الكلفة الاقتصادية لحرب دارفور

الحرب في دارفور لها كلفة عالية على المستويين الاقتصادي والإنساني. وقد أظهرت التقديرات التي حوتها هذه الدراسة أن حكومة السودان أنفقت على حرب دارفور 24.07 بليون دولار وهو ما يعادل 162 % من الناتج المحلي الإجمالي خلال سنوات الحرب.
1_235648_1_34.jpg

حامد التيجاني علي

الحرب في دارفور –كما في كل مكان- لها كلفة عالية على المستويين الاقتصادي والإنساني. وقد أظهرت التقديرات التي حوتها هذه الدراسة أن حكومة السودان أنفقت على حرب دارفور 24.07 بليون دولار وهو ما يعادل 162 % من الناتج المحلي الإجمالي خلال سنوات الحرب. ويشتمل هذا على 10.08 بليون دولار في صورة نفقات عسكرية مباشرة، و7.2  بليون دولار في صورة خسائر في الإنتاجية فقدها النازحون عن أراضيهم داخل دارفور، و2.6  بليون دولار في صورة خسائر في المدخرات الحياتية فقدها القتلى في الحرب، و4.1  بليون دولار خسائر نتجت عن الإضرار بالبنية الأساسية.

وفي الوقت الذي كانت الدولة على مدار عقدين توجه ما نسبته 1.3 % من ميزانيتها إلى الصحة العامة و1.2 % إلى التعليم، فإنها كانت تنفق ما نسبته 23 % من الميزانية السنوية إلى المجهود الحربي في سنوات الحرب في دارفور.

والمؤمَّل من هذه الورقة أن تلقي مزيدا من الضوء على الكلفة الاقتصادية والإنسانية لهذه الحرب التي يبدو أنها لم تخضع لدراسات اقتصادية معمقة بالقدر الذي يتناسب وجسامة ما راح ضحيتها من خسائر.

أنماط الخسائر وسبل حصرها
كلفة الإنفاق الدفاعي
خسائر رأس المال البشري
أضرار البنية الأساسية
الكلفة الإجمالية للحرب
حصاد الأزمة

أنماط الخسائر وسبل حصرها 

تبعا لتقرير التنمية الدولي لعام 2011 تسبب ارتفاع عدد النازحين داخليا في مختلف الدول، ومن بينها السودان، إلى تقطع أواصر التنمية البشرية، وخلق تحديات كبرى أمام تلبية الأهداف التنموية في الألفية الجديدة.

وقد خلّفت الحرب التي شهدتها دارفور أكثر من 30 ألف قتيل، ونزوح 3 ملايين إنسان، وإضرام النيران في حوالي 3000 قرية، وفقدان ما قيمته ملايين الدولارات من المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية التي نهبتها الحكومة وجماعاتها المسلحة، وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA.

وفيما وراء ذلك، لا يمكن تقدير الخسائر النفسية التي ترتبت على تلك الحرب وما ارتبط بها من تمزيق اللحمة الاجتماعية للدولة، وتدهور سمعتها.

كما تعرضت الأولويات الاقتصادية للدولة لخلل تام؛ فالسودان، تلك الدولة الفقيرة نسبيا، صارت تنفق بسخاء على البارود أكثر مما تنفق على الخبز.

ولأكثر من عقدين كانت الحكومة السودانية تنفق من ميزانيتها السنوية ما نسبته 1.3 % على الصحة العامة، و1.2 % على التعليم بينما كانت تنفق نسبا أكبر على حرب دارفور؛ فقد بلغت كلفة هذه الحرب أرقاما كبيرة لدولة مثل السودان؛ إذ كان المجهود الحربي في دارفور يلتهم نسبا متزايدة من الناتج المحلي الإجمالي. ونظرا لأهمية هذه القضية التي شغلت المجتمع الدولي لأكثر من 9 سنوات يبدو جديرا بالتأمل أن نراجع تأثير هذا النزاع على الخسائر الاقتصادية للاقتصاد السوداني.

وقد قامت بعض المراجعات البحثية بحصر الدراسات التي تناولت قضية تقدير كلفة النزاعات المسلحة على المستوى العالمي. وتركز مثل هذه الدراسات عادة على خسائر الدخل القومي باستخدام تقنيات نمذجة حسابية متنوعة وغير متسقة.

وتعبر معظم الدراسات عن التداعيات الاقتصادية للحرب كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي كثير من الحالات تشتمل هذه الدراسات على الآثار التي يمكن إرجاعها بشكل مباشر إلى النزاع، لكنها تستبعد الآثار غير المباشرة، التي قد تزيد من عبء ذلك النزاع.

وثمة أسلوبان لحساب كلفة الحرب: الأول: يحسب كلفة إحلال المواد المدمرة، ويشتمل هذا الأسلوب على الخسائر المباشرة وغير المباشرة للنزاع بناء على نظرية اقتصادية أو دليل تجريبي. أما الأسلوب الثاني فيحسب كلفة الحرب من خلال نمذجة معروفة باسم التحليل المغاير counter-factual analysis والذي يُبنى على تقدير ما كان يتوقع أن يشهده النمو الاقتصادي والرفاهية العامة للدولة في حالة عدم تورط الدولة في النزاع. وباتباع أي من الأسلوبين فإنه من الصعب قياس كلفة النزاع بشكل كامل ذلك لأنها تختلف من حالة لأخرى.
فعلى سبيل المثال فإنه في حالة دارفور نشب النزاع بين إقليم داخلي ودولة ضعيفة. وبإخضاع البيانات للمراجعة والتقييم، وبحساب وتصنيف كافة العناصر الداخلة في الصراع، يصبح من الصعوبة الوصول إلى أي سلسلة زمنية كثيفة طويلة الأمد لكي تطبق اختبارات تجريبية صارمة بهدف حساب الكلفة الحقيقية للحرب.

ويذهب بعض الباحثين إلى أن الحرب الأهلية تؤثر على النمو الاقتصادي من خلال تدميرها للموارد، وإضرارها بالبنية الأساسية، وإخلالها بالنظام الاجتماعي، وتبديدها للنفقات، وهروب رؤوس الأموال؛ ومن ثم فإن سرعة التعافي من آلام ما بعد الحرب تبقى رهينة بالفترة التي استغرقتها الحرب نفسها.

وإضافة إلى ما سبق، فإن خسائر الأرواح أو الدخل الذي كان يُنتظر أن يجلبه الذين لقوا حتفهم يجب أن يؤخذ في الاعتبار. ونظرا لعدم وجود بيانات كافية، فإنه لا يمكن تقدير الكلفة غير المباشرة وفي مقدمتها هروب رؤوس الأموال وهجرة العمالة المدربة، وضياع فرص التعليم للأجيال الجديدة. ونأمل في أن تتمكن دراسة مقبلة من سد العجز في هذه البيانات.


وثمة نقاط أخرى عديدة يجب أن يشار إليها، نجملها على النحو التالي:

  • أولا: تقدم هذه الدراسة تقييما لكلفة الحرب في دارفور في وقت لا يزال النزاع المسلح لم ينته فيه بصورة نهائية وتامة؛ ومن ثَمَّ فإن الكلفة الإجمالية للحرب لا يمكن الحصول على تقدير نهائي لها، كما أننا أمام حالة يندر فيها وجود البيانات المطلوبة للتقدير والحساب.
  • ثانيا: رغم تعاقب موجات الأزمات السياسية والاقتصادية التي ضربت دارفور، فإنه خلال سنوات النزاع المسلح تمكنت الدولة من استغلال المخزون النفطي لتمويل آلة الحرب. ويمكن إرجاع النمو الاقتصادي المحدود الذي شهدته البلاد إلى ما توفر للدولة من عائدات النفط التي ربحتها خلال تلك الفترة، ومع هذا فقد كان من المتوقع أن يُحدث النمو الاقتصادي مستوى أعلى لو لم يكن هذا النزاع المسلح قد اندلع.
  • ثالثا: من المثير للتناقضات أن الحرب في دارفور أوجدت وظائف جديدة لأجزاء أخرى من السودان؛ فالمهمة المشتركة التي جمعت قوات من الأمم المتحدة وقوات من الاتحاد الإفريقي في دارفور قد بدأت عملها في 2007. وقدمت هذه المهمة فرصا للعمل استفاد منها 3000 مواطن وعمل فيها 26000 عسكري. كما تزايد حجم العاملين في منظمات المجتمع المدني ليتضاعف عددهم بالمئات.

ورغم أن التدمير الذي ألحقته الحرب بالثروات القومية كان كبيرا، سنحاول الوقوف على بعض المنافع التي عادت على السكان النازحين من قبل جهود المهمة المشتركة لقوات الأمم المتحدة وقوات الاتحاد الإفريقي، خاصة في مجال الخدمات الطبية وتوفير الغذاء.

كلفة الإنفاق الدفاعي 

قبل الشروع في مناقشة العلاقة التي تجمع الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي في السودان، يجب أن نقدم الأساس النظري. وهناك ثلاث نظريات متباينة تقارن بين نفقات الدفاع ومعدلات النمو الاقتصادي: النظرية الأولى تقوم على أن الإنفاق العسكري يؤثر بشكل سلبي على النمو الاقتصادي؛ إذ يمثل الإنفاق العسكري عبئا ثقيلا على الأمم فهو يعطل الاستثمار على نحو ما يذهب إليه عدد من الباحثين. أما النظرية الثانية فترى أن الإنفاق العسكري وسيلة للتوسع المالي، فهو يزيد من حجم الطلب الكلي؛ ومن ثم يزيد من الوظائف والناتج الاقتصادي. وقد قام بعض الباحثين، من خلال دراسة غطت 44 دولة، بتقديم دليل قوي على أن الإنفاق العسكري له تأثير إيجابي على النمو الاقتصادي. أما النظرية الثالثة فلا ترى وجود أية علاقة سببية بين الإنفاق العسكري والنمو الاقتصادي.

ولعل الأسلوب البحثي الأول هو الوثيق الصلة أكثر بالحالة السودانية؛ فالإنفاق العسكري يعرقل استثمار رأس المال ويعوق من النمو الاقتصادي. وحري بنا أن نلاحظ أن الإنفاق الدفاعي في السودان يتخذ أشكالا مموهة ليحافظ على سريته. وليس هناك بيانات عن العناصر التفصيلية للإنفاق الحكومي على أسس تصنيفية. ويزيد المشكلة تعقيدا أن الجيش منخرط في التجارة ويمتلك مستشفيات وشركات تجارية؛ ومن ثم فإن الإنفاق العسكري الفعلي دوما ما يكون أقل بكثير من التقديرات النظرية. وفضلا عن ذلك فإن المؤسسة العسكرية منخرطة أيضا في القطاع النفطي، الذي تستمد منه الموارد الكافية لتغطية نفقاتها.

جدول (1) النفقات العسكرية والصادرات (مقدرة بملايين الدولارات)

السنة

النفقات العسكرية

تقدير النفقات العسكرية في دارفور

صادرات النفط

إجمالي الصادرات

صادرات السلع غير النفطية

نسبة صادرات النفط لإجمالي الصادرات

1997

206

-

46

596

550

7.7

1998

596

-

60

780

720

7.7

1999

1.068

-

276

1.807

1.531

15.3

2000

1.390

-

1.300

1.699

399

76.5

2001

873

-

1.370

1.699

329

80.6

2002

1.011

-

1.511

1.949

438

77.5

2003

773

0.00

1.994

2.542

548

78.4

2004

2.198 (*)

1.352.71

1.226

3.778

2.552

32.5

2005

1.797

951.71

4.187

5.254

1.067

79.7

2006

2.113

1.267.71

5.087

5.700

613

89.2

2007

2.676

1.830.71

8.419

8.900

481

94.6

2008

3.228

2.382.71

11.106

11.700

594

94.9

2009

3.148

2.302.71

7.836

8.400

564

93.3

الإجمالي

-

10.088.29

-

-

-

-

المصدر: البنك الدولي (2011)
(*) بدأ الصراع في دارفور في 2003 بينما بدأت الدولة في تحركها العسكري في 2004، على نحو ما يمكن ملاحظته من تضاعف إجمالي النفقات العسكرية بمقدار ثلاثة أمثال بين عامي 2003 و 2004.

وعلى نحو ما يوضح جدول (1) فإن الإنفاق العسكري في السودان كان آخذا في الارتفاع؛ فقبل بداية النزاع في دارفور في 2003 كانت الدولة توجه 845 مليون دولار كمعدل سنوي لتغطية النفقات العسكرية. ومنذ ذلك التاريخ، بلغ معدل الإنفاق العسكري أكثر من الضعف. وكانت الزيادة في الإنفاق العسكري خلال السنوات الست التالية (2004 -2009) تقدر بنحو 10 بلايين دولار ( بمعدل 1.7  بليون دولار سنويا)، وقد وُجِّهت بشكل مباشر للمجهود الحربي في دارفور.

ويزودنا جدول (1) بدليل دامغ على أن دارفور التهمت الحصة الأكبر من الإنفاق العسكري؛ فبعد عام 2003، حين انطلقت شرارة النزاع، كانت مشكلة جنوب السودان في هدوء نسبي تحت مراقبة الأمم المتحدة، وكانت الأنشطة العسكرية في ذلك الإقليم قد توقفت.

وخلال نفس الفترة، وقَّعت الحكومة السودانية اتفاقات سلام مع دول الجوار، بما فيها إثيوبيا وإريتريا، كما أن المعارضة الشمالية المعروفة باسم "التجمع الوطني الديمقراطي"، عادت إلى طاولة الحوار في كنف تسوية سياسية كانت مصر هي الوسيط فيها. وبالمثل، فإن النزاع الذي اشتعل في شرق السودان تم إنهاؤه عبر اتفاقية سلام وقعت في عام 2006.

ولعل القول بأن الإنفاق العسكري الذي يرتبط بصناعة النفط عبر الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية قد تسبب في تدمير قطاع التصدير -من خلال مزاحمته وتعطيله لتكوين رأس المال في الصناعات المدنية- قد ثبتت صحته؛ ففي عام 1999 على سبيل المثال، شكّلت الصادرات النفطية 15 % من إجمالي الصادرات السودانية. وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ ارتفعت النسبة إلى 93 %.

وكانت الصادرات النفطية تعرقل الصادرات غير النفطية، لأن الحكومة كانت توجه عائداتها النفطية بشكل مباشر نحو المشتريات العسكرية واستيراد التجهيزات العسكرية، وليس نحو تحسين قطاع الصادرات غير النفطية. وحل البديل محل الأصيل؛ فالحكومة كانت تتكسب أموالا بخسة من خلال بيع النفط بدلا من الاعتماد على التصنيع مثل الصناعات الغذائية والصناعات الخفيفة.

وقد خلصت دراسة سابقة إلى أنه من بين كل دولار تتلقاه الحكومة من عائدات النفط، كانت تنفق منه 0.21 دولارا على التسليح. وقد تسببت هذه السياسة في تراجع الصادرات غير النفطية، ولم يكن هناك تغير ملحوظ في هذا الاتجاه خلال الفترة بين 1997 و2009. وقد تحقق ثبات قصير الأمد في صادرات السلع غير النفطية عام 2004، وهو ما نتج عن بيع السودان لخدمات شبكات الاتصالات اللاسلكية لطرف أجنبي، لكن في المتوسط فإن قيمة الصادرات الحكومية كانت في حدود 600 مليون دولار.

خسائر رأس المال البشري 

تبعا لتقرير التنمية الدولي الصادر عن البنك الدولي (2011) فإن من يعيشون في دولة هشة متأثرين بالنزاعات المسلحة عادة ما يكونون أكثر عرضة لمعاناة الفقر والحرمان، والعجز عن الالتحاق بالتعليم المدرسي، أو الحصول على الرعاية الأساسية.

ومثل هذه التحديات ذات تأثير طول الأمد على الكسب المعيشي اليومي؛ ومن ثَمَّ تترك آثارها على التنمية الاقتصادية. وقد أظهرت الدراسات السابقة أن أحد أشكال كلفة الحرب غير المباشرة تتجسد في انخفاض الإنتاجية نتيجة هروب رؤوس الأموال وهلاك البشر.

وفي السطور التالية سنعرض لعدد السكان النازحين داخليا، والسكان المتأثرين بالحرب، فضلا عن تقدير عدد القرى التي أُحرقت وإجمالي عدد القتلى، ثم تقدير الكلفة الإنتاجية للحرب.

يوضح جدول (2) أنه حتى عام 2009 فإن النزاع في دارفور قد أثّر بالضرر على نحو 1.5 مليون نسمة في شمال دارفور، و1.9 مليون في دارفور الجنوبية، و1.2 مليون في غرب دارفور. وقد تسببت الحرب في نزوح 0.5 مليون نسمة من شمال دارفور، و1.4 مليون من جنوب دارفور، و1.2 مليون من غرب دارفور.

وتتمثل الكلفة المباشرة للنزاع ا

ABOUT THE AUTHOR