بعد انفراج نسبي في العلاقات الصربية الكوسوفية وتفاؤل أوربي بتطبيع العلاقات المتوترة بين بلغراد وبريشتينا نتيجة للمفاوضات التي انطلقت في بروكسل تحت رعاية الاتحاد الأوربي في مارس/آذار الماضي والتي تمخضت في أول يوليو/تموز عن توقيع أولى الاتفاقيات بين الطرفين، جاءت أزمة سيطرة قوة من الشرطة الكوسوفية على مركزي الحدود اللذين يفصلان ما بين صربيا وكوسوفا، وبالتحديد ما بين "جيب متروفيتسا" وصربيا، لتعيد أجواء التوتر والصراع بين البلدين، ولتفتح بذلك آفاقا على تطورات جديدة في اتجاهات عديدة ستترك أثرها في السنوات القادمة سواء في كل من صربيا وكوسوفا أو في منطقة البلقان عموما.
1- التوتر الجديد وأسبابه العميقة
2- السياق الجديد لانفجار التوتر
3- تعامل الأطراف المعنية بالأزمة
4- تداعيات الأزمة على مستقبل العلاقة بين الطرفين والمنطقة
1- التوتر الجديد وأسبابه العميقة
يمكن القول: إن "اللغم الكبير" الذي انفجر في 25 يوليو/تموز الماضي كان من بقايا حرب 1999 التي قادها حلف الأطلسي ضد صربيا في 24 مارس/آذار 1999 لإجبار بلغراد على وقف عنف قواتها ضد الأغلبية الألبانية وسحب تلك القوات، وهو ما تمّ في 10 يونيو/حزيران بموجب قرار مجلس الأمن 1244، الذي نصّ على إحلال قوة دولية (الكفور) محل القوات الصربية، وتأسيس إدارة دولية مؤقتة تشرف على عملية سياسية تستجيب لرغبة السكان.
ولكن خلال دخول القوات الدولية إلى كوسوفا، الذي أثار مشاعر الأغلبية الألبانية ضد الأقلية الصربية التي بقيت، أقامت القوات الفرنسية العاملة ضمن "الكفور" حاجزا على جسر إيبار الذي يعبر وسط مدينة متروفيتسا لحماية السكان الصرب إلى الشمال من النهر حيث يشكلون غالبية هناك. وهكذا، مع هذا التصرّف العفوي الذي جاء من وحي اللحظة تشكل واقع جديد ترك آثاره البعيدة حتى الآن؛ فقد حدث تنقل سكاني فوري انقسمت بموجبه مدينة متروفيتسا إلى قسمين: متروفيتسا الشمالية بغالبية صربية ومتروفيتسا الجنوبية بغالبية ألبانية. ولكن الأهم من ذلك كان تشكل "جيب متروفيتسا" المجاور لصربيا الذي يضم غالبية صربية (أكثر من 95%) على مساحة تشكل حوالي 17% من مساحة كوسوفا، على حين كانت بقية كوسوفا تضم غالبية ألبانية (حوالي 95%).
وبسبب الجوار الجغرافي والتركيب الديموغرافي والبعد السياسي بقي "جيب متروفيتسا" جزءا من صربيا في الواقع منذ صيف 1999 مع أنه يظهر في الخريطة ضمن "جمهورية كوسوفا". وفي الواقع أيضًا كان معظم هذا الجيب فُصل عن صربيا وضُمّ إلى كوسوفا في 1960 لرفع نسبة الصرب في كوسوفا آنذاك. وهكذا بقي سكان المنطقة مرتبطين بالنظام الاقتصادي والتعليمي والصحي والتقاعدي لبلغراد، يتلقون رواتبهم منها ويتعاملون بالدينار الصربي، ويرفعون الأعلام الصربية، ويدرسون وفق المناهج الصربية.... إلخ، في الوقت الذي كان يتشكل فيه واقع سياسي واقتصادي وتعليمي آخر في كوسوفا.
والأهم هنا أن الأحزاب القومية في بلغراد وجدت في "جيب متروفيتسا" تربة خصبة لها؛ ولذلك اعتمدت عليها في الحملات الانتخابية لتكسب الأصوات مقابل الوعود بعدم التخلي عن كوسوفا كلها وليس فقط عن الصرب فيها. ومن ناحية أخرى تحول "جيب متروفيتسا" إلى جنة للخارجين عن القانون والمهربين بسبب عدم وجود قوات صربية حكومية أو كوسوفية بل قوات "الكفور" الدولية التي تنحصر مهمتها في تأمين الحدود من أي مغامرة صربية. وهكذا تشكل مع الزمن في "جيب متروفيتسا" وضع خاص (مع صربيا في الواقع وضمن كوسوفا في الظاهر) استفادت منه مافيات ومؤسسات موازية نتيجة للتهريب ما بين صربيا وكوسوفا لها صلات سياسية مع بعض الأحزاب القومية في بلغراد.
2- السياق الجديد لانفجار التوتر
شكّل 2008 انعطافا مهما بالنسبة للصرب والألبان؛ فنتيجة للانتخابات البرلمانية والرئاسية هنا وهناك فاز في صربيا التحالف الديموقراطي برئاسة "الحزب الديموقراطي" الذي وضع على رأس أولويات الحكومة الجديدة انضمام صربيا إلى الاتحاد الأوربي في أقرب وقت ممكن ليقطع بذلك النهج الذي سلكته الأحزاب القومية الصربية التي كانت تروّج لتحالف إستراتيجي مع روسيا، ولكن في المقابل فاز في كوسوفا "الحزب الديموقراطي الكوسوفي" (الواجهة السياسية لـــ "جيش تحرير كوسوفا") الذي عمل على تسريع إعلان استقلال كوسوفا عن صربيا في 17 فبراير/شباط 2008، وهو الأمر الذي أدى إلى توترات مع بلغراد وإلى تعقيدات في الواقع الكوسوفي.
فقد خرجت القوات الصربية من كوسوفا وحلّت محلها القوات الدولية (الكفور) بموجب قرار مجلس الأمن 1244، ولكن إعلان الاستقلال كان من طرف واحد مما رتّب وضعا لا مثيل له في المنطقة؛ فالقوات الدولية (الكفور) بقيت في المنطقة ولكنها لم تعترف باستقلال كوسوفا لأن وجودها وإنهاء وجودها مرتبط بمجلس الأمن (الذي كانت فيه روسيا والصين دائما إلى جانب صربيا)، بينما جاءت الآن إلى كوسوفا قوات شرطة أوربية (الأولكس) من الاتحاد الأوربي (الذي اعترفت معظم دوله بالاستقلال الكوسوفي) لتساعد الدولة الوليدة إلى أن تتأسس قوة شرطة كوسوفية كافية. وفي هذا السياق رفض الصرب في "جيب متروفيتسا" هذا الاستقلال المعلن في بريشتينا، بل قاموا بحرق المعبر الحدودي بين صربيا وكوسوفا ليؤكدوا على أنهم جزءا من صربيا. وفي غضون ذلك بقيت الأحزاب القومية الصربية في بلغراد تعتمد عليهم في الانتخابات لتعود ثانية إلى الحكم.
ومع إعلان الحكومة الجديدة في بلغراد عن تمسكها بخيار الانضمام إلى الاتحاد الأوربي بدأت تستفيد من المساعدات الواردة من بروكسل وتطبق الإصلاحات المطلوبة منها للانضمام إلى الاتحاد. وبعد تقدم صربيا في هذا الاتجاه (حيث كوفئت في نهاية 2009 بضمها إلى منطقة الشنغن) بقي هناك شرطان أو ملفان فقط: تسليم مجرمي الحرب (راتكو ملاديتش وغوران هاجيتش )، و"التعاون الإقليمي" مع دول المنطقة الذي يجب أن يشمل "جمهورية كوسوفا" أيضا دون الاعتراف بها بالضرورة. ومع اعتقال ملاديتش وهاجيتش في ربيع 2011 لم يبق سوى ملف "التعاون الإقليمي" أو تطبيع العلاقة مع كوسوفا.
وفي هذا السياق بادر الاتحاد الأوربي إلى إطلاق مفاوضات بين صربيا وكوسوفا في بروكسل في مارس/آذار 2011 للتوصل إلى اتفاق حول القضايا اليومية والعملية التي تهم السكان الصرب والألبان (الانتقال بين البلدين والاعتراف بالشهادات...إلخ). واحتاج الأمر إلى ست جلسات مكثفة حتى يتم الإعلان في مطلع يوليو/تموز عن التوصل إلى أولى الاتفاقيات بين الطرفين، وهو ما اعتُبر فاتحة طريق للمزيد من الاتفاقيات التي كان من المنتظر التوصل اليها خلال الجولة السابعة في أغسطس/آب، وخاصة حول نقل البضائع بين الدولتين.
ومع أن رئيسي الوفدين عادا إلى بلديهما بتصريحات متفائلة تعبّر عما أُنجز بأنه "إنجاز" و"انتصار" إلا أن المعارضة القومية في بلغراد وبريشتينا شنّت حملة عنيفة ووصفت ما تحقق بأنه "خيانة". ونظرا لأن الانتخابات القادمة في صربيا وكوسوفا على الأبواب (في 2012 في صربيا و2013 في كوسوفا) فقد حولت المعارضة ذلك إلى "حملة انتخابية مبكرة".
وهكذا تحت ضغط المعارضة بدأت الحكومتان الصربية والكوسوفية في التراجع عن الحماس المعلن لما أُنجز. وفي هذا السياق عبّرت بلغراد عن رغبتها في تأجيل الجولة السادسة من المفاوضات في بروكسل، التي كان من المفروض أن تتم في أغسطس/آب الحالي، وأن يُعلن فيها الاتفاق حول تبادل البضائع، وهو الأمر الذي كان مهما جدا لبريشتينا؛ حيث كانت السلطات الصربية تمنع الشاحنات الكوسوفية من الدخول إلى صربيا لأن البيانات الجمركية تحمل شعار "جمهورية كوسوفا"، في الوقت الذي كانت فيه البضائع الصربية تتدفق بحرية إلى كوسوفا التي أضحت مهمة بالنسبة للاقتصاد الصربي (حوالي 500 مليون دولار في السنة).
وفي رد على قرار بلغراد المفاجىء عمدت بريشتينا في منتصف أغسطس/آب إلى قرار مفاجىء أيضا في المقابل، ألا وهو اعتماد التبادلية في العلاقات مع صربيا، وبالتحديد منع دخول الشاحنات الصربية إلى كوسوفا ما ألحق ضررا بالاقتصاد الصربي الذي يعاني في الأصل من الركود. ولكن القرار الكوسوفي الأجرأ جاء في 25 يوليو/تموز عندما قامت قوة محمولة من الشرطة الكوسوفية الخاصة بالسيطرة على مركزي الحدود اللذين يفصلان ما بين صربيا وكوسوفا، وفي الواقع ما بين "جيب متروفيتسا" وصربيا، لتطبق هذا القرار الذي كان يعني إنهاء الوضع الخاص لـ "جيب متروفيتسا" من 1999 إلى حد أن رئيس الحكومة الكوسوفية هاشم ثاتشي اعتبر ما حدث "توحيدا" لكوسوفا.
إلا أن هذه العملية الخاطفة لم تمرّ بسهولة حيث جوبهت بمقاومة صربية أدت الى مقتل شرطي كوسوفي وجرح آخرين وإقامة حواجز صربية في الطرق لقطع الإمدادات عن القوة المسيطرة على المركزين وحتى إلى إحراق أحدهما في 28 يوليو/تموز؛ مما رفع حدة التوتر إلى السقف مع دفع حلف الناتو لإرسال قوات إضافية لتعزيز "الكفور" ووصول الأمر إلى مجلس الأمن الدولي.
3- تعامل الأطراف المعنية بالأزمة
كان من الملاحظ أن المعارضة في بلغراد وبريشتينا أيدت الإجراءات والإجراءات المضادة التي اتخذتها كل من حكومتيهما؛ وارتفعت فجأة شعبية رئيس الحكومة الكوسوفية هاشم ثاتشي بعد أن كانت قد تراجعت في الشهور الأخيرة، واجتمع البرلمان الكوسوفي ليؤيد بغالبيته الحكومة على ما اتخذت من إجراء.
وفي المقابل اجتمع البرلمان الصربي ليؤيد بغالبيته الحكومة على موقفها الذي أعلنت فيه "عن استعداد صربيا للإسهام في حل سياسي للأزمة في الوقت الذي تتعرض فيه وحدة أراضي الدولة للتهديد".
ومن الواضح هنا أن حكومة بلغراد أرادت أن ترضي الاتحاد الأوربي الذي اقتربت من الانضمام اليه بالتشديد على الحل السلمي عن طريق الحوار، وليس الحرب التي أضحت من الماضي، وأن ترضي المعارضة القومية باعترافها أن ما حدث "يهدد وحدة أراضي الدولة" أي أنها لا تزال تعتبر كوسوفا (أو جيب متروفيتسا على الأقل) جزءا من صربيا.
وفي حين أن الاتحاد الأوربي (الذي تعترف معظم دوله باستقلال كوسوفا بحدودها الموجودة على الخريطة بما في ذلك "جيب متروفيتسا) رفض المشاركة من خلال قوة "الأولكس" في العملية التي جرت في 25 يوليو/تموز إلا أنه سارع الآن إلى الضغط على بلغراد وبريشتينا بواسطة مفوضة الشؤون الخارجية كاثرين أشتون التي طالبت الطرفين بـ"التقيد بأقصى درجات ضبط النفس"، والعودة إلى الحوار لحل المشاكل بينهما. وكان الاتحاد الأوربي يعتبر أن ما أُنجز في بروكسل من جولات مكثفة بين بلغراد وبريشتينا نجاحا يسجل له في حل آخر الأزمات الناشئة عن حروب يوغسلافيا السابقة، في الوقت الذي تتفاقم فيه الأوضاع في اليونان (الأزمة المالية) وغيرها.
وعلى حين أن ثاتشي اتهم حكومة بلغراد بأنها تقف وراء تصعيد الأزمة بتشجيع السكان الصرب في "جيب متروفيتسا" على التظاهر وإقامة الحواجز وإحراق المركز الحدودي؛ في حين أكد الرئيس الصربي بوريس تاديتش على أن المسؤول عن التصعيد هي القوى المتطرفة في صربيا وكوسوفا التي لها مصلحة مشتركة في ذلك.
وسعت بلغراد إلى نقل الأزمة إلى مجلس الأمن باعتباره الجهة التي أصدرت القرار 1244، وهو الوحيد الذي تعترف به بلغراد وتعتبره أساسا للحل، عوضا عن اللجوء إلى الاتحاد الأوربي الذي تعترف معظم دوله بالاستقلال الكوسوفي، ولكن دول الاتحاد الموجودة في مجلس الأمن (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا إلى جانب الولايات المتحدة) أحبطت الطلب الصربي بعقد جلسة مفتوحة يشارك فيها وزير الخارجية الصربي فوك يرميتش، واكتفت بعقد جلسة مداولات في 31 يوليو/تموز، على أساس أن مجلس الأمن سيناقش الوضع في كوسوفا ضمن جلسته الدورية في الشهر القادم. وفي المقابل سجل وزير الخارجية الكوسوفي أنور خوجا نجاحا حين التقى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، مع أن كوسوفا لم تنضم بعد إلى الأمم المتحدة.
ومع هذا التطور ركزت بلغراد جهودها لمعالجة الأزمة والوصول إلى حل على الأرض عن طريق الشخصيتين المتخصصتين في الشأن الكوسوفي: وزير الدولة لشؤون كوسوفا غوران بغدانوفيتش، ورئيس الوفد الصربي إلى مفاوضات بروكسل مع كوسوفا بوريسلاف ستيفانوفيتش؛ ذهب كلاهما إلى جيب متروفيتسا لتهدئة السكان الصرب وتطمينهم أن بلغراد لن تتخلى عنهم، كما سعيا إلى لقاء قائد القوات الدولية (الكفور) التي تتواجد في الحدود الفاصلة ما بين صربيا وكوسوفا. إلا أن هذه البادرة أثارت التوتر أكثر لأن حكومة بريشتينا اعتبرت أنهما دخلا الأراضي الكوسوفية بشكل غير قانوني من طرق جانبية وهددت بإلقاء القبض عليهما، كما أن قائد "الكفور" رفض اللقاء بهما لأنهما "عبرا كوسوفا بشكل غير قانوني".
ولكن ضغوط الاتحاد الأوربي على الطرفين أفلحت في تخفيف التوتر؛ حيث تم فتح المعبرين الحدودين في 30 يوليو/تموز للسيارات والباصات فقط مع التدقيق في هويات الأشخاص والتفتيش عن الأسلحة، واستقبل قائد "الكفور" ستيفانوفيتش في معبر الحدود عندما جاء من بلغراد بشكل رسمي وعن الطريق الدولي للمساعدة في إقناع الصرب بإزالة الحواجز أمام قوات "الكفور"، ولاتخاذ إجراءات تحل الأزمة بشكل مؤقت إلى أن تحل على طاولة المفاوضات في بروكسل كما يصر الاتحاد الأوربي.
وهكذا تم الإعلان عن اتفاق في 6 أغسطس/آب يتضمن تنازلات من الطرفين؛ وتضمن الاتفاق سحب الشرطة الكوسوفية، وتولي "الكفور" مسؤولية المركزين الحدودين، والسماح فقط للسيارات والباصات والشاحنات الصربية التي لا تزيد حمولتها عن 3.5 طن بالعبور من صربيا إلى كوسوفا (جيب متروفيتسا) مع استثناء ال