الآفاق المستقبلية للعلاقات العراقية-الخليجية: سياسة تريث وراقب

ارتكزت السياسة الخليجية تجاه العراق على إستراتيجية الترقب والانتظار لما ستؤول إليه الأوضاع الأمر الذي أضعف النفوذ الخليجي داخل العراق وفوت على دوله فرصا من أهمها احتواء التغيير الحاصل وتوجيهه ودرء الأخطار المحتملة، فضلا عن خلق حالة توازن مع النفوذ الإيراني بالعراق.
1_1066259_1_34.jpg

 

ميثاق خير الله جلود

منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وظهور الدول الخليجية دولاً مستقلة على فترات متعاقبة من القرن الماضي، مرت العلاقات العراقية- الخليجية بمراحل عدة اتسمت تارة بالفتور، وأخرى بالاستقرار كما جرى في أثناء فترة الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) عندما قدمت دول الخليج دعمها للعراق، خاصة بعد التقاء مصالح الطرفين العراقي والخليجي في تحجيم طموحات إيران في المنطقة بعد الثورة الإيرانية عام 1979.

لم يستطع الطرفان العراقي والخليجي الإفادة من متغير الوجود الأمريكي في العراق لطي صفحة الماضي وحلحلة المشاكل وتفتيت الهواجس.
وبعد نشوب أزمة الخليج التي أسفرت عن اندلاع حرب الخليج الثانية (1990-1991) ولجت العلاقات العراقية- الخليجية مرحلة حرجة قطعت على إثرها العلاقات الدبلوماسية، لكن هذه القطيعة لم تستمر طويلا، إذ شهد منتصف تسعينيات القرن الماضي انفراجا نسبيا في مسار العلاقات العراقية – الخليجية، نتيجة لتوقيع العراق مذكرة التفاهم مع منظمة الأمم المتحدة (النفط مقابل الغذاء)، وعلى الرغم من ذلك بقيت العلاقات العراقية- الخليجية تراوح في محلها في تلك المدة، فلم تتقدم تجاه التحسن المطلوب، لعوامل تتعلق بدور الولايات المتحدة في إبقاء الفتور في هذه العلاقات، وأخرى تتعلق باستمرار اختلاف التوجهات السياسية بين الطرفين، ولم تنجح المبادرة القطرية التي طرحت عام 2000 لفك الحصار عن العراق بسبب وقوع أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 (استهداف برجي التجارة)، إذ تعرضت دول الخليج العربي لحملة ضغوط أمريكية، دفعتها إلى ترقب أوضاع المنطقة، فانخرطت في التحضيرات الأمريكية لاحتلال العراق بصورة مباشرة أو غير مباشرة، خاصة الكويت التي سخرت أراضيها لصالح إنجاح الغزو الذي اكتمل في التاسع من أبريل/ نيسان 2003، إلا أن الإخفاقات الأمريكية المتلاحقة في العراق وحرب المدن التي انغمس الجيش الأمريكي فيها جعل الأمور تتبدل، وسقف الطموحات ينخفض، وبالذات فيما يخص مشروع الشرق الأوسط الكبير، مما دفعها إلى تغيير سياستها المتبعة تجاه العراق ودول الخليج، والمنطقة برمتها.

دول الخليج بين التحفظ والتردد
بلدان الخليج والعراق: النفوذ الإيراني والتفكك الإجتماعي
إطار مقترح لتطوير العلاقات العراقية- الخليجية

دول الخليج بين التحفظ والتردد 

لقد برزت ردود فعل خليجية متحفظة تجاه العراق بعد الاحتلال الأمريكي، وأخذت السياسات تبنى على خلفية ملفات متشابكة، وبالرغم من الزيارات المتبادلة للمسؤولين بين الطرفين وإعادة التمثيل الدبلوماسي؛ إذ عيّن العراق سفراء في دول الخليج، وبالمقابل تولى سفراء كل من الإمارات والكويت والبحرين مهامهم في بغداد، إلا أن العلاقات بين الطرفين لم تتجه نحو التحسن المطلوب وخاصة مع المملكة العربية السعودية، التي بقيت مترددة وغير متفاعلة مع الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الاحتلال الأمريكي؛ ففي زمن الحكومة المؤقتة، قام رئيسها أياد علاوي بزيارة السعودية أكثر من مرة، ومن المعروف انه يحظى بعلاقات واسعة مع أمرائها وبعض أجهزتها الحكومية، لكن هذه العلاقة لم تترجم على ارضي الواقع بدعم حقيقي لحكومة علاوي. وازداد الأمر تعقيدا بتولي إبراهيم الجعفري مقاليد السلطة بعد ترأسه رئاسة الوزراء، ولاسيما بعد رفض المملكة استقبال الحجاج العراقيين، نتج عنه موجة استياء داخل العراق، فضلا عن ما شهدته تلك المدة من تصعيد تبناه الإعلام الرسمي السعودي ضد الجعفري وحكومته، بعد الاقتتال الذي حصل في العراق في ذلك الوقت، وبالمقابل كانت القناة الرسمية العراقية تتبنى سياسة مماثلة، ولم تتغير هذه الصورة كثيرا في عهد حكومة نوري المالكي بل ازداد الأمر تعقيدا في بعض الملفات.

أما الكويت فإنها تتعاطى مع العراق سياسيا بايجابية أحياناً وبسلبية في أحيان كثيرة، وبالتالي بقي موقفها تجاه العراق هشا ومبنياً على أساس هواجس الماضي، وهذا ما بدا واضحا بعد رفضها مسح أو حتى تخفيض ديونها وتعويضاتها المترتبة على العراق. وعلى عكس الموقف السعودي والكويتي، كانت مواقف باقي دول الخليج العربي أكثر ايجابية ولاسيما الإمارات العربية المتحدة التي كان موقفها الأكثر وضوحا، فقد مسحت مجمل ديونها المسجلة على العراق والبالغة نحو سبعة مليار دولار، وتوجهت بثقلها الاقتصادي إليه.

وبعد هذا الاستعراض الموجز نتساءل: ما الذي منع الولايات المتحدة أن تكون عراباً لشراكة إستراتيجية عراقية- خليجية، إذ من المعروف أن الولايات المتحدة عامل مؤثر في صناعة القرار السياسي الخليجي؟ وبصيغة أخرى، لم يستطع الطرفان العراقي والخليجي الإفادة من متغير الوجود الأمريكي في العراق لطي صفحة الماضي وحلحلة المشاكل وتفتيت الهواجس؟ وفي هذا الصدد، يمكننا القول: إن دعوات الولايات المتحدة العلنية التي تنصح بها دول الخليج للتعاطي مع العراق وقبول عضويته في مجلس التعاون الخليجي، وإعفائه من ديونه لديها، يمكن تفسيرها على أنها لغرض إعلامي، أكثر من كونها دعوات جدية تتناسب مع ثقل الولايات المتحدة الواضح في سياسات دول الخليج في مسائل مشابهة، إذ يبدو أن صناع القرار السياسي في البيت الأبيض يرون أن بقاء العلاقات العراقية-الخليجية بصيغتها الحالية من مصلحة الولايات المتحدة لتنفيذ أجندة معينة لم تكتشف ملامحها لحد الآن.

بلدان الخليج والعراق: النفوذ الإيراني والتفكك الإجتماعي 

بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وما رافقه من تحولات برزت محددات جديدة تحرك العلاقات العراقية – الخليجية باتجاه التطور المنشود أو القطيعة والركود، أهمها طبيعة علاقات العراق مع إيران ومدى التدخل الإيراني بالشأن العراقي فضلا عن مدى ضمان إيران لموقف ايجابي عراقي لطموحاتها في المنطقة، وليس خافياً  أن دول مجلس التعاون كانت تتوجس من سياسة (العراق وإيران) إذ لطالما وقعت المملكة العربية السعودية والكويت تحت تأثير القلق من العراق ومن ثم إيران، بينما كانت باقي دول المجلس تخشى من النفوذ الإيراني، والتساؤل الذي يطرح والذي من المهم أن يثار داخل المؤسسة الرسمية السياسية الخليجية: هل دول الخليج لم تكن ترغب في تفكك وانهيار العراق ومن ثم إعادة تشكيل نظامه السياسي، لأنها تعلم أن ذلك سيكون بالضرورة من مصلحة إيران؟ أم أنها لم تكن تتصور خطورة خروج العراق من المعادلة الأمنية الخليجية كقوة تضاهي قوة إيران وتقف بوجه طموحاتها؟ فبعد تعثر المشروع الأميركي في العراق، تعزز الانفراد الإيراني في منطقة الخليج العربي كقوة إقليمية فاعلة، ولهذا فإن أطر صياغة السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون تجاه العراق وقضايا المنطقة، أخذت تضع متغير طموحات إيران في الحسبان، وتحاول أعادة ترتيب سياساتها وفق المعطيات الجديدة، إلا أن بعض النخب العراقية تعزو الوجود الإيراني في العراق إلى ضعف الوجود العربي، والحياد الأمريكي المستغرب في هذا الملف.

إما المحدد الثاني للعلاقات العراقية- الخليجية، يتمثل بمستوى المخاوف الخليجية من تأثير الأحداث في العراق على تماسك التركيبة الاجتماعية لهذه الدول خاصة وأن التركيبة الاجتماعية لدول الخليج مشابهة للمجتمع العراقي إلى حد كبير، وهي تعلم أن أي خلل يصيب المجتمع العراقي لابد وأن ينعكس عليها، وهذا ما بدت مؤشراته واضحة في السنوات القليلة الماضية، وبهذا يبقى صانع القرار الخليجي متخوفا من الاندماج مع العراق في ظل ظروفه الحالية، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي من العراق الذي سيجعل كل الاحتمالات مطروحة، وبالتالي فان النيران إذا اشتعلت في العراق فإنها لن تقف عند حدوده، وقد وصلت الرسالة إلى دول الخليج العربي.

وبالرغم من إدراك دول الخليج بصورة واضحة لهذه المحددات إلا أن سياستها تجاه العراق ارتكزت على إستراتيجية الترقب والانتظار لما ستؤول إليه الأوضاع في العراق الأمر الذي أضعف النفوذ الخليجي داخل العراق، وبالتالي فوتت دول الخليج على نفسها فرصا ومصالح مهمة، أهمها احتواء التغيير الذي حصل في العراق وتوجيه سياساته ودرء الأخطار المحتملة قبل حدوثها، فضلا عن خلق حالة توازن مع النفوذ الإيراني داخل العراق.

موقع العراق وإمكاناته يمثل فرصة ثمينة للولايات المتحدة الأمريكية إذا ما نجحت في الحصول على قواعد عسكرية في هذا البلد الذي يمثل نقطة التقاء بين الخليج العربي وأوروبا.
لقد شكّل الاحتلال الأمريكي للعراق نقطة تحول دراماتيكية في تاريخ المنطقة، وأضحت له أبعاد إقليمية تطال تأثيراتها منطقة الشرق الأوسط برمتها، وما تزال تداعيات وآثار هذا الاحتلال مستمرة ولم تتوقف عند حد معين يمكن توصيفه توصيفا نهائيا، فقد غزت الولايات المتحدة العراق وفق مشروع استراتيجي ضخم سخرت له إمكانات هائلة، بغض النظر عن ما يصدر من تبريرات أمريكية لهذا الغزو تقع تحت بند" التبرير الأخلاقي" للأفعال والذي عادة ما يكون مصاحباً للشخصية الأمريكية بصورة عامة، والذي استخدمته الولايات المتحدة في جهودها العسكرية على مدى تاريخها. وبعد ثمان سنوات من عمر الاحتلال، تبدو مقولة المؤرخ الأمريكي المشهور (بول كنيدي) بأن احتلال العراق أطال عمر الولايات المتحدة لمائة سنة قادمة، متعجلة قليلا، إذ أثبتت الأحداث على أرض الواقع أن المشهد العراقي يبدو أكثر تعقيدا، خاصة بعد الثمن المادي والمعنوي الذي دفعته الولايات المتحدة، وفقدان مصداقيتها أمام العالم بعد قتل مئات الآلاف من العراقيين واستكمال تخريب البنى التحتية لهذا البلد.

وخلال الأشهر القليلة القادمة، سيمر العراق بمرحلة مفصلية من تاريخه المعاصر تتمثل في اقتراب الموعد المحدد لخروج القوات الأمريكية منه في الحادي والثلاثين من كانون الأول/ديسمبر2011، تنفيذا للاتفاقية التي وقعت بين الجانبين العراقي والأمريكي في الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر2008، وفي هذا الصدد يأتي السؤال: هل إعلان الانسحاب الأمريكي الكامل خيار إستراتيجي أم تكتيك لكسب الوقت؟  فمن المعروف للمراقبين للشأن العراقي أن هذا البلد يعاني من مشاكل ومعوقات على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية؛ فقد بني نظامه السياسي بعد الاحتلال على أساس التوافق الطائفي، وهو أشبه بأن يكون (لبننة العراق)، وبالتالي فإن هكذا نوع من الأنظمة عادة ما يكون هشا تتعدد فيه مراكز القوى فلا يصمد أمام التحديات، ولم يكن اختيار وتشجيع الولايات المتحدة لهذا الشكل من العملية السياسية اعتباطيا أو خطئا تكتيكيا وإنما كان خيارا استراتيجيا بامتياز لبناء مصالح أمريكية طويلة الأجل، وهي غير متعجلة في تنفيذها حتى لو استغرقت عشرات السنين، إذ يبدو أن الولايات المتحدة تخطط لبقاء قواتها في العراق على عكس ما هو معلن، إذ تريد أن تبقي قواعد عسكرية في العراق، وتاريخها العسكري يؤكد أنها لم تدخل بلدا واحتلته بعد الحرب العالمية الثانية إلا بقيت فيه، باستثناء فيتنام وكوريا الشمالية، لكنها تستخدم الأسلوب الانكليزي الكلاسيكي المعروف في التأني لتحقيق الأهداف، أو انتظارها حتى تتحقق، وهذا ما يؤكده واقع الجهد الأمريكي المبذول في العراق وطريقة وأسلوب العمل الأمريكية، والتي بدأ الكثير من المراقبين يدركون فحواها. فموقع العراق وإمكاناته يمثل فرصة ثمينة للولايات المتحدة الأمريكية إذا ما نجحت في الحصول على قواعد عسكرية في هذا البلد الذي يمثل نقطة التقاء بين الخليج العربي وأوروبا، لذا فإن الاحتمال الأقرب إلى الواقع هو أن الولايات المتحدة ستشرع بمناورة تكون بمثابة إعادة جدولة تواجد لقواتها داخل العراق بتوصيف جديد بعيدة عن المدن العراقية، وقد استخدمت الولايات المتحدة عدة أساليب لتحقيق هذا الغرض من خلال ترك الكثير من الملفات معلقة دون تدخل بالرغم من كونها القوة الفاعلة على الأرض، فإن كانت تريد أن تنسحب كليا  فما هو تبرير ترك الجيش العراقي  بدون سلاح ثقيل أو قوة جوية، إذ لا يمتلك الآن سوى الخبرات التي اكتسبها من حالة الحرب الدائمة التي خاضها على مدى عقود، إلا أنه يعاني من نقص حاد في التسليح فضلا عن الفوضى التي دبت في بعض مفاصله مما أثر على مهنية الجيش العراقي وأفقده جزءا من هيبته، أما على الصعيد الاقتصادي فالعراق يمر بحالة فوضى اقتصادية تغطيها الواردات الكبيرة للنفط، فقد أصبح العراق في المراتب الأولى وفق تصنيف تقارير الفساد المالي والإداري العالمية، وأصبح الميزان التجاري العراقي سلبيا بكل تفاصيله، وفيما يخص الجانب الاجتماعي مر العراق بمرحلة من التفكك الاجتماعي وفقدان السلم الأهلي لم يشهدها على مدى تاريخه، مما ألقى بظلاله على مجتمع تدنى فيه الكثير من جوانب الشعور بالمواطنة، وأصبح يعاني من مشاكل اجتماعية قاسية لن تحل بسهولة.

تمثل علاقات العراق مع دول الخليج العربي بعد الانسحاب الكلي أو الجزئي لقوات الولايات المتحدة مرحلة مفتوحة على احتمالات عدة؛ أخطرها على دول الخليج ترك الولايات المتحدة فسحة أكبر من التحرك لإيران، لكي تعود وتمارس دور المنقذ وتضفي شرعية على سياستها في المنطقة، ويكون العراق سببا في ذلك الأمر الذي من الممكن أن تساهم دول الخليج فيه بتعاملها السلبي مع الوضع، كذلك فإن تدهور الوضع الاجتماعي وتفكك الترابط الذي كان يتميز به الشعب العر