافظة أربيل حيث معقل البارزاني. هذه الأراضي الخصبة الممتدة ما بين  نهري ديالى (شرق) والزاب الصغير (شمال) تشكل حدودا ًإدارية وسياسية ذات حساسيّة عالية، منتجة بطبيعتها للمخاطر والتوترات، لكنها من جانب ٍثانٍ تبدو حدودًا مثالية لنمط من تعايش الثقافات وخطوط تماسّها الخلاق. ولذلك، شكل التلاعب بالتركيبة السكانية لكركوك من جانب الحكومات المركزية المتعاقبة على امتداد أربعة عقود أداة في حسم الصراع على مستقبل المدينة.


وفي هذه العقود الأربعة، ولمرتين متتاليتين، بدا التلاعب بالجغرافيا السكانية الحسّاسة أداة منتجة للتوتر الثقافي- العرقي ومصدرا قائما بذاته من مصادر تأجيج الصراع، بأكثر مما أدّى استخدامها في حسمه. لقد واجهت كركوك خلال السنوات 1968- 2003 موجتين متعاقبتين من عمليات التلاعب. الأولى، موجة التعريب التي انتهجها النظام السابق بشكل مكثف، وأحد تعبيراتها ما عرف بسياسة التبعيث، وذلك عندما  أرغم الأكراد في المدينة على تغيير قوميتهم، من الكردية إلى العربية، وهو ما تمّ تطبيقه على أعداد كبيرة من التركمان أيضا. والثانية، موجة التكريد، أي فرض طابع كردي على المحافظة تمهيدا لإلحاقها بالإقليم الكردي، وقد بلغت هذه الموجة ذروتها بعد احتلال العراق، عندما كشف بعض الإجراءات والتدابير السياسية والإدارية التي فرضتها المليشيات المسلحة بعد دخولها المدينة عن حدوث خلل ديموغرافي خطير، طالت آثاره التركمان والعرب. وهذا ما تجلى بوضوح أكثر من خلال السماح بعودة الأكراد المهجرين، وانتشار الفوضى وأعمال الاستيلاء على المباني والدور السكنية للمواطنين التركمان والعرب. لكن الجذور التاريخية للأزمة تعود إلى وقت أسبق من هذه الأحداث بكل تأكيد؛ ففي سنوات 1920-1958 شهدت كركوك بدايات ظهور المنشآت الصناعية البترولية التي جلبت الكثير من المتغيّرات إلى التركيبة السكانية، إذ تحت ضغط الحاجة إلى خبرات (عمال، مهندسين خبراء في مجال النفط) تمّ استقدام أعداد كبيرة من أبناء المحافظات الجنوبية ومن أبناء العشائر العربية، وهؤلاء فرضت عليهم ظروفهم الحياتية الجديدة الاستقرار نهائيا والاندماج بالسكان.


وفي الواقع، لم تكن مسألة انتقال العرب للعمل أو الإقامة في مناطق الشمال العراقي تشكل آنذاك مصدراً للقلق أو مدعاة للشعور بالخطر، ولم تكتسب أي بعد عدائي حتى مع حدوث بعض التوترات الاجتماعية التقليدية، إذ إن قوة التعايش الثقافي وتقاليده وأعرافه، كانت تلعب لصالح نمط من السلام الاجتماعي في مجتمع هو في الأصل مجتمع ثقافات متنوعة. وفي الثلاثينات من القرن الماضي، شهدت المحافظة موجة جديدة من المهاجرين العرب، بعد تنفيذ سلسلة مشاريع إنمائية. وحين بادرت حكومة ياسين الهاشمي إلى إقامة مشاريع ري في منطقة الحويجة (جنوب- غرب كركوك) جرت أكبر عملية إسكان جماعي لبعض العشائر العربية. وفي العام 1950 وبموازاة هذا الإجراء، تمّ استبدال اللغة التركية في المدارس الحكومية باللغة العربية. وطوال هذه السنوات حتى إحصاء عام 1957 شكل التركمان 39.1% من السكان، واعتبروا أغلبية قومية بحسب الوثائق الرسمية العراقية، بينما شكل الأكراد 38.5%، أما العرب فشكلوا ما نسبته 21.1%. ولذا جرى اعتماد اللغة التركمانية والكردية والعربية لغات رسمية في المدارس الحكومية.


لكن التحوّل الجذري الذي شهدته التركيبة السكانية خلال الحقبة الممتدة من سقوط الحكم الملكي استمر حتى صعود البعث عام 1968. ومن غير شك، فقد فتحت التدابير التي اتخذها النظام السابق الأبواب أمام حدوث تغيرّات كبيرة في الميزان الديموغرافي، إذ شجع النظام، عبر تقديم تسهيلات مغرية، زواج العرب من التركمانيات، وكان الهدف تذويب العنصر التركماني، وهو ما سوف يتضح بجلاء مع قيام النظام بإلغاء مادة التعريف بالقومية من بيانات الإحصاء السكاني في كركوك. فلقد فرض النظام السابق على الأكراد والتركمان معاً تسجيل بياناتهم على أساس أنهم عرب. وكانت أقسى التدابير تتمثل في حرمانهم من حق امتلاك العقارات أو العمل في بعض المهن والدوائر الرسمية باستثناء المنتسبين للحزب الحاكم. وفي هذا الإطار، ومع تفجر الصراع بين الدولة المركزية والحزبين الكرديين (ثم توقيع اتفاقية الجزائر حول تقاسم مياه شط العرب بين شاه إيران وصدام حسين في 1975) بدأت مرحلة جديدة من التغيرّات السكانية، فقد نجم عن تطبيق الاتفاقية وانهيار ما سميّ بالتمرّد الكردي، نزوح أعداد كبيرة من الأسر الكردية نحو كركوك بحثاً عن ملاذ آمن.


هذه الظروف مجتمعة، خلقت بيئة مناسبة لتبلور الصراع المحلي بين المكوّنات القومية الثلاثة، كصراع قابل بطبيعته لاكتساب أبعاد إقليمية ودولية.


مستقبل كركوك وسط التأثيرات الدولية-الإقليمية 





بطبيعة الحال لن تكون كركوك في النهاية من نصيب أي طرف من الأطراف المحلية، ذلك أن أي تفاهم على صيغة حل إقليمي- دولي، قد تضع هذه المحافظة تحت إدارة دولية طويلة الأمد، وربما ُتخرجها نهائيا ً من يد الدولة المركزية والأطراف المحلية سواء بسواء.
يبدو أن موقع كركوك الجغرافي، وثروتها النفطية، لعبا باستمرار دورا محورياً في تعميق الشروخ والتصدّعات السكانية، الآخذة في الاتساع مع استيقاظ الأحلام والمزاعم القومية التي غالباً ما يجري فيها استخدام ذخيرة التاريخ القديم، والبيانات والإحصاءات الرسمية كذلك، بحيث يتمكن كل طرف من تقديم ما يعتبره أدّلة دامغة على أكثريته. وبصرف النظر عن مضمون هذه  الدعاوى، فإنها سرعان ما أدّت إلى تحطيم أسس التعايش التاريخي بين العرب والأكراد والتركمان. وحتى اليوم، يردد الأكراد علناً أن كركوك هي "قدس كردستان" وأنهم لن يتنازلوا عنها. لكن المطالبات الكردية بضّم كركوك ليست وليدة الظروف الراهنة؛ ففي الستينات قاد مصطفى البارزاني مفاوضات شاقة مع حكومة قاسم للاعتراف بها جزءا من الإقليم الكردي، وانتهت مطالباته بحرب قاسية وطويلة، وذلك ما سوف يتكرر بصورة مأسويّة في مفاوضات جلال الطالباني مع حكومة بغداد في أعقاب انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية 1988، حين فشل الأكراد مرة أخرى في الحصول على اعتراف النظام بكردية كركوك. وبطبيعة الحال، لم تكن هذه التجاذبات الداخلية بين المكوّنات الثلاثة، أو بين المركز والأكراد، بعيدة عن تأثيرات مباشرة وغير مباشرة للعامل الإقليمي- الدولي. بيد أن الظروف والأحداث بينّت أن فاعلية وتأثير العامل الدولي كانت باستمرار أكبر وأكثر قوة من فاعلية وتأثير العامل الإقليمي.

وكما ظهر جلياً من تطور الأحداث، فإن السبب الحقيقي لهذا التفاوت في التأثير بين العاملين الإقليمي والدولي يكمن في حسّاسية الصراع نفسه بالنسبة لدول الجوار، وبشكل أخص بالنسبة للاعبين هاميّن في المنطقة، تركيا وإيران، لكنه – في حالة تركيا وهي الطرف الإقليمي الرئيس، والمعني بشكل مباشر بمصير سكانها التركمان، وطوال السنوات الخمسين المنصرمة، لم تمتلك سياسة ثابتة وواضحة وفاعلة. وحتى اللحظة، لا يخفي التركمان مرارتهم من غياب سياسة علنية إزاء التطورات الجارية، ويشكون من تنصل أنقرة من حمايتهم. ومعلوم أن تركيا كانت طوال هذه السنوات تعيش في قلب أزمة الهوية والبحث عن دور دولي خارج الحاضنة العربية - الإسلامية، وقد لاح لها هذا الدور مرات كثيرة داخل الفضاء الأوروبي، لا داخل الفضاء العربي- الإسلامي. وفي غياب تركيا الطويل، تقدمت إلى مسرح الأحداث قوة إقليمية أخرى راحت تستغل الفراغ الإقليمي ومن دون أن تخفي أطماعها بنفط كركوك. فإسرائيل التي نسجت علاقات متينة مع الأكراد منذ وقت طويل، وهذا أمر لم يعد سرا، هي طرف إقليمي شديد الاهتمام بمصير كركوك. ولم يعد سرا ً كذلك أن هذا الاهتمام له صلة وثيقة باحتياجاتها من النفط مستقبلا ً، وهي تبني إستراتيجيتها السياسية والأمنية على أساس أن  تفكك العراق إلى فيدراليات يمكن أن يسهل أمامها الوصول إلى محطة الوقود الكبرى، كركوك، التي سوف تتزّود منها لتلبية احتياجاتها النفطية. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن هذه الإستراتيجية مبنية على حسابات دقيقة تتعلق بمستقبل النفط في المنطقة (وبقاء العراق الفيدرالي من كبار المنتجين له وممتلك لاحتياطي هائل) فإن حلم إحياء خط كركوك- حيفا الذي وضع الإنكليز عام 1917 علاماته الدّالة فوق رمال غرب العراق، حين رمزوا لاسم حيفا بالحرف H (كما هو الحال مع اسم محطة H3)، يصبح في هذه الحال باعثاً قوياً من بواعث التدخل.


وكما اجتذب نفط كركوك أطماع الدول الكبرى وإسرائيل؛ فإن تفجر النزاع العرقي اجتذب هو الآخر اهتمام وتدخل هذه القوى، لكن هذه الأطماع والتدخلات تبدت بالنسبة لتركيا، أحد المحددّات الرئيسة في عقيدتها الأمنية. ثم جاء احتلال العراق، ليوقظ أنقرة من غفلتها وليعيد تنبيهها إلى مخاطر إهمال مسألة كركوك. وبمقدار ما لعبت مسألة المصالح النفطية دورا في تعميق التأثيرات الدولية والإقليمية؛ فإن الخلل في التركيبة القومية، أدّى هو الآخر إلى تنشيط هذه التأثيرات.


وكما يتضح من سلسلة وقائع جرت خلال سنوات الاحتلال، فقد دخلت العلاقات الأمريكية - التركية في حالة توتر علني، جرى التعبير عنه بقوة من خلال رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية أثناء الغزو، ثم تصاعدت أجواء التوتر هذه على خلفية امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن اتخاذ أية تدابير لكبح نشاط حزب العمال الكردستاني، برغم مطالبات الأتراك العلنية والمستمرة. وفي 9 أيلول/ سبتمبر 2004، ألقت حادثة الهجوم الجوي والبري الذي قام به الجيش الأمريكي على مدينة تلعفر العراقية ذات الأغلبية التركمانية، بذريعة مطاردة المتمردين من الجماعات المسلحة المناوئة للوجود الأمريكي، ظلالا ً قوية من الشك على متانة العلاقات بين أنقرة وواشنطن؛ فقد هدد عبد الله غول (وكان آنذاك وزيراً للخارجية) بردّ تركي قد يؤثر على العلاقة مع واشنطن في حال استمر الإفراط في استخدام القوة ضد المدنيين التركمان. ومع ذلك، فلا تركيا تمكنت من وضع تهديداتها موضع التطبيق، ولا الولايات المتحدة الأمريكية كفتّ عن سياسات التلاعب في الفسيفساء العراقية سرا وعلنا. ولا يخفي التركمان اليوم، من خلال ممثليهم السياسيين، مشاعر الخوف المزدوج من ضعف الدور التركي ومن تعاظم دور العامل الدولي.





المثير للاهتمام أن الترابط بين مسألة الموصل وكركوك قد يبدو ترابطا بين سلسلة توترات ثقافية-عرقية خطيرة، بيد أن هذا الترابط عينه كان يؤدي فعليا إلى تعطيل إمكانية حسم الصراع في كركوك، ذلك أن ضمّها سيؤدي إلى وضع الموصل داخل القفص، وهذا ما لا تسمح به أنقرة لأسباب ودوافع تخص أمنها القومي.
لقد خلق هذا التفاوت في القوة والتأثير بين العاملين إطارا جديداً للصراع، كانت تساهم في استمراره وتصاعده قوة زخم الوقائع اليومية الناجمة عن تزايد النفوذ الكردي في المحافظة. فخلال الأشهر الأولى من الاحتلال، وحين كان التركمان والعرب يناشدون القوات الأمريكية التدخل لمنع تدفق المليشيات الكردية، ووقف ما اعتبروه انتهاكات فظيعة (خصوصا حين جرى رفع العلم الكردي في الشوارع، وإعادة تسميتها بأسماء كردية)، كانت أنقرة تصيخ السمع وتكتم غضبها. وخلال وقت قصير تدهورت الأوضاع في المحافظة، وتمكنت المليشيات الكردية من الاستيلاء على المباني العامة والدور السكنية في القواعد العسكرية المهجورة. وراح التركمان يناشدون قوات الاحتلال الأمريكي السماح للمهجرين التركمان بالعودة إلى ديارهم أسوة بالمهجرين الأكراد، ولكن القوات الأمريكية ضربت عرض الحائط بهذه المطالب ولم تطبق اتفاقا سابقا بأن تظل القوات المحتلة داخل المدينة، شرط أن لا تسمح لقوات البيشمركة باجتياحها أو عبور حدود كركوك أكثر من مسافة 15 كم. وفي سياق هذه التطورات، تعالت الأصوات القائلة إن سياسة التغاضي عن التلاعب بالجغرافيا السكانية لا تعبر عن مجرد عدم اهتمام أمريكي (أو حكومي) بتدابير غير شرعية وقعت هنا أو هناك؛ بل عن سياسة منهجية تهدف في النهاية إلى خلق ظروف يتمكن فيها الأكراد من ضم المحافظة إلى الإقليم. فالتركمان يعزون السبب الحقيقي لسماح القوات الأمريكية للأكراد بالسيطرة على مجلس المحافظة وزيادة أعداد الشرطة من الأكراد إلى هذه السياسة، ويرون أنها أحدثت خللا خطيرا في التوازنات السكانية والإدارية مع تعاظم أشكال الإقصاء والتهميش للعرب والتركمان. ومع ذلك، فمن المؤكد أن أنقرة تنظر إلى كركوك النظرة نفسها التي نظرت فيها روسيا لمشكلة أبخازيا، وقد تكون مستعدة في أي لحظة يصبح فيها الخطر حقيقيا لأن تكرر ما فعلته موسكو مع جورجيا. وهذا ما يدركه الحزبان الكرديان بعمق، فتركيا– في نهاية المطاف- قد تتقبل على مضض وجود فيدرالية صغيرة في أربيل ودهوك، يجري التفاهم حولها (إلى جوار فيدرالية أخرى أقرب إلى طهران هي السليمانية)، لكنها لن تسمح مهما كانت الظروف بابتلاع كركوك وضمّها إلى دولة كردية. وهذا هو عينه موقف إيران التي ستقاوم وتمنع قيام دولة كردية أو بضم كركوك إلى الإقليم الكردي.

وإذا ما أضفنا إلى الأسباب الكثيرة التي تدعو طهران لمنع خطوة دراماتيكية من هذا النوع وجود عامل مذهبي يعبرّ عنه وجود كتلة شيعية داخل النسيج التركماني؛ فإن المحاولات الكردية لضم كركوك، ستبدو نوعا من مواصلة صراع غير قابل للحسم، وموضوعا للاستهلاك الداخلي من أجل إبقاء الحشد والتأييد الشعبي للحزبيين. ولأن مسألة كركوك ارتبطت عضويا بمشكلة الموصل التاريخية، فإن أنقرة غالبا ما اكتفت بالتعبير للأكراد عن انزعاجها من تزايد نفوذهم فيها، ولكن بطريقة لبقة. فلقد اختارت تركيا خلال السنوات الأخيرة سياسة التقارب السياسي والاقتصادي مع الأكراد، وبشكل أخص مع أربيل، بديلا عن أي شكل آخر قد يرغمها على التدخل السافر في الصراع، لأنها تدرك بعمق أيضا أن انفصال الأكراد في دولة تضم كركوك هو ضرب من ضروب الخيال، لأسباب محلية وإقليمية ودولية معقدّة. وهذا ما يفسرّ سبب صمت تركيا حيال الدعوات الكردية لتطبيق حق تقرير المصير. ومن الواضح أن سلاح التقارب الاقتصادي- السياسي كان فعالا، وأعاد أنقرة بهدوء إلى ميدان ترتيب المعادلات والتأثير فيها. والمثير للاهتمام أن الترابط بين مسألة الموصل وكركوك قد يبدو ترابطا بين سلسلة توترات ثقافية-عرقية خطيرة، بيد أن هذا الترابط عينه كان يؤدي فعليا إلى تعطيل إمكانية حسم الصراع في كركوك، ذلك أن ضمّها سيؤدي إلى وضع الموصل داخل القفص، وهذا ما لا تسمح به أنقرة لأسباب ودوافع تخص أمنها القومي.


الاستفتاء والمادة 140 ومسألة الانفصال الكردي 


منذ 12 أكتوبر/تشرين أول 2004، عندما تقرر لأول مرة تنظيم إحصاء سكاني في كركوك، ومسألة الاستفتاء تصادف مشاكل معقدة تتصل بسلسلة من التدابير التي يصعب، وحتى يستحيل، التوصل إليها بالتوافق السياسي. فالاستفتاء يتطلب تنظيم إحصاء سكاني دقيق، وهذا بدوره يصطدم بمشكلة معقدة تتعلق بما يصفه التركمان والعرب بموجة "استيطان كردي" مدعوم بوثائق وأوراق ثبوتية مزورّة، تعيد تعريف نحو 250 ألفا من المواطنين الأكراد الجدد كمهجرين عادوا إلى مساكنهم. ومشكلة وجود هؤلاء الوافدين تصطدم بدورها بمشكلة إنسانية موازية، تتعلق بوجود أعداد من المهجرين التركمان (جرى طردهم خلال الفترات السابقة على الاحتلال الأمريكي وخلاله) ويمنع عليهم العودة إلى مدينتهم، فهؤلاء قد لا يتمكنون جميعا من تقديم الأوراق الثبوتية، كما يفعل الأكراد الذين باستطاعتهم تقديمها. وهذه مشكلة قانونية ترتبط بمشكلة أخرى قائمة بذاتها وغاية في التعقيد، هي مشكلة تزوير الوثائق والأوراق الثبوتية. فالتحقق من كل هذه المسائل في ظل أوضاع متوترة ومضطربة، ومع ضعف الدولة المركزية، سوف يجعل من تطبيع الأوضاع في كركوك كما تطالب المادة الدستورية، أمرا مستحيلا. ولذلك، يبدو جزء من النقاش الدائر حول هذه المشكلات عقيماً ويدور في حلقة مفرغة. فهناك ما مجموعه 650 ألف مواطن ممن تنطبق عليهم صفة مهجر من التركمان والأكراد والعرب. ويتركز النقاش الآن حول مسالة تعريف من هم المرحلون والمهجرون، وما هي آليات التأكد من صحة الوثائق.





منذ 12 أكتوبر/تشرين أول 2004، عندما تقرر لأول مرة تنظيم إحصاء سكاني في كركوك، ومسألة الاستفتاء تصادف مشاكل معقدة تتصل بسلسلة من التدابير التي يصعب، وحتى يستحيل، التوصل إليها بالتوافق السياسي.
في هذا الإطار القانوني (والاجتماعي والسياسي الشائك) يصرّ الجانب الكردي على تطبيق المادة 140 من الدستور. لكن نص المادة يثير، بذاته، مشكلة دستورية. تقول المادة 140: أولا– تتولى السلطة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة (58) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية بكل فقراتها .ثانيا- المسؤولية الملقاة على السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية، والمنصوص عليها في المادة (58) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، تمتد وتستمر إلى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور، على إن تنجز كاملة (التطبيع, الإحصاء, وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها, لتحديد إرادة مواطنيها) في مدة أقصاها الحادي والثلاثون من شهر ديسمبر/كانون الأول سنه 2007 . ويلاحظ في هذا النص أنه يحدد سقفاً زمنيا لحل مشكلة تاريخية خطيرة، وهذا  أمر غير مألوف في الدساتير. ولذلك يحتج العرب والتركمان بالقول أن المادة 140 باطلة بحكم انتهاء السقف الزمني للتطبيق.

لقد جاء قرار وزارة التخطيط العراقية المفاجئ قبل أيام قليلة بتشكيل لجنة سداسية للإشراف على عملية الإحصاء السكاني في كركوك ليضع مشكلة هذه المحافظة، ومرة أخرى، في قلب نزاع جديد تتداخل وتتشابك فيه جملة من الموضوعات القانونية والسياسية. فبموجب القرار الجديد، تتشكل اللجنة من ثلاثة مرشحين أكراد مقابل اثنين من العرب وتركماني واحد. ولأن الإحصاء السكاني هو الحل الذي توافقت عليه القوى السياسية من أجل التوصل إلى صيغة حل قانوني وسياسي، فقد بدا هو نفسه مشكلة قائمة بذاتها، فالمعترضون على القرار من العرب والتركمان، وجدوا فيه مخالفة دستورية و(إدارية) واضحة، قد تتسبب في حال المضي قدماً بتطبيقه في تفجرّ مشكلات أكثر تعقيدا، ذلك أن اللجنة بتركيبتها الراهنة تعطي للأكراد وزناً أكبر، يمكن استخدامه في تقرير مصير المحافظة. ويلاحظ المعترضون أن صدور القرار عن وزارة التخطيط (وليس عن الحكومة مباشرة أي بقرار رسمي من مجلس الوزراء) يعني أن طرفاً حكوميا يوشك أن يصبح هو نفسه طرفا في النزاع الدائر. إن ما يسمى اليوم بالأراضي المتنازع عليها، وهذا اصطلاح جديد في الأدبيات السياسية الكردية لم يكن مطروحا في السابق، ليس سوى استعادة لتراث تبادل الأراضي بين العثمانيين والإيرانيين قبل نحو قرنين من الزمن، حين اعتبرت مدينة جمجمال جزءا من العراق، بعد أن كانت تعد جزءا من كردستان إيران. لقد كان اصطلاح الأراضي المتنازع عليها خلاصة صراع أمكن إخماده بفضل التفاهم الإيراني– العثماني عام 1847، وجرى بموجبه اعتبار المحمرة وعبادان جزءا من إيران مقابل اعتبار جمجمال مدينة عراقية. ولذلك، تبدو استعادة هذا الاصطلاح واستخدامه في الظروف الراهنة كأداة سياسية- قانونية في الصراع المحلي وكأنها إعادة تنشيط للبعد الإقليمي. بيد أن هذه الاستعادة سوف تشرّع الأبواب أمام مطالبات موازية، ترى في الحل الدولي بديلا عن تفاهم محلي- محلي، أو إقليمي-إقليمي. وبالفعل، فبعض القوى التركمانية بدأت بالدعوة علنا إلى تدويل قضية كركوك، بوصفه حلا لا مفر منه لحسم مسالة الأراضي المتنازع عليها.


احتمالات التدويل وإمكانيات الخروج من المأزق 


إذا كان الخوف هو الدافع الخفي وراء دعوات بعض القوى التركمانية لتدويل أزمة كركوك؛ فإن ظروف الصراع يجب أن تدفع كل القوى المنخرطة فيه إلى البحث عن مخرج مشرّف من الأزمة. إن احتمالات التدويل التي تبدو اليوم مجرد دعوات عابرة، يمكن أن تتحول في أي لحظة من لحظات استعصاء الصراع إلى مشروع حقيقي يأخذ صورة قرار دولي، بما يجعل من كركوك مشكلة يمكن مماثلتها بمشاكل السودان الإثنية، ولتتحول إلى أبيي عراقية. ولذلك، يتوجب الشروع في بعض التدابير العاجلة:



  1. وقف العمل بقرار وزارة التخطيط حول تنظيم الإحصاء واستبداله بقرار من رئاسة الحكومة بتشكيل لجنة ثلاثية متوازنة وبإشراف عربي- إقليمي، لوضع تصور عام عن كيفية إجراء إحصاء سكاني سليم.
  2. التوافق على حل عادل لمشكلة المهجرين من كل القوميات، وإعادة توطينهم كمواطنين.
  3. فك الارتباط نهائيا بين الموضوعات التي يدور حولها الصراع، وبالتالي فصل مسألة الموصل عن مشكلة كركوك، وملف المهجرين عن مسألة الأراضي المتنازع عليها.

إن تكتيك معالجة كل هذه الملفات دفعة واحدة، لن يقود إلا إلى حلول فاشلة من شأنها أن تجعل من شبح التدويل كائناً حقيقياً يجوب طرقات كركوك بأقدام ثقيلة.
_______________
كاتب عراقي