تميزت العلاقة بين ليبيا وتونس، منذ استقلال البلدين، بعدم الاستقرار؛ إذ تراوحت بين الهدوء والانسجام تارة، والتنافر والاضطراب تارة أخرى، خاصة بعد الانقلاب العسكري الذي قام به العقيد معمر القذافي في سبتمبر/أيلول 1969، وهو من أفسد بسلوكه السياسي متقلّب المزاج، تلك العلاقة وشوّه تطورها الطبيعي وعرقله؛ وذلك دون اعتبار للمرتكزات المتينة والعميقة التي تستند إليها العلاقة بين الشعبين الليبي والتونسي.. وكان للثورة التونسية ثم الليبية أن ولّدت معطيات جديدة ستؤثر حتما في صياغة مستقبل جديد لتلك العلاقة عبر تقويم مساراتها.
فما هي المرتكزات التي تستند عليها العلاقة بين الدولتين؟ وما العوامل الطارئة التي أثّرت عليها؟
وكيف تبدو المسارات المحتملة لتلك العلاقة نتيجة التفاعل بين المرتكزات والعوامل الطارئة؟
تُبرز المراجعة الدقيقة لتاريخ كل من ليبيا وتونس، في مختلف الحقب والمراحل التاريخية، تأثيرا متبادلا وانعكاسات مؤكدة لأحداث أيّ من البلدين على البلد الآخر، وخاصة عند الأزمات، سواء أكانت طبيعية كالجفاف مثلا أو اجتماعية كالصراع بين القبائل أو اقتصادية أو سياسية؛ وذلك بحكم المقومات المشتركة للشعبين: الثقافية والدينية والتاريخية والعرقية إضافة للجوار الجغرافي (تبلغ الحدود المشتركة نحو 459 كلم)، وبحكم تكامل اقتصادي مفترض قابل للتحقّق إذا توفرت الإرادة السياسية.
المرتكزات التاريخية
مرتكزات اقتصادية واجتماعية صلبة أفسدتها نزوات العقيد
العلاقة بعد الثورة
المسارات المحتملة للعلاقة بين البلدين
تميزت العلاقات التونسية الليبية منذ نجاح الثورة التونسية في 14 يناير/كانون الثاني، واندلاع الثورة الليبية في 17 فبراير/شباط بتوتر صامت حينا، وصاخب في أحيان كثيرة. |
مرتكزات اقتصادية واجتماعية صلبة أفسدتها نزوات العقيد
كان من المفترض أن تتطور العلاقات بين كل من تونس وليبيا نحو التكامل في جميع الميادين؛ وذلك على خلفية المقومات المشتركة الصلبة للشعبين وحاجة كل قُطر إلى الآخر. غير أن ذلك خضع لنوع من الابتزاز السياسي (من قبل القذافي)؛ مما أدى إلى اضطراب في العلاقات بين البلدين، وتشوّهها وتعرّج مساراتها؛ مما فوّت الفرصة على إمكانية التكامل بين القطرين.
وبشكل عام مرت العلاقة بين البلدين، بعد استقلالهما السياسي، بمراحل ثلاث:
- المرحلة الأولى: اتسمت بالهدوء والاستقرار والوضوح النسبي في عهد حكم الملك محمد إدريس السنوسي (1951-1969).
- المرحلة الثانية (1970-1987): تميّزت -على عكس المرحلة الأولى- بالارتجال والاضطراب والصخب؛ إذ شكّل حكم العقيد معمر القذافي، بنزواته السياسية، عبئا على الدولة والمجتمع التونسيَّيْن، وتجسّد ذلك في تدخل القذافي المستمر في الشؤون الداخلية للدولة التونسية، والضغط عليها، ومحاولة فرض سياسة الأمر الواقع اعتمادا على إمكانياته المالية تارة والعسكرية تارة أخرى، والاثنين معا في أغلب الأحيان.
فرغم فشل دعواته المتكررة للوحدة مع تونس لم ييأس وتمكن، بطرق مختلفة، من اللقاء بالرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في جزيرة جربه التونسية (500 كلم جنوب شرق العاصمة) سنة 1974، والإعلان عن قيام وحدة اندماجية لم تدم أكثر من 48 ساعة بين البلدين؛ وذلك نتيجة تراجع الحكومة التونسية، من جانب واحد، عن الاتفاق؛ وذلك بعد ضغوطات داخلية وإقليمية ودولية، وهو ما أصاب العقيد بصدمة كبيرة تولد عنها ردود فعل مزاجية؛ فطرد أكثر من أربعة عشر ألف عامل تونسي من ليبيا سنة 1976، ثم دخل الطرفان في حرب إعلامية. واشتدت الأزمة بين البلدين خاصة بعد اتهام الحكومة التونسية للقذافي بدعم الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء الإضراب العام الذي نظمته تلك المنظمة في شهر يناير/كانون الثاني 1978، واستمرت الأزمة بين الطرفين وبلغت ذروتها بعد اتهام الحكومة التونسية النظام الليبي بمساندة وتمويل التمرد المسلح الذي قامت به مجموعة تونسية مسلحة ذات توجهات قومية بمدينة قفصة التونسية في يناير/كانون الثاني 1980. وما إن هدأت العلاقة إثر لقاء بورقيبة والقذافي في أغسطس/آب 1983 حتى تأزمت من جديد بين الطرفين على خلفية "انتفاضة" الخبز التي انطلقت أواخر ديسمبر/كانون الأول عام 1983 وبداية 1984 وذلك بعد أن اتهمت بعض الأوساط التونسية شبه الرسمية "عناصر محركة" تسكن المناطق المحاذية للحدود الليبية التونسية والمتأثرة بالخطاب "القومي" للنظام الليبي، بالمسؤولية عن هذه الأحداث. فاستخدم القذافي نفس السلاح، وهو طرد ثلاثين ألف عامل تونسي (أغسطس/آب 1985) بهدف الضغط على حكومة محمد مزالي، ومضاعفة الأزمة الاجتماعية في البلاد؛ مما حدا بالدولة التونسية إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا (26 سبتمبر/أيلول 1985)، ثم استفحلت الأزمة بعد تحليق الطيران العسكري الليبي في الأجواء التونسية لعدة مرات بالتوازي مع رفض الحكومة التونسية التنديد بالعدوان الذي شنته الطائرات الأميركية على ليبيا واستهدف مقر إقامة القذافي في إبريل/نيسان 1986. - أما المرحلة الثالثة (1988-14 يناير/كانون الثاني2011): فتميزت بالهدوء والتنسيق في عدة مجالات، وبلغت ذروة التطور والانسجام بين نظامي القذافي والرئيس التونسي المخلوع؛ إذ أفلح النظام السياسي السابق في تونس -خلال نحو عقدين من الزمن- في كسب ودّ النظام الليبي الذي ساند وصول بن عليّ إلى السلطة. كما عمل نظام بن علي على كسر قوانين الحصار (الاقتصادي والجوي) التي كانت مفروضة على ليبيا من قِبل المجتمع الدولي آنذاك؛ وذلك خدمة لمصالحه ومصالح عائلته، وضمنيا مصالح قطاعات محددة من الشعب التونسي. كما قام الرئيس المخلوع كذلك ببعض الأدوار المشبوهة، ومنها: التوسّط بين ليبيا والغرب في كثير من القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية... ونتيجة لكل ذلك تدعمت العلاقات بين النظامين (والعائلتين) على جميع المستويات، وتحولت ليبيا إلى الشريك الاقتصادي الأول لتونس عربيًا وإفريقيًا والشريك الخامس لتونس عالميا (مبادلات تجارية واستثمار وسياحة..)؛ فبلغت المبادلات التونسية مع ليبيا لسنة 2010 مثلا نسبة 6.2 بالمائة من جملة مبادلات البلاد مع الخارج، وسجّل مستوى المبادلات التونسية الليبية خلال 5 أو 6 سنوات الماضية النسق نفسه، وبالتوازي مع ذلك بلغ عدد المؤسسات الاقتصادية التونسية التي لها فروع بليبيا حوالي ألف مؤسسة، كما وصل عدد التونسيين العاملين في ليبيا، خلال هذه الفترة، بين 100 إلى 150 ألف عامل.
ولكن، ورغم كل ذلك، لم تخلُ هذه العلاقة من بعض التوترات بسبب بعض القضايا والقرارات الارتجالية التي كان القذافي يتخذها بين الفينة والأخرى، من ذلك: عدم تنفيذ الجانب الليبي لما توصل إليه الطرفان من اتفاق حول حدود المياه الإقليمية بينهما (الجرف القاري) إثر الحكم الصادر عن المحكمة الدولية عام 1982؛ الأمر الذي حرم تونس من جزء مهم من الخيرات النفطية التي يزخر بها هذا الجرف.
كما حدثت خلال عام 2010 بعض المشاكل، بعد اتخاذ الجانب الليبي إجراءات جمركية كانت لها تأثيرات سلبية على مجموعة كبيرة من التجار بمختلف فئاتهم. وبالتوازي مع ذلك فرضت السلطات الليبية ضريبة مالية على جميع أصناف السيارات التي تدخل ليبيا عن طريق نقطة "رأس جدير" الحدودية التي تعتبر البوابة الرئيسية لتدفق السلع والبضائع بين البلدين، وأخيرا اتخذت نفس السلطات قرارا بمنع تصدير أية بضائع ليبية إلي تونس، إلا إذا كان المصدِّر والمستورد حاصلين على رخص قانونية.
تميزت العلاقات التونسية الليبية منذ نجاح الثورة التونسية في 14 يناير/كانون الثاني، واندلاع الثورة الليبية في 17 فبراير/شباط بتوتر صامت حينا، وصاخب في أحيان كثيرة.. فما هي أبرز المعطيات الطارئة التي أثّرت على تلك العلاقة؟
أمنيا
كان لتصريح العقيد معمر القذافي، الذي انتقد فيه الثورة التونسية واستهجن قيامها، أثر كبير على التونسيين الذين توجسوا خيفة من عمل قد يقوم به القذافي لإجهاض ثورتهم وإعادة صديقه المخلوع. |
ورغم تراجع تلك المحاولة فإن تواصل القتال بين كتائب العقيد والقوى المناهضة له قد ولَّد أخطارا أمنية جديدة على البلاد التونسية؛ وذلك نتيجة:
- عبور كتائب القذافي الحدود التونسية عدة مرات لملاحقة الثوار والسكان الليبيين الفارين من ساحات القتال في منطقة الجبل الغربي؛ مما أدى إلى اشتباك تلك القوات مع القوات التونسية في عدة أماكن، خاصة في بلدة الذهيبة الحدودية.
- تكرار إطلاق قوات القذافي قذائف على البلدة؛ مما ألحق أضرارا بالمباني، وتسبَّب في إصابة بعض السكان.
- تزايد أعداد المتسللين التابعين للقذافي إلى الأراضي التونسية بما يحملون من سلاح وعتاد...
اقتصاديا
- تراجع التبادل الاقتصادي بين البلدين تراجعا حادا؛ إذ سجلت الصادرات التونسية باتجاه السوق الليبية خلال الشهرين الأولين من سنة 2011 تراجعا يُقدَّر بنسبة 22.5%.
- تضرر قطاع السياحة بأنواعه المختلفة (الترفيهية والاستشفائية) تضررا كبيرا بعد تقلص تدفق السياح الليبيين إلى حدوده الدنيا. وهو ما أدى إلى تراجع مداخيل الكثير من النزل والمصحات الخاصة، وبالتالي تراجع حجم العملة الصعبة.
اجتماعيا
- رجوع آلاف من أفراد الجالية التونسية التي كانت تعمل في ليبيا؛ الأمر الذي أدى إلى تزايد أعداد العاطلين عن العمل وتعميق مشكلة البطالة في تونس.
- تدفق اللاجئين، ويمكن أن نميّز بين نوعين من هؤلاء:
- الأول: لاجئين من جنسيات مختلفة وهم الذين تدفقوا على البلاد التونسية. ورغم إجلاء أغلبهم غير أن تونس ما زالت تحتضن جزءا منهم، وهو ما يشكّل عبئا أمنيا واجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا في منطقة تواجدهم (تهريب الذهب والعملة، المخدرات، البغاء...).
- الثاني: يتمثّل في تدفق الليبيين الهاربين من مناطق المعارك أو غيرها على تونس. وتقدر الجهات الرسمية عدد هؤلاء بنحو 300 ألف شخص (وهم في الواقع أكثر من ذلك) ينتسب بعضهم إلى الثوار، وبعضهم الآخر عائلات أفراد تابعين للجان الشعبية الموالية للقذافي بعد سيطرة الثوار على معظم مدن الجبل الغربي، إلى جانب عائلات ليبية أخرى تستضيفها بعض الأسر التونسية، في مختلف مناطق البلاد، والتي يقدَّر عدد أفرادها بنحو 70 ألف نسمة.
المسارات المحتملة للعلاقة بين البلدين
إذا قُدِّر وسقط نظام القذافي؛ فستبقى مسألتان يتوقف عليهما شكل وطبيعة المسار الذي ستأخذه العلاقة بين البلدين:
- الأولى: تتمثل في طريقة حسم المعركة في ليبيا وتداعياتها وطنيا وإقليميا.
- الثانية: شكل السلطة القادمة؛ من حيث طبيعتها وتوجهاتها وعلاقاتها الدولية ومواقفها من أهم القضايا العربية.
ففي حالة إطالة أمد الأزمة/الحرب، وانتقالها إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، فإن ذلك سيؤثر حتما وبعمق على العلاقات التونسية الليبية، ويساهم بقدر أو آخر في مضاعفة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في تونس (تدفق اللاجئين وما يتولد عن ذلك من مشاكل مادية واجتماعية...).كما قد يدفع قوات الناتو لطرح بدائل حربية أخرى قد يكون التدخل البرّي أحد خياراتها، وبالتالي الدفع باتجاه أن تكون الأراضي التونسية منطلقا لتلك العملية.
كما يبرز احتمال تصدير القذافي الأزمة إلى تونس، واستباحة الأراضي التونسية متذرعا بملاحقة الثوار إدراكا منه لوضعية الجيش التونسي وانشغاله بضبط الأوضاع داخل البلاد، أو جرّ القذافي إلى هذا الخيار من قِبل الثوار وذلك في إطار خطة يضعها الناتو؛ الأمر الذي قد يدفع الحكومة التونسية إلى الاستنجاد بقوات صديقة للدفاع عن أراضيها وسيادتها (بالرغم من استبعاد قيادة الجيش التونسي لهذا الأمر)، وهي من الاحتمالات التي قد يخطط لها الناتو لدفع الحكومة التونسية للقبول بالأمر، وتكون تلك حجة لانطلاق القوات البرية الغربية للقضاء على النظام الليبي...
أما إذا حُسمت المعركة وانتهى أمر نظام القذافي سريعا فإن ذ