اليمن: قوى التماسك وقوى التصدع

فقد الرئيس اليمني صالح الركيزتين الرئيسيتين لحكمه: القوات العسكرية والقبائل، ولا يمكنه من دونهما أن يظل في الحكم أو يراهن على الحرب الأهلية.


 


 


 


 


 


 


 


 


 



عبد الباري طاهر


الحرب في اليمن عملة متداولة منذ أزمان متطاولة. فاليمن القديم والوسيط قامت دولته على أساس تحالفات قبلية سرعان ما تنفرط لتعود التجزئة والاحتراب القبلي. واستمر الصراع الدامي على السلطة داخل كل شطر على حده وبين الشطرين حتى قيام الوحدة في مايو/أيار 1990م.

اعتقد اليمنيون أن قيام الوحدة خاتمة مطاف حروبهم لكن الرئيس علي عبد الله صالح بدأ ومنذ اليوم الأول للوحدة يعد لإلغاء شراكة الجنوب والاستفراد بالسلطة. جاءت الحرب على خلفية اغتيال ما يزيد عن مائة وخمسين كادرا من كوادر الحزب الاشتراكي مدنيين وعسكريين؛ بعدها وسّع علي عبد الله صالح تحالفاته مع الجناح القبلي والإسلام السياسي بزعامة الشيخين: عبد الله بن حسين الأحمر وعبد المجيد الزنداني فكانت حرب 94م.




انتصار علي عبد الله صالح في حرب 94م على خصمه اللدود الاشتراكي، "الشريك الثاني في الوحدة"، أغراه بالجنوح إلى التفرد والتأبيد والتحضير للتوريث
بخروج صالح منتصرا من الحرب وإلغاء شراكة الجنوب، بدأ يعد لإقصاء حلفائه في الحرب، فبدأ بحزب التجمع اليمني للإصلاح، وبخروج هذا الحزب من الائتلاف الحاكم بدأت في اليمن مرحلة جديدة من تبدل التحالفات السياسية.

انتصار علي عبد الله صالح في حرب 94م على خصمه اللدود الاشتراكي، "الشريك الثاني في الوحدة"، أغراه بالجنوح إلى التفرد والتأبيد والتحضير للتوريث. فمنذ العام 1977م، عام خروج التجمع اليمني من الائتلاف والحكم، بدأ الحديث عن التمديد والتوريث، فجرى تعديل الدستور أكثر من مرة، لصالح التجديد للرئيس. كوارث الحرب تبدأ ولا تنتهي، فمن رحمها توالدت حروب كثيرة، آخرها الحروب الستة في صعدة، وهي حروب ما تزال جذوتها متقدة تحت الرماد، ويمكن إشعالها في أية لحظة. كما أن جذورها المذهبية ممتدة إلى أكثر من منطقة: حجة، الجوف، عمران، مأرب، صنعاء وذمار.

شكلت الحرب قطيعة مع سبع محافظات في الجنوب، وقطيعة سالت فيها دماء في صعدة وعمران، وأدت الحروب إلى تفكك التحالفات القبلية والتصارع المذهبي: السلفي، الوهابي، معهد دماج وجامعة الإيمان ومعاهد أخرى في أكثر من منطقة، والمذهب الزيدي في مناطق وجوده التاريخي.

تحالفات متبدلة


أواخر السبعينات والثمانينات، استند صالح على الإسلام السياسي في المواجهة مع الجنوب والجبهة الوطنية الديمقراطية، وجندت الدولتان: اليمنية والسعودية المئات والآلاف من الشباب اليمني والسعودي للقتال في أفغانستان. وفيما بعد في البوسنة والهرسك والشيشان ثم عادوا ليشكلوا نواة القاعدة في البلدين. ورغم تبدل المواقف بعد تدمير برجي التوأم في أمريكا في الـ11 من سبتمبر/أيلول 2001م، فإن الروابط ظلت قائمة بين صالح و "المجاهدين"، وبقي التعاون قائما لمواجهة الاشتراكي، ولا يزالون يستخدمون هذه الورقة حتى اليوم.

الديمقراطية اليمنية هشة، ويمكن إسقاطها، ولا تستطيع أن تصد قانون القوة والغلبة الذي دمر الجنوب، ولم تمنع حروب صعدة الستة، فهي ديمقراطية تتيح بسهولة إعلان حالة الطوارئ، واختطاف الصحفيين وإخفائهم والاعتداء عليهم بالضرب، ومحاكمتهم خارج النظام والقانون وإغلاق الصحف: الأيام، التجمع، أو استنساخها، "الشورى" مثالا، كما تستنسخ الأحزاب: حزب اتحاد القوى الشعبية أو شقها كما حدث مع حزب الحق والرابطة، ولا تتيح التداول السلمي للسلطة في النقابات والاتحادات الاجتماعية: اتحاد نساء اليمن، أو اتحاد العمال والأدباء والكتاب فما بالكم بالتداول السلمي للسلطة في البرلمان أو المجالس المحلية، أما رئاسة الدولة فدونها عقبات لا يمكن في النظام الحالي تخطيها.


صالح وخيار الحسم العسكري





انقسام أو انضمام قوة رئيسية من الجيش "الفرقة الأولى مدرع" بقيادة رئيسها محسن صالح، الرجل الواسع النفوذ في الجيش والقبيلة والإسلام السياسي، وانضمام قبيلتي حاشد وبكيل، وهما القبيلتان الكبيرتان اللتان تتقاسمان الغلبة والقوة للحاكم أي حاكم، وقد استند إليهما صالح في حروبه ضد الجنوب، وفي تهديد المعارضة السياسية وابتزازها، كل ذلك أسقط خيار الحسم العسكري
في المرحلة الأولى من الأزمة راهن صالح على الحسم العسكري ولكنه فشل لاتساع رقعة الاحتجاجات في معظم مدن اليمن، ولصمود الشباب أمام الرصاص الحي والغازات وهراوات "البلطجية"، والجنود بملابس مدنية. ومن ثم فإن انقسام أو انضمام قوة رئيسية من الجيش "الفرقة الأولى مدرع" بقيادة رئيسها محسن صالح، الرجل الواسع النفوذ في الجيش والقبيلة والإسلام السياسي، وانضمام قبيلتي حاشد وبكيل، وهما القبيلتان الكبيرتان اللتان تتقاسمان الغلبة والقوة للحاكم أي حاكم، وقد استند إليهما صالح في حروبه ضد الجنوب، وفي تهديد المعارضة السياسية وابتزازها، كل ذلك أسقط خيار الحسم العسكري.

ومع استمرار جذوة هذه الثورة التي فجر شرارتها الأولى الشباب، بدأت رموز قبلية كبيرة في الانضمام إلى المعتصمين والمحتجين، وعلى رأس هؤلاء: كل أولاد الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر "حاشد"، وأمين العكيمي والشيخ سنان أبو لحوم وهما من أهم مشايخ بكيل، فضلا عن مشايخ أرحب وصعدة، وعمران وحجة ومراد وخولان والبيضاء.

ولم تسلم من الانشقاقات حتى قبيلة علي صالح نفسه، وهي قبيلة سنحان، حيث انشق عليه أهم القادة العسكريين من نفس القبيلة، من أبرزهم عبد الملك السياني وزير الدفاع الأسبق، فضلا عن قادة عسكريين مثل عبد الله القاضي وصالح الضنين، ولم يبق له من سند قبلي أو عسكري غير أولاد إخوته وبعض إخوانه.

واللافت في المشهد اليمني، أن التجار في كل الغرف التجارية قد التحقوا بصفوف المحتجين، وأعلنوا تأييدهم للاحتجاجات  المدنية السلمية.

الرهان على التفكيك والحرب الأهلية





أهم ورقتين كانتا في جعبة صالح (الجيش والقبيلة)، استند إليهما في حكمه طوال أكثر من ثلاثين عاما، قد أصابهما التصدع ولم يعد بإمكانه الاعتماد عليهما، وهذا ما يجعل سيناريو الحرب الأهلية والاحتراب الداخلي والتفكك بعيدا عن اليمن
الاحتجاج السلمي أبطل خيار العسكرة ولم يبق في جعبة الحكم غير المراهنة على الفتن الداخلية والاحتراب الأهلي والتلويح بفزاعة "القاعدة"والإرهاب. وقد بدأ علي عبد الله صالح يدفع نحو تفكيك البلاد والتلويح بالحرب الأهلية، كما في كارثة مصنع الذخيرة في آبين والذي أودى بحياة مائة وخمسين فرداً وعشرات الجرحى، وتجيير "مذبحة" ساحة التغيير بصنعاء في الجمعة قبل الماضية للأهالي، وهي كلها أحداث تؤكد استمرار الرهان على "الفتنة الداخلية"، ولكن مؤشر فشل هذا الأسلوب يعمق من أزمة صالح ونظامه المتداعي، ويفتح الباب أمام رحيله وعائلته ونظامه.

لقد فقد صالح سيطرته على معظم المحافظات، كما فقد سيطرته على القبائل، ودان التجار والفقهاء المذابح ضد المحتجين المسالمين، ولم يبق له غير ساحة السبعين كل يوم جمعة بجوار دار الرئاسة. وحتى الفتن الداخلية التي راهن عليها وهدد بها فإن هامشها بدأ يضيق بمقدار اتساع دوائر الرفض لحكمه.

إن أهم ورقتين كانتا في جعبة صالح (الجيش والقبيلة)، استند إليهما في حكمه طوال أكثر من ثلاثين عاما، قد أصابهما التصدع ولم يعد بإمكانه الاعتماد عليهما، وهذا ما يجعل سيناريو الحرب الأهلية والاحتراب الداخلي والتفكك بعيدا عن اليمن.
_______________
مختص في الشؤون اليمنية