آفاق دور الجيش المصري في مرحلة ما بعد مبارك

لم يتبلور بعد نهائيا دور الجيش المصري في مرحلة ما بعد مبارك، وإن كانت حدود سلوكه يمكن رسمها من خلال التوفيق بين تقاليده والثورة والتزاماته الخارجية.







 

جودت بهجت


يحكم مصر المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي يتكون من كبار قادة الجيش، منذ تنحي مبارك في ثاني يوم جمعة من شهر فبراير/شباط. ولا يُعتبر هذا الجيش الذي يبلغ تعداده حوالي مليون جندي (نصفهم في الخدمة والنصف الآخر احتياطي) من أكبر الجيوش في العالم والشرق الأوسط فحسب، بل هو كذلك وبلا منازع المؤسسة الأكثر تنظيماً ونفوذاً في مصر.





الجيش لا يؤدي الضرائب، ويُشغّل المجندين، ويشتري أراضي الدولة بشروط تفضيلية. لذلك، يبدو أن القادة العسكريين سيسعون إلى الاحتفاظ بهذه الامتيازات.
في البداية، بقي الجيش محايداً عندما اكتسح الاضطراب البلاد نهاية شهر يناير/كانون الثاني. وخلال بضعة أيام، اتخذ الجيش موقفاً إيجابياً برفضه إطلاق النار على الجماهير، ثم أخيراً أشرف على تنحي مبارك من السلطة. لذلك، اعتبر الجيش، بشكل كبير، قوة موحِّدة وتحظى بتقدير أكبر مقارنة بشرطة وزارة الداخلية.

باختصار، يمسك الجيش بمفتاح حاضر ومستقبل مصر. وهذا يطرح عدة أسئلة مهمة: من هم الفاعلون الرئيسيون؟ ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الجيش في المجالين السياسي والاقتصادي؟ كيف سيتعامل الجيش مع الإخوان المسلمين؟ كيف سيكون رد فعل الولايات المتحدة وإسرائيل؟ وأخيراً، ما النموذج الذي ستتبعه مصر: تركيا، أم إيران، أم إندونيسيا أم غيرها؟


اللاعبون الأساسيون
المبادرات الاقتصادية والسياسية
الإخوان المسلمون
السلام مع إسرائيل
أي طريق ستتبعه مصر؟
الطريق إلى الأمام


اللاعبون الأساسيون 


يعتمد الجيش المصري التجنيد الإجباري، بموجب القانون الذي يفرض الانضمام إلى صفوفه من جميع مشارب المجتمع المصري؛ وهو ما يفسر ارتباطه الوثيق بالجماهير، حيث تصبح الخدمة العسكرية مفروضة على كل شاب راشد. غير أن الجيش ليس فاعلاً موحداً، فهو يعكس مجموعة من الخلفيات والمصالح، أساساً بين الجنود من جهة، والقيادة العليا من جهة أخرى. كما أن الجيش المصري يختلف عن نظيره التونسي، حيث استُبعِد هذا الأخير من عملية توزيع الثروة، وبالتالي لم تكن له مصلحة في حماية نظام بن علي. أما في مصر، فالجيش لا يرتبط بالسلطة السياسية فحسب (جميع الرؤساء المصريين، منذ سنة 1952، قدموا من المؤسسة العسكرية)، بل إنه مرتبط أيضا بتدبير الشأن الاقتصادي وأرباحه.


ويجلس وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي على رأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو يُعتَبر أقوى شخصية عسكرية خلال الفترة الانتقالية. وقد بدأ طنطاوي، الذي ولد سنة 1935، مشواره في الجيش عنصراً في سلاح المشاة سنة 1956، وتابع دراسته للحصول على درجة الماجستير في العلوم الحربية. وشارك في حروب 1956 و1967 و1973 ضد إسرائيل. كما شارك في حرب الخليج في سنة 1991 لتحرير الكويت. ومنذ تلك السنة، وطنطاوي يشغل منصب وزير الدفاع والإنتاج الحربي، ثم أصبح القائد العام للقوات المسلحة سنة 1995. وهو معروف بولائه لمبارك ومعارضته للإصلاح الاقتصادي والسياسي، مفضلاً استقرار النظام. ولم يبد، خلال الأسابيع الأخيرة، أن لطنطاوي مطامح سياسية، حيث آثر أن يتراجع بالقوات المسلحة لتأخذ مكانها وسط النسق الواسع والمريح للمجتمع المصري، ويترك المدنين يتكفلون بالحكومة. ويبدو أن سنّه وحالته الصحية الضعيفة يحدان أيضاً من مطامحه السياسية.


وهناك الفريق سامي حافظ عنان الذي يشغل منصب رئيس هيئة أركان القوات المسلحة المصرية منذ سنة 2005. وقد ولد سنة 1948 وصار ضابطاً سنة 1967. كما كان عضواً في قوات الدفاع الجوي، وأصبح قائد كتيبة سنة 1981. كما شارك في حرب 1973 ضد إسرائيل. وفي 5 فبراير/شباط 2011، ظهر عنان أمام حشد من المحتجين المناهضين للحكومة في ميدان التحرير في القاهرة، وتعهد بالحفاظ على مطالب الشعب وأمنه.


ومن بين أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، هناك الفريق عبد العزيز سيف الدين، قائد قوات الدفاع الجوي، والفريق طيار أركان حرب رضا محمود حافظ محمد، قائد القوات الجوية المصرية، والفريق مهاب مميش قائد القوات البحرية، واللواء حسن الرويني، قائد المنطقة المركزية.


المبادرات الاقتصادية والسياسية 


شكل الاقتصاد قلب الثورة المصرية. فالشباب والفتيات الذين مثّلوا عماد الثورة لم تكن تُحرّكهم أية توجهات أيديولوجية، بل إن كل ما أراده هؤلاء الشباب المتعلمون والعاطلون عن العمل في معظمهم هو تأمين مستوى عيش كريم لأنفسهم وأبنائهم. وقد وجّه عدم الاستقرار السياسي وغياب الأمن اللذان صاحبا الثورة، ضربة قوية للاقتصاد الضعيف أصلاً؛ فخلال الثورة التي دامت ثلاثة أسابيع، خسرت مصر أكثر من 310 مليون دولار في اليوم. فقد تجمّد القطاع السياحي تماماً، وهو من أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد.


ولا يبدو أن القادة العسكريين الحاليين في مصر سوف يتركون سياسة الانفتاح الاقتصادي تستمر الأقل. أولاً، لأن طنطاوي كان من أكبر المدافعين عن تحكم الدولة في الأسعار والإنتاج، كما كان يعترض باستمرار على جميع الخطوات الرامية إلى تحرير الاقتصاد. أما باقي أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فلم يُعبرّوا عن أية آراء بخصوص القضايا الاقتصادية، إلى جانب افتقارهم للمعرفة والتكوين المهني في المجال. ثانياً، وبعد مرور فترة قصيرة على الإطاحة بالملك سنة 1952، اتسع دور الجيش في الاقتصاد، حيث صار يُسيّر المصانع ومراكز حضانة الأطفال والمنتجعات الشاطئية، إلى غيرها من الأنشطة الاقتصادية المختلفة. كما أن الجيش لا يؤدي الضرائب، ويُشغّل المجندين، ويشتري أراضي الدولة بشروط تفضيلية. لذلك، يبدو أن القادة العسكريين سيسعون إلى الاحتفاظ بهذه الامتيازات.





لا سبيل لمعرفة النوايا الحقيقية للقادة العسكريين، وما إذا كانوا حقاً ينوون تحويل السلطة إلى حكومة مدنية أو يسعون إلى التلاعب بالعملية السياسية.
وأخيرا، وبهدف تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تلت تحويل السلطة، لم يسمح الجيش إضرابات العمال. ومن المتوقع أن يطلب مساعدة مالية قصيرة الأمد لدى المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والقوى الغربية الرئيسية.

وبخصوص الإصلاح السياسي، كان الجيش بالنسبة للنظام القديم بمثابة العمود الفقري، حيث استفاد من الوضع القائم، ولطالما عبّر عن مصلحته في الحفاظ على الاستقرار والنظام. كما أنه معروف بكونه مؤسسة لا تشجع على الديمقراطية. بيد أنه، وفي الفترة الأخيرة من نظام مبارك، اعتبر أغلب المصريين هذا "الاستقرار" نوعاً من "الركود"، وهو ما شكل سبباً رئيساً وراء الانتفاضة الشعبية. ويعي القادة العسكريون ضرورة إدخال إصلاحات وتغييرات سياسية. لكن السؤال المطروح هو: ما حجمها وبأية سرعة سيتم ذلك؟


لقد حلّ الجيش البرلمان ووعد بتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية حرة خلال ستة أشهر. وبنفس الأهمية، أنشأ الجيش لجنة لتعديل الدستور، وتعهّد بعرض التعديلات على الشعب للاستفتاء. وقد رحب فريق من المعارضة بهذا البرنامج على أنه دليل على استعداد الضبّاط لتسليم الحكم إلى سلطة مدنية، بينما تساءل فريق آخر عما إذا كان هذا البرنامج السريع لا يشكل إشارة على العكس. فقد ولّد ذلك قلقاً من كون الجيش يحاول استغلال الأحداث للحفاظ على سلطته عبر تسريع العملية وعدم منح الأحزاب السياسية والمرشحين الوقت الكافي لتنظيم انتخابات حقيقية وعادلة تنبثق عنها حكومة مدنية قوية.


لا سبيل لمعرفة النوايا الحقيقية للقادة العسكريين، وما إذا كانوا حقاً ينوون تحويل السلطة إلى حكومة مدنية أو يسعون إلى التلاعب بالعملية السياسية. وبالنظر إلى سأم الشعب المصري من استحواذ القادة العسكريين على السلطة السياسية، علاوة على الضغط الدولي في اتجاه إصلاح سياسي، يبدو أن الحكومة المدنية سوف تتحمل المسؤولية. لكن هذا لا ينفي أن الجيش سيحتفظ بنفوذ مهم.


الإخوان المسلمون 


طوال العقود الثلاثة الأخيرة، نصّب مبارك نفسه على أنه السد المنيع في وجه الأصولية الإسلامية، جاعلاً شعاره: ‘‘إما أن تساندونني أو يسيطر الإسلاميون على الحكم’’. وليس من المستغرب إذن أن تتسبب استقالته في ظهور تكهنات عن الدور الذي يمكن للإخوان المسلمين أن يلعبوه، وعن علاقتهم بالجيش. ولا شك أن القادة الإسرائيليين كانوا الأكثر توجساً من احتمال مشاركة الإخوان المسلمين في الحكومة المصرية القادمة. هذا النوع من التفكير يعكس عقلية عفا عنها الدهر منذ عقود قد خلت. فالثورة كان من بين مطالبها التشغيل، ولم تكن فيها أية شعارات إسلامية بالمرة، ولم يكن يبدو على المتظاهرين أنهم تحت تأثير إيران أو السعودية أو أي بلد إسلامي آخر. ثانياً، لقد تغيرت حركة الإخوان المسلمين، حيث عرفت مراحل مختلفة من تاريخها منذ تأسست سنة 1928. وخلال العقود الأخيرة، دأبت الحركة على التنديد بالعنف، وقررت أن "تلعب وفق القواعد" وأن تشارك في الانتخابات.


وبينما يبقى الجيش أقوى مؤسسة في مصر، فإن حركة الإخوان المسلمين تبقى أفضل حركة من حيث التنظيم. وبالتالي، لن يكون هناك من خيار آخر أمام الطرفين سوى التعاون فيما بينهما، إذ لن يكون بإمكان أحدهما التشكيك في شرعية الآخر. إضافة إلى ذلك، ومن أجل التخفيف من أية مخاوف محتملة، أعلن قادة الإخوان المسلمين بأنهم لن يرشحوا أحداً منهم لمنصب الرئاسة، ولن يسعوا إلى نيل الأغلبية في البرلمان. وعليه، وبالرغم من حالة الشك الشديد المتبادل بين الطرفين، فإنه من المرجح أن يتوصل الاثنان إلى طريقة للعمل فيما بينهما.


السلام مع إسرائيل 


هل سيحترم الجيش (ومعه الحكومات المصرية المقبلة) اتفاقية السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل سنة 1979؟ الجواب هو بالتأكيد نعم، ولكن من المحتمل أن تصبح العلاقة بين القاهرة وتل أبيب أقل دفئاً مما كانت عليه في عهد مبارك. خلال الثورة التي دامت ثلاثة أسابيع، لم تُحرَق أية أعلام أمريكية أو إسرائيلية؛ فالمتظاهرون لم يكن دافعهم هو كراهية القوى الأجنبية. بالإضافة إلى ذلك، ومنذ سنوات السبعينات، كانت للمسؤولين العسكريين المصريين علاقات وثيقة بنظرائهم الأمريكان والإسرائيليين. ولا ننسى أن الجيش الإسرائيلي يبقى أقوى بكثير من الجيش المصري بالرغم من التسليح المكثف لهذا الأخير وتحسين جودة تدريبه. وربما ستكون مصر ما بعد مبارك أكثر تعاطفاً مع محنة الفلسطينيين، ولكن من المستبعد أن تلجأ إلى إلغاء اتفاقية السلام مع الإسرائيليين. فلا عجب إذن أن نرى الجيش يُصدر بياناً يؤكد فيه أنه’’سوف يبقى ملتزماً بجميع معاهداته والتزاماته الإقليمية والدولية‘‘.


أي طريق ستتبعه مصر؟ 


منذ استقالة مبارك، عكف صانعو السياسة والمنظرون على مناقشة النموذج الذي سوف تتبعه مصر. فقد ادعى القادة الإيرانيون أن الثورة المصرية استلهمت الثورة الإيرانية، وبأن دولة إسلامية أخرى في الشرق الأوسط سوف تولد عمّا قريب. في المقابل، لا يرى كثيرون في العالم العربي (ومن بينهم المصريون) أن إيران تُعتبر نموذجاً ناجحاً. فردة الفعل الرسمية الخشنة على الحركة الخضراء منذ انتخابات 2009 الرئاسية قد نزعت مزيد من المصداقية عن النموذج الإيراني.





الجيش لن يتخلى عن جميع سلطاته وسيسعى إلى الاحتفاظ بجزء هام منها في صياغة السياسات الداخلية والخارجية لمصر، وذلك على الأقل خلال المديين القصير والمتوسط.
وعلى نحو مماثل، يمكن لإندونيسيا ما بعد سوهارتو أن تكون نموذجاً تحتذي به مصر ما بعد مبارك. فبعد فترة انتقالية، أصبحت لجاكرتا حكومة مدنية. ولكن، بالنسبة لمصر، يبقى الجيش لاعباً مهما . ربما يكون للبلدين وزنهما الثقيل في العالم الإسلامي ويحتضنان معاً أقليات دينية كبيرة. ولكن، من جهة أخرى، نجد أن حركة الإخوان المسلمين تبقى أكثر قوة وأفضل تنظيماً مقارنة بالأحزاب الإسلامية في إندونيسيا. أما باكستان، والتي شهدت انقلابات عسكرية متكررة على الحكومات المدنية، فتبقى نموذجاً أقل نجاحاً من إندونيسيا. وأخيراً، هناك رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وحزبه الحاكم العدالة والتنمية، الذين تمكنوا من التوفيق بين الديمقراطية والفوز في الانتخابات والتنمية الاقتصادية والاستقلال الوطني، إلى جانب تعزيز القيم والأصالة الإسلامية. باختصار، يبقى النموذج التركي أفضلهم وانجحهم جميعاً.

وبصرف النظر عن أوجه التشابه والاختلاف بين مصر وباقي البلدان، فمن المحتمل أن تتبع مصر نهجها الخاص بها. فالجيش لن يتخلى عن جميع سلطاته وسيسعى إلى الاحتفاظ بجزء هام منها في صياغة السياسات الداخلية والخارجية لمصر، وذلك على الأقل خلال المديين القصير والمتوسط.


الطريق إلى الأمام 


يمكن للجيش أن يقوم بتغييرات تجميلية والاحتفاظ بالأساسات الحقيقية للنظام المخلوع فيما يمكن تسميته "المباركية من دون مبارك". ولكن يبقى من الصعب إحداث ذلك، لأن نظاماً من هذا النوع لن يكون مقبولاً لا لدى المصريين ولا حتى لدى المجتمع الدولي. وفي الغالب، سوف ينقل الجيش السلطة إلى حكومة مدنية. هذه الأخيرة سوف تمثل القوى السياسية الكبرى في البلاد، بما فيها الإخوان المسلمين. كما سيحافظ الجيش على دور هام في تسيير البلاد، سواء بشكل مباشر أو خلف الكواليس. ومن المحتمل أن تنأى هذه الحكومة بنفسها عن الولايات المتحدة وإسرائيل، وإن كانت ستحترم التزاماتها الدولية.
_______________
أستاذ الاستراتيجية بجامعة الدفاع الوطنية- واشنطن