مخاطر الصراع على الحزام الحدودي الأفغاني- الباكستاني

أفغانستان وباكستان من أكثر أقاليم العالم إثارة للقلاقل، اُبتليا بحكومات ضعيفة، وجماعات إسلامية متشددة، وارتهان لإعانات أجنبية، وانتعاش لتجارة المخدرات، وفساد متوطن، وفي ظل تلك المعطيات، تتصارع الولايات المتحدة والصين والهند لبسط السيطرة والنفوذ عليهما. وهو ما يفاقم من تعقيدات الوضع الإقليمي.

 

براهما تشيلاني

ترك الميراث الاستعماري البريطاني في شبه القارة الهندية وجنوب آسيا كثيرا من الأشكال السياسية المشوهة، وفي مقدمتها تكوين دولتي أفغانستان وباكستان، وهما الدولتان اللتان تبحثان عن تعريف محدد لهويتهما القومية، دون أن تهتدي أي منهما إلى شيء مما تبتغي.

تتصدر أفغانستان وباكستان قائمة الدول الهشة والرخوة، أخذا في الاعتبار حالة التفكك في أمنهما الداخلي، واختلاط التخوم الفاصلة بين الفاعلين الرسميين وغير الرسميين، وعجز الحكومة عن بسط نفوذها على المناطق الرئيسة في البلاد.
ونظرا لحالة التناقض الداخلي التي تعيشها الدولتان اليوم، وما يعصف بهما من تحديات خطيرة مصدرها الجماعات الإسلامية المتشددة، والقوى المتمردة في الإقليم، والأطماع الخارجية، فإن الدولتين تعانيان وضعا بالغ الحرج.

وكان قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما البدء في سحب القوات الأميركية من أفغانستان وإنهاء كافة العمليات القتالية بحلول عام 2014، بمثابة تمهيد المسرح لتنافس جيوسياسي حامي الوطيس لتشكيل مستقبل المعالم السياسية، ليس فقط في تلك الدولة بل وفي جارتها باكستان بنفس القدر.

ومن التطورات الأخيرة أيضا في هذا الصدد أن الحملة الشرسة التي قام بها الجيش الأميركي وأفضت إلى مقتل أسامة بن لادن في مخبئه في "أبوت أباد" ـ معقل الجيش الباكستاني ـ قدمت إشارة تذكر معها المراقبون أن هذا الإقليم ما يزال رغم ذلك أكثر المخابئ الآمنة للإرهاب العابر للقوميات وفقا للمنظور الأميركي، وأن ثمة تحديًا كبيرًا يكتنف إقرار حالة من الاستقرار في الحزام الحدودي الأفغاني-الباكستاني (المعروف اختصارا باسم الـ"أف ـ باك Af-Pak"، والجهود الشاقة لتطهير ذلك الحزام ممن تعتبرهم أميركا أعداءها.

وخلال عقد من الزمن، ومنذ الهجوم على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2001، تحولت البلدات الواقعة في قلب الأراضي الباكستانية إلى قلاع للمنظمات "الجهادية". غير أن مقتل بن لادن وأسر عدد آخر من زعماء القاعدة وطالبان في عدد من تلك البلدات كشف أن العمليات "الجهادية" الكبرى لم تكن تنطلق من كهوف الجبال بل من قلب المدن الباكستانية.

وفي ظل هذه الأجواء يبدو أن أفغانستان وباكستان تقتربان لا محالة من شفا الهاوية؛ فالدولتان، إضافة إلى أنهما يعتبران اليوم من أكثر أقاليم العالم إثارة للقلاقل، اُبتليا بحكومات ضعيفة وغير مستقرة، وجماعات إسلامية متشددة، وارتهان لإعانات أجنبية، وانتعاش مفزع لتجارة المخدرات، وفساد متوطن.

وتتصدر الدولتان قائمة الدول الهشة والرخوة، أخذا في الاعتبار حالة التفكك في أمنهما الداخلي، واختلاط التخوم الفاصلة بين الفاعلين الرسميين وغير الرسميين، وعجز الحكومة عن بسط نفوذها على المناطق الرئيسة في البلاد.

وفي كلتا الدولتين، لا تتجاوز سلطة رئيس الدولة أكثر من نفوذ المدينة العاصمة. وإذا كان زمام الأمور في أفغانستان في أيدي أمراء الحرب وزعماء القبائل فإن الأوضاع في باكستان في يد المؤسسة العسكرية القوية باستثناء الأجزاء الغربية. والفرق الوحيد بين الدولتين أن باكستان قد التحقت بقائمة الدول الرخوة/الهشة وفي جعبتها ترسانة نووية مهلكة. وفي المستقبل المنظور، سيبقى الحزام الحدودي الأفغاني-الباكستاني يمثل المنبع الرئيس لما يسمى "الإرهاب الدولي".

وفي ظل تلك المعطيات، تتعارض المصالح بين القوى العظمى المؤثرة في هذا النطاق الحدودي، وخاصة بين الولايات المتحدة والصين والهند، وهو ما يفاقم من تعقيدات الوضع الإقليمي.

المصالح الأميركية
المصالح الصينية
المصالح الهندية
إلى أين يمضي التنافس الدولي؟

المصالح الأميركية 

يعد الحزام الحدودي الأفغاني الباكستاني أكبر مستقبل للدعم الأميركي على مستوى العالم، وهو ما يعبر عن الأهمية الإستراتيجية لهذا الإقليم في شبكة المصالح الأميركية. وفي الحقيقة فإنه بعد انتهاء الحرب الأفغانية، تبدي الولايات المتحدة نيتها في الحفاظ على قواعد أميركية طويلة الأمد في أفغانستان، فضلا عن مخططها استبقاء عدد محدود من القوات في العراق. وهو ما يعني أنها ستتخذ من أفغانستان نقطة ارتكاز في المنطقة. ومن المحتمل أن تعمل الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب في أفغانستان على استخدام قواتها الجوية لمطاردة العناصر المعادية ممن تطلق عليهم وصف الإرهابيين وتتعقب ملاذاتهم الآمنة في باكستان.

وفي خطابه الذي ألقاه في وقت سابق من يونيو/حزيران الماضي، يذهب باراك أوباما إلى القول بأنه "لا مفر من أن تتركز جهودنا هنا على استهداف الملاذات الآمنة للإرهابيين في باكستان"، ويمضي مؤكدا على أن هدف الولايات المتحدة في الحزام الحدودي الأفغاني-الباكستاني هو "القضاء على أية ملاذات آمنة يمكن أن تستخدمها القاعدة أو منتسبوها لشن هجمات على بلادنا أو على الدول المتحالفة معنا".

وفي ظل هذا الموقف الأميركي، تحول تركيز الحرب في أفغانستان من الجنوب إلى الشرق على طول الحدود مع باكستان. وعلى نحو ما أظهرت الحملة التي استهدفت مقر بن لادن في "أبوت أباد"، احتاجت الولايات المتحدة لقاعدة عسكرية يمكن من خلالها شن هجمات على أهداف داخل العمق الباكستاني. وعلى هذا النحو ستصبح الأجزاء الشرقية من أفغانستان منطقة أكثر أهمية لإطلاق هجمات دورية حاسمة وحملات تشنها القوات الخاصة ضد الشبكات المسلحة داخل باكستان، كما ستصبح هذه المنطقة بالغة الأهمية للولايات المتحدة الحريصة على عدم وقوع ترسانة الأسلحة النووية الباكستانية في أيدي من تصفهم بالإرهابيين.

يعد الحزام الحدودي الأفغاني الباكستاني أكبر مستقبل للدعم الأميركي على مستوى العالم، وهو ما يعبر عن الأهمية الإستراتيجية لهذا الإقليم في شبكة المصالح الأميركية.
لقد كانت الولايات المتحدة منذ منتصف القرن العشرين منخرطة بشكل كثيف في الحزام الحدودي الأفغاني الباكستاني. غير أن طبيعة هذا الانخراط قد شهدت تحولا جذريا خلال الفترة التي أعقبت التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان عام 1979؛ فمنذ ذلك التاريخ بدأت الولايات المتحدة تشن حربا خفية بقيادة وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه) عبر باكستان بهدف إجبار القوات السوفيتية على الخروج من تلك الدولة الحبيسة. لكن بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول تحولت الحرب الخفية إلى حرب معلنة.

وساعدت الحرب الخفية الموجهة ضد التدخل العسكري السوفيتي، الذي استمر لتسع سنوات، في خلق ثقافة جهادية على طول الحزام الحدودي الأفغاني-الباكستاني، كما ساهمت تلك الحرب غير المعلنة في ظهور رموز "جهادية" مثل بن لادن، والملا عمر.

وقد تمخض تاريخ تلك الحروب الخفية والمعلنة، والحاجة المستمرة للقيام بهجمات دورية وضربات عسكرية تشنها قوات العمليات الخاصة، عن تحول الولايات المتحدة إلى قوة مكروهة بين سكان الحزام الحدودي الأفغاني الباكستاني.

وتبلغ السمعة السيئة للولايات المتحدة مداها في باكستان؛ حيث تشهد الساحة السياسية في هذا البلد انتقادات لاذعة للعلاقة التي تجمع واشنطن وإسلام أباد. وبحسب الاستطلاع الذي أجراه مركز بيوPew  للأبحاث ومقره واشنطن، ضمن مشروعه لقياس اتجاهات الرأي العام العالمي، اتضح أن ثلاثة أرباع الشعب الباكستاني لديه موقف سلبي تجاه الولايات المتحدة. ومن بين كل 10 باكستانيين هناك 7 يرون في الولايات المتحدة عدوا، لا شريكا، لبلادهم.

وتضع المواقف المعادية للولايات المتحدة في الشارع الباكستاني مزيدا من التحديات الصعبة أمام سياسات واشنطن في تلك المنطقة.

فعلى الرغم من أن واشنطن قدمت لباكستان منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أكثر من 21 بليون دولار وعديدًا من أشكال الدعم لمناهضة "الإرهاب"، إلا أن الولايات المتحدة لم تتلق من إسلام أباد سوى عون "خجول ومتردد" في بعض الأحيان أو تعاون "مخادع" في حالات أخرى وفق المنظور الأميركي.

واليوم، وفي ظل تصاعد المواقف المعادية للولايات المتحدة، فإن سياسة واشنطن في باكستان تتعرض لحالة من التدهور والتراجع.

وما تزال باكستان، التي تعد واحدة من أقل دول العالم في نسبة الضرائب للناتج المحلي الإجمالي، أكثر اعتمادا على الإعانات الأميركية من أي وقت مضى.

ومع ذلك تستمر السياسة الأميركية محكومة بفعل المصالح الإقليمية قصيرة الأمد، تلك الصالح التي تبقى فيها باكستان بمثابة القوة المركزية التي بوسعها المساعدة في وضع كلمة النهاية لكافة العمليات الأميركية في أفغانستان.

وفي حقيقة الأمر، فإن ما ذهب إليه باراك أوباما بتخفيض سقف المطامح الأميركية في أفغانستان جعل الولايات المتحدة معتمدة على باكستان بشكل أكبر من ذي قبل. ولقد انتقلت الولايات المتحدة من حقبة جورج بوش الابن التي اعتنقت إستراتيجية مواجهة التمردات المسلحة إلى إستراتيجية جديدة تؤمن بأهداف متواضعة في عهد الرئيس أوباما وتعمل على تحقيق تسوية ومصالحة مع حركة طالبان الأفغانية.

وفي هذه الإستراتيجية الجديدة يحتاج أوباما إلى جنرالات الحرب الباكستانيين لإقناع طالبان بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. ومن المدهش أن بعض هؤلاء الجنرالات أنفسهم هم من يوفرون الملاذ لكبار قادة حركة طالبان الأفغانية، فضلا عن إتاحتهم الفرصة لمقاتلي طالبان لاستخدام الأراضي الباكستانية قاعدة يشنون منها هجمات عابرة للحدود.

وفي ظل هذه المعطيات لا يمكن تصور خروج الجيش الأميركي من أفغانستان بشكل يحفظ ماء وجه واشنطن دون تعاون باكستاني يقدم لواشنطن طوق النجاة.

المصالح الصينية 

دوما ما لعبت الصين دورا فاعلا في باكستان؛ حيث ترى إسلام أباد في الصين "صديقا حاضرا وقت الشدائد". وفي السنوات الأخيرة توثقت بشكل ملحوظ العلاقة التي تجمع الصين وباكستان ضد عدوهما المشترك الذي تمثله الهند.

وفي المقابل، تعد الصين لاعبا جديدا نسبيا في أفغانستان، فهنا تسعى بكين بشراهة لاستغلال الفرص التجارية واستخراج الموارد الطبيعية في حرب جيوسياسية مستعرة. وقد سعت الصين خلال حكم طالبان لأفغانستان إلى استغلال كافة فرص استيراد الموارد الطبيعية من تلك الأراضي البكر.

وقد تصادف التاريخ الذي وقعت فيه هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول مع إجراء بكين مفاوضات مع زعماء حركة طالبان في مدينة قندهار لتوقيع عقود تخوّل الشركات الصينية حقوق التنقيب عن الطاقة والخامات المعدنية في الأراضي الأفغانية.

اليوم، وفي ظل تصاعد المواقف المعادية للولايات المتحدة، فإن سياسة واشنطن في باكستان تتعرض لحالة من التدهور والتراجع.
وكان تعامل الصين مع نظام طالبان متفقا في خطه العام مع نزعة بكين الساعية بشكل حازم إلى اقتناص الفرص التجارية مع الأنظمة المنبوذة أميركيا حول العالم، من بورما في الشرق إلى السودان في الغرب. فحيثما تكون هناك عقوبات اقتصادية على دولة ما، تسارع الصين إلى استغلال الموقف وفتح نوافذ جديدة معها.

فعلى سبيل المثال، فإنه حين انسحبت الشركات اليابانية والهندية من بعض مشروعات الطاقة في إيران استجابة للموقف الدولي الذي فرض عقوبات اقتصادية على طهران، سارعت الصين بانتهاز الفرصة السانحة وشغلت شركاتها المملوكة للدولة الساحة الخاوية التي تركتها اليابان والهند.

وفي أفغانستان، كانت الصين أيضا، وليست الولايات المتحدة، أول من جنى ثمار عقود التنقيب عن الخامات المعدنية. وتمثل أفغانستان في حقيقة الأمر كنزا دفينا من الخامات المعدنية، بما في ذلك الكميات الضخمة التي تحتويها تلك الدولة من معادن، مثل: الليثيوم، والذهب، والكوبالت، والنحاس، والحديد.

وتقدر الولايات المتحدة الثروة المعدنية التي تحتويها أفغانستان بما يزيد عن تريليون دولار محفوظة في خامات غير مستغلة ومبعثرة عبر أراضي تلك الدولة مترامية الأطراف.

وبينما تسعى الولايات المتحدة وبقية أعضاء حلف الناتو إلى تقديم بعض المساعدات الرامية إلى إحلال بعض أشكال ومظاهر الأمن في أفغانستان، تركز الشركات الصينية على مكاسبها كأكبر المنتفعين من ثورة اكتشاف الخامات المعدنية في أفغانستان.

ولعل أفضل مثال على ذلك أن كبرى شركات التعدين المملوكة للدولة الصينية وقعت في ديسمبر/كانون الأول 2007 عقدا مع الحكومة الأفغانية قيمته 2.9 بليون دولار، وذلك بهدف استخراج النحاس من حقول "أيناك" التي تحتوي على بعض أكبر احتياطيات خامات النحاس غير المستغلة على مستوى العالم، وذلك بتقدير يذهب بحجم هذه الخامات إلى نحو 240 مليون طن.

ومن اللافت للنظر في هذا الصدد، أن بعضا من تهم الفساد قد وُجهت إلى وزير التعدين الأفغاني بتلقي رشوة مقدارها 30 مليون دولار من شركة التعدين الصينية مقابل توقيع العقد المذكور، وهي التهمة التي أنكرها الوزير. ومع تعيين وزير جديد، أعلنت وزارة التعدين التزامها بحملة تطهير الفساد المتفشي في هذا القطاع.

وعلى خلاف البعد الأحادي الذي تنظر من خلاله بكين إلى أفغانستان، يتسم الاهتمام الصيني بباكستان بالتنوع وتعدد المجالات. وتشعر الولايات المتحدة والهند بقلق شديد من تمتين الروابط الإستراتيجية الذي تقوم به الصين في باكستان يوما بعد يوم. فبين بكين وإسلام أباد مخططات مشتركة ومشروعات وعقود لمد شبكة جديدة من أنابيب النفط، وخطوط النقل، بل وإقام

ABOUT THE AUTHOR