في ورقتنا الأولى ناقشنا التشابه والاختلاف بين ما شهدته مصر وتونس من ثورات شعبية من ناحية والظروف المشابهة لاندلاع انتفاضات شعبية في إثيوبيا من ناحية أخرى. وإذا تركنا عناصر التباين جانبا، فإن إعجاب الشعب الإثيوبي واهتمامه بربيع الثورات العربية بلغ مقدارا لافتا. وقد وجد ربيع الثورات العربية ارتياحا وترحيبا لدى النخبة الإثيوبية المؤمنة بالديمقراطية وذات الميول القومية، والتي يعيش غالبيتها في شتات المهجر حول العالم، ويتصدرون طليعة المهاجرين البالغ عددهم 2 مليون نسمة، وأغلبهم من العمالة الماهرة نسبيا. وتنفق هذه النخبة المهتمة بمستقبل بلادها وقتا كبيرا في نقاشات تقارن بين ما يجري في شمال إفريقيا والشرق الأوسط من أحداث ثورية وما تعيشه بلادهم.
أوراق استبداد متشابهة
طبيعة التغير الديمقراطي
من يحمي الأبرياء؟
شجاعة الجامعة العربية
نصائح للطغاة
أوراق استبداد متشابهة
تشتمل القضايا المتكررة التي يتردد صداها في حديث الإثيوبيين موضوعات على شاكلة القمع السياسي، وانتهاك حقوق الإنسان، وقمع الحريات المدنية، ونسبة بطالة بين الشباب تبلغ 60 %، وقفزات في أسعار السلع الأساسية وعلى رأسها الغذاء، واتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء، والفساد، ومحاباة الأقارب، والتمييز على أساس عرقي.
تعاني إثيوبيا نفس ما تعانيه ليبيا واليمن من نزاعات عرقية وطائفية وأيديولوجية. فعلى سبيل المثال يتهم نظام الرئيس الأسد بأنه يمثل أقلية دينية (الطائفة العلوية) لا تزيد نسبتها في سوريا عن 12 % من إجمالي سكان الدولة التي يمثل السنة فيها أكثر من 70 %، وبالمثل نجد أن الجماعة التي ينتمي إليها رئيس الوزراء الإثيوبي مليس زيناوي والمعروفة بـ"جبهة تيجراي للتحرير الشعبي" لا تمثل أكثر من 6 % من سكان إثيوبيا البالغ عددهم 90 مليون نسمة |
يتفق الإثيوبيون على أن الأنظمة الليبية واليمنية هي من بين الأكثر قمعا في العالم. ونظرا لدوره المميز في السياسات الإفريقية والاتحاد الإفريقي، يحتفظ العقيد معمر القذافي بالشهرة الأكبر لدى الإثيوبيين مقارنة بالرئيسين بشار الأسد وعلي عبد الله صالح. ويقارن الإثيوبيون بين حكم العقيد القذافي الذي يحكم ليبيا منذ 41 سنة وحكم رئيس الوزراء الإثيوبي مليس زيناوي الذي أمضى في منصبه 20 سنة.
وتعاني إثيوبيا نفس ما تعانيه ليبيا واليمن من نزاعات عرقية وطائفية وأيديولوجية. فعلى سبيل المثال يتهم نظام الرئيس الأسد بأنه يمثل أقلية دينية (الطائفة العلوية) لا تزيد نسبتها في سوريا عن 12 % من إجمالي سكان الدولة التي يمثل السنة فيها أكثر من 70 %.
وبالمثل نجد أن المجموعة التي ينتمي إليها رئيس الوزراء الإثيوبي مليس زيناوي والمعروفة بـ"جبهة تيجراي للتحرير الشعبي" لا تمثل أكثر من 6 % من سكان إثيوبيا البالغ عددهم 90 مليون نسمة. وينتمي أكثر من أن 90 % من القيادات العليا للجيش الإثيوبي وقواته الأمنية لهذه الأقلية العرقية التي تمثلها مجموعة "تيجراي".
ويؤكد النشطاء السياسيون في سوريا أن حكومة الرئيس الأسد تدعم صفوة رجال الأعمال المنتفعين من هذا النظام، وبالمثل يُتهم رئيس الوزراء مليس زيناوي بمحاباة الصفوة الجديدة المنتمية للعرق التيجراوي من سكان الحضر الأثرياء. وفي كلتا الحالتين يقتصر الوصول إلى أصول الثروات والنجاح في المشروعات الاقتصادية على معايير الولاء للحكومة.
وفي ليبيا وسوريا، حاولت جماعات المعارضة فضح زيف السياسات التي تتبعها الأنظمة الحاكمة لبلادهم والقائمة في الأساس على السياسات العرقية والطائفية. صحيح أن نجاح المعارضة هنا أقل في خطاه مما تحقق في مصر وتونس، إلا أن حجم وقوة مجموعات المعارضة يبدو أنه يؤشر على أن الأغلبية العظمى من سكان ليبيا وسوريا ليسوا أقل شوقا للحرية والديمقراطية.
ففي ليبيا، تقف القلة المنتفعة من نظام القذافي ومجموعته العرقية إلى جواره. ولعل هذا التنظيم العسكري والأمني والدفاعي المتحلق حول القذافي الآن والذي تم حشده عبر العقود الماضية هو سنده الوحيد في شن الحرب ضد شعبه. ويشير بعض المعلقين إلى أن القذافي ومؤيديه المقربين وقاعدته السياسية "يبسطون سيطرتهم على طرابلس" التي تعيش فيها أكثر العائلات الليبية ثراء ونفوذا.
وسواء كان الدافع هو الخوف أو الطمع في المنفعة من نظام القذافي فإن هذه القاعدة الاجتماعية "تقف إلى جواره"، ونظرا لارتباطها الوثيق بالنظام، يبدو أنها تغمض أعينها عما تعيشه البلاد من حصار وأن الليبيين يقتلون إخوانهم الليبيين. ويشعر القذافي في وسط هذه الأجواء أن إطالة أمد الحرب يعطي مؤشرا على شرعية نظامه. ويبدو أن العقيد يتجاهل وسط تلك الأجواء أن نصف البلاد على الأقل سقطت بأيدي معارضيه، وأنه متهم "بارتكاب جرائم ضد الإنسانية" وأن معظم المجتمع الدولي يترقب سقوطه.
وبوسع المرء أن يجد عديدا من أشكال التشابه بين ليبيا تحت حكم القذافي وإثيوبيا تحت حكم زيناوي. فالقادة الكبار في جبهة تيجراي نجحوا في تجنيد وتحفيز كوادر الجبهة بضم أعضاء من مختلف المجموعات العرقية باستخدام ورقة الولاء الحزبي. وتتم عملية تطهير منتظمة تعرف باسم "التقييم السياسي" ("غيميغيما
gimigema " في اللغة الأمهرية) للتخلص من الأعضاء المشكوك في انتمائهم وتجنيد أعضاء جدد للقطيع.وفي الوقت الذي لا يبسط رئيس الوزراء الإثيوبي قبضته على العاصمة أديس أبابا إفإن هناك ما يثبت أن منطقة "مكلة" وبقية إقليم "تيجراي"ـ والتي تمثل الموطن العرقي لجبهة تيجراي للتحرير الشعبي ـ تخضع لسيطرة الحزب بشكل مباشر. وتبدو ليبيا أقرب لإثيوبيا منها إلى حالتي مصر وتونس. فقد ترعرع النظام السياسي في كل منهما على مبادئ الولاء الإثني والطائفي، وهي المبادئ التي تُجنى على أساسها الثروات ويستجدى منها النفوذ.
وقد تركت التصنيفات الطائفية والعرقية والطبقية آثارها على كافة أطياف المجتمع الليبي وعلى الانتفاضة الشعبية بالمثل. وفي بداية الثورة الليبية، لم يكن المجتمع الدولي عند مستوى طموحات القوى الديمقراطية في هذه الدولة. وربما شعر المجتمع الدولي من أن انقساما في البناء السياسي الليبي قد يخلق نموذجا لـ "دولة فاشلة" في شمال إفريقيا.
وهناك عوامل لعبت جزئيا على الإسراع بتطور الأحداث في تلك الدول. ففي ليبيا كان للعامل النفطي دوره، بمثل ما كان لعامل القاعدة أهميته في اليمن. وما يتعلمه الإثيوبيون من هذه التجارب أن المسار الديمقراطي يختلف باختلاف كل دولة، وإن كانت إثيوبيا لديها حالة متميزة، وهي أن التقسيمات العرقية والطائفية لديها القدرة الكامنة على الانفجار حال اشتعال انتفاضة شعبية على غرار ربيع الثورات العربية.
يعتمد نجاح أية انتفاضة شعبية في دولة بحجم وتعقيدات إثيوبيا بشكل كلي على انخراط ومشاركة فعالة من قبل ملايين البسطاء الإثيوبيين من كافة الأعراق والطوائف. ويجب أن ينخرط في التغيير الديمقراطي كافة المجموعات الديموغرافية، باختلاف مشاربها العرقية والدينية والاجتماعية، على أن تستمر هذه المشاركة لفترة من الزمن.
ففي ليبيا شعر أولئك الملتصقون بالنظام الحالي بـ"التهديد" من قبل الانتفاضات الديمقراطية. واستمر أولئك غير الراضين عن النظام في التضحية بحياتهم وأمنهم. واتخذ المجتمع الدولي موقفا مغزاه أنه لن يسمح لديكتاتور عديم الرحمة بأن "يذبح شعبه". ولم يكن ممكنا لضربات حلف الناتو ضد قوات القذافي أن تحقق نجاحا سياسيا أو إستراتيجيا لولا المواقف الشجاعة التي اتخذتها جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي والمعارضة الليبية.
وكانت الديمقراطيات الغربية سترسل رسالة خطأ لو لم تستجب لهذه المطالب الإقليمية المنظمة من قبل العالم العربي. وكان من الممكن أن تؤثر المواقف الغربية سلبا على الزخم الديمقراطي الذي اجتاح الإقليم لو تقاعست عن تلبية تلك المطالب.
وهنا أود أن أعرب عن وجهة نظري في التقييم السياسي للمبدأ الجديد لحقوق الإنسان الذي بدأ العالم يتبناه كأساس للتدخل الدولي ولم يكن أحد يتصور تحقيقه في القرن العشرين أو في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
فنظام الأمم المتحدة لم يشهد من قبل أحداثا بهذا الحجم في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. ويبدو لي هنا أن العلاقات الدولية لن تعود إلى ما كانت عليه مرة أخرى. ونحن الآن شهود عيان على تشكيل نظام عالمي جديد يتشكل بفعل قوى مدنية جديدة يلعب فيها الدور الأكبر الشباب والطبقة الوسطى ممن يطالبون بأن تسمع أصواتهم، وتتحقق تطلعاتهم، ويرغبون في الحصول على الفرص الاجتماعية والاقتصادية التي كانت حكرا على أولئك الذين استولوا على السلطة السياسية وفرضوا هيمنتهم الاقتصادية.
يتابع الإثيوبيون بشغف التطورات المستقبلية لإمكانية تكرار نفس الظروف إذا ما ظهر وضع مشابه في إثيوبيا. وتوقعاتي الشخصية أنه سيصبح من الصعب في المستقبل أن تتقاعس الأمم المتحدة عن تطبيق نفس المبدأ الذي مارسته بالفعل في الأزمة الليبية |
وبأثر رجعي أدركت الأمم المتحدة أن مصداقيتها أصبحت على المحك وأن عليها العمل على تفادي كافة أشكال الإبادة الجماعية بما فيها تلك التي تقترفها أنظمة وحشية وقمعية ضد شعوبها. ويفسر هذا كيف بزغ مبدأ جديد هو "الاستجابة للحماية". وهو المبدأ الذي طبقه مجلس الأمن في ليبيا.
كان من الصعب على الأمم المتحدة والقوى العظمى إغماض أعينها من جديد أمام ما يرتكبه الحكام المستبدون الذين يجب الإطاحة بهم. وكان السؤال الذي يطرحه أولئك الداعمون للانتفاضات الساعية للديمقراطية هو المدى الذي يمكن أن يتحرك فيه هذا المبدأ الجديد غير المسبوق نيابة عن المعارضة الليبية -التي اعترف بها مجلس الأمن- لتصبح سابقة من نوعها.
يتابع الإثيوبيون بشغف التطورات المستقبلية لإمكانية تكرار نفس الظروف إذا ما ظهر وضع مشابه في إثيوبيا. وتوقعاتي الشخصية أنه سيصبح من الصعب في المستقبل أن تتقاعس الأمم المتحدة عن تطبيق نفس المبدأ الذي مارسته بالفعل في الأزمة الليبية.
ومن المتوقع أن التدخل الدولي في إفريقيا جنوب الصحراء سيستدعي مقاومة شعبية. فساحل العاج ودارفور في السودان تذكران المجتمع الدولي بأنه لا الاتحاد الإفريقي ولا الأمم المتحدة بادرا باتخاذ أية موقف ذات مغزى.
وفي إثيوبيا، يبدو أن الظروف تشير إلى استعداد وإرادة لدى جماعات المعارضة والمجتمع المدني لتشكيل إطار انتقالي قادر على تحمل المسؤولية. ولعل هذا هو أهم الدروس المستفادة من "معركة ليبيا".
ولا يرى القذافي في انشطار دولته تهديدا لحكمه الذي عمر طويلا. وبهذا المفهوم أيضا فإن نظام القذافي يحاكي نظيره الإثيوبي. فكلا النظامين يريان في المنشقين والمعارضين أعداء لهما. ولا يحتفظ أي من النظامين بقدر من الشفقة أو الاحترام للجنس البشري، وهذا هو ما يفسر إصرار القذافي على البقاء في السلطة بغض النظر عن الكلفة البشرية التي تتحملها بلاده من قتلى وجرحى، والشيء ذاته ليس بغريب على النظام الإثيوبي.
وفي ظهور إعلامي وقح ومتبجح في منتصف مارس /آذار 2011 خرج القذافي ليعلن أن قواته المسلحة مدعومة بسلاح الجو جاهزة لسحق "الأعداء" في بنغازي. وقد دعا القذافي سكان بنغازي البالغ عددهم مليون نسمة إلى العودة إلى رشدهم و ألا يطالبوا بمطالب غير عقلانية. وفي ذلك توعد المقاومين قائلا "لن نرحمكم".
ولعل هذه التهديدات تجاه المعارضين هي التي أثارت العالم ضده، وأرعبت المدنيين العزل. وما حدث في إثيوبيا في أعقاب انتخابات 2005 لا يختلف كثيرا عن ذلك، حين استخدم نظام زيناوي الأوراق العرقية والطائفية لسحق المعارضين بلا رحمة. وبصفة عامة يلاحظ أن الصفوة من حكام البلاد الإفريقية لا يشعرون بأي قدر من الاحترام للاتحاد الإفريقي، ذلك لأن هذا الاتحاد "لا أسنان له".
لعل النظرة العتيقة ذات النزعة الأوربية والمؤيدة للباحثين الغربيين ممن يحتكرون تشكيل الرؤى والأفكار لم يعد لها مكان الآن في ظل الطموحات الديمقراطية لملايين الشعوب التي يتقدمها الشباب والطبقات الوسطى. فلقد حققت الثورة المعلوماتية مكاسب ديمقراطية في الوصول إلى المعلومات وتمكين ملايين السكان من لعب دور مباشر في القضايا التي تمس حياتهم |